ندوة حول كتاب د. جوزف أبو نهرا
الإكليروس والمِلْكية والسلطة
أبحاث في تاريخ لبنان الإجتماعي والإقتصادي

الحركة الثقافية - انطلياس
2007/5/17

مداخلة د. عصام خليفة

مداخلة الأب كرم رزق

مداخلة  د. سعاد سليم

مداخلة د. عبدالله سعيد


 

ندوة حول كتاب د. جوزف أبو نهرا

 

مداخلة د. عصام خليفة

العميد د. جوزف ابو نهرا هو من الأساتذة الكبار في قسم التاريخ في كلية الآداب (2)في الجامعة اللبنانية.

انه كبير في ثقافته الشاملة اذ يجمع بين اختصاصات عديدة ابرزها علم التاريخ.

وهو كبير في تفانيه من اجل العطاء لطلابه على امتداد ثلث قرن في كبريات المدارس وفي الجامعة الوطنية.

وهو كبير في صداقاته حيث يتمتع بملكة المحبة للآخر والعمل للخدمة العامة.

ولانني اعرف اهمية الصديق العميد باحثاً ومعلماً وانساناً،

ولانني خبرت مواهبه زميلاً في التعليم الجامعي، وساهراً متفانياً في مجال ادارة قسم التاريخ وادارة كلية التربية،

ولانني ترافقت معه في مغامرتنا "العثمانية" حيث دخلنا معاً مجاهل (الباشبكنليك ارشيفي) وكنا رفاق درب في (مرمرة اونيفر سيتي سي) لمدة اربعين يوماً، وقبلها في مؤتمرات عدة في تونس واسطنبول وباريس ولبنان،

لهذه الأسباب  ولغيرها كنت الحّ عليه دائماً في الكتابة والنشر.

وها هو كتابه (الاكليروس والملكية والسلطة ابحاث في تاريخ لبنان الاجتماعي والاقتصادي) يصدر انيقاً عن دار النهار.

يتألف الكتاب من 8 محاضرات كان قد القاها الباحث في ندوات ومؤتمرات تاريخية في لبنان والخارج. وهي تصب - كما يوضح في المقدمة - في خانة المدرسة التجددية التاريخية، حيث اولوية الاهتمام  لدراسة تاريخ الانسان وحياته الاقتصادية والاجتماعية في الزمان والمكان.

وبحكم دوري كمقدم للندوة اسمحوا لي ان اركز، باختصار، على بعض النقاط التي لفتت انتباهي وتقديري في الكتاب.


1-      لم اطلع، عند أي باحث قبل العميد الصديق، وصفاً ممتعاً لدور الاديار الاقتصادي والاجتماعي. فالدير لم يكن بيت صلاة وحسب "بل مركز نشاط اقتصادي واشعاع ثقافي". "كان يلعب دور المالك الكبير للارض مع ما ينتج عن ذلك من تبعية اقتصادية للفلاحين الشركاء، بخاصة ان الارض، في القرن الثامن عشر، كانت الوسيلة الاساسية للانتاج. كذلك كان الدير احياناً يستورد القماش والارز ويبيعهما للفلاحين، كما يبيع الزيت والصابون وغيرهما من المواد الاساسية". "كما كان الدير يلعب دور المصرف بالنسبة للسكان، فيودع فيه الفلاحون ما ادخروه من مال طمعاً بالفائدة، ويقرض الدير هذا المال المودع لفلاحين آخرين بفائدة أكبر..." (ص 38 - 39) ومستنداً على ارشيف اديار عدة يجد د. ابو نهرا ان انتقال الملكية من الاعيان الى الرهبان يعود "الى نمط الحياة الذي كان يعيشه الرهبان آنذاك، والذي تميز بالعمل والانتاج وحياة التقشف التي سمحت لهم بالادخار وتأمين رأسمال نقدي لشراء الاراضي من الاعيان ومن غيرهم" (ص41). وبالاضافة الى الزراعة مارس الرهبان مختلف المهن الحرفية كالتجارة والحدادة والبناء وصناعة الاحذية وصبغ القماش ودبغ الجلود، وطبع الكتب وتجليدها، كما برعوا  في ميدان الطب. وكان للرهبانيات تنظيم تجاري دقيق، يستند الى شبكة وكلاء تربط مختلف اديارهم بمراكز الانتاج والتصدير لتأمين تصريف منتجاتهم بصورة منظمة وبأفضل الأسعار. (ص42). ويربط انتشار الاديار القانونية في مختلف انحاء جبل لبنان مع تفتف الملكيات الكبرى للاعيان نتيجة التوارث. ويلاحظ ان الارض في القضية الاساسية التي تمركز حولها الصراع سواء بين الاعيان انفسهم، او بينهم وبين الاكليروس. (ص43). واضافة الى عملية الشراء ثمة توضيح لعقود المشاركة بالشلش او"عقد المغارسة" او "عقد المناصبة". (ص 50) ويلاحظ الباحث، بثاقب تحليله، وجود استراتيجية خاصة بالتوسع، عند الرهبان، ساعدتهم على الحلول تدريجياً مكان الاعيان في الملكية. "بداية اشترى الرهبان الاراضي المحيطة بالدير مباشرة وشكلوا نواة اساسية للتوسع. في المرحلة الثانية اشتروا اراضي بعيدة عن الدير كانت نوعاً ما متصلة ببعضها وتشكل شبه حلقة محكمة... حتى توصل الرهبان الى امتلاك معظم الاراضي الواقعة في منطقة ديرهم" (ص 53). 2-      ومنهجية العميد تتصف بالتدقيق والدخول في الارقام التفصيلية:

-       فحمل ورق التوت يساوي 30 رطلاً او 75 كلغ (ص 42)

-       واوقية دود القز بحاجة الى 12 حملاً من ورق التوت لتربيتها كي تتحول الى شرانق حرير (ص42).

-       والقوة الشرائية للقرش، اوائل القرن 18، توازي اجر عامل يومي لمدة اسبوع (ص45)

-       عدان الماء يختلف بين منطقة واخرى. في الخنشارة كان العدان يوازي حق الافادة من الري لمدة 12 ساعة، بينما في بكفيا يوازي الحق بالري لمدة 24 ساعة.

-       يتوقف عند الاوزان: الدرهم = 3 غرامات، الاوقية = 200 غراماً، الرطل = 2400 غراماً، الوزنة = 12 كلغ، الحمل = 72 كلغ، القنطار = 240 كلغ مع لحظ الاختلافات بين المناطق.

اما اوزان المعادن الثمينة: القمحة =0.05غ، الدونق=0.532غ، الدرهم=3.207غ، المثقال=4.81غ ، الشاكية= 480غ.

ويتوقف عند كيل الحبوب واسعارها في القرن 18. فاسعار القمح والسمن زادت بنسبة 600% واسعار اللحم والزيت والحرير زادت بنسبة 300% بينما بقيت زيادة اجرة العامل دون 300% وهذا الامر اضافة الى عامل الضرائب كان وراء الضيق الاقتصادي الذي كان يشكو منه الفلاحون في القرن 18.

3-      اذا كان مارك بلوخ Marc Bloch ولوسيان فافر Lucien Febre قد طورا، في اطار المدرسة التاريخية الجديدة، التاريخ الديني من مفهوم الاحداث التراكمية والوصف العمومي للمؤسسات، الى تاريخ متعمق بالشخصيات الدينية من جهة، والتحولات البنيوية والجماعية الدينية من جهة ثانية، فان الدكتور جوزف ابو نهرا عرض في كتابه بعض الفصول الممتعة في هذا المجال.

‌أ-     استناداً الى تقارير الرحالة عرض تقاليد الاستقبال لضيوف البطريرك الماروني، ومائدة الطعام البطريركية (يتواجد كل يوم، باقل تقدير، خمسين شخصاً عليها قبيل العام 1624) وثمة وصف لانواع الطعام وتغيرها في الفترات اللاحقة مع تغير اواني المائدة.

‌ب-كما توقف عند بساطة عيش البطريرك والاساقفة حيث يذكر الرحالة اوجين روجيه انهم "ينامون على حصيرة يفترشونها الارض".

