في تقديم "من نسم الذاكرة" للدكتور أنيس مسلّم

الدكتورة نايلة أبي نادر

"علمتني الهموم أن العمر طريق نقطعه من الطفولة الى الطفولة، من رحم الأم الى رحم الأرض".ص50

يطلّ أنيس مسلّم من على شرفة الذاكرة ليحدثنا عما رأته عيناه المتوهجتان بنورٍ سحره غريب، وحصدته يداه المختومتان بحبرِ تجاربِ الزمنِ ومفاعيله المتعددة.

يفتح خوابي الكلمات ليوزع علينا كؤوساً من حنين تنضح بالمحبة والحكمة، يقدّمها على طبق مرصّع بعشر أقصوصات. نجده يستغرق في التأمل والتجريد وحيداً بمعية الأنا أفكر، يحفر، ينبش، يتذكر، يسائل الصورة ويقارن بين ما يرتسم امامه على الورق وما ينبعث من ذاكرته المتلهفة شوقاً الى لقاء وجه عزيز قد رحل، كان يرى فيه إطلالة صبح مشرق، وغدٍ أبعد من اليأس. نجده يبحث عن وجه أمٍ رسمت خطوطَه ريشة قلبه الخفاق.

يجمع بين دفتي كتابه نهجين مختلفين ينتمي كل واحد منهما الى عالمه الخاص، عنيتُ بهما: التنظير الفلسفي حول مفهومي الذاكرة والزمن، من جهة، والنهج القصصي الذي يعتمد على القصة القصيرة التي تنقل المتلقّي الى زمن الكاتب، وما جرى فيه من أحداث، من جهة أخرى.

يحلّق أنيس مسلم منظراً في مقدمة كتابه، يذهب بعيداً في التأمل والتحليل. نجده يتوقف عند مفهوم الزمن، عند هذا الكائن المارد، يتفرّس في وجهه، يتلمّس حقباته المختلفة، يدقّق في مساره، ثم يعود الى "مغارة ذاته" ليفتح النقاش ويقلّب الصفحات ويمدّ الجسور. هناك في صمت الانا يفتح كتاب العمر ليصلي، ليتذكر، ليغفر، ليرحم، لينضج ويتكلّل ببياض الحكمة.

بين الماضي والحاضر، بين التذكّر والنسيان، بين الثابت والمتحول، تندرج فصولٌ من التأمل والتفكّر والتحليل بحثاً عن حقيقة الكائن، عن حقيقة الزمن وكيفية تعاطي الانسان معه. من هنا نجد المؤلف يُبحر في فهم الحاضر انطلاقاً من الماضي ودور هذا الأخير في خدمة المستقبل، كما نراه يتوقف عند العلاقة بين الزمان الذي لا نملكه والمكان الذي نملكه. يطرح السؤال باحثاً عن "اللماذا؟"، يُجهد النفس في التبحّر داخل كمٍّ من الأسئلة الوجودية التي تُقلق وعيه. يعتقد في قرارة نفسه "أن من يجد الجواب عن اللماذا التي يطرحها حول وجوده، يستطيع تحمّل الأعباء التي تُلقيها الحياة على كاهله".ص19

نجده يتمتع في اللجوء الى "لحظات الصمت الخلاقة" حيث تستمتع الذاكرة باستعادة الصور، وينتعش الحنين في تركيب ملامح الماضي. يرصد مسار التحولات الأخلاقية، والاجتماعية، والأدبية. يرمّم صورة العائلة اللبنانية، ويجمع على مساحة الاقصوصة ما تبقى من قيم. يسكنه همّ الحفاظ على أثمن ما قد يمتلكه الانسان: الحب والفرح. يرى ان "الحب يضيع في الشهوة الجنسية، والعائلة في الملكية، والولد يغدو سلعة، وموضوع إرث وتوريث وتوارث". ص21

حاول جاهداً اتباع الأسلوب القصصي ليجذب القارئ، ويبعد عنه عبء الضجر. هاجسه أخلاقي، وهدفه إنعاش الذاكرة بالقيم التي عرفها مجتمعنا. يقول" " لقد حاولت أن أبيّن مفاعيل الزمن في تطور العادات والتقاليد، وبخاصة في تحولات كل منا".ص29

واضح في كتابه كم أن الأم هي البداية والنهاية، هي القصة التي يريد أن يكتبها. انها الحب، والحنان، والحكمة، والقيمة الاخلاقية الرفيعة. انها الوجود المنعش الباعث للحياة. نجدها حاضرة في كيانه، تنتصب أمامه عند كل خطوة أو زلة قلم. انها صورة مَخفية جليّة في آن. متوهّجة شاحبة معاً. حزينةٌ ومبتهجة، لا ترتاح ولا تستكين. أم أنيس مسلّم خرقت كيانه وتربّعت على عرش فكره فزينت إنتاجه الأدبي بأبهى الصور. أنها هي التي تُشبع ذاكرته بالحنين وتُنعم عليه بالإبداع. يقول: "كان في وجهها نوع من الأفق، نراه، نتوق اليه، ننشده، ولا نبلغ مداه".ص66. ويضيف على لسان أحد أبطاله: "كانت امي نعمة بيتنا" (ص42). "تعلّمت من أمي، مع الوقت، أشياء كثيرة". (ص49) "ما شعر سليم يوماً، بأنهم فقراء، لأن أمه كانت معهم، لأنها كانت كنزَهم. لأنها كانت ملكةَ أيامهم، وكان حضورُها يجترح العجائب، يبدّل مجرى الأحداث، فيقف الحرمان خارج عتبة بيتهم، وأحياناً يبدّل طبيعة الطبيعة، فلا يدخل الصقيع البيت، وان في عز الشتاء، ولا تلهبه الحرارة ولو في منتصف آب".   ص69

بين الماضي والحاضر ترحالٌ وسفر. بين الحاضر والمستقبل تطلعاتٌ وأحلام تسكن الانتظار. بين الماضي والمستقبل امتزاجٌ ملونٌ بخيوطِ الرجاء والخيبة، والحياة والموت. هل الماضي يخدم المستقبل أم يخنقه؟ هل الحاضر يحدّ من الآتي أم يُطلق له العنان؟ ما هو لغز هذه الذاكرة القابعة في داخلنا؟ هل هي في وعينا؟ في لا وعينا؟ هل تسكن النسيان وتلتجئ اليه لتتغذّى منه؟ أسئلة أترك لكم التمتّع في تلمّس خطوطٍ من اجابات محتملة تنتظركم. وأختم بعبارة أوردها المؤلف في أقصوصة تحمل عنوان "الحلاق"، حيث يقول:

 "كان يجب أن أبلغ هذا العمر حتى أدرك أن ثمة يداً ترسم، على وجوهنا، بريشة الزمن، خطاً بيانياً لمسيرتنا وتجاربنا وخياراتنا، وحتى أعي أن الذين يقبلون هذه اللوحة كفهرسٍ في صفحات الكتاب الأخيرة، قليلون، بل ندرة".ص50

