مداخلة د. عصام خليفة في ندوة السفير فريد سماحه

"حضور لبنان في الصين رحلة جميل جبر الى بكين قيمة مضافة على الحضور اللبناني في الصين"

2018/2/7

          تعتبر الصين واحدة من الدول الكبرى الأساسية في العالم. هي عضو دائم في مجلس الأمن وتتعاطف مع القضايا العربية، وتمتلك اقتصاداً قوياً حيث النمو السنوي لا يقل عن 6%. ورغم وجود خمس وخمسين مجموعة عرقية مختلفة مسجلة حالياً ورسمياً في الصين، فقد أدرك القادة الصينيون المعاصرون ان العلم والتكنولوجيا الحديثين فيهما عناصر من الحقيقة التي لا غنى عنها والتي تستحق السعي لامتلاكها. والاوبئة لن تنحسر والطائرات لن تطير دون هذه المعرفة.

          في العام 1985 عيّن الديبلوماسي اللبناني فريد سماحة سفيراً فوق العادة ومطلق الصلاحية للبنان في بكين لدى جمهورية الصين الشعبية. وقد قام هذا "العامل دوماً عند رب عمل واحد هو لبنان" والخادِمه ابداً بكل الإخلاص والاندفاع والتفاني – كما قال عنه الأمين العام الأسبق لوزارة الخارجية والمغتربين السفير الراحل فؤاد الترك – قام بتعميق وترسيخ العلاقات طوال مدة مسؤوليته في بكين والتي زادت عن 12 سنة.

          لقد انتُخب رئيساً لمجلس السفراء العرب في بكين، ونسّق المؤتمرات بين تجمع غرف التجارة والصناعة والزراعة العربية وغرفة التجارة الصينية.

          وعلى الصعيد الثقافي كوّن تجمعاً من أساتذة اللغة العربية في جامعات الصين، من اجل ترجمة ونشر كتب الادباء اللبنانيين باللغة الصينية (40 كتاباً لجبران ولغيره من الأدباء الى الصينية).

          هذه العشية يتوقف في محاضرته عند عدة محاور:

1-     رحلة جميل جبر الى بكين. وفي هذا السياق تحيي حركتنا الثقافية هذا المثقف الكبير في الذكرى السنوية الخامسة لغيابه.

2-     تأثير فكر جبران في الصين وبخاصة على مستوى الشباب.

3-     ابراز دور المترجمة Bing Chin بين اللغتين العربية الصينية.

4-     دور الطبيب اللبناني الأصل، ابن حمانا، الدكتور جورج حاتم الذي كان له العلاقات الخاصة مع القائد التاريخي ماوتسي تونغ.

5-     دور رجل الاعمال بيار أبو خاطر الذي أنشأ "مدرسة لبنان" في الصين، كرمز لقوة العلاقات بين الشعبين اللبناني والصيني.

أيها الحفل الكريم،

لقد نشر الباحث الكبير جوزف نيدم دراسة عميقة بعنوان "العلم والحضارة في الصين". وقد أكد فيها ان الحضارة الصينية، من القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن الخامس عشر "كانت أكفأ بكثير من الحضارة الغربية في تسخير المعرفة الإنسانية الطبيعية للحاجات البشرية العملية". وكان هذا التفوق بكامله ذا طبيعة عملية تكنولوجية وليس تفوقاً في الفهم النظري.

ويبدو ان الصين في المرحلة الحالية قد أصبحت في مصاف الدول المتقدمة عالمياً بعد مرحلة التخلف التي عانى منها العالم الصيني حتى النصف الأول من القرن العشرين. وما نتمناه ان يكون قيام سفيرنا المميز الأستاذ فريد سماحه، على صعيد ابراز أهمية الصداقة اللبنانية الصينية، وتسليط الأضواء على الحضور اللبناني في الصين، في هذه المرحلة، المدخل والحافز لمبادرة المسؤولين اللبنانيين لأخذ العبر من تجربة الصين في حل مشاكل الكهرباء والنفايات واستغلال المياه وغيرها من المشاكل المتفاقمة عندنا.

