يوم المؤرخ نايل أبوشقرا

مكرّمًا

  في مقر الحركة الثقافية في إنطلياس

 7 آذار 2016 

(كلمة د. رمزي أبوشقرا)

"يا نَفْسُ، مِنْ همٍّ إلى هِمّة"

الشريف الرضيّ

 

" أنا بنفسجةٌ وأحب ظلّي"                                                               نايل      

 

مقدمــة

قال لي أمين عام الحركة د. انطوان سيف، مهاتفًا: " نايل بيستاهل، ما عندو إذاعات، لا يسمعه إلا الّذين يعرفون الاصغاء للهمس ويتقنون لغته"، وقد طربت نفسي لتلك البلاغة، وها أنا أضيف إن الحركة التي تستضيفنا في رحابها اليوم، إنما أتقنت الإصغاء حتى أمست تعرف أن تصغي للصمت، وفي قول مأثور : " من لا يفهم صمتَك، لن يفهمَ كلامَك..."

من استنفاراتِ سلكٍ عسكريّ ترَكْتَ عليه بصمة الإخلاص،

 إلى استنفار سلك الثقافة الحرّة، يعلّل وطنًا بالخلاص،

أختصر مسارك.

رجلُ السِلم بامتياز أنت، عرفت كيف     

لستَ الوحيد ولنا جميعًا من بين معارفنا مَنْ جمع بين السيف والقلم، ولْنقل بين الاكاديميّتَيْن، بفكر موسوعي، وبنظرة شمولية تتطلع إلى جمع المعارف في مَعْلمة واحدة؛  إلا أنك من بينِ قِلَّة قلَّة، لم تنتقل شارة رتبتهم العسكرية المؤهِّلة، من الذراع إلى الكتف لكي يكون قطافُ النّجوم بطعمٍ لا مزيج فيه لاستعارتَيْن او لمجازَيْن. كأني بالزُهرة، (Vénus)،  نجمة الراعي (Étoile du berger)، وحدها، مفردةً، انفردت بتسميتين، هما نجمة الصبح ونجمة المساء، لكي تنير دربك وتلقي عليك تحيّتَيْن: تحيّة الفجر المنهمك بالكتابةِ والعمل وتحيّة المساء... المنهمك بالقراءة والأمل؛ فما سر هذا المعجم، يكسِر قانون الدلالات، متّخِذًا بالكناية، اسمين لمسمّى واحد؟ لعلّ الملوان، النهارُ والليل، اختلفا في أمرك فتصالحا على أن لكلٍّ منهما حصةً في الكوكبِ المتألق !

تشاء الصدفة ان يكون دورُك في التكريم في دورة غريغوار حدّاد، أحد مؤسسي اللبنان الذي تحلم به أنت، والذي يلوّح لنا أفقُه في كتاباتك، والذي اهديتني كتابه في "العَلمانية الشاملة" الفظها بفتح العين اليوم وفاءً،وأنا في خِضَمِّ العمل على إخراج دراستي اللغوية في العِلمانية والعَلمانية. فلتكن ذكرى غريغوار حداد فاتحةَ القراءة في ذكرياتٍ لها في تكريمِك مغزى؛ والصدفة الاجمل ان يكون قوام نص الكتاب محاضرةً أُلقيت في الحركة الثقافية في انطلياس سنة 1984 قبل ان تُنْشر في مجلة آفاق في آذار 1997.

أيها الكرام،

من يصعد إلى هذه المنصة مكرمًا يكون قد اجتاز الامتحان الصعب في الوقوف على عتبة الوطن، فإنطلياس لم تكرّم، منذ عهدها بالتكريم، اي منذ ارسائها هذا التقليد منذ إحدى وثلاثين سنة إلا من تحلى بثلاث أو جاهد في سبيلها :

-                      الخروج من الشرنقة إلى الوطن؛

-                      الخروج من الفئوية إلى العَلمانية العِلمانية المتنوّرة؛

-                      الخروج من التطرّف إلى الاعتدال.

آية التكريم اقتباس من كلام مَنْ تكرّمون ومن أراد أن يشْمُلني التكريم على طريقته فرَغِب عن كلّ الاسماء الّتي اقترحتها، ورغب إليّ في هذه المهمة اليسيرة والعسيرة في آن.

من منصّة التكريم هذه، وقف نايل يوم تكريم سليمان تقي الدين، شاهدًا له وفيه فقال:

 "يا صديقي...اذا كانت الثقافة في العالم المتحضر تملك مفاتيح الحداثة فالثقافة في عالمنا المسحوق تُصادَر في الأعم الأغلب لمصلحة من بيدهم المفاتيح الايديولوجية الدينية .

تكريمك وان يكن مبعث ارتياح لمن نهجوا على علمانية صادقة ، فانه في الوقت ذاته يفتح دفاتر المحاسبة في وطن عربي يستعيد صراعات العصر الوسيط .

يا صديقي ، ربع قرن وحضورك ماثل فيّ عقلاً وقلباً ، حفرنا سوياً"ثمّ تهدّج صوتُه وخانه التجلّد وضَبْطُ الإنفعال على غير عادته، وكادت محبته لـسليمان في وَداعٍ سبق الوداع الأخير، أن تحْبِسَ الكونَ في دمعة، حبسها هو في ذلك المقام، فشفّت العباراتُ لتصبح رهفا.

 وتابع معيدا (حفرنا سويا)  :...  في تاريخ الممكن واخرجنا النظيف منه .تكريمك اليوم يحّملنا تبعات مستقبلنا المجهول، ولأني مقتنع بخطابك الثقافي ، أشد على يدك ، هكذا عرفتك ، ولهذا انحني امام قلمك الحر ، اطال الله بعمرك ، لك مني اصدق التمنيات."

لم أجد، بعد محاولاتً، في عُدّتي البلاغية إيجازًا لهذا الإيجاز، فلم أقتبس، وتركت نصّ الشهادة في استشهادي بها، كاملا، يحمّله قلمي، عبء أن يفسّر معاني تداولي للكلمة بحرفيتها، وعبء أن  يفصح، أنها انحناءةٌ،  فيها اعتزازي بالقلمين.

******************************** 

اسم نايل لغةً، قديمٌ قديم في الساميات،، ومن Naelاشتقت Noelتلك الكلمة الساحرة التي يلتقي على دِفئها وشاعريتها وبركاتها سكان الكوكب الأزرق، فيحلُمون في فسحةٍ من الأملِ بالسلام، وتسري رَغبةُ العطاء اللامحدود في قلوبهم، منبّهةً ضمائرهم...

فيا لسر الأسماء تتننزل صفاتٍ،

ويا لحدس من سمّاك؛

وياصديق الأ شجار، زاملت الشجرة الميلادية، وها هي خبرت عن بهاك !  

 

يوم استشرته في توقيع ما اكتب أيكون بالاسم الثلاثي أم بالاسم والشهرة فقط، أسرّ اليّ: " لو خيّرت لكتبت نايل واكتفيت!"، فشعرت لحظتئذٍ أن خيمتي تشّد اطنابَها أوتادٌ وأسباب وَرِثْتُها او أُهديتها، وأن خيمته من صنع يديه أوتادًا وأسبابًا، لا فضل لأحدٍ عليه فيها، وقد أصبحت مضرِب مَثَلٍ في العِصامية، لمن شاء الخروجَ من العظامية، ومضرَبا للعلم، فهي مقصَد وقصيد...

كأني بمدرسة عماطور العريقة، وهي التي أُسْتُكْثِرَ فيها / أو لم "يُقدّر لها" ان تصبح مدرسةً ثانوية حتّى اليوم، يُوَفِّي نذورَها نايل ومَن مِن طبقته في العلم، وقد قنعوا بزوّادتها زادًا معرفيًّا أول، ثمّ اجتازوا الصحراء على بركة النذر ذاك... ونذرُ المعرفة يعرفه أولياؤه.

ريشة نايل التي تزرع للذاكرة، حُلُمٌ بأخضرَ يقاوم الجدب الثقافي وتصحّرات العصرنة الزائفة. له في مجال الأدب مسرحية غنائية تاريخية، كتب نصّها ونصوص أغنياتها والحان بعض الاغنيات. ولي عودة إلى هذا العمل في سياق الحديث عن كتابة التاريخ.