 

______________________________________________

 

أنيس مسلّم في "نَسَم الذاكرة"

حَدْبٌ على الجمال، وانتماءٌ إلى القيم

د. غالب غانم

      هاءنذا وجهي إليك، مرّةً بعد مرّة، لأَحفُوَ مع المحتفين بقطاف موسمٍ جديد من مواسم قلمك. ولا بُدَّ للقِطاف، إذا كان الكرّام زحليّاً، من أن يحملك فوراً إلى أجاجينِ الخمر، وأجاجين الكتابةِ التي لا تستكين إلّا إذا جعلتِ الكلمات تتغاوى على سهول الورق، وتنتشي وتمدُّك بالنشوة، وتجعلُ ما بين جسدها وروحها مؤالفةً كالتي بين الزهر وأريجه، أو بين الذاكرةِ وأنسامها وفرسانها وصناديقها المرمريّة.

     من العصيّ، في خطّ هذا التصوّر، أنّ نعثرُ على أدبٍ مصدرُهُ تلك المدينةُ "وذلك النّهر وهاتيك الرُّبيُّ والمنحنياتُ والمساحبُ الخَضِلة، إلّا إذا كان ملعباً للجمال، وللسّلام، ولقيمٍ علا سُلّمها وفاضت شلّالاتها...

 

___________

حول كتاب "مِنْ نسم الذاكرة" للدكتور أنيس مسلّم، الحركة الثقافية-انطلياس، الخميس 12/5/2016.

    أقاصيصُ، مشاهداتٌ، وجوهٌ وشخصيّات، طفولةٌ وأمومة، متوحّدون وثرثارون، أريافُ ضيق وضفافُ رحابةٍ ورخاء، قبضايات ومحاضرُ أمنيَّة تمنحهم صكوك براءة، عصاميّون وعصاميّات، أزواجٌ متحابّون حاول أصحابُ الغِيرة تفريقهم، مِهنٌ وحِرَفٌ وحلّاقٌ وممرّضة وخيّاطة، ذوو عوزٍ على إباءٍ وطموح، كرومٌ ودروب... كلّ ذلك، وما اليه، يُطالِعنا في "من نسم الذاكرة"... ولكنّ وجهتي ستكون إلى ما يميّز بيئتهُ وتراثها الأدبي والإنساني، من حَدبٍ على الجمال، ومن غيرةٍ على المُثُل.

   ما أنا وحدي أذهب إلى ذلك، لقد ذهب اليه الكاتب من قبلُ حين قال:

    "ثمّ إنّ التاريخ يبدو، غالباً ، غير منطقيّ، فيما القصّةُ القصيرةُ، عكس ذلك، تدخلُ الكتبَ كنسيجِ رداء، متناسقةً، متكاملةً، مثيرةً، جميلةً، وجذّابة، وهي كالقصيدة لها مفاصلُ وإيقاعٌ ومُناخ، وهما تمتازان بالتجاوز والاستعارة والتخيّل والتفنّن، وتتوقفانِ مطوّلاً عند القيم..."(من المقدمة، ص 31).

***

   

·       أجل، القصّة القصيرة... قصّتُهُ هو على الأقلّ... كانت كالقصيدة. وأن تكون على هذه الحال، فقدَرُها ألّا تتثاءب، وأن تَعِدَك بما هو أبعدُ من الظاهر، وأن تحفظ مكاناً للنّجاوى والمواجيد، ومكاناً آخر للغبطةِ ولِكُوَمِ الورد... وأنْ تقبضَ على أسرار القلب، ولا تخلطَ ما بينَ البوحِ والإخبار، وما بين السّكينةِ والانعزال. وأنْ تذهبَ بعيداً مع خطراتِ البال ومع طوالِعِ الأساطير ومواسمِ الرّياح...

      يقول في إحدى الأقاصيص:

     "فلطالما نسجتِ الأسماء أساطير أصحابها، ومثلَ الرياح في المواسم، تُسافرُ إلى أقصى أقاليمِ المخيّلة حاملةً معها أطراف الروايات وأمتعها"(من قصة "صوفيا" ص 145).

 صوّرت أقاصيص الكتاب حالاتٍ شتّى تناوب فيها الراكدُ والفائر، الطفوليّ والأقلّ براءةً، المألوف والطريف، الرسّامُ المنكود الحظّ الذي باع صورة مار جرجس بقنّينة زيت انكسرت وكَرَمَ النفس لدى جارٍ ينتصر للفنّ (قنّينة الزيت، ص91). ومن هذه الحالات أيضاً لحظات تداخل فيها الزمان والمكان، والحضور والغياب، والوجهُ الباقي على الورق وما كان عليه قبل الرحيل من جمال مُحيّا وليانِ قلبٍ واندفاقِ ينابيع. تلك كانت حال المهاجر الذي ترك وطنه بفعل الحرب ثمّ عاد ليعثر في المنزل على صورةٍ صغيرة تمثّل وجه أمّه، حرّكت مشاعره، ولكنْ شتّان ما بينها وبين الممتلئة حياةً ونضارةً:

    "وجه أمّه كان أجمل من هذا... كان أبسط وأرقّ وأقرب إلى القلب...

     ببساطةٍ كانت ترتسمُ الابتسامة على شفتيها، فتظنّها أغنيةً ريفيّة أو زهرةً بريّة أو حبّةَ ندى. تظنّها داليةَ عنب، أو نصبةَ وردٍ جوريّ، أو نبعاً رقراقاً يتدفّقُ من أحشاء صخرة (الصورة، ص68).

·       وأن تكون القصّة على هذه الحال، تدخُلُ الكتبَ كنسيجِ رداء، كما يقول، فهذا يعكِسُ خياراً من الخيارات التي تنحازُ إلى مفهومٍ جماليّ للعمل الأدبي الذي لا يستقيم إلّا إذا حملتِ الكلمةُ كثيراً من الماء والرونق على ما ذكر الأقدمون... إلّا إذا لطّفت الشاعريّةُ إملالَ السَّرد وواقعيّةَ الحدث... إلّا إذا كانت الكتابة حديقةً لا يُدرَكُ ما فيها من أصولٍ وجذور وبذورٍ مبثوثةٍ لتصنعَ الحياة وتستعيد الفجرَ والخلائقَ الأبكار حتّى تظهر الطوالعُ ويكتملَ التفتُّقُ...

    عن حديقة زوجين متحابّين حبَّ العشّاق متكاتفين تكاتُفَ ذوي الكفاف، يرسم لوحةً ما علينا الاكتفاءُ بالوجه الوصفيّ فيها، لأنّها، في البُعدِ الأقصى، تشهد لنقاءِ الطوّيتين، وفرحِ القلبين... وتشهدُ لجيلٍ من أبناء الأرياف قرأ السّعادة قراءةً خاصّة، وصنعها بيديه، ولم يخدّش وجهها الجميل بالتنظير والتفلسف ومقارعةِ المستحيل.