كما نأمل ان تستمر العلاقات التجارية في التقدّم ولكن مع نوع من التوازن النسبي بين الصادرات والواردات (نستورد بما يزيد عن مليار ونصف د. أ. ولا نصدّر إلا بعدة ملايين!!). وهذا يتطلب الاهتمام الخاص من المسؤولين اللبنانيين والصينيين في آن معاً.

واجد من واجبي ان اشكر سعادة السفير الصيني في لبنان باسم قطاع واسع من المثقفين اللبنانيين على الهبة التي قدمتها الصين (32 مليون دولاراً اميركياً) لتنفيذ مبنى الكونسرفاتوار الموسيقي الوطني مع مسرح ملحق به. كما أحيي المدير الدكتور وليد مسلم الذي يجمع الثقافة الفلسفية مع التفوق الموسيقي على اعداده للملف بكفاءَة عالية.

واعتقد ان فناني لبنان سيتذكرون دائماً هذا الموقف النبيل من قِبَل الشعب الصيني.

 

___________________________________________________________________________

 

حضور لبنان في الصين

 

 

رحلة جميل جبر الى بكين قيمة مضافة على الحضور اللبناني في الصين

 

 

بقلم السفير فريد سماحه
 

بين لبنان والصين حكاية حب منذ فجر التاريخ، منذ عهود طريق الحرير التي كان يتفرّع منها الطريق الذي كان يصل مدينة شيان في قلب الصين بأطراف لبنان الجنوبي، بمدينة صور آخر مدينة في آسيا قبل أن تنطلق من مرفئها المراكب الفينيقية محملة بالبضائع الصينية الى Venise ايطاليا في قلب أوروبا وكأني مع ذكر إسم Venise تبرز الرومانسية التي كان جميل جبر كاتباً معبراً فيها ببراعة.

لذلك أسمح لنفسي بل أرى من واجبي أن أسلط الضوء على أحلام جميل جبر ومخططاته معي بالنسبة الى لبنان والصين، والكشف عن مآثر مجهولة من أعماله وأفكاره. كان كاتباً وناقداً وواضع عدد من الكتب يناهز التسعين كتاباً وكان رئيس "الـPen Club" و"أهل القلم".

لجميل جبر أصدقاء كثر وقد أشعر بسعادة فائقة كلما أسمع أحداً منهم يتحدث عنه وعن أعماله العديدة وقد يحسن أدباؤنا الكبار بالحديث عن مؤلفاته وترجماته القيّمة كما أن الإعلاميين والعديد من الكتاب أبرزوا أفكاره وكتاباته وإنني أشاركهم في كل التقريظ الذي خصّوه به وهو من دون شك مستحقّ وأقول ذلك بضمير حيّ وصدق وعن معرفة عميقة به.