ولريشته بالمناسبة، وفي ما يتعدّى المُشْترك اللّفظي أختٌ لا تقِلّ عنها بل وربما تفوقُها مَوْهِبةً، شاءت لها الظروف أن تبقى مغمورةً، ولكنّها تشارك اليوم، رنّانة الصمت، ياسِرةَ المدى، على طريقتها، فرح الاحتفاء بصوت الأخ الأكبر...

لنايل كما أخبرني وكما تقول ذاكرة رفاقِ صباه وشبابه صوتٌ، إذا غنى، هاج الحنين بسُمّاره وقد طَرِبوا، وارتقَوا إلى حيث يرتفع بهم غناؤه، فكأنّهم ما شربوا إلا تصوّفًا في المقام...

إلا أن المفارقة الّتي تعنيني، أمامكم، اليوم، هي أنّ أوتار الصّوتِ المُغني وأوتار المعازف أُمِرت بالسكوت، فسكتت! أَمرتها نفسٌ أمّارة بالعلم وبالسهر في طلبه، لا تقبل في اللّيل صاحبًا إلا ضوءَ العقل في ضوءِ المصباح، نورًا على نورٍ في انتظار الفجر... أتراه كان قد أدرك، منذ زمنٍ بعيد، أنّ بحرَ الظُلُمات سيرخي ظل جناحي عنقائه على العقول؟ أتراه كان قد استشرف بحس المؤرخ، أن أُمِّيَة الحرفِ نورٌ إذا ما قوبلت بديجور، يُطفَأ فيه سراجُ الفكر، ويُكتَم فيه صراخ الوعي الطفل، في قراءة للتاريخ، تشبه أي شيء، ما عدا القراءة؟

نايل يسابق زمنًا عتيًّا قائلاً: اليوم امرٌ، واليوم أمر! ويضغط عليه إحساسُه بمرور الزمن، فلا يرضى بضياع الوقتِ، ولا حتّى بالوقت المستقطع، اذا رأى فيه وقتًا ضائعا...

أراني أقول فيه: هي الكتب تلك التي ترى فيه خير جليس وخير مؤنس وأنيس.... وهي في مكتبته مقروءة بالكامل او تكاد، يترك قلمه المرن على غلافها من الداخل وعلى الكثير من صفحاتها اشاراتٍ واسئلة وملاحظاتٍ وتنقيحاتٍ تقول: من هنا مرّ قارئ فتنوّر ثمّ أضاء. أوليس العلم صلاةً؟

ولست أرى Montaigneفي مكتبته الذائعة الصيت في Bordeauxالفرنسية، وقد جعلها في برج من أبراج قصره الريفي، بأسعد من نايل ولا بأشقى منه؛ فكلاهما نهم في طلب المعرفة يعاني المشقة في البحث بمتعة تنتخبُ هي من تراه جديرًا بها، بمقياس الهمّة والمثابرة والصبر. إلا ان Montaigneلم يكن يُجهدُ نفسه، كما يخبّر في كتاباته. بالمناسبة، رائد النهضة الفرنسية كان يوقظه ابوه في صغره على ألحان الناي العذبة ، أما رائدُ المؤرخينَ العِصاميين فإنه استيقظ باكرًا على صفعة الواقع المرّ، المعذّبِ المعذِّب، في جهله وفي تجاهله للحق الطبيعي لطلب العلم لمن كان العلم من حقه. صفعة الواقع تلك، جثمت على صدر اليافع بفظاظتها، [وكأني وانا المطالب بتكافؤ الفرص في التعليم المدرسي، اسمع صداها فيؤلمني بلدي ويوجعني وطني، ولا اندم على خياراتٍ فصَّلت الكثير من ملمحي التربوي والاجتماعي، كنت ارى فيها دواء ذلك الداء]. إلّا أن خيبةَ الفتى  صُعِّدَت (بالمعنى النفساني للكلمة : sublimation) توقًا وشوقًا إلى العلم من أجل العلم، ورغبة بالمعرفة من أجل المعرفة.

أين لي / أين لنا بمدرسة وقد شرّعت هلى كتف البيادر شبابيك الفرح، تُؤْمِن بمساواة الفرص وتُؤَمِّنها؟ تتقن اكتشاف ما وهبته الطّبيعة في الطّبائع, فتحملها على المعرفة اكتشافًا وتأملاً وبناءً للعقل؛ ثمّ تُلزم الجماعةَ المجتمعةَ بتعهّدِ مَسارِ النبوغ التزامًا بقَناعاتٍ تَكسِر سَطوة الاقنعة، وتُكسَر بها احتكاراتُ صِناعةِ المستقبل؟

لو كان لي / لو كان لنا ذلك، لكان أضاف مكرَّمُنا بيسْرٍ، الى سيرة الَمسيرة العِصامية، شهادةَ العالِمية، كما كانت تسمّى في جامعة الازهر في القاهرة، وكما اقترحها الشيخ عبد الله العلايلي في معجمه، لأن docteالتي منها docteur  وdoctorat، تعني لغةً سِعَةَ المعرفة وغزارتها في الآداب والتاريخ خصوصا. أما لسان الحال فيقول : ربّ شهادةٍ تشهدُ لحاملها، وربّ شهادةٍ تشهد عليه.   

***********************

في المنهج عمومًا

علميٌّ: ولست أعرف في حدّ العلم في المجال، بأفضلَ من أن تكونَ حُدودُه وصفًا يقترب من الموضوع وينأى عن الذات ما استطاعت الذاتُ إلى ذلك سبيلاً، ومن أن يكون رصفًا للوقائع لا للمرويّات بغثها وسمينها. أراه يستخلص من المقابلة ومن المفاضلة في ما بينها ومن أعمال العقل فيها تِبرا من ترابٍ كثير، ثمّ أراه يصفّي التِبر لأنّه باحث عن الحقيقة لا عن البريق. وهذا مثالٌ على المنهج : يوم اخرج تاريخ الاسرة الجنبلاطية من سيَرِ العامةِ (والدهماء) ومن علائق الزلفى إلى حيّز الكتابات العلميّة الرصينة،  قام بالبحث الميداني على تخوم قرية المختارة ليؤكّد ان تسمية "فتاح ربح" تعني اكثر بكثير مما كانت تعني للجميع بمن فيهم اساتذة الاجتماعيات، وكانت مفتاحًا له لرسم الصّورة الموضوعية لتلك الحقبة الزمنية، من فرضية دقيقة إلى تقصي الحقائق إلى صياغة الاستنتاجات وصولاً لنفي إمكانية النفي لنظريته. استمدّت الطريقة النائلية معارف الالسنية في تسمية اسماء الاماكن Toponymieوربطها باسماء الاشخاص Anrthroponymieثمّ استدل بعلم الاقتصاد Economieودور رأس المال
 Le capitalليبرهن ان تلك القناة التي نقلت الماء من نهر مرشد إلى قرية عين قني ( وربما كانت عين القنا أو القناة ؟) إنّما موّل أعمال حفرها وبنائها ملّاك من كبار الملّاكين هو في آن معًا صاحب نفوذ وجاه في تقسيم الطبقات الاجتماعية السائدة عصرئذ، وهو رباح جنبلاط.

وهو بتلك الواقعة التاريخية رممّ الواقع بنظرة المؤرخ الحصيف وقوّض ما أمكنه (ولنقل زحزح) أسس رواياتٍ متناقَلةٍ متضاربة لا تذهب في طرح اسئلتها إلى مدى السؤال وان ذهبت عادت بقبض ريح...

 

مثل ثانٍ عن الحداثة في المنهج

تنادي الطرائق البحثية الحديثة بمبدأ تقاطع المصادر والمواد المعرفية وبتدامجها وبتكاملها، وبالخروج على الاحادية في الاختصاص او الاختصاص الاحادي. ونعاني في الجامعة ما نعاني من اجل تحقيق هذا الهدف الضّامن وحده لعدم تفتت المعارف وللتمكّن من بلوغ النّظرة الشمولية للكون وفيه، وهي بوابة المعرفة...