    أتمثّلُ على ما أقول بما جاء في أقصوصة "الرسالة":

    "أمّا الأعمالُ الرجوليّةُ، فلم يقم بها مرّة وحده في البيت. فالحديقةُ الصغيرةُ، ما أنبتت ورداً وفلّاً، ولا بنفسجاً وزنبقاً، ولا شعّ الأقحوان في الدار كألف مصباح ومصباح، إلا بعد أن أعمل هو معوله والشوكة والرفش والمجرفةَ في أرض الحديقة وامتدّت يداها الطريّتان تداعبان التربة وقد غدت أنعم وألين بعد ضربات الزوج، فتأخذ بذور الحبق ترشّها، على هواها، في المساكب، وشتول الورد تغرسها في الأمكنة التي أعدّتها لها، وهكذا قُلْ عن الفُلِّ والأضاليا، فيطلع الربيعُ في حديقتهما غيره في الحدائق، واذا للبنفسج والياسمين عندهما أرج وبوح واطلالات فريدة النكهة والإيحاء."

·       وأن تكونَ القصّةُ، قصّتهُ هو، على هذه الحال... تتوقّف "مطوّلاً عند القيم"، فذلك يعني أنّ الثالوث الأبديّ المتمثّلَ بأضلاع الحقّ والخير والجمال هو غاية من غايات الأدب، ومن غايات الحياة. وإذا كان الكلامُ عليه يسيراً، فتتبّعُهُ وتلمُّسهُ والاحتماءُ في ظلاله والتقرّب منه مسلكاً وعملاً مسألةٌ فيها نظر.

   على أيّ حال، كان لهذا الثالوث حضورُهُ الدّائم في الآداب العالميّة، وكان موضعَ جدلٍ في الفلسفات، وسيظلّ...

    وما يهمّ، في اللحظة الراهنة، ضبطُ بعضِ الإشارات الدائرة في مناخه، وفي مُناخِ الأقاصيص المعنيّة، على أن تكون، نظراً لضيق المقام، مقتصرةً على قيمتين كُبريين أو على ديوانين من دواوين الحقّ والخير والجمال، هما ديوان الأمومة، وديوان الأرض.

   الأمّ، في بعض أقواله، هي "نعمةُ البيت... ومثلَ كلّ نعمة يحسبُها صاحبُها أبديّة ولا يشعُرُ بأهميتها إلّا حين يفقدها" (ص42) وفي بعض آخر: "كانت توحي بنظرتها، تستغني عن الإفصاح. وجهها يُشبه الصبح، حيناً، والعصرَ حيناً آخر... يداها كانتا ناصعتين، نصاعة الزّنبق، وحدْبها منعشاً مثل نسمات الوادي ومائِهِ الرّقراقِ اللّالاء" (ص65).

    وديوانُ الأرضُ في أقصوصة "الكرم"، خاتمةِ الأقاصيص، شارك ديوان الأمومة في منحِ الغبطةِ وفي جعل الدمعِ يطفرُ يومَ باع ربُّ العائلة كرماً عزيزاً في لِحفِ الجبَل، وفي شريطِ الذاكرة.

   "...كانتِ الأرضُ ديوانُهُ المفضّل. كلُّ قطعةٍ منها قصيدةٌ قائمةٌ بذاتها. كان يحفظها عن ظهرِ قلب. وكانت سعادتهُ أن يسلُك الدروبَ إلى أراضيه مع الفجر(ص165).

    وهكذا يُنهي الأقصوصة والكتاب:

    "أخذت أمّي العنقود، تأمّلتْهُ، قبّلتْهُ:

     ثم غمرتنا بحنانٍ حارق، كما لم تفعلْ مرّةً من قبل.

     نظرتْ إلى وجه كلّ منّا، تمادتْ، حتى طفرتْ من عينيها دموع، أظّنها عجزتْ عن حبسها، وهي تُتمتم: لقد باع والداكم الكرم، وغداً يُسلّمه إلى الشاري".

***

     ويبقى، بعد هذه النظرةِ العجلى، أن يغوصَ المتبحّرون في عالم القصّة على ما في الكتاب من كنوزٍ إنسانيّة واجتماعية ونفسيّة، وهي كثيرة. ومهما غاصوا، لن يسهى عن البال أنّ قلمَ صاحبنا ما ينفكُّ يُعلنُ عن هويّته مجاهراً بانتمائه إلى مدرسةِ الجمال ومدرسةِ القيم.

 

غالب غانم

 

______________________________________________

مداخلة جورج شامي

في مناقشة كتاب الدكتور أنيس مسلم

"من نسم الذاكرة"

في الحركة الثقافية – أنطلياس

في 2016/5/12

 

أيها الحفلُ الكريم،

"يا صبّابين الشاي زيدو حلاتو"

"يلّلي ما بيعشق وبيسكر بالله لشو حياتو"

 

هذا القولُ الماجنُ، بدونِ منازع، لا ينطبقُ على الدكتور أنيس مسلَّم، ولا على عالمِهِ القصصي، ويدحضُه قولٌ آخر للشاعرِ العجب، سعيد عقل وفيه: "أنيس مسلم في كلِّ أقاصيصِه، شأنُه في كلّ مؤلّفاتِه، نبيلٌ، نبيلُ، تقرأهُ، كأنّكَ تقرأ الشرف".

بين هذا القولِ وذاك، أجدُ نفسي حائراً مضعضعاً ومرتبكاً، في أية منزلةٍ أُنزل قصصَ "من نسمِ الذاكرة" التي نحنُ بصددِ مناقشتها.

ويعودُ سببُ حيرتي إلى أن عميدي الدكتور مسلَّم طوّقَ مجموعتَه القصصيّةِ هذه، وهي الثانية في سُلّم إنتاجِه الجامعي والابداعي، بمقدّمةٍ تُعتبرُ من عيون المقدّمات الروائع في الأدب الأكاديمي الراقي... وإن جاءت فعلاً في غيرِ موقِعِها مشحونةً بهواجسَ تشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ، زناراً ناسفاً من آخر طراز، يشفع به انه زنار رحيمٌ غيرُ معدٍّ للانفجار... وإذا إنفجرَ من قربٍ أو من بعدٍ يُرهبُ ولا يقتلُ وإلاّ لكانَ مصيرنا كُلّنا الليلةَ في كونٍ آخر!

ولا أبالغُ إذا قلتُ إن هذه المجموعةَ شكّلت بمضمونِها عوائقَ عصيّةً على الاقتحامِ الانتحاري... وسدّاً منيعاً استطاعت أن تشبكَ به جمهرةً من أئمّةِ الكتّاب والمفكّرين العالميين: قُدامى ومحدثين، استعنتَ بهم للدفاع عن مفهومك القصصي!