‌ج-   ويحلل التنظيم الاداري للكنيسة المارونية.

‌د-    ويصف مظاهر التقوى في ممارسة الطقوس.

‌ه-     ويعرض مرتكزات العقيدة الدينية وعلاقة البطاركة بالسلطات المحلية، ودو القناصل الفرنسيين في عملية الانتخاب، ثم علاقة البطاركة مع الكرسي الرسولي. وعلاقة البطاركة بالمرسلين الكاثوليك.

على صعيد آخر يحاول الباحث ان يتلمس العلاقة بين قيام المدرسة المارونية الحديثة في روما وتأثير التجاذبات السياسية في اطار ما كان يسمى المسألة الشرقية.





4-      واذا كان استاذنا الكبير فرنان بروديل قد اولى المطبعة والتعليم الدور البارز في نهضة الغرب، يحاول د. ابو نهرا ان يدرس دور مدارس لبنان ومطابعه في يقظة الشرق. يستعرض دور خريجي مدرسة روما المارونية والمدارس المحلية وانتاجهم، كما يتابع دور المطابع وابرز ما صدر عنها من كتب. ودون ان يقلل من دور مصر والحملة الفرنسية فانه يبرز انفتاح لبنان "على الفكر الغربي وعلى تقنيات الطباعة والتأليف والنشر" (ص203). 5-      في الفصل الاول المتعلق بابراهيم الحاقلاني وفي الفصل السادس الذي يحمل عنوناً ملفتاً (شرع اسلامي وقضاة مسيحيون) يتعمق مؤرخنا في تحليل المهمات السياسية والاعمال التجارية التي قام بها الحاقلاني، ويبرز ظروف تعلم يوحنا الحبيب والشيخ بشارة الخوري، في القرن 19، الفقه الاسلامي على يد علماء مسلمين. وكم هو ممتع ابراز الكفاءَة العلمية المميزة ونزاهة الضمير وشجاعة القاضي الحبيب الذي قال للامير حيدر: "ان العدل اولى بالاتباع من خواطر البشر، بالعدل حكمت. فان راقكم ذلك كان به، والا اترك القضاء واودعكم". 6-      ومن ابرز ما يلفت القارئ في مؤلف د. ابو نهرا الروح الوطنية اللبنانية المتعالية على كل تعصب، والروح الموضوعية والعلمية التي تبرز من كل فصول الكتاب لانه يعرف مع بول فاليري ان التاريخ "هو اخطر ما انتجه كيمياء الفكر".

ايها السيدات والسادة،

ثمة بعض الهنات القليلة من مثل الاصرار على ان المعنيين من الدروز - رغم ان الدراسات الرصينة لصديقنا الاستاذ نايل ابو شقرا قد ابرزت سنيتهم - (ص38)، واعتبار ضاهر العمري شيعياً (ص62) رغم انه سني. وثمة تنوع وتيارات ضمن نخب الموارنة والدروز في القرن 19 بالنسبة لفرنسا وانجلترا، ولم يكن هناك موقف موحد لكل طائفة (ص 168). وتوافد الفرنسيسكان الى الموارنة كان منذ ايام المماليك ولم ينطلق مع اوائل القرن 17 (ص 185).

وبرغم هذه الهنات فمن واجبنا ان نقول للصديق الكبير العميد د. ابو نهرا الف شكر وسلمت يداك والى مزيد من طبع الدراسات والابحاث لاغناء مكتبتنا التاريخية بمدرستها الجديدة. 

 

مداخلة الأب كرم رزق

نشكر القيمِّين على الحركة الثقافية في انطلياس الذين اتاحوا لنا فرصة اللقاء في هذا المساء حول كتاب الدكتور جوزف أبو نهرا الأخير بعنوان الإكليروس والمِلْكية والسلطة أبحاث في تاريخ لبنان الإجتماعي والإقتصادي دار النهار آذار 2007،

وهو يحتوي على ثمانية أبحاث، تتمحور حول تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لاسيما خلال القرن الثامن عشر. وتتنوَّع مصادرُها من محلية واجنبية، كأرشيف الأديرة وبكركي، والأرشيف الفرنسي والنمساوي، وكتابات الرحَّالة، والحوليّات المحلية، وغيرها. وهو يتقن العودة إليها، ويستخرج منها كلَّ نفيس وطريف، ويقدِّمها سبائك معادنٍ خالصة للمطالعين والباحثين.

أمَّا التركيز على القرن الثامن عشر فله مبِّرراته.

شكَّل هذا العصر مرحلة مفصليَّة في تطور تاريخ جبل لبنان، ومع ذلك، لم ينعم بما فيه الكفاية من الدراسات، كغيره من الحقبات اللاحقة. ثم إنَّ وثائقه لا تتوفَّر، لا بالكمِّ عينه، ولا بالتنوّع نفسه مقارنة مع القرن التاسع عشر. وهذا ما يعطي المؤلِّف فضلاً جديداً على افضال أخرى.

يعالج الدكتور أبو نهرا القرن الثامن عشرة كوحدة تاريخية متكاملة، ويتفحَّص كل المكوِّنات التي تتآلف لتؤلِّف تلك الوحدة.

فالاقتصاد يؤسِّس لها، وهو يرتكز على الزراعة التقليدية التي تقوم على تأمين المواد الأساسية للمعيشة على مدار السنة، وعلى انتاج الحرير الذي يوفِّر السيولة الكافية للقيام بمتطلبات السوق، وبأعباء الرسوم والضرائب.

يبرهن الدكتور أبو نهرا أنَّ العمل هو المحرِّك لعجلة الاقتصاد المبني على الزراعة. والعمل المجدي والمفيد نهضت به الرهبانيات التي جعلت منه إحدى علل وجودها.

تنظمَّت هذه الرهبانيات في الربع الأوَّل من القرن الثامن عشر، صاغت لها قوانين منحتها حق العصمة، أي الارتباط المباشر بالكرسي الرسولي في روما، وانتشرت في كل أنحاء لبنان، وجمعت حولها الفلاحين ووزعَّت بينهم مختلف الأعمال حسب قدراتهم وطاقاتهم.

هذه الدينامية التي تجلَّت بها البدايات طبعت القرن الثامن عشر، وحوَّلت الأرض المنبسطة إلى جنائن غنَّاء، والمنحدرة إلى جلول معطاء. وتكفّلت قوَّة العمل الدؤوب بنقل الملكية من الأمراء الإقطاعيين إلى الرهبان، وبواسطتهم إلى الفلاحين.

إنّ التنظيم الذي شاءته الرهبانيات هو انعكاسٌ لحسن ترتيب الخالق في مخلوقاته، ومثاله سفر التكوين الذي يفسِّر عمليَّة الخلق على امتداد ستة أيّام.

والعمل الذي قام به الرهبان كان يشمل الهندسة والبناء، والحدادة، والنجارة، والخياطة والسكافة... ولم يقتصر على الزراعة والاشغال اليدوية البسيطة، بل تعدَّاها إلى الحرف والمهن وكلَّ نشاط يساهم في التوصُّل إلى الاكتفاء الذاتي.

ويجعل المؤرِّخ من الرهبانية الباسيلية الشويرية التي تأسَّست سنة 1706، وحَّلت في دير مار يوحنا الصابغ في الشوير سنة 1710 نموذجاً لديناميكية العمل والاقتصاد. لقد بلغت ملء قامتها في القرن الثامن عشر. ترافق تنامي عدد أديارها مع تزايد أعداد الرهبان، وتوسَّعت رقعة أملاكها بفعل الشراكة والشراء على حساب الأمراء اللمعيين.

وبرز دور مار يوحنا الصابغ التربوي والثقافي في نفس الحقبة، عبر المدرسة الابتدائية التي احتضنها، وخصوصاً المطبعة التي أسَّسها الشماس عبدالله الزاخر (1684-1748) وزارها فولني سنة 1783. تنوَّعت الكتب التي طبعت فيها، وانتشرت في مدن لبنان وسورية ومصر، ومنها من عرف عدَّة طبعات.