يوم سألني نايل عن أبيات للمتنبي تحمل بعض اسماء الامكنة (Toponyme) وبالتحديد من بينها، "جبل رضوى" و"جبل لبنان" خلتُ المؤرخ، للوهلة الأولى، متدخّلاً او وافدًا من بعيد على جمهورية الآداب، وكدت ان اوحي إليه بأن "انظر كم هي عالية اسوار القلعة"، إلا انني سرعان ما وجدتني أشاركه البحث من الزاوية التي اختارها واحمل همّ المؤرخ، على غير كفاية، لأيام... فإذا بالنّصّ النائليّ يخرج وقد نُزِّلت فيه أبيات المتنبي شاهدة لا يُرد حجاجها بل ويُحتج بها، وقد اضاءت فضاء النّصّ كنجمةِ صبحٍ... فزادت من قيمته التأريخية (ونحن بانتظار نشر هذه الدراسة الموسوعية)؛ تلك برأيي جرأة في المسلك المنهجي تقود إلى معاناة تقود إلى المعاني... فنِعْم المؤرخ الوافد علينا يسوق انتباهنا إلى سياقاتٍ لم تكن لتخطر على بال المتدارسين بالادب. 

في همة الباحث واخلاصه لبحثه

اعوزه، في يوم من الأيام، مرجع لم يتوفر في كبريات مكتباتنا، ثمّ اكتشف بتواتر قراءاته ان الكتاب المنشود موجود في مكتبة دمشق المركزية، فقصد إلى الشام، ولا اظنّ أنّه اضطر لابراز بطاقة انتسابه إلى اتحاد الكتاب اللبنانيين كجواز دخول إلى تلك المكتبة العامرة، فلقد قرأ حجابها بالمعنى القديم للكلمة، على وجه القاصد إليهم سيماء من همّه المعرفة لا يعرف همًا غيرها. وعاد في اليوم الثاني أو الثالث لسفره وقد ظفر بمطلبه وأضاف المعلومة إلى كتابه. تلك المعلومة لم تتعدى فيه حاشية، تكاد لا يلتفت إليها معرفيًّا من هو مثلي، إلا أنّها ممارسةً، مصداق المؤرخ الفز، واعني بالكلمة الاخيرة من لا يعتمد إلا على همته العالية، لا ترفده مراكز ابحاث ولا تشجعه دول مانحة... استطرد هنا، وربما كان استطرادي هذا بوازعٍ من شعورٍ مشتركٍ، فأقول: ها نحن في رحاب الحركة الثقافية، الّتي هي في رحاب دير مار الياس انطلياس، الذي هو في عديد ما تسهر عليه كنيسةٌ عريقةٌ تحافظ على تليد وتدعو الى عتيد في الرؤية والتجاوز والخروج على غُلِّ التقليد ... هنا اكثر من انتلجنسيا Intelligentia  واقل من ايديولوجيا؛ إنّما الارضُ، أرضها، صلبةٌ، وحركةُ الوعي فيها مستمرةٌ، وقلبنا معها نبضًا، وعقلنا متفاعلٌ مع عقولها، أكان النقد لنا أو علينا، أو كان لها أو عليها...

 أما نايل، فلقد هبط إليها من تحت سنديانة فتية، زرعها بجهده، ومدّها بكلّ من أوتي من طاقةِ فكرٍ علّها تنمو، وأرانيى ألمح في بعض فيئها، طلابَ علم يتوافدون، وتتوسّعُ دائرتُهم . أمّا إذا قلنا ذلك بلغة التاريخ الثقافي فنحن هنا على رحابة سهلٍ، وهو فوق، في الجبل، في وِحدة الباحثِ الفرد، على الارهاصات الأولى لما يحلم به من حلقاتٍ ثقافيةٍ تقوم على ما يتعدى العلمَ والخبر عنها، إلى العلمِ والخبرِ عنه، مثاقفةً ومقابساتٍ.

ولنايل أقول على الملأ: ينتظرك يا صديقي كتابان موجودان بالقوة en puissanceفي وعيك وفي ضمير التاريخ؛ الاول عن تاريخ قريتك الّتي هي في عهد مضى من قصبات الشوف تهديه إلى روحٍ تتدبّر امرك كي تنفث في العُقَدِ لحنًا يعيد للناي شجوًا يستجارُ به ولا يستجار عليه؛ فتكتب أنت وأنت وحدك ما لم وما لن يكتب سواك.

  الكتاب الثاني، وانت على عتبة الكتابة في مصطلح "شيخ العقل" بعدما استغلق عليك ثمّ تمكّنت من الوصول إلى مفاتيح الباب فانفتح لك، الثاني عن شيخ عصره الّذي هو عصرنا، وان كان هو هو الذي شاء ان يحجب "لباب علومه" عنا، ربما لكثرة الدّهماء في لَبوس العُقلاء...

كتابان لا أرى أصلح منك لكتابتهما، فأقدِم ! وها أنا ودائرة المقرّبين من محراب علمك، مجنّدون في خدمة الضوء الطالع من سواد محابرك مع الفجر.

 

في المواقف الفكرية المرتبطة بالمنهج

انا لست مؤرخًا (ومش رح صير).. إلا ان هذا لا يمنعني من ان أكون مؤرقًا بالسؤال عن المصير. أنا على تخوم اختصاصكم أهتدي بصوّتين في العَلاقة بالزمن، تحمِلاني إلى الأسْئلة  : الاولى إدراكٌ شعريٌ لمقولةٍ عِلميّة مُتَناقَلة خُلاصتُها أن الشعور المأساوي (le sentiment du tragique) الّذي يحمِله الانسانُ في الوعي ناتج عن التناقضِ الضروري بين خطى التاريخ البطيئة المتثاقلة وحتمياتها، وبين الرغبةِ الفرديةِ المحْرورة، الملّحةِ في تسريع الخَطوات؛ ذلك التوق تنتقل عدواهُ الجميلةُ بأحلامها، من الفرد إلى الجماعة، ومن الجماعات إلى الأفراد، فتُسرَّع الخُطى، ولكن لا يُضْبَطُ ولا يَنْضَبِطُ إيقاعٌ، فتزل الأقدام ونقع بين الثورة والفورة،  ثم ياتي علمُ اجتماعكم فينظّر في التغيير ويحدّث عن الطفرة...

الصوّة الثانية يلتقي صداها، في فهم التاريخ، بصدى الصوّة الأولى، جَدَليا، لأن فلسفتها انتظار؛ وهي بايجاز، رأيُ بعض أصحاب الاختصاص في الحضارات وفي أطوارها وتطورها، قِوامه أنّ للأديان دورًا أساسًا في النضج المجتمعي . ترجمت هذا الرأي أستاذة لي، فرنسية، عشية دخولِنا في النفق الطويل، منذ زمن بعيد، يوم سألتني "في أي عام للهجرةِ نحن؟ فلمّا قلت لها، حينها،إننا على أبواب القرن الخامس عشر للهجرة، ابتسمت ابتسامة مشجعة وقالت بفرح خالته مشجعّا : "أنتم إذن على بدايات / مشارف / ارهاصات نهضتكم..." وكانت المقارنة بالطبع مع تطور اوروبا وخروجها من ظلمات قرونها الوسطى مع خيوط فجر النهضة، في ايطاليا وفي فرنسا...

أنا لن اخبر عن ردة فعلي النزقة آنئذ، وعدم قبولي النرجسي لما مسَّ نرجسية إخالها كانت جَماعية ولا تزال... إنما أحيل السؤال والإجابة وردّة الفعل إلى أهل الاختصاص كمادة للتداول في تناقضاتنا. وربما كان الاكثر تعبيرًا عن الحال هو أننا لا ندرّس التاريخ في مدارسنا اليوم لأننا بتنا لا نتفق على الكتاب المدرسي الواحد، ليسأل "أحفادٌ بلا جدود"[1] عن سرّ هذا اليُتم فيحيلهم البحث عن الجواب على من دمّر لا على من عمّر !  اكتفي هنا بالاشارة وأعلم انّها بلغت إلى حيث يجب ان تبلغ، تلميحا... أما تصريحا : فليتنادى المؤرخون إلى مؤتمر عِلمي وليتداولوا، خُلوة، في الامر؛ لا شيء تحت اقدامهم إلا ترابُ لبنان ولا سقف فوق رؤوسهم إلا سماؤه، وعِدّتهم الدخول إلى الذاكرة لغسلها، والخروج بها إلى الشمس، فلا تُغسل ذاكرة بحجب ما تحمل عن الوعي، الّذي هو شمسها وهواؤها، وطارد رطوبة أهوائها العفنة. وأضم صوتي إلى صوت أدونيس في إحدى رسائله إلى يوسف الخال، حين قال" دعنا قليلا في الشمس، يا صديقي..." وأقولها : دعونا قليلا في شمس لبنان قبل أن تغيب !   