لقد أبهَرْتَني بنظرياتٍ، كنتَ بغنى عنها، عن كيفيةِ كتابةِ القصّةِ القصيرةِ... وأسقَطَّني في لججِ "الذاكرة" على أنها الينبوعُ الحيُّ لمثلِ هذه القصصِ... ممّا جعلَني أتمثّلُ نفسي فقيراً هندياً على رصيف النزع، مكسورَ الخاطرِ، مكسورَ الجناحِ... لا تنفعُ معه كلُّ المقوّماتِ والمقوياتِ لإنقاذهِ من براثنِ الموتِ البطيءِ داخلَ أسوارٍ وعوائقَ، سبيلُ النفاذِ إليها أضيقُ من خَرمِ الأبرة!

وخيّلَ إليّ، لأولِ وهلةٍ انني في حضرةِ "ساحرٍ" عالميٍّ، من طرازِ "هوديني" أو "كوبرفيلد" يهوى الخديعة، وإن باستطاعتِه أن يُخرجَ من بلعومهِ حبلاً من المناديل الملوّنة.. أو يُلملمُ من وراءِ أذُنَي الرائي عدّةَ بيضاتٍ صالحةٍ للأكلِ الهنيء... أو يستخرجُ من منديلٍ في قبضتِهِ، عدّةَ حماماتٍ وديعةٍ مختلفةِ الأحجام ترفرفُ فوق رأسه.. وتحطُّ على كتفَيْهِ وهو يرقصُ، أو يَمشي على الجمر... كما أنّ عليه أن يتحلّلَ من روحِ العجوزِ العرّافةِ التي تُعلّقُ بإحدى كتفيها "جراباً" فيه من كلِّ أنواعِ الخداعِ والشعوذة والمطيبات ما يغري!

للأسف، أو لحسن الحظ، لا شيء من كل هذا قد حصل!

باستثناء الوعظِ والارشادِ والترويجِ والترغيبِ الذي يتلاقى حيناً مع المقوّلةِ الخداعةِ التي تجمعُ الحزنَ والفرحَ في خلطةٍ واحدةٍ: "إقرأ تفرح... جرّب تحزن"!

ولكن "الذاكرةَ" التي "سيّدَتَها" و"أمّرتها" والتي لا تنسى دورَها النبيل، أيقظَتْ فيَّ صفةَ "الدرويش" التي أطلقتَها عليّ منذ ما يقاربُ الأربع سنوات... ودَفَعَتْ بي إلى "الدروشةِ" مع أبطالِ "أقاصيصكَ العشَرة... متذرّعاً بالقيمِ، وبالأخلاقِ، ومقاومةِ الشهوة، والتصدّي للإغراءات، ونِصبَ عيني َّشعارٌ واحدٌ راسخٌ: "التجربة الإبداعية، كالتجربة الشهوانية": الأولى بدايةُ الصعودِ إلى القِمَّةِ، والثانية بدايةُ السقوطِ في الإثم!

لقد دَفعني هذا الواقعُ إلى التساؤل: هل أبطالُ مجموعتِك "من نسم الذاكرة" متحرّرون من أغلالِ الأنانيةِ، وإغراءاتِ المصالحِ، ومضايقاتِ الاقنعة التي تفرضها الحياة الاجتماعية؟

وهل هم بعيدونَ عن المكرِ والمداهنةِ والرياءِ ومشتقاتِها وأكثرَ قرباً من البداهة... وكأنهم يعودونَ إلى الطفولةِ بل إلى البراءة ببعدَيها الجمالي والخلقي؟

وهل يخضعونَ لإرادةِ النظام الذي تفرضُهُ عليهم القصّةُ، أيةُ قصة، فلا يحاولون إعادة تركيب العالم حسب اقتناعهم ومسوغاتهم العقلية أو وفق ميولهم ورغبات قلوبهم!

من هنا يمكنُ إنزالُ قصص "من نسم الذاكرة" في منزلةٍ لا تتخطّى الأبعدَ من التسامي... ولا تغرقُ في تلافيفِ الإطراءِ والتمويهِ باعتبارها قصصَ "الصدفة" لا قصصَ "الذاكرةِ" المسترجعة، بفضلِ الوقائعِ المكتسبة والمتجلّدة المتجمّدة التي اعتمدتها يا صديقي، وتبنَّيتَها وتدلُّ دلالةً واضحةً على حبِّ التستُّرِ عندك، وتفادي المواجهة التي تكشفُ مسارَ الشخوص وطباعَهم والوقائع!

لا أنكرُ، يا عميدي الأنيس، انك قد بالغْتَ في الصناعة، وتقديمِ الشكل على حساب المضمون... وأشهدُ لكَ بأنكَ تُتقنُ احترامَ التراتبية، وتجهدُ في بناء القصة، بناءً راسخاً فلا تعمُّها الفوضى، ولا تخرجُ شخوصُكَ عن الانضباطِ في عقلانيةٍ باتَت من تقليعاتٍ اندثَرَتْ، وظاهرةٍ نادرةٍ في زمن انقلبت فيه المقاييس رأساً على عقبٍ وباتَت الغرائبيةُ سمةَ العصر بامتياز!

إزاء هذه الحال يمكن الجزم بأن روحَ الكاتب عندَك قد لفَّتْ بعضاً من فتوّتك في أوراقٍ رانَ عليها الذبول!

عالمُ القصّة، أيّها العميد، مفتوحٌ على كلِّ الاحتمالاتِ والتجاوزاتِ، وهو عالمٌ نهمٌ متحركٌ بسرعةٍ ضوئية، ولا يُقتصر على نوعٍ دونَ آخرَ سواءَ وقَعَ في 7100 كلمة أو في عشرِ كلماتٍ أو عشرة مجلداتٍ... ولا تحدَّهُ موازينُ، وليس هو معادلةٌ رياضية!

انه عالمٌ مُكيّفٌ، رقّاصٌ، غير متكلّسٍ، ويضيرُهُ أن يبنى على عالم من الخوف المعشّشِ في حواشيهِ مع الهواجس!

انه يتسعُ لكلِّ مداراتِ الإنسانِ ومشاغِلِه ولواعجِهِ، لكل حروبهِ وأفراحهِ ومآسيه، وكلِّ انتصاراتِهِ وهزائمِهِ، وكبواتِهِ، لكل حبهِ وأحقادهِ ونزواتِه التي لا نرى لها أثراً بارزاً في مجموعتك "من نسم الذاكرة"!