مارس الرهبان سلطة فعلية على خطَّين: خطَّ الفلاحين المزارعين الذين دخلوا في عهدتهم، بما لهذه الكلمة من مدلولات معيشية وحقوقية، وخطِّ الأمراء الذين آثروا قيمة العملة على قيمة الأرض، فتحوَّلت ملكيتها منهم تدريجياً إلى المؤسسات الرهبانية والفلاحين.

وينسجم تطوُّر الملكية في دير مار يوحنا الصابغ الشوير مع ملكيَّات باقي الأديار، وقد نتجت بمعظمها عن العمل والشراء، ويجب التمييز بينها وبين الوقفيات التي تشكِّل الجزء اليسير منها، وقد استثمرت بمجملها في الخدمات التربوية. ويشدِّد الاستاذ ابو نهرا أنَّ هذه الحيوَّية تأسَّست على منظومة قيم روحية وانسانية تحلَّى بها جبل لبنان، وقوامها الزهد والتقشف والتعاضد، وتقاسم الخيور، والكرم، والتسامح، والحرَّية.

ثم يعالج المؤرِّخ القضاء وسير المحاكم في العهد الشهابي الأخير، وقدرة الموارنة على التكيُّف مع الزامية الشرع الاسلامي الذي فرضه الامير بشير الثاني ابَّان ولايته على جبل لبنان. ويطلعنا على تدريب شخصيتين كبيرتين، هما يوحنا حبيب، مؤسِّس جمعيَّة المرسلين الكريميين، وبشاره الخوري الفقيه، على تعلم الشرع الاسلامي على يد شيوخ مفتين من طرابلس وبيروت. ونستطلع نزاهة القاضي يوحنا حبيب الذي قاسى السجن ولم يخضع لضغوطات الحكاَّم.

وهكذا يتلاقى المؤرِّخ ورجل القانون في شخص الدكتور أبو نهرا، وما يجمع بينهما هو بناء الوقائع والمحكم، والاستقصاء عن الحقيقة. ولا شيء يمكن أن يمنع الدكتور أبو نهرا عن السعي للوصول إلى الحقيقة.

ومن هذا المنطلق، منطلق الإصغاء والإنصياع للحقيقة، ومن منطلق إعادة الإعتبار لهذا القرن الكبير، الذي فيه تتفجَّر جذور النهضة، قبل دق طبول الحرب لحملة نابوليوب على مصر، وقبل أن تتفتَّح أيضاً أكمام النهضة فيها بهمَّة محمد علي... بزغت بواكير النهضة في لبنان. قرائنها إفتتاح المدارس على أيدي خرِّيجي مدرسة روما في جبل لبنان وفي حلب، أخصّها مدرسة عين ورقة "أم المدارس" في سوريا ولبنان. وإنشاء المطابع، لاسيَّما مطبعة قزحيا سنة 1610، وتجديدها لاحقاً، ومطبعة الشوير سنة 1734، بإدارة الشماس عبدالله زاخر.

لا يمكن القبول قطعياً بفكرة التخلِّي عن جذور النهضة الثقافية لغير جبل لبنان، الذي تجمَّعت فيه فعلاً في القرن الثامن عشر كل المعطيات لانطلاقها:

  • الطاقة البشرية: جرمانوس فرحات والأب فروماج، ونقولا الصايغ، وعبدالله زاخر ابن عمه، وغيرهم...
  • المدارس: مدرسة حلب، وعين ورقة، ودير المخلص، والشوير...
  • المطابع: قزحيا، والشوير
  • المصنفات: المتنوِّعة التي أحصاها جورج غراف.

وربَّ متسائل يغمز من قناة المراجعة الميسَّرة... فنقول إنَّ الهنات في كتاب الدكتور أبو نهرا تقتصر على الاخطاء المطبعيَّة، ولا يتعدّى عددها في كل الكتاب السبعة أخطاء. وعدد الكمال هذا يعفو عنها.

إنَّ ما يجده القارىء في هذا الكتاب هو عصارة خبرة تأريخية استجدَّ فيها منهج البحث، فانفتح على المسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تشكل جذور التاريخ اللبناني الجامع.

وطرح هذا المؤلِّف قضايا جديدة من صلب التاريخ المحلي كتطوُّر سلطة البطريرك الماروني على ضؤ كتابات الرحَّالة الاجانب عبر العصور، ونشأة التعليم والترقي الثقافي.

وحمل أيضاً افكاراً جديدة وطروحات جديدة؛ نضجت خلال عملية التعليم الجامعي المثمر، وهي بمثابة حافز لكل من يكتب تاريخ لبنان.

وما يميز هذا المؤلِّف هو المواقف التي تبنى على الحقيقة، وهذه هي إحدى الخصال الكبار لدى الانسان والمؤرخ جوزف ابو نهرا...

فهنيئاً له بمؤلَّفه؛ وللحركة الثقافية في انطلياس دوام الإشعاع والنور

                                                        ودمتم...

 

مداخلة  د. سعاد سليم

هذا الكتاب الذي يقدمه لنا الدكتور جوزيف أبو نهرا هو مجموعة مقالات تتناول الحياة الإقتصادية والثقافية والقضائية لجبل لبنان في المرحلة العثمانية. لقد درج الرهبان على كتابة مخطوطاتهم الشخصية التي سجلوا فيها ما يحلو لهم من النصوص الدينية أو الأدبية أو مقاطع من الصلوات أو منتخبات من الكتاب المقدس. و أطلقوا على هذه الكتب اسم أنتولوجيون أو زهر الكلام. و هنا لدينا زهر الكلام من نوع آخر مجموعة من المقالات وضعها جوزيف أبو نهرا عن تاريخ لبنان. ما أذكره عن عملنا المشترك على محفوظات دير مار يوحنا الشوير في الخنشارة أنّ شخصية الباحث الذي كنا نترافق معه كانت باستمرار مرحة. فمن حزورة الى نكتة وكنا في ريع الشباب نضحك ملو قلوبنا. ونحن لدى قراءة هذه المقالات أيضاً نضحك لأننا ما نستخلصه من تاريخ في هذا الكتاب يبعث فينا التفاؤل بالنسبة لمستقبلنا. لا يشير الكتاب الى حدث من أحداث تاريخينا الشيّق بالمؤمرات والمزايدات والمعارك والحروب. لا ذكر لحرب أهلية أو انقلاب على السلطة. كما أننا لا نجد أي إشارة الى التقلبات السياسية أو الطائفية التي حدثت في الجبل في تاريخنا الحديث. هذه الأمور تشكل الإطار أو الخلفية التي جرت فيها الأمور وتطورت الأحوال.

فالمدرسة المارونية و إبراهيم الحاقلاني و دير مار يوحنا الشوير والقاضي يوحنا الحبيب هم أبطال هذا الكتاب. إن التحولات والأحداث التي يحللها هذا الكتاب تتسم ببطئها وامتدادها على أجيال وعصور. إنها عبارة عن بناء دقيق شارك فيه كل فرد وساهمت كل جماعة في وضع أسسه وإعلاء بنيانه. يندرج التاريخ كما يراه جوزيف أبو نهرا في إطار الزمن الطويل حيث نرى الى أي درجة ما نعيشه حالياً هو نتيجة هذا النمو والتطور الذي استمر في جبل لبنان على مدى أربعة قرون عاشتها المنطقة في ظل الحكم العثماني. وفي ظل هذه التحولات يشّدد على الناحية الثقافية. فالمطبعة والرحالة والقضاء والدين كلها أمور تتعلق بالذهنيات وهي مرتبطة بالوضع الإجتماعي والإقتصادي إلا أنها أكثر بطئاً. فالبنية الفوقية المتأثرة بالدين وبالعادات والتقاليد تستمر عبر الأزمنة حتى بعد زوال مبرراتها المادية. بالمقابل يشرح لنا المؤلف تطور العادات والتقاليد وفقاً لتطور المواقع الإجتماعية وتبدل موازين القوى بين عناصر المجتمع في الداخل وبين مختلف القوى في الخارج. فنرى على سبيل المثال كيف تطورت مراسيم استقبال القاصد الرسولي عند بطريرك الموارنة بين القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر تبعاً لتطور الطائفة المارونية وتعاظم شأن الإكليروس الإجتماعي نتيجة تحول مساحات واسعة من أراضي الجبل الى أوقاف. تظهر لنا هذه الدراسة يقظة السلطات الدينية ووعيها وتجاوبها مع حاجات الناس والعصر. فالنساك الغارقين في عالم الصمت والتأمل المنتشرين في كهوف الجبال ومغاوره، المجتمعين حول كنائس الجبل المتواضعة لإقامة سر الشكر أصبحوا بأقل من ربع قرن من الزمن من كبار ملاكي الأراضي يستلمون الأراضي من الأمراء وبعملهم الشاق يستصلحونها وبستثمرونها. كما أن هؤلاء الذين يوقعون الحقير

و الفقير لم يتورعوا أن يصبحوا من خيرة رجال الأعمال يبيعون انتاج الحرير في المدن الكبرى ويصّرفون الى جانب نبيذ الدير الكتب والمطبوعات في الاسكلات ومختلف المناطق.