الا أن هناك جانباً خاصاً من حياته يجهله الجميع وأنا واثق ممّا أقول وقد أختصره بعنوان قصير لا شك بأنكم عندما  تسمعونه قد ترتسم لديكم وفي مخيلتكم علاقتا تعجب وإستفهام... والعنوان هو: "جميل جبر والصين"... أجل، يقال "أطلبوا العلم ولو في الصين" أنما جميل جبر عكس هذا القول بعد رحلة قام بها الى بكين مختزلاً عطاءات لبنان الى الصين في حقل الأدب والفكر مع "نبيّ" جبران وفي حقل العلم الممثّل بالطب مع اللبناني الأصل الدكتور جورج حاتم المعروف في الصين باسم Ma Haide وفي حقل الأعمار من أجل الثقافة مع رجل الخير بيار أبو خاطر. إن ما سأبوح به الآن في هذه الأمسية المخصصة للتحدث عن الحضور اللبناني في الصين لا بدّ لي وهذا واجب عليّ أن أرفع الستار عمّا فعله جميل في الصين وعمّا كنا  نخطّط معاً لإنجازه إثباتاً لما أشرت اليه بأن جميل جبر عَكَسَ ذلك القول المأثور بالقول الفعليّ الحقيقي ألا وهو "الفكر والعلم والأعمار عطاءات من بعض أبناء لبنان الخلاّقين الى أبناء الصين الحكماء". إذاً ركائز ثلاث لهذه العطاءات اللبنانية للصين مضيفاً اليها الركيزة الرابعة هو نفسه جميل جبر إذ أنه برحلته الى الصين أضاء الكثير على أعمال جبران المترجمة هناك والمنتشرة مع أفكاره الثورية وفلسفته ومؤلفاته المنقولة من العربية الى اللغة الصينية وكذلك أعمال كبار الأدباء اللبنانيين الذين تناولهم جميل في عشرات المؤلفات التي يعرفونها أو التي تركها لنا قبل رحيله الأليم. وإن أنسى لن أنسى رحلة الأديبة الدكتورة نور سلمان التي شملها جميل باهتمامه بكبار الأدباء، وكنت دعوتها الى الصين للتحدث عن النساء اللبنانيات المبدعات، وترجمنا لها الى اللغة الصينية كتابها "العين الحمراء" ووقعت بعد محاضرتها ما يقارب الخمسماية كتاباً لطلاب وقراء صينيين يتقنون اللغة العربية.


الركيزة الأولى: "جبران خليل جبران" حضوره لم يكن حضوراً جسدياً بل فكره اللبناني سبق أي حضور جسدي إنساني، وهنا أودّ الإشارة الى أننا عندما نتحدث عن جبران تتجه أنظارنا على الفور نحو الغرب فقط وخاصة نحو نيويورك وبوسطن وهذا طبيعي لأن نتاجه الفكري انطلق من هناك إلا أننا نجهل أو نهمل مكان انتشاره الأوسع في الشرق الأقصى لا سيّما في الصين حيث نجد بصورة دائمة على طاولات نوم أكثر من نصف مليار صيني كتاب "النبي" ومؤلفات عدّة لجبران ولأدباء لبنانيين آخرين كميخائيل نعيمه وأمين الريحاني وتوفيق يوسف عواد وغيرهم. وهنا تستوجب الإشارة الى أن خلال مهمتي كسفير لبنان في بكين، لمدة ثلاث عشرة سنة ترجم الى اللغة الصينية ما يقارب الأربعين كتاباً لأدباء لبنانيين وضعت أنا شخصياً المقدمة لأكثريتها ويستوجب عليّ البوح بأن حلم جميل جبر كان سيحدث مفاجأة لمحبيّ الأدب وذلك بعزمه على نشر مجلّد يحدثّنا فيه عن المستعربين الصينيين وذلك بعد أن تعرّف اليهم في جامعات الصين وفي "جمعية بحوث الأدب العربي" حيث ألقى محاضرات قيّمة عن أدبائنا وعن الحياة الثقافية عندنا. لفتة تقدير مميّزة من لبنان للكتّاب والمترجمين الصينيين أبديناها بمنح وسام الأرز الوطني لعميدة الأدباء في الصين Bing Xim (بنغ شن) مترجمة كتاب النبيّ وقد قمت بتسليمها الوسام في احتفال أقيم على شرفها في مستشفى المسنّين في بكين لأنها كانت مقعدة بسبب تقدّمها في السن الذي كان يناهز المئة سنة ولم يكن بإمكانها بطبيعة الحال الإنتقال الى دار سفارتنا هناك .