وبقدرِ ما أفرحني انك بدّلتَ من نمطِكَ السابقِ ونمطِك الحالي، ولو تبديلاً سطحياً، وانكَ اعتمدتَ مقاييسَ خاصة في اختيارِ مواضيعكَ، فعدتَ إلى الذاكرة... وخفايا الذاكرة، وبراءةِ الذاكرة... وشرفِ الذاكرة... وما تحملُهُ من خياناتٍ وتأويلاتٍ في الحفظ والتخزين والتحنيط... وشحنتَها بالأحاسيسِ والمشاعرِ والتلمسات المجلّدة بفضل تقادمِ الزمنِ فخرجت كلاسيكية تحجّرَ عليها طمى الإبداعِ والاستطرادات والاشكالات وكلها اكسسواراتٌ فقَدت قيمتَها في البهرجِ الإنشائي المستطابِ والمغالاةِ في التأنق، وفرضَتْ نفسَها في غير موقعها! كأنها عارضات في واجهات زجاجية لكل أنواع البدائل الرجالية والحريمية الجامدة!

نصوصُكَ نظيفة.. الأحداثُ على بساطَتِها نظيفة.. خواتيمُ الوقائع نظيفة... ولكنها هامدة خالية من أية جدّةٍ أو طرافة... وقد غابَ عنها الشحنُ العاطفي، والنبضُ الآسر والنداوة... فلا تشفعُ بها نهايةٌ ولا تشفعُ بدايةٌ وتظلُّ حالاتُ الصّدْم حتى داخل مغارة الذات، والتوغّلِ في أرجائِها ودهاليزِها، كما تحدّده أنتَ، مفقودةً...

ويدعوني إلى التساؤلِ، أين كنوزُ ذاتِكَ التي حلمتَ يوماً بالعثور عليها، ولماذا أخفقتَ في إبرازها؟ وهل تتطابق مع ما توصلت إليه السرديات الحديثة التي يُمكنُ حصرُها بتيارينِ رئيسيينِ معاصرينِ بالسردية!

التيارُ الأولُ طوَّرَه الألسُنيُّ الفرنسيُّ جوليان غريماس، وحصرَ همَّه في تشكيلِ مضمونِ الحكاية، بما يرويه النصُّ وتشكيلاتُه العميقة، وقد عُرف هذا الاتجاهُ بـ"سيميائية السرد" الذي تُنجزُ فيه دراسةُ لوحاتِ السردِ والشخصياتِ بوصفِها عوامل وممثلين.

واعتُبر غريماس القصةََ القصيرة "عبارةً" أو "جملةً بسيطةً" قابلة للتحليلِ كعمليةِ انتقال من حالة سابقة، إلى حالة لاحقة، بينما بقيتَ أنتَ مع قِصصِكَ في حالةِ استرجاعٍ ولم تنتقل إلى حالةِ استباق!!!

أما التيارُ الثاني فقد اهتمّ بـ"شعريَّةِ السردِ" أو "الخطابِ السرديِّ" وهو الخطاب الذي يدرس الراوي والمنظور وبناء الزمان والمكان.

***             ***

لماذا ابتعدتَ يا صديقي الكبير عن عالمِكَ؟ ألأنَّ قصصَكَ التي استللتُها من "الذاكرة" كانت مادة للهروبِ إلى الوراء؟ أم لأنك اتخذتَ منها مرآةً تعكسُ لوحاتٍ ذابلة بجمالاتها وبشاعاتها تذكّر بالبكاء على الأطلال؟ والاستسلام للتاريخ!

وعلى الرغمِ من انكَ تحدّثتَ عن أماكنٍ كثيرةٍ، وأمداءٍ فسيحة ذاتُ مدلولات متعددة... وعلى الرغم مما تتمتَّعُ به شخصياتُ قصصكَ من قدرةٍ على الحركة، فقد آثَرتَ وحدةَ المكانِ على وحدةِ الحدث من جهة... ولم تساعِدْ من جهةٍ أخرى في الكشفِ عن الحالةِ الإنسانيةِ وانعكاساتِها على الظاهر المرئي، لذا يبرز المكان محركاً للذات وانفعالاتها من ناحية وعلاقتها مع الآخر... ومثبطاً للهمم من ناحية ثانية!

***             ***

على امتدادِ ستينَ سنة، من تاريخِ كتابة أول قصة في المجموعة عام 1956 إلى اليوم!

أيْن الزلغوطة التي تحوَّلت على عقودٍ نشيداً يثير حماسةً وأهميّة:

زحلة يا دار السلام               فيكي مربى الأسودي

عَ الضيم والله ما منام            الموت ببوز البارودي

 

وأين:

زحلة زحلة زحلتنا               وشرب العرق عادتنا

والبردوني ميّتنا                            بتعطي لذة وبرودة

***

ستون سنة، يا عميدي، بويلاتها ومآسيها وشهدائِها وأبطالها، وجبنائها وأيتامها، لم تستوقفك...

حتى ربّة الكرمة... حائمة تبكي، وتتأوَّهُ وما من معزّيها!

ألَمْ تكن هذه المسافةُ الزمنيَّةُ كافيةً لتنالَ شرف الأذكار؟

أين الأشاوسُ المنافحونُ عن أرضِهِم وأعراضِهم، لا يهابون الموت، راسخون كالطود الشامخ، بينهم وبين الله كلام؟

أينَ شرفُ النضالِ والشهامةِ والكيفِ وحبِّ الحياةِ والفرحِ؟ ولماذا مسحتها من قاموسك؟

***             ***

إذا كان القاصّ الماهر، يا عميدي، يأبى أن يجعل من قصصه وسيلة ترفيه لإرضاء القارئ، فهو يُجدّ ليقيمَ بواسطةِ كتاباتِه علاقةً جديدةً مع الواقعِ، علاقةً قائمةً على فهمِ المجتمع وتحسينه، فهل سعَيتَ يا عميدي من خلالِ منظورِكَ القصصي إلى جعلِ قصصكَ أكثر إنسانية... وأكثرَ التصاقاً بالوقائع المروية؟

أنا لَمْ أَلمُسْ ذلك.. وأنتَ لم تدخلْ التجربةَ وتعاني من الألمِ، وفاتَك أن تُدركَ أن أي تغيير يبدأ من السعي نحو الأفضل، وليس في الاستسلام للماضي... لم تحاول أن تتحدّى الظلم في واقعه.. ولا أن تساعدَ المهمّشين.. ولم تسعَ من خلالِ فعلِ القصِّ المتمظهرِ بالمنظورِ الايديولوجي، إلى تحقيق غايتك الاجتماعية، وهي الإصلاح والتحديث! إصلاحُ مجتمعكَ المختنق بالفسادِ والحقدِ والكراهيةِ والغشِّ والنميمةِ والقتلِ والعنفِ... والى خلق مكانٍ مغايرٍ وزمانٍ وإرادات مغايرة!