هذا التوسع العقاري الذي شهدته أوقاف الأديرة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ساعد على استيعاب العائلات المسيحية الآتية من الشمال وساهم في إيوائها وتوفير العمل لها ريثما تستقر في قرية أو أخرى من مقاطعات الجبل.

هذا العمل على تجميع الانتاج في مكان واحد بغية تسويقه سهل دخول جبل لبنان في مقتضيات السوق العالمية وحاجاته. هذا ما جعل الفلاح اللبناني بستفيد من انفتاح الجبل على الغرب إلا أنه جعل لقمة عيشه أكثر إرتباطاً بتقلبات الأسعار في الأسواق العالمية. كما أنّ انطلاقة النهضة العربية وبروز الثقافة والعلم في القسم الثاني من القرن التاسع عشر كعاملين للترقي الفكري والاجتماعي دفعا بالأديرة الى تحويل مبانيها الى مدارس ضمن الطراز الحديث للكلمة. فنرى الرهبان لا يترددون في تخصيص مدخراتهم لتشييد مبان واسعة مخصصة لتصبح صروحاً للعلم والمعرفة. نرى الأولاد الذين كانوا يسرحون مع أهاليهم حول الدير للعمل في استثمار الأراضي الزراعية يتجهون في صفوف منتظمة الى الأقبية والمخازن التي تحولت لصفوفٍ مدرسية قبل أن ترتفع مباني المدارس ضمن الأديرة أو على مقربة منها. فمن مكان نسك وصمت وصلاة وتأمل الى مراكز انتاج زراعي الى مخازن تجميع الانتاج وتسويقه الى مراكز تعليم... برهنت الأديرة أنها استطاعت في كل مرحلة أن تستجيب لمتطلبات المرحلة والعصر، وتمكنت هذه الأوقاف من أن تلعب دوراً مميزاً في تاريخ جبل لبنان والمنطقة محاولة أن تلبي حاجات الأهالي. 

إن هذه الأديرة قبل أن تصبح مدارس وصروح للعلم والتربية كانت مقراً لحياة ثقافية مزدهرة تشهد عليها كثرة المخطوطات الموجودة ضمن هذه الأديرة. هذه المخطوطات لم يكن محصور الاستفادة منها بالرهبان بل كانت مستودعة في الهيكل أو على القراية بتصرف زوار الدير الذين يقيمون فيه خلال الأعياد أو خلال اللجوء إليه في الأيام العصيبة أو يقصدونه للصلاة والتعّبد.

شكلت هذه المخطوطات، الى جانب طابعها الديني و الطقسي، إرثاً ثقافياً مهماً لتلك العصور الغابرة. ففي هذه المرحلة كانت الحياة الدينية هي الطاغية على الحياة الثقافية وهي الموجهة للتيارات الفكرية السائدة. فنرى عبر الحوارات والسجالات اللاهوتية الأنماط الثقافية والاتجاهات الفكرية التي وجهت العقليات والذهنيات لدى الأهالي.

تحتوي هذه المخطوطات، الى جانب قيمتها الدينية والفكرية على معلومات لا علاقة لها بمواضيعها الأصلية. فنجد على سبيل المثال معلومات تاريخية عن أحوال البلاد وما جرى فيها من أحداث سياسية أو كنسية. وكثيراً ما نرى آثار الحياة اليومية على الصفحات من مدونات ونقط شمع وغيرها...

وهذه المجموعات تحتوي على كتب الأدب والشعر العربي كما أنها تزخر بالكتابات التاريخية والعلمية خاصة الطبية منها. فإلى جانب  الدور الثقافي والتعليمي والديني الذي لعبته تلك الأديار عرف الرهبان الحلبيون بالقيام بنشاط التطبيب، حيث كان لديهم دير مخصص لهذا الشأن في دير مار شعيا.

هذه الدراسات التي يقدمها الأستاذ جوزيف أبو نهرا تتعارض مع الدراسات التي تظهر لنا الأوقاف كعامل تراجع وجمود في اقتصاد جبل لبنان. فالمقالات في هذا الكتاب تشرح لنا العكس تماماً. فلكل مرحلة خصوصيتها، في كل مرحلة تصرفت السلطات الدينية بالتي هي أحسن محاولةً إنقاذ ما يمكن إنقاذه في كل مرة. وقد برهنت هذه المقالات على إمكانية الأوقاف على التاقلم مع الأوضاع المستجدة وعلى حيوية الأوقاف في أن تتطور مع الأجواء المستحدثة محاولةً في كل مرة التجاوب مع حاجات الناس ومتطلبات العصر.

شغلت النواحي الثقافية القسم الأكبر من هذا الكتاب: ففي الفصل الأخير: يؤكد لنا المؤرخ أن نهضة العرب لم تبتدئ على أصوات مدافع نابوليون في مصر. فالمدافع تدّمر بل بدأت هذه النهضة باكراً في القرن الثامن عشر مع توسيع رقعة انتشار الكتاب مع مطبعة الشماس عبد الله الزاخر في دير مار يوحنا الخنشارة. ويذهب آخرون الى تاسيس المدرسة المارونية في روما والى مدرسة عين ورقة في غوسطا في كسروان. هذه المبادرات المختلفة والمتعددة انطلقت من نهضة مدينة حلب حيث التجارة المزدهرة والبيوت الفخمة، ومدرسة الأيقونات الشهيرة. فحلب كانت المدينة الأولى التي أتى إليها المرسلون وتمركزوا فيها. وفي حلب كان اللقاء بين الشرق والغرب بالطريقة السليمة، وعلى المدى الطويل حيث الآراء والأفكار والفن والتقوى تتداخل وتتفاعل على مدى قرنين. ومن حلب الى جبل لبنان حيث تأسيس الأديار وانتشار الأيقوانت وتبدل بأشكال التقوى لدى كل الطوائف وانتشار العلم والمدارس. أما اللقاء الحضاري في مصر فكان مشوباً بالحروب والعمليات العسكرية والمقاومة ودام ثلاث سنوات على الرغم من كل البعثة العلمية التي رافقت بونابرت الى مصر و كان تعدادها 300 عالم من كل الاختصاصات. فنّد أبو نهرا كل مظاهر الثقافة والنهضة التي ظهرت في الشرق قبل الحملة الفرنسية على مصر، وأحصى كل العلماء والأدباء المتخرجين من مدرسة روما وعدّد كتاباتهم وترجماتهم. وما أنجزوه من الأعمال ساهم في انقلاب الأوضاع على صعيد تاسيس الرهبانيات العاملة القانونية وفرض التعليم وترجمة القوانين... ساهمت هذه الأمور على المدى البعيد كلها في تحّول الذهنيات والانفتاح على الغرب والدخول في نمط العصر. وهذا الأمر ساهم بكل تأكيد بإخراج المسيحيين من خوفهم وتقوقعهم، وتفاعلهم الإيجابي مع المحيط الذي كانوا يعيشون فيه، أكان إسلامياً أم عثمانياً.