أحيلكم في هذا المجال، باستطراد لا يبتعد عن السياق، إلى كمال الصليبي في كتابه عن "الكِيان اللبناني بين التصوّر والواقع" الّذي وفق فيه إلى عنوان يكاد يغني وجدانيا عن القراءة، فهو أخذ من إنجيل يوحنا St. Jeanكلمة السيّد المسيح "في بيت ابي منازلُ كثيرة" الّتي اصبحت بالتداول النّصّي Intertexte"بيتٌ بمنازلَ كثيرة" محملاً ذلك العنوان رسالة إلى اللبنانيين جميعًا، إيجازها يغني عن الاطناب؛ إلا أن شاعرية العنوان تُعْوِزُنا ذخيرةً حين نواجه وقائع السياسات والممارسات في الفصل الحادي العشر من الكتاب والذي عنوانه "الحرب على تاريخ لبنان"...

ويقيني أن نايل، مكرّمًا، يرى آية تكريمه في الخروج من هذه الحرب، بالعودة إلى "البيت" فهو بيتٌ عتيق، وبالتنازل عن الغنيمة، لأنها بمنظور التاريخ، حين يصبح تاريخًا هزيمةٌ، وشرّ الهزائم ما ظنّ انّه غنائم...

 

واخيرًا الحداثة على طريقته

في صداقتنا لحظات عصيبة حين نختلف على امر له علاقة باللغة والفكر والتوجهات البحثية... حتّى أني واجهْتُه، مرة، مجاهرًا بانطباع أن ما يقوم به من تنقيبٍ في الاحافير عن حقائقها سيكون جهدًا ضائعًا، وتابعت، مشاكسًا، مشكِّكا في إمكانية أن يعود إليها الألق، وأن تعود نَضِرة، فيتّصل الحاضر بالماضي، ويُسْتَشْرَف المستقبل... ثمّ لم أجاهر بما مرّ ببالي من شكوك حول حداثته، وأنا الّذي أرى إلى نفسي في مرآة ذاتها حداثويًّا مع باقة من المفردات الانيقة المعاصرة على الوزن عينه، فإذا به يُخرج إلى ما بينَ النورِ والظِلّ ديوانَ حلا "شاعرةُ القصر وطليقة شجن القبيلة"، وهو العنوان الّذي أراده لمداخلته في مؤتمر جامعة الروح القدس حول "المرأة في المجتمعات العربية" لأربع سنوات خلت. حلا ملمحٌ حلوٌ لامرأة واجهت العصبيات القروية وقد عَصَبَتْ جَبينَها بالشعر وبالجرأة وبالصدق... صارت أمًّا بتبنيها، وأعطتها مَلَكة الشعر المعلنة ( وأقول المعلنة لأن هذه الملكة غالبا ما تُكتم عند النساء، مع أنها لا تعرف "الجندرية"، ولا تميز أو تفرّق بين أناث وذكور)، أعطتها هالةً، هي تلك الّتي تحيطُ بالنبوغ، وانطلق صوتها الشجيّ يتردد صداه بين جبال ووِديان لبنانَ الكبير، من موقع قوّالة آل جنبلاط...

ما فهمته من قراءتي لنّصّ نايل في حلا، يدعوني لأن ادعُوَكم إلى قراءته، مقتنعًا بأن اعتناق صديقي لفكر الحداثة هو الّذي يقود دعوته إلى استعمال المكابح... والتأنّي، كيما يتمكّنَ الرَكْبُ من مواصَلة الرِحلة الطويلة، بسلامة وبسلام، إلى مقاصده.

فما أحلاكِ يا حلا، تطلّين من على مَسافة ماية عام في الزمن فتضيء بطَلَّتِك ذاكرةٌ بلا أبطال... تُسْتَمْرَؤ من خلالها، استعادةٌ لوقائعَ تضع حداثَتنا خَلْفَنا، فَنتلفّتُ إلى التاريخ بنظرة فيها اعترافُ المستقبل، بجميلٍ وبجمالٍ وبحلا.

 

في خطورة النّصّ التاريخيّ أو: من المتكلّم في النّصّ

1.      بين المؤرخ والاديب:

في الـ Odysée  الّتي تروي عودة Ulysseإلى دياره، بعد حصار طروادة، كان على البطل الاغريقي ان يحاذي بسفينته جزيرة يجذب غناء حورياتها (les sirènes)آذان البشر ومسامعهم، فيذهب الطرب بقلب الربان وبقلوب الملاحين إلى ترك الدّفة والمجاذيف، ليسوق القدرُ السفينةَ إلى نهاية، يخبّر عنها الحطام إذا طفا، بعدما تحطمها صخور اليابسة  ...

Ulysseكاد مع رفاقه ان يلقَوا ذلك المصير، إلا أنّه، وهو البصير، استدرك الخطر فاشترى صممًا لسمعه من "تداول انمله العشر" وكذلك فعل رفاقه، فمرّ "القطوع"، وقطعوا بسلام، ونجت السفينة. هكذا تروي لنا تلك القصيدة الطويلة في فصل من فصولها حكاية عن مغامرات العودة إلى الموطن... المحفوفة بالمخاطر وبالتجارب...

أين الكناية في الأمر ؟

 حين قرر نايل ان يخوض تجربة التأريخ أدرك، باكرا، كم ستكونُ الرحلةُ محفوفةً بالمخاطر، تتمثل بالاهواء وبالعواطف الجامحة، كما تتمثل بالانتماءات العقائدية المتصلبة والمتخشّبة، يصعب على الوعي مقاومتها في النفوس... فالنزعة الاسطورية والخرافية، حاجةٌ في التركيب النفساني للجماعات، والبطولات مياه عذبة في الذاكرة، تُواجَه بها مُلوحة البِحار وصحارى الرمال، في الاسفار الطويلة، عبر القرون.

ثمّ إن التاريخ لا يُروى إلا على شكل حكاية histoire)) ، لأنه بالضرورة يستلزم قصة (récit) وقصًا للقِصّة (narration)... وفي هذه المظاهر الثلاثة، الضرورية، يشترك النّصُّ التأريخي مع السردِ الروائي،ومن هنا شيوع مصطلح "الرواية التاريخية" يُحمل :

إما على أدبٍ مادّته التاريخ، متخَيّلا، على خلفية أحداث ووقائع حصلت؛

وإما على تأريخ، مادته الاحداث والمرويات للتثبت منها، وبالتالي، إثباتها مرجعيًا .

لستُ اخرج عن سياق، حين اذكّر، في هذا المقام، بأن كتابة التاريخ خطيرةٌ بمعنى أنها في غاية الأهمية، لأن منزلَقاتِها خطيرةٌ،  بمعنى الخطر الدائم/الداهم، المحدِق بكل من يحاول الاقترابَ من الماضي مبحرا في الزمن نحو قديمه، بحثا عن أقوال وأحداث، يستهدي بها في تفسير آنه وأوانه.

فالوثيقة التاريخية ليست دائمًا قاربَ النجاة، وكم تكسرت سفن على صخور الاهواء الفِكروية (idéologiques)!

 ومن هنا تتنازع المهتمين بالتاريخ، نزعتان :  نزعة الكتابة التاريخية الموضوعية، ونزعة كتابته ادبيًّا عبر الرواية والمسرح.

عند هذه النقطة بالذات، أقول أن مسرحية "بيادر المحبة" ( التي غلبت عليها تسمية مسرحية   بشير جنبلاط، مجازا)، إنما كتبها نايل، ارضاءً للنزعة الأولى، وحلّا لنزاعٍ داخلي، في محاولة، يعرف هو تمامًا، كما يعرف اقرانُه من المؤرخين والمؤرخات دلالاتها : سحر المزج بين الواقع والخيال والعبورِ في ما بينهما، برشاقة الراقص المحترف، عبر النصوص.