أنتَ يا عميدي لم تسعَ، مع كلِّ ما تتمتَّعُ به من مقدرة، والزمانُ زمانُك... والذاكرةُ ذاكرتُك... وقناطيرُ النجاحِ تُثقلُ كاهلَكَ لأن تضيفَ شيئاً جديداً إلى الحياة، فضلاً عن انك أردتَ أن تعبّرَ عن الذاتِ وعن قلقِها تجاهَ هذا الواقع الذي حوّلها إلى دُمى لا قرار لها، وساوى بين المنظورِ الموضوعي والمنظورِ الذاتي مؤكّداً على أن الإنسانَ يعكسُ صورةً حيّةً عن بيئتِهِ سواء أكانت مشوّهةً أو مستقيمةً، تفوحُ منها الروائح الكريهة حيناً، وحيناً مطيّبة!

هل نجحتَ، يا عميدي، من خلال هذه الاقاصيص في إيصال انفعالات شخصياتك بعفوية، وأبرزهم شخصيةُ الأمِّ والدتك؟

وهل تمركَزَتْ هذه الانفعالاتُ في المشهدِ الذي يُمكنَ أن يشكّل البؤرةَ الصلبةَ في العمل القصصي بأكملِه باعتبارِه العنصرَ الأساسي الذي إتّخذْتَهُ لتصبَّ فيه الأحداث، حيث تتفاعلُ العلاقات القائمة بين الشخصيات وتتكثّفُ الحالةُ حتى النهاية، فيتنوّعُ الزمانُ بين "الماضي – الأزمة" و"المستقبلِ – الفراغ" الذي لا يُقدّم حلاً، في حين أن الحاضرَ كان بمنزلةِ ولادةٍ جديدةٍ وانبعاثٍ جديد؟ وهنا يصبح دور الذاكرة مفقوداً تماماً؟

يا عميدي، الغنيّ بالنبل، لقد قتلتَ أبطالَكَ حين حشرْتَهم في خلايا الذاكرة، فهيمنْتَ عليهم حالاتُ الاستسلام لواقعٍ مفرّغ من أي طموح... لا يستفزًّهم فقرٌ أو فاقةٌ أو كآبة أو قلق، أو بطولة، أو اضطهاد، أو شجاعة أو امل بمستقبل باهر أو نجاح واعد!

القصةُ، وخصوصاً القصةَ القصيرةَ لا تحتملُ قيوداً ولا حدوداً، ولا تخضعُ لكوتا معيّنة، ولا يحدّدُها عبقريٌ من كتّاب القصة، ولا يفيها حقّها شاعرٌ أو فيلسوفٌ مهما علا شأنه، أو كاتبٌ فذٌّ أو أديبٌ فائقُ الموهبةِ أو فاقدُ الموهبةِ!

هي لا تطلبُ شفاعةً من أحدٍ... ولا تستجدي الإحسانَ على أبواب المعابد...

لا أحدَ من هؤلاءِ قادرٌ وحده أن يقدِّم الإسنادَ الذي اعتمدتَه أنتَ بكاملِ رضاك لتبرير مواضيعكَ التي غَلَبت عليها الجماليةُ الإنشائيةُ التقريريةُ المفرطةُ بسرديّتِها دون منازع، غيرُ مقيمة أيّ اعتراض أو عوائق في سبيلِ نقضها! فلم يتسلَّلْ النضجُ إلى تقاسيمها وبقيت عجراء... وكرَّسَتْها مسحةُ القِدَمِ أيقونةً يرشحُ زيتُ العنجهيةِ والكبرياءِ من مسامها بانتظارِ أن يصدرَ بحقِّها قرارُ تطويبها.

أنها، على أية حال، لمستحقةٌ، على الرغم من كلِّ الصعوباتِ والعراقيل!

جورج شامي

______________________________________________

 

في يوم كتاب الدكتور أنيس مسلّم

"من نَسَم الذاكرة"

الخميس 12 أيّار 2016

الحركة الثقافيّة – انطلياس

 

نَسَمُ الطفولة في كتاب

بقلم الدكتور منيف موسى

 

   يا أنيسي!

   بيني وبَيْنَكَ – سقى اللهُ زمانَنا – وجدُ الطفولة، وذاكرتُها البهيّة. وقد امتدَّتْ بنا الأيامُ سِرَاعًا، ولم ندرِ، فإذا نحن اليومَ على مقلبٍ آخرَ من العُمر، نحدو الحياة. والتلفُّتُ مِنّا في حَيْرةِ التسآل، والدهرُ عنَّاد. إلى الطفولةِ فَزِعْت، استحضرْتَها نَسَمًا من الذاكرة، فِئْتَ إليها وَلَدًا مِغناجًا، تسيرُ في ظلِّها، وأنتَ اليوم، في غمرةِ البِلبال، والدهماءُ هَيٌّ وبيٌّ. أَيُّهُمُ الأكثرُ نفجًا وادِّعاءً، يُظنُّ أنَّه المتقدِّم. والناسُ معَهُ لُكعٌ ولَكَاع. هاتِ السَّوْطَ، ولمثِلِهمُ المِنساس، "فالعبدُ يُقرعُ بالعصا، والحرُّ تكفيهِ الإشارة". أمَّا الرجُلُ الخليقُ بالرُّجولة. فلَهُ الصدارة، وعليك، وعلى كتابك نَضْفِرُ إكليلَ الإمارة.

 

   في كتابِكَ الظريف، يا صديقي، جمعْتَ حياةً حلوة. قَبَضْتَ على الأيام، مَرَرْتَ بها في بيوتٍ وأحياء، ألَّبْتَ شخوصَها تضجُّ بالحركةِ والعافية. وأنتَ فيها الرجُلُ والوَلَد. فكُنْتَ العَالِمَ في الاستبطانِ [Introspection]والاستذكار [Rétrospection]، والعقلُ منكَ مصوِّرٌ ونقَّاش. من اللغةِ جعلتَ ألوانًا لكتابتِكَ، فصارتِ الكلماتُ أصواتًا وأصداء، ولوحاتٍ ذاتَ نَبْضٍ وكينونة ...

 

   في ثنائيَّةِ الكائن، بل في ثلاثيَّتِهِ: الطفولة، والشباب، والكهولة. كُنْتَ جوَّادَ كلامٍ، في آنقِ فِكْرٍ. والتعبيرُ عندَكَ، خَطْفٌ ولَمْع! ما تَعَثَّرَ قلمُكَ، ولا خانَتْكَ الألفاظ. والروحُ فيكَ قويٌّ والذاكرة، بوعيكَ حَرَّرْتَ اللاوعي، انتشلْتَهُ من سَراديبِ النَّفْسِ وأعماقِ الشُّعور. وعلى غياهبِ الذاكرة، أفضتَ نورًا، فأشرقَ الوَلَدُ الذي فيك، فقمَّطَكَ الأدبُ في ولادتِكَ الثانية، ببلاغةِ إنشائِك. والأقاصيصُ التي "أنتَ"، تمثَّلَتْ من لحمٍ ودَم؛ صاغَها أُسلوبُكَ بحرفةٍ ومهارة. فلا رِكَّةَ، ولا تَقَعُّرَ، ولا تَفَيْهُقَ. فإذا حروفُكَ، تَدِقُّ من رهافةٍ، وتَملَسُ من لِيان، فترتسمُ نصوصًا تامَّةَ الديباجة. مُتْقَنَةالنَّسْج، القلمُ بين أصابعك مكُّوكُ صَنَّاعٍ دقيقِ الحَبْك، غادٍ بين العقلِ والقَلْب. فإذا النتاجُ بضاعةٌ من رفيعِ الأدب.