كما يؤكد المؤرخ على انتشار المطابع في الشرق قبل الحملة الفرنسية. فمن دير قزحيا حيث المطبعة الكرشونية وهي تعمل منذ القرن السابع عشر على طباعة الكتب الطقسية المارونية، الى دير مار يوحنا الخنشارة الذي أسسه الكاثوليك ومطبعة القديس جاورجيوس التي أسسها الأرثوذكس في بيروت.

يعارض جوزيف أبو نهرا المؤرخين الأجانب الذين يستخفون بأهمية مدرسة روما المارونية، ويحرصون تاثيرها بالأعيان وبمراكز اللغات الشرقية التي انتشرت في الغرب. ويعتبر هؤلاء المؤرخين أن مدرسة روما لم يكن لها التأثير المباشر على الحياة الثقافية المحلية، إذ إن الطوائف المسيحية، على الرغم من مجمع اللويزة الذي أقر التعليم الإجباري والمجاني، لم تقدم على تأسيس المدارس إلا في القسم الثاني من القرن التاسع عشر. وذلك واضح في قرار إبراهيم الحاقلاني عدم قبوله الرجوع الى مدرسة حوقا لإعداد التلامذة المرسلين الى روما وتفضيله العمل كوسيطٍ سياسي وتجاري لدى الأمير فخر الدين.

ويعارض مؤرخنا أيضاً الرحالة فولني الذي أقام في دير القديس يوحنا خلال زيارته الى سوريا ومصر في تقييمه للنتاج الثقافي للمطبعة. فيعتبر فولني أن معظم الكتب التي صدرت عن المطبعة هي دينية ولا تأثير لها على الحياة الفكرية والثقافية. في الوقت الذي يبرهن لنا جوزيف أبو نهرا أن الكتب التي طبعت في مار يوحنا شملت عناوين أدبية وفلسفية وأنها كانت تصّدر الى البلاد العربية.

والحياة الثقافية ليست وحدها التي ينطلق منها جوزيف أبو نهرا لدحض الدراسات السابقة والأحكام المسبقة. فهو في مقاله عن يوحنا حبيب القاضي الماروني يشرح لنا كيف أنّ الكنيسة المارونية لم تتردد على الرغم من معارضتها المبدئية أن تتبنى الشرع الإسلامي وأن ترسل عدداً من أبنائها الى دمشق ليقتبسوا هذا العلم على يد كبار علماء السنّة في المدينة. هذا الأمر ساهم في تدبير شؤون الناس وسهّل عليهم مشقات التنقل الى محاكم صيدا وطرابلس. يظهر لنا الكتاب عبر عودته الى الوثائق سعي السلطات السياسية (الأمير بشير وأبنائه وآل الخازن) مع السلطات الكنسية (البطريرك والمطارنة) في تتميم هذه المهمة أكان عبر توفير التكاليف أو عبر المراسلات والإتصالات اللازمة لذلك. وما يلفت في هذا الأمر هو تردد القاضي الجديد في القيام بمهمته الجديدة وكم أنّه عانى ضميرياً قبل القبول بالمنصب الذي أعّد له. وتاتي الظروف لتؤكد مخاوفه. فبعد سنوات من قيامه بهذا العمل نرى القاضي النزيه المحايد يخضع لأشد الضغوط المعنوية والمادية ويسجن كي يصدر حكماً مجحفاً بأحد المواطنين لصالح الأمير بشير أحمد القائمقام. يبقى هذا القاضي الكاهن صامداً ومتسلحاً بضميره على الرغم من عذاباته وسجنه. و يتدخل الوجهاء حتى الإكليروس ليصدر حكمه لمصلحة الحاكم. هذه الحادثة تظهر لنا أهمية الأخلاقية المهنية لفرد واحد تمكن من مواجهة فساد الحكام والمجتمع. كما يظهر لنا المقال أهمية تداخل مختلف الطرق القضائية المارونية والإسلامية وغيرها في إدارة شؤون الناس وتسوية أوضاعهم. فالحياة هي دائماً الغالبة وهي دائماً التي تجد المنافذ والطرق لمتابعة مسيرتها حتى في أبسط الشؤون اليومية.

ما يدهش القارئ في مقالات الأستاذ أبو نهرا هو تداخل الأمور وتفاعلها. فنرى الأمور الدينية والإقتصادية والعلاقات الخارجية تمتزج في بوتقة الحياة. لم يكن في هذه المراحل تخصص أو فصل بين مختلف حقول الحياة. فنرى من بين وكلاء الدير التجاريين في المناطق كهنة وشمامسة يهتمون بتصريف الإنتاج الصادر عن الدير. كما نرى الشماس إيراهيم الحاقلاني مستشار الأمير فخر الدين والمسيط بينه وبين أمراء  توسكانا يتعاطى تجارة الحرير لصالح الأمير كما يتعاطى تجارة العبيد لمصالحه الخاصة. وفي إطار تداخل الأمور نرى ألى أي حد كل من الإكليروس أو من الأمراء أو من المستشارين كانوا يعملون كلّ لمصلحته الخاصة. فكنا قد تعرفنا على الأمير فخر الدين في كتبنا المدرسية كحاكم سعى لاستقلال لبنان وعمل على إحداث ثورة عمرانية في أرجائه. وتعّرفنا عليه في كتاب الاستاذ عبد الرحيم أبو حسينLeadership in Syria كملتزم ضرائب ووالي عثماني يساعد العثمانيين في قمع ثورات الولاة الآخرين. وها نحن نتعرف إليه كلاجئ الى توسكانا يعمل على بيع الحرير ويتحمل المؤمرات التوسكانية ليوفر لعائلته إمكانية الاستمرار من بعده. يعتبر المؤرخون أن الحاقلاني وبعض تلاميذ مدرسة روما هم الذين عملوا على إبعاد فخر الدين عن النفوذ العثماني وتقريبه من الغرب. كما يعتبرون أن الحاقلاني شكّل نقطة انطلاق في تحوّل فخر الدين السياسي والديني.

إن نظرية جوزيف أبو نهرا في كتابة التاريخ تنطلق من أنّ الحديث عن التاريخ الإقتصادي يجمع بين اللبنانيين فهم بكل فئاتهم بنوا جلول الجبل وكسروا صخره وشقوا توته وحلوا شرانقه وحاكوا حريره. وهم دفعوا الضرائب وعانوا الويلات. ويعتبر أنّ الحديث عن التاريخ السياسي يفّرق ويبعد بين الطوائف والفئات. فالإنتماءات والعصبيات هي الطاغية وهي الفاصلة.

إن التاريخ الإقتصادي والغجتماعي يمكن أن يخضع لاختلافات ولتفسيرات مختلفة. فهذه الوثائق والسجلات التي نجدها في الأديار يمكن أن تقّيم بعد مرور الزمن. وهذا التفسير والتقييم يمكن أن يختلف حسب اختلاف المنهجيات المتبعة والمدارس التاريخية المعتمدة. فلا يمكن أن ننسى أن العاميات في لبنان والعديد من الإضطرابات انطلقت بسبب الصعوبات الإقتصادية والفوارق الإجتماعية. والعديد من المؤرخين حاولوا تفسير الصراعات الطائفية في جبل لبنان بعد انسحاب الخكم المصري على أنها صراع على الأراضي حيث تمّكن المسيحيون من السيطرة على معظم الاراضي الزراعية في المناطق الجنوبية من القائمقامية والتي كانت سابقاً بإشراف المقاطعجيين الدروز.