هذه الاشارة، أردتها في معرِضِ تكريم نايل، توكيدًا لقناعة عندي، من خلال قراءتي لنصوصه. وهذا كتابه المركزي "تاريخ لبنان، أزمة نصّ ومُصطلَح وهُوّية "يقرأ من عنوانه،

 فحتّى بعد ان تخلّى المؤَرِّخ طوعًا،

 عن نزعته الفنية الاولى عبر الامتناع عن الشدو والغناء،

 ثمّ عن نزعته الفنية الثانية وهي كتابة المسرح التاريخي،

 تحقيقًا لما يراه هو التحاقًا كاملاً برصانة الكتابة الجديرة بالتأريخ، نوعًا ونمطًا وأسلوبًا بيانيا،

محاولا الإلتصاق بالواقع le réel ، ومجانبا التخييل le fictionnel،

وقف على مشارف النّصوص متأملاً، ثمّ مدركًا،

 كيف أن العلاقة بين الموضوع والذات جدليةٌ حتمًا، بمعنى استحالة الفصل التام بينهما،

وهذه حال الاضدادِ، جميعِها،وبلا استثناء.

 ثمّ إنّه أدرك، عبر مسار الوعي بالامر وممارسة الكتابة ان ذات المؤرخ/الكاتب، "أناه" (تلك الانا المركّبة أصلاً، فهي أصوات، واصداء أصوات، واصداء لاصداء) إنّما تزداد حضورًا في النّصّ كلما اتقنت الغياب عن ساحة الكلام؛ (la scène énonciative)

 تلك "الهو" الّتي تحدثنا في النص التاريخي، عن شخص أو عن شخصيّة، أو عن حدث، أو عن التاريخ برمّته، لأنّه بالضرورة "هو"، أي الغائب، بما انّه "خبر"، انّما يحمِلها أنشاءٌ تحمِله حوافز الاقْناع والحجاج، ولو جاء سردُهُ محتجًا بموضوعية الوثيقة وبعينيّتها، وبموضوعية الحدث، استنادًا إلى شهودٍ عيان، تحوّلوا مع مرور الزمن، إلى شهود سَماع...

 

نايل تقصى وفي نيّته ان يقصِم ظهر الاسطورة في التاريخ، ومحّص وفي نيّته ان يمحّي ما تراكم من كتاباتٍ أَخذت بالخرافة، وق أُخِذت بها، فأخذتنا إليها...

يكاد يجمع أصحاب الشأن في الاختصاص على ان لنايل مذهبًا في التأريخ ذَهَبًا.

فهو المدرك أن الوثيقةَ نصٌّ، وأن النص قراءة، وأن القراءة تأويل، وأن التأويل وُجهة نظر،

وهو المدرك أن المؤرخ هو من استأمَنْتَه على نظرك في التاريخ، ينوب عنك، ولا يعود إليك،

تماما كما يفعل القاضي بنص القانون.

 

 وأنا لي، سؤال، بين النحاس والفضة، قضية أختم بها مرافعتي امامكم، واطلب من المؤرخين وزنها لكي أعرف وزنتها، يحثني عليها تأمل ألسني، التقى بمن يدعمه من اصحاب الوزنات الذهب في المجال :

 علمتمونا ان قحطان وعدنان شخصان وهما نسبتان إلى مكانين، وقلبتم الأسماء  بما لا يرضي حلوم الاطفال، فجعلتم القحط على شاطئ البحر والعدن (الذّي اعطى جنة عدن Eden) على كثبان الرمل الحجازية... ولم يجرؤ على إعادة النظر في الامر من الزاوية التأريخية أحد... سوى العلايلي، الّذي بدأ كلامه بجملة : "يساورني تظنن"، نظرًا لوطأة الموروث التاريخي على الوعي... ! هو ساوره التظنن وهو العارف...

وانا المريد اقول لكم: آن الآوان ان تفصلوا بين الحب والزوان.

 

تحيّتي لمن لبى دعوة الحركة الثقافية وذلك هو الحراك الثقافي الاصيل.

تحية حضور إلى غائب ساهمتُ بتكريمه من على هذا المنبر، عنيت اللّغوي احمد حاطوم، يعمل طلابي على قراءة كتاباته جاهدين في اكتناه مضامينها، ومجاهدين؛

تحيتي إلى غائب تواعدتُ والحركة على ربيعٍ ينبجس فيه ينبوعه، وهو استاذي سليم نكد وسوف نفي، متعاونين، بالوعد.

تحيتي، في الشّخصي،

 إلى نجوى نايل، السيدة نجوى عمار أبوشقرا، الساهرةِ على إخراج الكتابات النائلية من المخطوط إلى المطبوع،

 تحيتي إلى وحيدتهما صبا، وقد اجتمعت في شخصها خلاصة محبتهما للارض وللانسان،

 وإلى ابنهما بالمصاهرة الدكتور سامر أبوشقرا... (صبا وسامر ركبا الطائرة خصيصا لحضور المناسبة)

تحيتي إلى عماطور من خلال أشراقة وجوه أهلي وأحبائي؛ وكلما طلعت علينا بنائل...  

 

ولعصام أقول:

 أهداني طلابي يومًا غرسة أرز طفلة، لطفا وتيمنا بمجاز،

 وها أنا أهديك أنتَ للأرز العتيق، تيمنًا بحقيقة ...

وشكرًا


 [1]عنوان كتاب لأستاذي نخله وهبه.

 

_____________________________________________________________________

 

كلمة د. عصام خليفة في يوم تكريم المؤرخ الأستاذ

نايل أبو شقرا

2016/3/7

 

ابن الشوف، قلب الوطن، لا بل ابن الحاضرة التاريخية عماطور،

صاحب تجربة غنية في الكفاح من اجل اكتناز المعرفة التاريخية،

باحث استثنائي في تاريخ جبل لبنان خاصة ولبنان عامة،

عامل مخلص لقيامة الوطن الديمقراطي العلماني، ولاستقلال لبنان وسيادته ووحدته،

انسان يتقن فن العطاء لطلاب العلم، وللزملاء من الباحثين،

طينة إنسانية شفافة يتقن فن الصداقة،

هذا بعض من نايل أبو شقرا الذي تتشرف الحركة الثقافية – انطلياس هذا المساء بتكريمه كعلم ثقافة في لبنان والعالم العربي.

أولاً: ابن عماطور والشوف:

          في عمّاطور ولد مكرَّمنا في كنف عائلة متواضعة وعشية جلاء آخر جندي أجنبي عن ارض الوطن (1946). وفي مناخها الاجتماعي حيث كان الشقراوي الأول صاحب "الحركات" منذ مئة عام يرقب العصر ليشهد طراد الفرسان وسباقهم في الساحة ميدان القرية، ويقبل مع الليل لسماع سيرة عنترة، ها هو الشقراوي الثاني يكتنز بذكائه الحاد اخبار الآباء والاجداد ويكافح لاستمرار دروسه الليلية، مع نيل لقمة العيش من خلال عمل متواضع في شركة تجارية. ويتناقل مع اهل البلدة تقليداً بان المارّة بعماطور كانوا يمتنعون عن رفع أصواتهم بغناء او انشاد، وكان يُفك وثاق المقيّد والمكتوف في اثناء مروره بها، وكان الفرسان يترجلون ويقودون افراسهم حتى يجاوزوا البلدة. ومنذ صغره اكتنه نايلة أهمية بلدته باعتبار انها من الضياع الخاصة للأمير الحاكم ولا تخضع لصاحب عهدة. وفي ضؤ لك بادر الى جمع وثائقها من البيوتات المختلفة، ثم قام بتوسيع اهتمامه فبادر الى تجميع الوثائق من بلدات الشوف المختلفة وبخاصة من بلدات إقليم التفاح، التي سبق ان كانت بعهدة عائلتي عبد الصمد وأبو شقرا.

          في مناخ عماطور حيث وزعت المياه بشكل منظم بين العائلتين الكريمتين ونصارى الحارة، وحيث روح الالفة والاخوة، وحيث الوعي الوطني والذاكرة التاريخية الحية نشأ علمنا وتشرّب حب العرفان وتحلّى بروح الكفاح من اجل التعمق في ذاكرة البلدة والمنطقة والوطن.

ثانياً: المعرفة التاريخية:

          بدل ان يتبنى علمنا الروايات السهلة التي تبسّط الاحداث المحلية والعامة، ولا تتعمق في خلفياتها البعيدة وعواملها الدافعة، بادر، بعد جمع كمٍ كبير من الوثائق، والتمعن في أمهات المصادر والمراجع ذات الصلة، الى محاولة نقد وتفنيد تلك الروايات واخضاعها للنقد العقلاني الصارم.