 

   قرأتُكَ قراءةَ اكتناهٍ واستشفاف، بذائقةِ الناقد، وعينِ المحبّ. فرأيتُكَ أصيلَ الطَّبْعِ والصَّنْعة، على غِوايةٍ ودراية. ركينَ السَّرْد، على دقَّةٍ ولباقة. فلا البثُّ مُسْئِم، ولا البَوْحُ مُمِلّ. وأنتَ في رَوَاءِ الجِدَّةِ والحداثَة، لم تتنكَّرْ لثابتٍ، ولم تترهَّلْ مع مُتحوِّل. بل قَرَنْتَ الأثيل بالمُحْدَث، وما كَبَوْت. لَمُهْرُكَ رمَّاح، والفارسُ على الصَّهْوةِ خيَّال! فالميدانُ ميدانُكَ، وأنتَ في الشَّوْط روَّاح!

 

   أجْملْ بما كتبْتَ. فالمغامرةُ مَعَكَ خَيَالٌ بعيد، أَرجعْتَهُ واقعًا. والحُلُمُ  صارَ أُحدوثةً مُمتعة. في الحاضرِ تَشَوَّفْتَ إلى الغد. حُلُمًا آخر، من الحُلُمِ نبني، يبني الكبار، أصحابُ الهمَم، والماضي، تَلَلْتَهُ ذكرياتٍ بريئةً صادقة، صيَّرتَها واقعًا جديدًا. دُمْتَ في عافيةِ الجديدَيْن، يا صاحبَ النَّسَم!

 

   رأيتُني في أقاصيصِكَ، في شَخْصِكَ، وفي الأمكِنَةِ عينِها، ومع الأشخاص أنفسِهِم، ومع الأحداث. عُدْتُ مَعَكَ خمسةً وستين عامًا، إلى زحلةَ وضواحِيها. إلى البقاعِ وأهليه. تَنَسَّمْتُ أرواحَ "جارةِ الوادي" وبردَوْنيِّها، هَوْشَلْتُ في السَّهْل. ومِثلَكَ رَكبتُ "الطُّنْبر" وتمرَّغْتُ فوق سَنابلِ القمحِ على البيادر، قَصَدتُ الغياض والرِّياض، وابترَدْتُ في مياهِ "الليطاني"، وفي أقبيةِ "دير كسارة" تَذّوَّقْتُ الخمر! وكان لكَ الست "أديل" السيّدة الإنسانيّة. وكان لنا، بل لأمّي، مدام "فرنسواز" القابلة القانونية، آنذاك، تزورها في أيام حَمْلِها، وتعتني بنا. أمّا حمّام يوم السبت، فكنتُ مثلَكَ، لم يكن عندنا وسائل حديثة، بل "الدست" و"اللَكَن" و"طبلية" خشبية نقعد عليها، وأمّي تغسلنا بالماء والصابون والليفة. أمّا كرم عنبك ذو العناقيد البلوريّة الذي باعه والدك فأخذتُكُمُ الحسرةُ عليه، وشاقكم الحنانُ إليه، وأنتم في همٍّ وغمٍّ. كذلك باع والدي كَرْمَ تينٍ كانَ لنا، كانتْ "أكْوازُه" كالشّمع المسكوب، تقطر دبسًا وعسلاً!

 

   هي حال الدنيا، يا صديقي، ولكنّها أَوْلدتْ لوالديَّ ولِوالِدَيك أسرةً كَريمةً فاضلة ... وها أنْتَ، وأنا، اليوم، نعيش في كَنَفِ ذكرياتها! كانت عيشةً بسيطة، لكنَّنا، كُنّا في أمنٍ واستقرارٍ وراحةِ بال ...

 

   علَّمَني مُدرِّسونَ "زحالنة" في مدارسِ البقاع وراهباتٌ وخوارنة. دَرَجْتُ مع الحرفِ والكتاب. وفي القاعدةِ الجويَّةِ في "رياق"، يافعًا، كانت ليَ سحاباتُ جوٍّ في سلاحِ الطيران!.. أصدقاءُ كُثُر، لي هناك، شُعراءُ وأُدباء. وفي محافلِ زحلةَ الثقافيَّةِ والتربويَّة، كانتْ ليَ وَقْفات. يا "لِنَسَمِ الذاكرة"، يا صديقي، يُنعشُ مِنَّا، آخِر المشوار!

   هَبَّتْ علينا ريحُ الخريف، والمواسمُ، جَمَعْنا جَناها. هلْ لنا مثلُها في عامٍ قابل؟ مدَّ الله بالأعمار! وهلِ الأجيالُ تُحسِنُ الخَزْنَ والنَّشْر؟ في بيتيَ الدِّفْء دَفَق، أَلْتمسُهُ في براءةِ الطفولة، وشقاوة الشَّباب. والمرأةُ معي شِعْرٌ وحضور. والإيمانُ عندي مسيحٌ وإله! والهُويَّةُ كِبْرٌ وعنفوان، والولاءُ واحدٌ، "شرف، وتضحية، ووفاء" ولا إشراكَ في هذا الولاء! والانتساب: "فتًى كالأرز، طلعتُهُ كلبنان".

 

   ويا أنيسي!

   كتابُكَ نَسَمٌ، والذَّاكرةُ وضَّاءة، نقيَّة، تقيَّة. والزَّمانُ قاسٍ، ومَهيب. والإنسانُ الرضيُّ الأديب، قيمةٌ ومَقام. ولكنْ، قال السيِّد: "إنْ لَمْ تعودوا كالأطفال، لن تدخلوا ملكوتَ السَّماوات". طِفْلٌ أنتَ، يا أنيس، في بنْيةِ رَجُلٍ حكيم. ولنا قولُ السيِّد: "تعالوا يا مبارَكي أبي رِثوا المُلْكَ المعدَّ لَكُمْ منذُ إنشاءِ العَالَم". ومباركٌ لك الكتاب!

 

الميَّة وميَّة (صيدا – لبنان)

______________________________________________

علاماتُ استفهامٍ حولَ واقِعِ مدينتي

كلمة العميد أنيس مسلِّم

الحركة الثقافية-أنطلياس، 12 / 5 / 2016.