وفي جميع الأحوال نرى أنه بالإجمال في التاريخ الذي كتبه جوزيف أبو نهرا لا مكان للقدر ولا مكان للتاريخ الذي يعيد نفسه. فنحن في نصوص تسمي الاشياء والناس بأسمائها. لا مجال للمهادنة وللمراوغة. كما أننا لا نجد في هذا النص غسقاطات وأحكاماً مسبقة تطّبق قيماً ومناقب عصر  على عصور اخرى. فيمكن أن نستنكر سيطرة الرهبان على أراضي الفلاحين وتوسع الأوقاف في القرن الثامن عشر، لكننا نعلم أن وجود هذه المؤسسات الدينية المزدهرة سهلت وصول العلم الى اللبنانيين منذ القرن التاسع حيث فتحت المدارس ونرى هذه المدارس تتحول في القرن العشرين الى جامعات. إن هذا التاريخ الإقتصادي والثقافي والإجتماعي له أربابه وله المسؤولين عنه. لا مجال للضحايا ولم تكن مرة كتابة التاريخ من مسؤولية الضحايا. فلنتجرأ نحن ونعترف بمسؤوليتنا ليس فقط في كتابة التاريخ بل بصناعته أيضاً. فالمؤلف برهن عبر إلتزامه الاكاديمي والتعليمي والكنسي الإجتماعي أنه من هؤلاء الارباب الذين صنعوا التاريخ وساهموا في كتابته.

مداخلة د. عبدالله سعيد

      أن تكتب في التاريخ الاقتصادي الاجتماعي،  يعني أنّك تؤرّخ لصالح وحدة المجتمع اللبناني بكل عناصره وفئاته وبكل تفاعلاته الجغرافية والحضارية والسياسية والنفسية والثقافية. ويعني أيضاً أنّك أخذت جانب منهج التأريخ العلمي الذي يرصد حراك المجتمات البشرية وفاقاً لقوانين تطورها الطبيعية بمعزل عن ميول ونزعات الباحثين والدارسين. من هذا المنطلق يقول جوزيف أبو نهرا في مقدمة كتابه( ص11): " إنّ التاريخ الاقتصادي والاجتماعي هو تاريخ التبادل والتكامل بينما التاريخ السياسي هو أقرب إلى تاريخ التنافر والتناحر".

 ونحن بدورنا نتساءل مع المؤلف لماذا بقيت الكتابة العلمية في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، مقتصرة حتى الآن في لبنان على قلّة من الباحثين والمؤرخين ؟ بينما تعجُّ المكتبات اللبنانية والعربية بالكمّ الهائل من الكتابات التاريخية السياسية والطائفية والمذهبية التي فسّرت التاريخ على قياس أهداف انتماء أصحابها الماضوية،  وطموحات عناصر الطبقة السياسية الحاكمة  المستقبلية.

    وبسبب هذا النقص الفاضح في الكتابة التاريخية اللبنانية التوحيدية المستندة الى الوثائق الأصلية، والمنهجية العلمية في تفسير الأحداث وتحليل مغزاها التاريخي، قدّم لنا ابو نهرا في كتابه، الإكليروس والمِلكية والسلطة، موضوع هذه الندوة ثمانية أبحاث في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، حيث يمكن لكل بحث منها أن يصلح ليكون كتاباًٌ مستقلاً وقائما بذاته. وهذه الأبحاث هي: الوجه الآخر للعلامة إبراهيم الحاقلاني رجل المهمّات السياسية والأعمال التجارية، انتقال الملكية والنفوذ من اللّمعيين إلى الإكليروس في المتن في القرن الثامن عشر، الجبل وتاريخ لبنان السياسي والاجتماعي، أرشيف الأديار مصدر لكتابة تاريخ لبنان الاقتصادي والاجتماعي، دفاتر حسابات الرهبانيّتين الشويريّة والحلبيّة(1723-1796)، البطاركة الموارنة في كتابات الرحّالة الغربيين، شرع إسلامي وقضاة مسيحيّون، المطران يوحنا حبيب الفقيه والقاضي، المدرسة المارونيّة الحديثة والمسألة الشرقيّة: تأثير التجاذبات السياسيّة على المشروع الديني،  يقظة الشرق بين مدارس لبنان ومطابعه ومدافع بونابرت في مصر 

    لقد انتقى المؤلف أبحاثه في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي بعناية ودقة فائقتين. وعالج معطياتها وفرضياتها بنظرة عالم تاريخ متبحّرٍ ومتبصّرٍ حاول أن ينشد الموضوعية والتجرّد والحياد، ويطمح للوصول إلى الحقيقة التاريخية المجرّدة، كما قدّمها بعلمية متناهية، ولكن بأسلوب سهلٍ ممتنعٍ،  حتى تخاله أديباً يكتب القصة الواقعية لا التاريخ. فمع أبحاثه لا تعرف الملل أو الضجر، ولا تتعب من مطالعتها، وهي تشدّك بقوّة إلى قراءتها حتى النهاية. ولولا إشارة المؤلف في المقدمة(ص11)إلى أنّ  كتابه هو مجموعة أبحاث قدّمت في مؤتمرات عدّة، لما كان باستطاعة القارئ أن يكتشف ذلك. فالأبحاث متماسكةٌ ومنسجمةٌ فيما بينها ومكمّلةٌ بعضَها البعض زمانياً ومكانيا جغرافياً وثقافياً وحضارياً واجتماعياً واقتصادياً.

   إنّ أبو نهرا يؤرّخ في أبحاثه لحقبة دقيقة من تاريخ جبل لبنان بجنوبه وشماله، تلك الحقبة التي شهدت تحرّكاتٍ وتغيّراتٍ ديموغرافية واقتصادية اجتماعية واضحة، كان لها الأثر العميق في مجرى الأحداث السياسية والطائفية المذهبية التي عصفت بالجبل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فمنذ العام 1518حتى العام 1699، شهدت مقاطعة جبل لبنان الجنوبي انخفاضاً كبيراً بعدد السكان نتيجةً للهجمات العثمانية المتكررة التي بلغت نحو 17حملة عسكرية بغية معاقبة وتأديب حكّامها وملتزمي ضرائبها. وبذلك فرغت تلك المناطق من قسمٍ كبيرٍ من سكانها، وكان لابدّ من إعادة إعمارها وإسكانها بعناصر منتجة جديدة قَدِمَت إليها من جبل لبنان الشمالي. وهكذا اندمج القادمون الجدد، أصحاب الخبرة والتجربة الغنيّة في الأعمال الزراعية والمهنية والتربوية مع بقايا المجتمع الشوفي والمتني ، فعمرت القرى والدساكر وشُيّدت الأديرة والمدارس وتحوّلت المنحدرات إلى بساتين وحدائق. ولكن بسبب الطابع المذهبي الطائفي لتلك التحرّكات السكّانية والتغيّرات الديموغرافية، جاءت الكتابات التاريخية القديمة،  لتؤرّخ لتطوّر جبل لبنان وأحداثه إستناداً إلى المدرسة التاريخية التقليدية، أي المدرسة الطائفية، على الرغم من الوئام والإندماج الكاملين للتجمعات السكّانية والعائلية على مدى نحو ثلاثماية سنة من الزمن تقريبا،  وذلك قبل أن تدخل إليه نار الفتن الطائفية  مع قدوم الحكم المصري بعد عام1831.

     أما مؤرخنا جوزيف أبو نهرا فيحاول في أبحاثه، بالرغم من اقتصارها على منطقة محددة من جبل لبنان، أن يؤسس لمدرسة تاريخية جديدة في كتابتها للتاريخ اللبناني على أسس علمية ومنهجية معتمدا التاريخ الإقتصادي الاجتماعي باعتباره تاريخاً تكاملياً توحيدياً ، لا تاريخاً تناحرياً تفتيتياً. ففي بحثه الأول قدّم الباحث سيرة شيّقة وغنية للعلامة ابراهيم الحاقلاني، تناولت مجمل تطور حياته الكهنوتيّة والعلمية والسياسية والاقتصادية والتجارية وعلاقته بالأمير فخر الدين المعني الثاني. وبالرغم من بعض التساؤلات السياسية التي ما زالت تشوب تاريخ فخرالدين الثاني حول علاقته بكل من توسكانه والسلطنة العثمانية، جاء البحث كقيمة تاريخية جديدة في تسليط الضوء على حياة إبراهيم الحاقلاني الاقتصادية والاجتماعية والعلمية .