          هناك مرض تعاني منه كل طوائف لبنان دون استثناء. وهذا المرض يتمثل بوجود ذاكرة تاريخية حية مشوَّهة ومشوِّهة تؤثر في مواقف وردود فعل عصبيات الطوائف والعائلات، وتحميل الآخر مسؤولية ما جرى من فتن دموية في تاريخنا منذ القرن التاسع عشر على الأقل.

          فالرواية التقليدية السائدة عند اغلبية الدروز ان الأمير بشير الشهابي الثاني قام بتحطيم الاقطاع الدرزي، وانتزع من هذا الاقطاع الكثير من الملكيات في الجبل ووهبها للمسيحيين. وان هذا الامر كان وراء فتن 1841 – 1860. واذا كان هناك بعض الصحة في هذا الامر، فالصحيح ايضاً ان هناك عوامل بنيوية أخرى يجب التوقف عندها وتحليلها ودراستها.

          ان شجاعة وريادة وعمق تحليل مكرَّمنا، وثقافته القانونية العميقة – بموازاة ثقافته التاريخية الواسعة – تجلت في تحليله لنظام الملكية والضرائب في جبل لبنان. ان انتقال الملكية العقارية في جبل لبنان الجنوبي الى المسيحيين، كما أبرزها بالوثائق، قد تمّ عن طريق توسيع نظام الشراكة مع المشايخ الدروز وتملك المسيحيين للأراضي بسبب ما بذلوه من جهد في تنمية الموارد(1). وان الجزء الكبير من أملاك الدروز الممتدة خارج نطاق جبل الشوف خاصة في البقاع والجنوب، قد تعرضت الى رفع اليد بسبب التبدلات في النظام السياسي وضعف السيطرة الاقطاعية وضعف القوى الدرزية العاملة بالأرض، ما أدى الى تملك المسيحيين لهذه الأراضي واهمال الدروز لإدارتها. ولقد توقف علمنا عند خطورة النزاعات السياسية بين الدروز أنفسهم، الامر الذي ساعد في ضعف سيطرتهم على الأوضاع الاجتماعية في الجبل، وانشغالهم بالصراعات المختلفة والتفرغ عن املاكهم للغير.

يقول الصديق نايل في ص 250 – 251 من كتابه البالغ الأهمية (التحولات الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع جبل لبنان 1550 -1900):

لقد عومل الفلاحون (المسيحيون الشركاء) بقسوة شديدة، بعد هذه الاحداث (1845) فسلبت حرياتهم وضيق عليهم، بشكل اصبحوا في واقع اقرب منه الى العبيد، وقد عانت الكنيسة المارونية الكثير للدفاع عن رعاياها في المناطق المختلطة على اثر عودة الامتيازات الاقطاعية الى أصحاب العهدات، وكانت المرجعيات العثمانية تشجع على هذه الممارسات. ولئن كانت هذه الممارسات ذات مدلول انتقالي الا ان الفلاحين، عرفوا كيف يتعاملون مع المشايخ، فقابلوا السوء بالرجاء والقسوة بالاسترحام، خشية خروجهم من مزارعهم التي رويت بعرق جباههم(1).

          ان الإنجاز الكبير الذي حققه الشقراوي الثاني، في كتابه – المفصل، يتمثل بعدة أمور من ابرزها:

‌أ-       الشجاعة في معرفة الحقيقة واعلانها.

‌ب-   وهذه الحقيقة العلمية التي تم التوصل اليها يحاول ان ينقلها الى الذاكرة الاجتماعية لدى الجماعة، رغم ما في ذلك من مصاعب.

‌ج-    ان معرفته بالزمن الاجتماعي التاريخي في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان تطلب منه التبحر في مئات الوثائق التي تجشم مشقة جمعها وقراءتها وفك رموزها.

‌د-      والسبق الذي انجزه علمنا هو – كما قال الصديق المرحوم سليمان تقي الدين في مقدمته للكتاب – هو انه اول محاولة لفهم الانقلاب الاجتماعي والسياسي في جبل لبنان من زاوية التحولات الحاصلة داخل المجتمع الدرزي الامر الذي اغفله المؤرخون السابقون والباحثون الذين ركزوا على جانب واحد من هذا الانقلاب برصد صعود الدور المسيحي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في الجبل.

‌ه-      في قراءته المعمّقة لعاميتي انطلياس الأولى (1820) ولحفد (1821)، لا يجد علمنا حرجاً في عرض الوقائع بموضوعية متناهية. فبعد ان يعرض الظروف القاسية التي تم فيها اغتيال جرجس باز، (قيدوم الموارنة) – كما كان يسمي نفسه، وكذلك اغتيال شقيقه عبد الاحد باز، ثم استقالة البطريرك التيان، يلاحظ ان عامية انطلياس استقطبت كل القوى الفلاحية في جبل لبنان، وكان من الطبيعي ان لا يشارك فيها أهالي مقاطعة الشوف والاقاليم الأربعة لأن الأمير اعفى الدروز من زيادة الضرائب. الا ان اجتماع السمقانية اكد على:

-         قيام الصالح العام من دون تمييز درزي ونصراني

-         تؤخذ الميري من اهل بلادنا مال واحد وفريضة واحدة بما فيها كسروان.

-         نكون نحن واهل بلادنا دروز ونصارى حال واحد ويد واحدة اذا وقف الحاكم ضد احدنا من اجل غاية نفسانية.

-         ... لا نقبل على بلادنا مظالم غير مال الأصل السلطاني واذا نطالب قرش زود نقوم على ردع ذلك ولو قاسينا اشد الاتعاب.

ويختصر علمنا الصراع في عامية لحفد بالقول: "ان المواجهة في قرية لحفد وان تكون بين السلطة والأهالي، الا انها فعلياً كانت بين الجماعات الدرزية المنضوية تحت علمي الجنبلاطية واليزبكية والموارنة من ورائهم الكنيسة. ولم تكن المعركة الطاحنة في شير لحفد الا بين ارادتين: السلطة التي قررت ان لا تخرج من حكم الجبل الا على أجساد رعاياها، والموارنة الذين قرروا ان يعيشوا احراراً في زمن كانت فيه المطالبة بالعدالة بدعة تفسر بالخروج على السلطة(1)

يضيف الشقراوي الثاني في تفسير قلّما قرأت بعمقه ووضوحه في توضيح خلفيات (الحركات):

"ولكن الموارنة الذين كانوا حاضرين في السلطة المحلية من خلال علمهم جرجس باز تعرضوا للاضطهاد الجبائي بعد مقتله، فلم يكن امامهم ومن خلفهم الكنيسة المارونية الا المطالبة بحقوقهم الاجتماعية، ولكن قرار الأمير بشير المحصّن من الشيخ بشير جنبلاط كان حاسماً في موضوع جمع مال الميرة، ونظراً للتركيبة السياسية للسلطة المحلية التي استبعد عنها المسيحيون لانهم ذميون، قام المشايخ الدروز مع اتباعهم بتنفيذ قرار الجباية الامر الذي اعتبره الموارنة عملاً تعسفياً وواجهوا السلطة بكل ما يملكون من إمكانات"(2)

‌و-      وفي قراءته لخلفيات الفتن الطائفية يتعمق علمنا في الديناميات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية والثقافية إضافة الى العوامل السياسية، وهو في صياغته لهذه العوامل لا يترك مجالاً للهوى او للغرضية. انه المدقق الموضوعي الذي يربط الاحداث بعمق العالِم الذي لا هدف له الا كشف الحقائق المجردة. وبمثل هذا المنهج نحسن اخذ العبر من هذا الماضي المظلم ونتطلع بأمل وفرح الى مستقبل أفضل.

‌ز-     في مجال تحليل دفتر المساحة لبلدة بشعلي (الذي جرى في ظل المتصرفية) يغوص الصديق نايل في المعطيات والمصطلحات، وفي أنواع الإنتاج ونسبها، وفي الملكيات وتحولاتها، ويخرج بنتائج قلما يجاريه في وضوحها الا قلة من المؤرخين المتمرسين. 

وهو يؤكد "ان قراءة دفاتر المساحة، تقدم اضاءة لافتة على الشأنين الاقتصادي والاجتماعي في جبل لبنان، وبغياب هذه الدفاتر والوثائق من حجج بيع، ورهن وهبة، وشؤون سياسية، عبثاً نحاول كتابة تاريخ علمي منهجي مجرد"(1).