 

الركيزة الثانية: "الدكتور جورج حاتم Ma Haideوإسمه الحقيقي في لبنان شفيق حاتم":  في عطاءات لبنان للصّين والتي كنا نخطّط لتعريف اللبنانيين عنها وعن إنجازاتها تكمن في شخصيّة لم يعرف اللبنانيون عنها حتى يومنا هذا سوى الأسم أعني الدكتور جورج حاتم طبيب ماوتسي تونغ الشخصي والمعروف في الصين باسم Dr Ma Haide. عندما أمضى جميل جبر بضعة أسابيع في بكين برفقة زوجته السيدة جاكلين المميّزة بفنّها ورسومها ومعهما ابنتهما الغالية جيهان، تسنّى لهم أن يتعرفوا ويجتمعوا بزوجة الدكتور حاتم السيدة Su Feiوابنهما Yu Ma وذلك خلال الاحتفالات  بعيد الاستقلال في بكين في 22 تشرين الثاني سنة 1997، تحدثنا حينذاك عن إقامة حفل تكريمي لذكرى حاتم في حمّانا مسقط رأسه ورفع نصب له في ساحة البلدة وتعهّد جميل بكتابة سيرة حياته ونشرها في لبنان.. وفعلاً بعد عودتي الى لبنان العام 1998 أسّسنا "الرابطة اللبنانية للصداقة والتعاون" وبسعي مع السفارة الصينية في بيروت أتينا بنصب نصفي ضخم من الصين مقدماً من الحكومة الصينية وأقمنا حفلاً رسمياً مع بلدية حمانا برعاية فخامة رئيس الجمهورية آنذاك العماد لحود فرفعنا الستارة عن التمثال الذي ثبت في الحديقة التي أطلقت عليها بلدية حمانا اسم "حديقة الدكتور جورج حاتم" أجل حضر جميل جبر مع عقيلته الاحتفال يوم 31 آب 2003 وكان الفرح بادياً على محياه لأن شيئاً هاماً من حلمه كان قد تحقق إلا أن المرحلة الثانية من حلمه أي كتابة سيرة حياته لم يتمكن من تحقيقها إذ وافته المنيّة وهو كان لم يزل في خضمّ  عطائه الأدبي، مما دفعني الى الجهد لإحياء ذكرى الدكتور حاتم فوضعت ملخصاً عن حياته الأسطورية مسجلاً ذلك على شريط وثائقي يستغرق عرضه ما يقارب الـ 20 دقيقة  ( عرض CD   والصور التالية)

 

أود أن أشير الى أمر لم يتسنّ لي تضمينه الفيلم والصور فألخصّه بالتالي:

في صيف عام 1962 دقّ شيخ أميركي باب السفارة الصينية في دمشق. سأله الحارس الصيني من أنت فأجاب أنا أتيت من أميركا لأبحث عن إبني في الحزب الشيوعي الصيني، في عهد إسقاط أدوات الامبريالية الأميركية. هذا الخبر جعل الحارس يقظاً وحذراً يعتريه الشك، ثم بلّغ الخبر الى السفير الصيني الذي أطلّ من النافذة مع زوجته ليرى من هو هذا الرجل المحرج عند الباب قال لزوجته: "أظن أنه أبو جورج حاتم، إنه يشبهه للغاية".

في حقيقة الأمر قرأ أبو جورج في الصحيفة الانكليزية "التايمز" خبراً يتحدث عن أن إبنه جورج يُشغل منصباً هاماً كمستشار عام  لكل وزارات الصحة في الصين وأنه صديق حميم للزعيمين الصينيين "ماوتسي تونغ" و"تشو ان لاي" فعزم أبو جورج على السفر الى الصين، حقب أمتعته  وسافر لزيارة ابنه هناك. لكن العلاقات الدبلوماسية بين الصين وأميركا لم تكن قائمة آنذاك ما جعل وزير الخارجية الصيني يرتب لجورج حاتم مقابلة مع أبيه في سوريا التي كانت حينذاك قد أقامت العلاقات الدبلوماسية مع الصين ونظراً لموقع سوريا البلد الأقرب الى لبنان. فسافر جورج حاتم مع زوجته وابنه من بكين الى دمشق عن طريق موسكو وبتدبير من السفارة الصينية لدى سوريا تمّ لقاء جورج حاتم وأبيه بحرارة مؤثرة جداً لأنهما لم يلتقيا منذ 29 عاماً وسأله أبوه في الخفاء "سمعت أنك صديق وفيّ للقيادة العليا الصينية، كم من الممتلكات لديك الآن، فأجابه بصوت عالٍ "لديّ بقعة من الأرض مساحتها تبلغ 9 ملايين وستماية ألف كلم مربع وبيوت الصين كلها لي".