    وفي بحث مسألة انتقال المِلكية والنفوذ المالي والسياسي من اللمعيين إلى الإكليروس في المتن في القرن الثامن عشر، يعلل الباحث التحوّلات والتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى تزايد نفوذ الإكليروس: كانتقال حكم الإمارة الشوفية من المعنيين الدروز إلى الشهابيين السنّة، وحسم معركة عين دارة للصراع القيسي اليمني لصالح القيسية، وتأسيس الرهبانيّات القانونية، وازدياد النفوذ المسيحي في جبل لبنان،  ووعي عامة الناس لحقوقهم ومشاركتهم في القرار الديني والسياسي.

      لقد عالج الباحث أبو نهرا هذا الموضوع بكفاءة عالية، فميّز بين حجم الهبات الوقفية للأديرة وبين الأملاك المشتراة من قبل رؤساء الأديرة والرهبانيات، ووصل إلى استنتاج مفاده : بأنّ أكثرية الأراضي الواسعة التي امتلكها الإكليروس كانت عن طريق الشراء(ص40)، وما الهبات إلاّ وقفيات فقيرة متناثرة وقفها المؤمنون والمحسنون. إنّ هذا التحليل واقعي ومنطقي لأنّه يقود إلى مسألة هامة شرحها ابو نهرا في بحثه من خلال استعراض حياة رهبان الأديرة الأوائل وشعارهم الأساسي: الصلاة والعمل(ص41). أو من خلال مقررات المجمع اللبناني التي اكّدت على أهمية العمل بالأرض بالنسبة للرهبان. حيث كان " على رئيس الدير أن يُلزم بالعمل جميع رهبانه، مع الأخذ بعين الإعتبار القدرات الجسدية والفكرية لكل منهم . فيعيّن الرئيس بعض الرهبان للعمل في الأرض وقطف المواسم، كما يعيّن غيرهم لتربية دود القز. وهذا الإلتزام بالعمل، إلى جانب حياة الصلاة والتقشّف، سمح للرهبان بتأمين اكتفاء ذاتي من نتاج عملهم، إذ إنّهم، بالإضافة إلى الزراعة، مارسوا مختلف المهن الحرفية كالنجارة والحدادة والبناء وصناعة الأحذية، وصبغ القماش، ودبغ الجلود وطبع الكتب وتجليدها، كما برعوا في ميدان الطب". (ص41-42). ويخلُص في بحثه هذا إلى مجموعة استنتاجات، منها: التركيز على أهمية الأرض كوسيلة انتاج ومصدر ثروة ونفوذ سياسي وديني في القرنين الثامن والتاسع عشر، وإلى اضطرار الأمراء اللمعيين إلى بيع أراضيهم للرهبان أو مشاركتهم لهم بالشلش ثمّ التخلي عنها مقابل الحصول على العائدات المالية النقدية مهما كانت زهيدة، ولكنّها ضرورية لمعيشتهم ولشراء سلطتهم من الولاة العثمانيين والأمير الشهابي الحاكم آنذاك . وهذا ما أدّى إلى تقلّص نفوذ اللمعيين في المتن بعد تقلّص أملاكهم، في مقابل تنامي نفوذ الإكليروس المالي والاقتصادي وبالتالي السياسي،  لأنّه كان قديماً ، من يملك الأرض والمال يملك السلطة والجاه. إزاء هذا الواقع العقاري الجديد وتنامي السكن الفلاحي المسيحي في المتن والشوف، وبروز سلطة البطاركة كسلطة بديلة للسلطنة العثمانية في جبل لبنان، كان لا بدّ  للأمراء اللمعيين، في المنطق الطبيعي، من اعتناق المسيحية والانضواء تحت سلطة البطريركية المتنامية، حفاظا على استمرار عائلتهم وتماسكها في وجه الإمارة الشهابية صاحبة السلطة والسطوة آنذاك، والخاضعة لمشيئة الولاة العثمانيين وسلطتهم المركزية في الأستانة. كما كان من الطبيعي والمنطقي أن تنتقل المِلكية والسلطة في المتن من اللمعيين إلى الإكليروس، وذلك وفاقاً لقوانين الاقتصاد -السياسي للنظام الاقطاعي اللبناني، حيث صعد إلى قمة السلم الطبقي في جبل لبنان، بعد خراب سلطة المقاطعجيين فيه: المدبّرون وجباة الضرائب وأعضاء الإكليروس المسيحي الذين حلّوا مكان المقاطعجيين في السيطرة على المساحات الكبيرة من الأراضي الزراعية والحرجية. وهؤلاء جميعهم، إلى جانب أصحاب الحرف والصناعة والتجارة والمال، كوّنوا البرجوازية الريفية الصاعدة التي شارك بعض عناصرها  في النفوذ والسلطة السياسية والإدارية في جبل لبنان منذ عهد المتصرفيّة حتى اليوم.

   وفي بحثه موضوع الجبل وتاريخ لبنان السياسي والاجتماعي. يستعرض أبو نهرا العوامل التي أثّرت في تاريخ الجبل من موقعٍ جغرافي وتضاريسٍ طبيعية، إلى قوى بشرية وتفاعلٍ حضاري مع الجوار العربي والغرب الأوروبي، ولا سيّما بعد تأسيس مدرسة روما المارونية. دون أن ينسى دور الإنسان الجبلي في صراعه العنيد مع الطبيعة الريفية القاسية ، في سبيل تحويل هذا الريف الصخري الصمّ إلى مدرّجات وحقول للتوت والزيتون ومختلف أنواع الفاكهة والرياحين، تؤمّن له الإكتفاء الذاتي في كل مايحتاج إليه من مأكل وملبس. وفي المنحى ذاته للكتابة التاريخية الاقتصادية والاجتماعية، يعالج أبو نهرا الأدوار الثلاثة التي طبعت الحياة الجبلية على مرّ العصور منذ الفتح العربي إلى نهاية السلطنة العثمانية. ففي الدور السياسي والأمني يقدّم لنا الجبل كملجأًٍ للأمان ومعقل للحرية لمختلف الطوائف والعائلات اللبنانية التي تشكّل حاليا المجتمع اللبناني على اختلاف تكويناته البيولوجية والأثنية والعقائدية والمذهبية. وفي الدور الاجتماعي يعتبر الجبل مجتمع الإباء ومختبر الديموقراطية بسبب احتفاظ الفلاح الجبلي بهامش من الحرية التعاقدية في العمل والشراكة والتملّك العقاري لاستثمارات صغيرة. كما عمّ الجبل العديد من التحركات والانتفاضات الفلاحية(العاميات) المتكررة حتى استطاع الفلاحون انتزاع المساواة الضريبية، والغاء الإمتيازات الإقطاعية. وفي الدور الاقتصادي، حيث كان الجبل مصدر الرزق والموارد الزراعية ، شكّلت الزراعة العمود الفقري للحياة الاقتصادية فيه حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وازدهرت زراعة أشجارالتوت لتربية دود القز وانتاج الحرير الطبيعي، حتّى أُُطلق على  " موسم القز موسم العز"، لجودة الحرير اللبناني ومدخوله السريع والوفير.

   أما في بحثه لأرشيف الأديار كمصدر لكتابة تاريخ لبنان الاقتصادي والاجتماعي من خلال العودة إلى دفاتر حسابات الرهبانيّتين الشويرية والحلبية(1723-1796)، فينتقد جوزيف أبو نهرا تخلّف الأبحاث المحليّة نحو قرنٍ من الزمن عن االتاريخ الأوروبي الذي أوْلى النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حقّها في الدراسة والبحث. بينما شجّعت الصراعات التقليدية عندنا على كتابة التاريخ السياسي الذي اتّسم غالباً بالطابع الايديولوجي. كما ينتقد نقص المصادر الأساسية والوثائق الأصلية وصعوبة الوصول إليها في ظل عدم وجود مراكز متخصصة في لبنان لجمع الوثائق التاريخية وتصنيفها ووضعها في متناول الباحثين.