 في إطار التزامه بالمعرفة التاريخية العلمية واجه علمنا الرواية التاريخي السائدة ملتزماً بتنقية التاريخ اللبناني من حكايات لم تكن لها علاقة بالناس، بقدر ما كانت تعبيراً عن رموز سياسية سادت في زمنها فتأسس لها ماضي يتآلف مع مواقعها ويدفع سيرها باتجاه النص الذي يكرسها. وعلمنا لم يلغ الرواية التاريخية تماماً لأنها تشكل جزءاً من ذاكرتنا التاريخية، ولكنه جهد لإخضاعها للعمل البحثي العلمي الصارم، بحيث تعجز عن فرض ذاتها الطائفية والمذهبية والمناطقية والعائلية الى آخر مصطلحات الانا الاجتماعية.

ان الأبحاث التي اعتمدت على النص الروائي هي في معظمها صيغ تتبناها الجماعات الطائفية وتحتضنها، ولكنها في المفهوم المعاكس لن تكون اللبنة المطلوبة لبناء فرضية مقاربة وحدة التاريخ، التي هي احد أسس وحدة المجتمع.

          الشقراوي الثاني يلتزم بشرط منهجي صارم، هو تحرر الباحث من بيئته وثقافته وتراثه، بمعنى آخر عقلنة القراءة ووضعها في المستوى المنهجي السليم. وهو يعتبر ان لا وطن بدون تاريخ، ولذلك فلا وصول الى الغاية المتوخاة الا بإعادة معالجة المأزوم النصي وتأطير الرواية التاريخية ضمن الحقل المعرفي، وقراءة المؤثرات التي ساهمت في احداثيات الماضي غير المعزولة عما حولها، باعتبارها نتيجة لاسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية.

          والرواية التاريخية مهما بلغت الدقة في حبكها فهي لا تعبر بالمطلق عن خلفية الحدث. اذ ان هذا الحدث تحكمه مفاهيم الماضي، وتتلبسه عادات، وتقاليد، وامزجة وبيئة اجتماعية وظروف سياسية معينة، لا يعرفها الراوي الذي هو خارج الحدث(1)

          هكذا عمل الصديق نايل خارجاً عن مسلمات الروايات التاريخية، وقام بتقميش كم كبير من المصادر الأولية حيث استند على الأصول التاريخية، ومحاولة صياغة عمل بحثي متكامل لكل موضوع ساعياً الى انقاذ تاريخنا المحلي من الشوائب جاعلاً من هذا التاريخ صورة واضحة للحدث المؤرَّخ(2).

ثالثاً: الباحث الاستثنائي:

الصديق نايل ورشة دائمة لجمع الوثائق، وقد جمع منها الألوف وهو مستمر في نبش الكثير منها ونشرها والعمل على دراستها وتحليلها. هدفه إعادة كتابة التاريخ المناطقي والتاريخ العام انطلاقاً من الوثائق البكرية الجديدة.

وإذ يكرر نقد الروايات الشفهية يصر على الباحثين اللبنانيين ان يستندوا الى هذه الوثائق، من اجل تقويم الخلل في كتابة تاريخنا الوطني.

هذا الاهتمام بالوثائق لا يمنعه ان ينكب على التعمق في دراسة المصادر العربية والإسلامية وفي كتابة "تاريخ لبنان" في المرحلة الوسيطة يستند على اكثر من 117 مصدراً ومرجعاً يبدو واضحاً انه تبحر في قراءتها على نحو دقيق. وبرغم صعوبة وغموض المرحلة الوسيطة وصعوبة الخوض في مطاويها، يبرهن الشقراوي الثاني انه صاحب مدرسة تجديدية في هذا المجال، وعالِم بدقائق تلك المرحلة قلّ من يجاريه.

رابعاً: العامل المخلص لاستقلال لبنان وسيادته:

          مكرَّمنا مؤرخ لبناني بامتياز، واذا كانت الدولة اللبنانية قد انطلقت ابتداء من اول أيلول 1920، فان لبنان، في مفهومه الجغرافي، كان يشكل وحدة متكاملة ضمن حدود طبيعية لم تتغير منذ الفتح الإسلامي. وفي رأيه ان لبنان لم يكن مجتزاً جغرافياً من بلاد الشام فعمقه الجغرافي التاريخي كان المفهوم السائد عند المؤرخين العرب، وهو ايضاً المساحة التاريخية المنغرسة جذورها في الماضي.

          في مواقفه ومحاضراته والندوات التي شارك يدعو الى التحرر والاستقلالية في الرأي وعدم التبعية لهذه الزعامة او لتلك. ان انحيازه، اذا حصل، يكون للوطن وفقرائه فها هو يختم بحثه عن عامية لحفد بهذه الخلاصة: "عامية لحفد التي صنعها اعلام واحرار فقراء لا بد ان تحيي فينا الامل ليوم آتٍ يعود فيه الوطن الى سيادة غير منتقصة، وحرية غير مقيدة واستقلال غير مرتهن"(1)

خامساً: اتقان فن العطاء وفن الصداقة:

          مكرمنا دمث الاخلاق، متواضع، ورث من بيئته الإخلاص في فن الصداقة والعطاء غير المحدود.

ما قصده طالب دكتورا او باحث الا وقدّم له المساعدة دون منة او تأفف. في ابحاثي عن المرحلة العثمانية كنت استعين به لمعرفة بعض الأسماء لقرى اندثرت في مناطق لبنان الوسطى، فكان يخصص لي العدد الكثير من الساعات وساعدني في معرفة أسماء أهالي بعقلين في القرن السادس عشر من خلال دفاتر الطابو. وعندما عزمت طبع بعض الوثائق العثمانية المتعلقة بمرحلة 1841 – 1860، سلمته المخطوطة وانتظرت نصيحته، فعكف على قراءتها وتمنى لي طبعها فوراً. وهذا ما فعلته.

          يا صديقي نايل

          انت تعرف بحسك التاريخي المرهف، كما يعرف كل متعمق بتاريخنا الحديث والمعاصر ان المشرق العربي، ومن ضمنه لبنان، يتعرض في هذه المرحلة لإعادة تشكّل. وان أكثرية اهل السياسة القيمين على دفة الأمور عطلوا المؤسسات لكي يسوّغوا لواضعي الخرائط ان يعتبروا الدولة اللبنانية دولة فاشلة ويمرروا التسويات على حسابها.

          وانت تعرف بعمق ثقافتك، وانا اعرف بحكم اطلاعي على الوثائق العثمانية، الدور المؤسس للموحدين الدروز في فرض خصوصية هذا الوطن، كما نعرف معاً دور المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً في قيادة مجتمعنا المركب في انجاز النهضة العربية من خلال مدارسنا وجامعتنا ومطابعنا وصحافتنا ومثقفينا.

          ونعرف جيداً دور كل الطوائف في خدمة لبنان في أحيان، واخطائها في انتكاساته في أحيان أخرى.

          فهل يمكن ان نطلق معاً، من خلال دورة المطران غريغوار حدّاد، في المهرجان اللبناني للكتاب، نداء الى كل مواطنينا من النهر الكبير شمالاً الى الناقورة جنوباً، ومن المتوسط غرباً الى السلسلة الشرقية شرقاً/ نقول فيه:

لنحافظ على وجود الدولة اللبنانية وسيادتها ووحدتها واستقلالها،

ولنرسخ هذه الدولة على قيم حقوق الانسان وملحقاتها، ولنعزز دولة القانون والمؤسسات ولنطور مؤسساتها كافة باتجاه علمنة السياسة والمجتمع والتربية والثقافة، ولنحقق العدالة الاجتماعية الفعلية.

لنبتعد عن العودة الى دروات العنف التي تلهب سوريا والعراق، واليمن وليبيا ولنشدد على وحدتنا الوطنية ولنتمسك بمواثيقنا الوطنية فلا خلاص لنا الا بها.

ويا صديقي نايل،

سنستمر معاً في ورشة المدرسة الجديدة في كتابة تاريخ لبنان، نواجه الذاكرات المشوَّهة والمشوِّهة على امتداد أكثرية نخب طوائفنا، ونُحلّ مكانها الذاكرة العلمية الصحيحة التي وحدها تبني الوطني وتجنب شعبنا الكوارث.