الركيزة الثالثة: رجل الخير بيار أبو خاطر الذي يعرفه البعض ويسمع عنه الكثيرون منكم من دون شك عن كرمه وأعماله الانسانية وعن مساعداته في تعليم الأطفال وهو لم يكن له ولد وكذلك بتغطية نفقات طالبي التخصص في الخارج وأهم من كل ذلك مساعداته للمستشفيات التي فيها أجنحة لمعالجة سرطان الأطفال كـ"السانت جود" لا سيما أنه كان صديقاً لداني توماس اللبناني الأصل مؤسس "السانت جود". ولبيار أبو خاطر عشرات المراكز الثقافية التي تحمل إسمه في الجامعات اللبنانية LAU, NDU, St Joseph, Kaslik, AUB  . كان رجل أعمالٍ ناجحاً، شركته غلوب اكسبرس Globe Expressكانت شركة عالمية للنقل الجوي وكان لها مركز هام في بيروت وتاي بي Tai Pai الصينية وهونغ كونغ والولايات المتحدة الأميركية إذ كانت شركة معتمدة لدى الخارجية الأميركية لنقل كل أمتعة السفارات الأميركية في العالم.   للتحدث عن بيار أبو خاطر أسمح لنفسي بالعودة الى ما كتبه عنه الصديق الدكتور سهيل مطر الذي كنت واياه من أعضاء لجنة تكريم بيار أبو خاطر ومعنا مدير  الفروع السيد ادوار الراسي الموجود الآن بيننا والفنان رودي رحمه.  فيقول الدكتور مطر ما  يلي:

"كان بيار أبو خاطر، كالصخر، شكلاً وصلابة وصوتاً، وساعة رحل، كان كالطفل، وداعة وبساطة وابتسامة.

في القامة الشاهقة، كان الفارس الأبيّ بكل ما في الفروسية من ملامح الرجولة، وساعة ترجّل عن فرسه، مستسلماً للمرض والقدر، كان ذلك المسافر المتعب، يتكئ على عصاه، وقد جمع حقائبه الغنيّة بالعطاءات، وانسحب الى المستحيل.

بعض بطولات أبناء الجبل، تسكن في مواقفه، وبعض هيبة السنديانات العتيقة في عشقوت، تتلألأ في حاجبيه وعلى شاربيه. أصيل، صادق، شجاع، في كلماته تتدفق شلالات من الحب، فكأنه لا يُتقن الا صناعة المودة والصداقة والرفقة الطيبة، وكان روتاريّاً مؤسساً لعديد من الفروع لا يميّز ولا يفرّق، همّه الإنسان... وأنت أخي ."