   وفي سبيل سد بعض النقص في المصادر الأساسية لدراسة وكتابة تاريخ جبل لبنان الاقتصادي والاجتماعي، عاد الباحث إلى دفاتر حسابات دير مار يوحنا الخنشارة العائدة للقرن الثامن عشر،  فصنّف الإفادة منها: أولاّ- في الميدان الاقتصادي كمصدرٍ لدراسة الأوزان والمقاييس كالدرهم والأوقية والاقة والرطل والوزنة والحمل والقنطار، والقمحة والدونق والمثقال والشاكية. أو لدراسة الحركة التجارية من حيث أصناف السلع وأسعارها وأماكن انتاجها وأسواق تصريفها ووكلاء تجارتها. وثانيا- في الميدان الاجتماعي والثقافي كمصدر لمعرفة كيفية انتقال الأملاك والأراضي من العائلات المقاطعجية إلى الأديار عن طريق الهبة أو الشراء أم بشراكة الشلش، ومعرفة عدد الشركاء والعاملين على أملاك الأديرة وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، من حيث تبعيتهم الاقتصادية للدير، وخسارتهم المادية الدائمة معه بسسب كثرة الديون المتراكمة عليهم من سنة إلى أخرى، أو بسبب كثرة السلع المستوردة التي يزوّدهم بها الدير عادةً. كما يمكن للباحث الاجتماعي العودة إلى دفاتر الأديار لمعرفة مهن الرهبان وإطار حياتهم  اليومية بشكل خاص، والحياة الريفية المحيطة بالدير بشكل عام.

   وفي بحث البطاركة الموارنة من خلال كتابات الرحّالة الغربيين، يتناول أبو نهرا بساطة عيش البطاركة الموارنة والتقوى في ممارسة الطقوس الدينية، ومسلكهم في حياة التنسّك والسكن والمأكل والملبس وتقاليد استقبالهم الضيوف والموفدين البابويين. لينتقل بعد ذلك إلى معالجة مسائل التنظيم الإداري في كرسي البطريركية، وعلاقة البطاركة بالسلطات المحليّة والكرسي الرسولي والمرسلين الكاثوليك. ولعل الاستنتاج الأهم الذي توّصل إليه جوزيف أبو نهرا في هذا البحث هو: " تبدّل صورة البطريرك الماروني في كتابات الرحّالة الأوروبيين الذين لم يتمكّنوا من الغوص في أعماق التقاليد المشرقية لفهم خصائص الطائفة المارونية، أو غيرها من الطوائف الشرقية. فهم أرادوا أن يكون مسيحيّو الشرق صورة طبق الأصل عن المسيحيين الأوروبيين، وهذا ما يتعارض مع خصوصية الكنائس الشرقية الأنطاكيّة التي ركّز عليها المجمع الفاتيكاني الثاني ودعاها إلى المحافظة على فرادة طقوسها ".

   ومن خلال بحث شرع إسلامي وقضاة مسيحيّون، المطران يوحنا حبيب الفقيه والقاضي. عالج المؤلف جذور القضاء اللبناني وأحكامه وأنواعه وأعرافه الطائفية ورجالاته إبّان حكم الإمارة الشهابية، وكيف تطوّر القضاء الماروني ليصبح قضاءً مستقلاً بأعضائه ومحاكمه بعد أن كان مستنداً في أحكامه إلى الشريعة الإسلامية. بالإضافة إلى شرح  طبيعة العلاقة المتوافقة أو المتعارضة بين القاضي الكاهن النزيه وبين كل من الحاكم العادل أو المتسلّط والمستبدّ.

   وبالإنتقال إلى بحث المدرسة المارونية الحديثة والمسألة الشرقية: تأثير التجاذبات السياسية على المشروع الدّيني. يستعرض جوزيف أبو نهرا دور مدرسة روما المارونيّة في إحياء نهضة الشرق، وفي بعث التبادل الثقافي مع الغرب الأوروبي، وتعريف هذا الغرب بأصالة الشرق. ولكنه يأسف لبيع نابوليون بونابرت، بعد سيطرته على روما عام 1798، أملاك المدرسة المارونيّة وانتقال طلابها إلى مدرسة الأباء اللعازاريين في روما ، ثمّ إلى مدرسة البروبغندا لحوالي السبعين سنة(1822-1893). حيث أعيد فتح المدرسة المارونية عام 1893 بمساعدة من البابا ليون الثالث عشر وجهود المطران الياس الحويك الذي أوفده البطريرك يوحنا الحاج إلى روما ومنها إلى اسطنبول وباريس بغية توفير المساعدات المالية والمادية للمدرسة. ويسهب المؤلف في شرح الصعوبات التي واجهت المطران الياس الحويك في مهمته، وكيف ظهرت المسألة الشرقية بحجّة حماية الطوائف اللبنانية، ومواقف كل من فرنسا والنمسا والمتصرف واصا باشا السلبية من المشروع الماروني لإعادة فتح المدرسة المارونية في روما، واضطرار البطريركية المارونية إلى وضع المدرسة تحت حماية الدولة العثمانية، وليس تحت حماية الدولة الفرنسية كما كان متعارفاً عليه بالنسبة للمسألة الشرقية وحماية الطوائف اللبنانية التقليدية. وهكذا يظهر من هذا البحث أن الدول الأوروبية كانت تفتش عن مصالها الدائمة في المشرق العربي مهما كانت السلطات الحاكمة فيها، ثورية كانت أم تقليدية محافظة؟

     وفي بحثه الأخير من الكتاب بعنوان يقظة الشرق بين مدارس لبنان ومطابعه ومدافع نابوليون في مصر، يدافع جوزيف أبو نهرا عن أسبقية النهضة العربية في المشرق على تأثيرات حملة نابوليون الحضارية والثقافية على مصر عام 1798. ويعتبر أن بواكير النهضة الحديثة بدأت في لبنان قبل حوالي القرنين من الزمن على تاريخ تلك الحملة. وذلك عبر مسارين، هما: مسار انتشار العلم عن طريق مدارس الرهبانيات اللبنانية ومدارس الارساليات الغربية ومدرسة روما المارونية. ومسار تأسيس أول مطبعة عربية في الشرق عن طريق الأديرة اللبنانية، وذلك قبل مطبعة بونابرت في مصر بحوالي مئة وثمانين سنة. وبعد شرحٍ تفصيلي لدور لبنان في هذين المسارين، واستعراض أسماء وأعمال  خريجي مدرسة روما المارونية من العلماء والكهنة، ينتقل إلى بحث أثر حملة نابوليون على مصر في نهضة الشرق بادخالها نمطاً جديداً من الاعلام الجماهيري عن طريقة طباعة المناشير وتوزيعها، أو من خلال تنظيم الإدارة وتطبيق النظام المدني وتأسيس المجمع العلمي والمطابع ونشرالصحف والمطبوعات. ليستنتج أنّ لبنان يبقى سابقاً لمصر ولسائر المناطق العربية في انفتاحه على الفكر الغربي وعلى تقنيات الطباعة والتأليف والنشر. ففي ربوعه،  " وقبل دويّ مدافع بونابرت في مصر، استفاق الشرق على قرقعة المطابع في وادي قاديشا سنة 1710، وفي دير الخنشارة سنة 1733، وفي دير مار جاورجيوس في بيروت سنة 1751 وغيرها ".  

    وأخيراً بالرغم من بعض الهفوات السياسية والإيديولوجية البسيطة التي وقع بها المؤلف من جراء اعتماده على عدد من المصادر والمراجع التقليدية التي أصبحت في وقتنا الحاضر بحاجة للتحقيق والتدقيق من جديد بما يتناسب مع إعادة كتابة تاريخ لبنان الاقتصادي والاجتماعي، وذلك على ضوء الوثائق العثمانية والأوروبية والمحليّة المكتشفة حديثاً. بالرغم من كل ذلك، لا يسعنا ألاّ أن نشكر جوزيف أبو نهرا على مجهوده التأسيسي لإعادة كتابة تاريخ لبنان الاجتماعي والاقتصادي كتاريخ تكاملي توحيدي، وعلى أغناء المكتبة اللبنانية والعربية بمرجعٍ هام للباحثين وطلاّب المعرفة والعلم.