فاجأني أصدقائي بما اكتشفوه في كتابي من أمورٍ كُنتُ أجهلُها، قد تكونُ صدرت عن لاوَعْيِ، فأدركوها بفِطْنَةٍ نادرةٍ، وتحدَّثوا عنها بجودٍ وفيضِ محبَّةٍ.

حاوَلْتُ، في أقاصيصي هذه، أن أَرْسُمَ غيرَ علامَةِ استفهامٍ حولَ واقعِ مدينتي؛ فكُنْتُ مُوْضوعيًّا وذاتيًّا في أنٍ؛ لم أخُنِ الحقيقةَ ولا تنكَّرتُ لمبادِئي، بل كُنتُ أنا ذاتي، ببساطَةٍ وصِدْقٍ؛ كُنتُ، حينًا، مُجَرَّدَ مِرْآة، أنقُلُ الواقِعَ كما هوَ؛ وأحيانًا، كُنتُ أحَلِّلُ هذا الواقِعَ، دونَ أن أكْتُمَ وُجْهةَ نظري عن القارِئ.

لم أتوَقَّفْ عن تقليصِ المسافَةِ بينَ الأفكارِ والأعمال؛ بين مُنتجي المعرِفة، من أدباء وشُعراء وفنَّانين ومن بيدهم القرار؛ بين الماضي والمُسْتَقْبل؛ والطريقُ الأقربُ والأسْهلُ، كما خَبِرْتُهُ، هوَ العَيْشُ في الحاضِرِ، والْخُرُوجُ من السُّجونِ المُختلِفةِ، أي التَّحَرُّرُ مِنَ الكِبْرياءِ والخوفِ والأنانيَّة.

ولأنَّ المُسْتَقْبَلَ لا يَبْلُغُ رونَقَهُ إلاَّ إذا غَمَسْناهُ، قليلاً، في بَحْرِ الماضي، تَحَوَّلْتُ، وأنا أكتُبُ هذه الأقاصيصَ، إلى شَخْصينِ: الأوَّلُ يَسْتَرْجِعُ الوقائعَ في ذِهْنِهِ، ويُعاوِدُ عَيْشَها، والثَّاني يُعِدُّ النصوصَ، ثُمَّ يَكْتُبُها على الوَرَقِ.

وأنا، في مُعظَمِ كتاباتي، أحاوِلُ أن أَنقُلَ الأمورَ التي يَحجُبُها أصحابُ السلطةِ والمصالحِ الخاصَّة، أو يضعونَها في الظِّلِّ، أن أنْقُلَها إلى الضَّوْءِ، وأن أحُطَّ إصْبَعي في الجُرْحِ، دونَ أن أزيدَ آلامَ المجروحِ أو أسيئ إلى كرامتِهِ. أحاوِلُ، بقَدْرِ ما يُطاوعني قلمي، أن أجْذِبَ الأنظارَ لرؤيةِ ما يغيبُ عنِ العيونِ من شُجُونِ الفُقراءِ والمَنسيينَ والمُهَمَّشين؛ أن أُقَرِّبَ أصْواتَ المُعذَّبين وأنينَ من لا يَمْلِكُ الطَّاقةَ أو الوسيلةَ لإسماع صوتِهِ،  إلى آذان من يجب أن يَسْمَع. 

بعضُهم يقولُ لي: أنتَ مِثاليٌّ، أو أنتَ ساذَجٌ، أو أنْتَ قدِّيسٌ، أو أنتَ تحلُمُ؛ كُلُّ هذه النعوتِ ليست بعيدةً عنِ الصِّحَّةِ، فأنا، مُنْذُ فُتُوَّتي، أتوقُ إلى القداسَةِ، وأتمنَّى أن أبقى بَريئًا، وأغدو مِثالاً؛ أمَّا الحُلْمُ، فأنا أتغَذَّى بِهِ، بقدرِ ما أتغذَّى بالمَعْرِفةِ والموسيقى، وأقتاتُ من الحاصلاتِ وخَيْراتِ الأرضِ.

وبعدُ، إنَّني أشكُرُ لكم جَميعًا حضورَكم، خاصًّا بالذِّكرِ الحَرَكَةَ الثقافيَّةَ – أنطلياس، السَّاهِرَةَ اليَقِظَةَ على الثقافةِ في أزمنةِ الجهلِ والفسادِ والضياع. أمَّا أصدقائي المنتدون، فلا أدري كيفَ أحْمَدُهُم:

فالرئِيس غالب غانم سلَّفني الجَمَّ من روائعِ مواهِبِهِ؛ فهوَ إلى كونِهِ قانونيًّا كبيرًا، وأديبًا فريدَ النَّكهةِ والايحاءِ، يتمتَّعُ بحسٍّ نقديٍّ رَهيفٍ، وبصيرةٍ تخترِقُ الحُجُبَ ولا تحيدُ عن الصوابِ.

والدكتور مُنيف موسى زميلي المُميَّز، جامعيٌّ، حُجَّةٌ في البيانِ، وشاعرُ حَمِيَّةٍ عميقُ الجُذُورِ، دائِمُ التَّجَدُّدِ والتَّألُّقِ، يَغمُرُني في كُلِّ حينٍ، برِقَّةِ قلمِهِ المِعطاء.

أمَّا الأستاذ جورج شامي، صديقي ورفيقُ دربي الإعلاميِّ الطويلِ، فكان، دائِمًا، طريفًا، ظَريفًا، ماهِرًا في الغوصِ والتَّحليلِ، حاذِقًا في الوَصْفِ، ثابتًا في الجورِ على الكلمةِ وكاتِبِها، يطلُبُ منهُ الكمالَ، ويَنسى أنَّ اللهَ وَحْدَهُ الكاملُ؛ يتسّرَّعُ، ولا يتوانى عَنِ الرَّجْمِ، مُتناسيًا قولَ المُعلِّمِ: من منكم بلا خطيئة!

ولا أجِدُ أفْصَحَ من الصَّمْتِ، يقولوني للدكتورة نايلة أبي نادر، النَّسْمَةِ الهَنيَّةِ السَّنِيَّةِ، التي لا تنثَني عن العطاءِ والتَّسامي. فمُنذُ عرفتُها طالِبةً ومِنْ ثَمَّ ناشِطَةً لم تتوَقَّف، يومًا، عن الجِدِّ والخِدْمةِ، ولا عن زَرْعِ الرَّجاءِ وقطفِ الثمار ونشْرِ الفرح.

والشُّكْرُ كُلُّ الشُّكْرِ للهَ على غَزِيْرِ نعمٍ أعْجَزُ، غَالبًا، عن إحْصَائِها؛ ومِن عطاياه الوافِرة، هذه الأُمْسِيَّةُ الرَّائعِةُ، بحضورِها وبمَنْ دَعا إليها وحَقَّقَها، وبِمَذاقِ هذا الحَصَادِ الأدبيِّ، الخَصْبِ، العميم.

___________________________________