 

 

 


(1) نايل أبو شقرا، التحولات الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع جبل لبنان 1550 – 1900، دار إشارات، 1999، ص 6.

(1) المرجع السابق، ص 250 – 251.

(1) لحفد في التاريخ، 2009، ص 189.

(2) المرجع السابق، ص 191.

(1) نايل أبو شقرا، تاريخ لبنان ازمة نص ومصطلح وهوية، بيروت، 2004، ص 305.

(1) نايل أبو شقرا، تاريخ لبنان ازمة نص ومصطلح وهوية، بيروت، 2004، ص 7 – 8.

(2) المرجع السابق، ص 10.

(1) لحفد في التاريخ، المرجع السابق، ص 191.

 

___________________________________________________

 

كلمة نايل ابو شقرا

بمناسبة تكريمه

في الحركة الثقافية انطلياس

يوم الاثنين  7 آذار 2016

أيها الاحباء

     طُبعت على العمل الصامت بعيداً عن منابر الشهرة ، كي لا يتحول التصفيق الموجع الى خناق يخطف تواضعي ، وتحاشيت الجلوس على المقاعد الامامية لان المقاعد احياناً ليست مرايانا ، لكن ما حيلتي اذا كان العبور الى نادي الاعلام يستوجب جواز مرور من أعلى وأرقى هيئة ثقافية في لبنان والعالم العربي ، عنيت الحركة الثقافية انطلياس التي توزع حجيجها على مدى مساحة هذا الوطن وتكاثر بُرها فأكلنا خبزاً حلالاً .

أيها الاخوات والاخوة

      على وقع فجور الحرب الأهلية كتب الدكتور عصام خليفه :" يكاد يكون اللبناني العادي وحتى المثقف بعدة أوجه وبعدة ألسنة فهو علماني تارة وهو مع الصيغة والتعايش طوراً وهو مع كانتونه الطائفي مستقلاً ومهيمناً مرات ، هناك مراوغة بين الطوائف المختلفة "( انتهى الاقتباس).  إن خطر الطائفية والمذهبية على لبنان لا يتوقف على الاجتماع الديني والفرز الاجتماعي بل أنه بسبب شراسة التنازع على الدولة ، توزعت منظمات المجتمع المدني على أسس طائفية وهي تعمل كشبكات لنشر المحسوبية بين افراد طوائفه وأحد مظاهرها نهب المال العام ونهب المواطنين عن طريق الرشوة ، لا بل أن المفكر احمد بيضون يرى أن الدولة ورثت من قديم مبدأ وجوب الإعالة على امير الجماعة ، وهنا نتساءل هل بتنا بحاجة الى ثقافة الاندماج في الوطن بعد أن صادر الخارج ولاءنا الوطني . نحن اليوم نقرأ في نُسخة مطورة للعصر الوسيط وامرائه ، وهذا يعني أننا لم نتغير منذ الف سنة واكثر إلا في وسائل العيش ، فهل يعقل ان نبقى تحت وطأة تراث لا يؤمن بتطور ولا يؤمن بدولة بمفهومها المدني والمؤسساتي ،  في حين ان الغرب اليوم يمارس انسانيته على الحيوان .

    أما المأزق الطائفي الذي نواكبه اليوم في معظم كتاباتنا ، تصريحا ً أو تلميحاً أو في إعلامنا المشحون ، هو نتاج شرخ تراثي كان ولم يزل يعتمل في الجماعات المنغلقة ، ومنذ الف وخمسمئة سنة ونحن نستعيد " التاريخ التكراري" كما يقول ليفي ستروس . عبثاً نحاول ركن الخطاب الوطني على تخوم باطنية ترفض الآخر ، ثم نتحدث عن المواطنة والعلمانية  ، وفي هذا الجانب من الكتابات ، نستحضر الموضوعية للتأكيد على أن النص لا يحمل خلفية كاتبه . إن دلالة الموضوعية تعني النزاهة في القصد والبعد عن الهوى ، واذا ما اخذنا بدلالاتها الابيستمولوجية او المعرفيه فهي تمثل الواقع تعبيرا عن الحقيقة ، وليس ثمة حقيقة علمية نهائية ، وليس هناك ايضاً من حياد ممكن امام ما يجري في عالمنا كما يرى جان بول سارتر ، وهذا ما يقوله ميشال فوكو بصيغة اخرى . عبثاً نقول ما نراه لان ما نراه لا يسكن أبداً في ما نقول ، وهذا يعني أن الصدق والنزاهة والتجرد وغيرها من مصطلحات كلها امور نسبية قد تتهاوى امام الحقيقة التي غالباً لا نعرفها . أما المنهج العلمي فهو المدخل الى معرفة الماضي ، فيه تنتظم قواعده وتتناسق وتتكامل ، وهذا التعريف يحاكي منهج هيغل الذي هو عنده حركة المضمون نفسِه وانه اي المنهج لا يمكن بحثه معزولا عن المضمون. إن البحث التاريخي المجرد هو الذي يوازن بين مقولات كل الاطراف التي شاركت في الحدث فالمنهجية نواتها الحرية التي هي بمفهوم رفاعة الطهطاوي ثمرة من ثمار العقلنة ، اذ ليس من العلم بمكان ان نأخذ بشهادة ونهملَ اخرى كي نرضي هذا أو ذاك فرداً كان أم جماعة حتى لو وصل بنا الامر الى جلد ذاتنا .

    بين الموضوعية والمنهج يستوقفنا كلام للشيخ عبد الله العلايلي مضمونه " ان التاريخ ليس علماً " الا في الاسلوب وطرائق البحث ، بقدر ما هو مثل التحقيق القضائي في دعوى غامضة مر عليها الزمن ودخلت في حيز الماضي فلا تكون نتائجه الا استنتاجيةً خالصة .

   نزعم اننا نكتب تاريخ الوطن ، ولكن التاريخ الوطني الصحيح هو ما بني على النقد الذاتي وهذا ما حققه علي عبد الرازق ومحمد اركون ونصر حامد ابو زيد وعلى طريق هؤلاء شيدت منهجيتي واعتمدتها في كل اعمالي البحثية ، إذ أن تناول   التراث نقدياً من داخل بيئته ، هو الطريق الأسلم والمنهج المعقلن لصياغة وطن الحداثة ، والا سنبقى نرسم على نعوشنا صورَ متعهدي مصائرنا ، كشاهد على موتنا في سبيلهم كي تبقى لهم الحياة .

المطلوب اليوم نهضة فكرية ، عبر مسار نقديّ هادف يؤسس لنزعة الانسنة ، الكفيلة باسترداد الدولة من طوائف الدولة ، ولكن هل يمكن تحقيق هذا التحول ؟ . يكشف التقرير العربي للتنمية الثقافية الذي صدر سنة 2008 أن لكل 11950 مواطن عربي كتاب واحد ، بينما لكل 491 مواطن انكليزي كتاب واحد ولكل 713 مواطن اسباني كتاب واحد . هذا الاحصاء يقدم الجواب العلمي على ما سيكون عليه مستقبل الوطن العربي ، اياً  كانت الانظمة ومهما تبدلت السياسات ، فالمجتمعات التي تقرأ كثيراً هي الاكثر نزوعاً الى الحرية والمحاسبة .

ختام الكلام اعتراف بالفضل

      اشكر الحضور الكريم ، اشكر اهالي قريتي عماطور الذين تحملوا مشقة الانتقال  ، اشكر الحركة الثقافية ـ انطلياس بشخص امينها العام الدكتور انطوان سيف وهيئتها الادارية على تقريرها هذه اللفتة الثمينة ، اشكر الدكتور عصام خليفه الذي كان له الفضل الكبير في انطلاقتي الثقافية ، اشكر الدكتورة هدى نعمه والدكتور منذر جابر والدكتورة ديما دوكلارك على ما قدموه من مليح الكلام . اشكر الدكتور رمزي ابو شقرا الذي نجح في أن يضيء على سيرتي ومسيرتي بصدقه المعهود .

    إن الجهود التي بذلت لم تكن لتستشرف اهدافها ، لولا مساعدة زوجتي نجوى التي تعهدت اعمالي من طباعة واخراج وارشفة ، وكان لنقاشاتنا الأثرُ الكبير في ضبط صياغات نصوصي  لك نجوى الشكرُ والتقدير .

ايها الحضور الكريم

 اشكر لكم  اصغاءكم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