تجدر الإشارة الى أن خلال لقاء جميل جبر ببيار أبو خاطر في الصين تحدث اليه عن نشاط المترجمين الصنيين للأدباء اللبنانيين وأعطاه فكرة بوجوب دعوتهم الى لبنان للإطلاع على الأرض التي أنجبت أولئك الأدباء إذ يكون هناك من الإجحاف أن يترجم أحد الأدباء الصينيين مؤلفات جبران الى الصينية ولم يتعرف الى بلدته بشري أو الى متحفه أو الى وادي قنوبين ولا يجوز أن تترجم إحدى الأديبات لأمين الريحاني "قلب لبنان" و"ملوك العرب" ولم تتعرف الى وادي الفريكة أو أي مترجم صيني آخر ينقل أفكار ميخائيل نعيمة ولم يتعرف الى "الشخروب"... حينئذ انبرى بيار أبو خاطر في إحدى ندوات سفارة لبنان الأدبية معتلياً المنبر وأعلن بأنه يضع بين يدي السفير في بكين كل سنة بطاقتي سفر لمنحهما لأديبين صينيين كي يتسنّى لهما زيارة لبنان لمدة خمسة عشر يوماً يقضيانها في بلاد الأرز على نفقة أبو خاطر الخاصة. وفعلاً تحقق ذلك حتى وفاة بيار أبو خاطر وجميل جبر، فكان دوماً كل سنة  يقوم جميل جبر وزوجته جاكلين بالاهتمام بالكتّاب المترجمين الصينين ناقلين إياهم بسيارتهما الخاصة  لتعريفهم على الأمكنة التي أشرت اليها.

من جهة أخرى وبعد حديث أجريناه أنا وجميل جبر وبيار أبو خاطر، أعلن بيار أبو خاطر بأنه يقدم للدولة الصينية بناء مدرسة في مقاطعة  "تشا ند ونغ" يطلق عليها اسم "مدرسة لبنان للبنات" وقد أوضح بأنه يقدمها لتثقيف البنات والنساء اللواتي يتربى على أيديهن كل الرجال.

فعلاً شيّد بناء المدرسة خلال سنة ونصف وقد سدّد بيار أبو خاطر تكاليفها التي بلغت قيمة بنائها بين الـ55 والـ 75 ألف دولار وطلب اليّ تدشينها رسمياً في اليوم الذي يحتفل فيه أطفال الصين بعيدهم وقد ألقيت كلمة في تلك المناسبة.

 

عودة الى تدشين مدرسة لبنان في الصين استهليت خطبتي بعبارات الشكر والاقرار بالمعروف للسيد ابو خاطر وأضفت "لو لم أكن دبلوماسياً أدافع عن حق بلادي لتمنيت أن أكون معلماً لأعلم هذا الحق وحب الوطن". أردت أن أستهل خطابي بهذه الكلمات تكريماً للمعلم الذي يلقننا الحرف والذي يعتبر سيد المهن كلها بما فيها الدبلوماسية وسيد الصروح بما فيها هذا الصرح الذي ندشنه اليوم.

أيها الأصدقاء،

سيداتي سادتي،

كانت هذه الخطبة الأخيرة التي ألقيتها قبل مغادرتي الصين نهائياً. لم تكن كلماتي محصورة بالدبلوماسية أو السياسة أو الإقتصاد بل أردتها كلمات في الثقافة على صورة لبنان، التي أتخيلها في الحياة الدبلوماسية اللبنانية.

مننذ خمس سنوات في صبيحة ذلك اليوم المشؤوم مررت على منزل جميل جبر فوجدته مقفراً يتيم الشمس والحركة والزوايا وحدّقت في مكتبته، وعلى رفوفها وهج الكنوز الفكرية فلقيتها جريحة موحشة ذلك أن العامود الأصيل تداعى وسقط من همّ العطاء في الأدب، وفارساً من أماجد الكتّاب المجلّين سكت قلبه وهو على صهوة الجواد والريح... سبحانك ربي، كيف يهوى كل هذا الغنى الثقافي وكيف تجمد كلّ تلك الحركة الزاخرة في ضمير المكان والزمان. خلق رضيّ وقلب نديّ وإنسان صدوق، صداقته كتلك التي عناها جبران في "نبيّه" عندما قال: "صديقك هو الحقل الذي تزرعه بالمحبة وتحصده بالشكران وحين نفنرق عن صديقك لا تحزن، لأن أكثر ما أحببته فيه ربما يكون أوضح مما في حال غيابه، مثلما يتجلّى أكثر من السهل الجبل لمن يتسلّقه" وهذا ما حصل لي مع غياب جميل جبر.