يوم المرأة العالمي

تكريم الدكتور لميا رستم شحادة

يقدّمها: الأستاذ سام منسَّى

إدارة: الدكتورة تراز الدويهي حاتم

 

تكريم الدكتور لميا رستم شحادة في المرأة العالمي

كلمة الدكتور سام منسّى

 

يتعذر الكلام عن لميا شحادة دون مقاربة رباعية:

 اولا انها ابنة اسد رستم ثانيا زوجة عصام شحادة ثالثا جذورها البروتستانتية والارثوذكسة اضافة الى كونها بنت الشوير وتربية بيئة راس بيروت، ورابعا خزان العلم، شهادات من أعرق الجامعات ومسيرة مهنية مشرّفة وسيل من النتاج الفكري والتزام وجودي بقضايا مجتمعها.

ابنة اسد رستممؤرخ الكرسي الإنطاكي، وتميّز بإنتاجه الغزير ومنهجيته الموضوعية وريادته في إرساء منهج البحث التاريخي. تنقل بين بيروت وباريس والولايات المتحدة لينهل من أعرق محافلها العلمية ويغوص في تاريخ الشرق القديم ليعود ويزخر العالم بفتوحاته المعرفية في التاريخ ويقدمّ مجموعة من الكتب بلغت نحو 20 كتابا، وما زال في جعبة لميا كنوز من فكره تنتظر أن تخرج إلى الملء لتغني أكثر المكتبة العربية في مجال التاريخ.

أكثر من تأثرت به هو أبيها. هي ليست أسد رستم، لكنها سارت على خطاه. مثل والدها تؤمن أن "المحبة لا تسقط ابدا"، تؤمن بالله وبعنايته الواسعة وبوحدة الكنيسة في بوتقة ثقافة إنسانية شاملة شرقية كانت أم غربية.

زوجة عصام شحادة من ألمع الأطباء. عصامي كاسمه، أول من أجرى عملية زرع كلى في لبنان في سبعينات القرن الماضي وله باع طويل في تقدّم الخدمات الطبية يوم كان لبنان وجهة للباحثين عن الجودة في الرعاية الطبية.

عصام شحادة من الصعب مجاراة اتقاد ذكائه وعشقه للبحث وللمعرفة وكبر طموحاته وإنجازاته ونجاحاته وعناده وصلابته في رأيه إلا إذا كنت لميا.

أغلى ما أعطته للحياه ولدها حليم الذي أهداها بدوره حفيدين وحياة ثرية بنجاحات إنسانية وأكاديمية ومهنية.

 وهي الأم التي استطاعت التوفيق بين صعوبة أن تكون حامل إرث أسد رستم وأن تسير على درب العلم والتعليم والنضال الاجتماعي وأن تكون زوج لعصام وأن تكون أما.

ولن نكشف مخفيا ان ذكرنا ان لاسد رستم وعصام شحادة ادوارا مؤثرة في تشجيع لميا على التحصيل العلمي الى اقصى حد.

 

لميا هي إبنة الشوير ولادة وابنة رأس بيروت تربية. جدها لأبيها كان من أوائل الانجيليين في قريته وجدتها لأبيها أرثوذكسية ممارسة.

هي ابنة رأس بيروت يوم كانت هذه المنطقة بفرادة نسيجها الاجتماعي المتعدد وضجيج النقاشات السياسية بكل اللهجات العربية في مقاهي شارع الحمراء والأنشطة الثقافية على خشبات مسارحه وجدران معارضه واحتضانها لعمودي الشعاع العلمي والإعلامي، جريدة النهار والجامعة الأميركية ، لا تختصر لبنان فحسب بل المشرق العربي برمته. هي من رعيل لا أبالغ إن قلت أنه بات نادرا في هذه الأيام السوداء التي نعيش، لجهة سعة تجربته الوجودية المتعددة وانفتاحه على الأخر وتمكسه بالحريات وإيمانه بلبنان بجناحيه الشرقي والغربي اللذين امتزجا ليفرزا مكونا فريدا في هذه البقعة من العالم.

 

لميا الأستاذة والأكاديمية والناشطة اختصاصية الحضارة الكنعانية بما فيها التاريخ واللغة والأدب. من الجامعة الأميركية في بيروت حيث نالت شهادة البكالوريوس انتقلت مع عصام إلى أروقة جامعة هارفرد حيث نالت منحة تعليمية لأدائها المتميّز كطالبة في برنامج الدكتوراهوكانت المرأة الوحيدة والأصغر سنا بين الطلبة. نالتشهادةالدكتوراه في التاريخ القديم للشرق الأدنى واللغات السامية من جامعة هارفرد وتسلحت في اكتساب العديد من اللغات إلى جانب العربية والانكليزية والفرنسية، كالألمانية والإغريقية واللاتينية. عادت بعدها إلى لبنان لتلتحق بالأسرة التعليمية في الجامعة الأميركية وبقيت 28 عاما وهي تشهد تخرج أجيال من الطلبة. شغلت في الجامعة مناصب عدة من مديرة برنامج تسلسل الحضارات إلى رئاسة العديد من اللجان في كلية الآداب والعلوم، إلى عضوية مجلس الشيوخ في الجامعة إلى مشاركتها في تحرير مجلةBerytus. وكللت مسيرتها التعليمية بحصولها عام 2004 على جائزة خدمة الكلية المتميزة (Distinguished Faculty Service Award) عن البحث والمنشورات والتعليم.

لم تسر لميا على خطى والدها باعتماد طرقه وأساليبه فحسب، بل أيضا من حيث غزارة انتاجها الفكري الذي توجته بجائزة الباحث الزائرمن جامعة هارفرد عن البحث حول موضوع المرأة في الخطاب الأصولي الإسلامي ، 2000.

 

Shehadeh, L. (2003). The idea of women in fundamentalist Islam.Gainesville: University Press of Florida

Shehadeh, L. (Ed.). (1999). Women and war in Lebanon.Gainesville: University Press of Florida

Shehadeh, L. (1998, November). The legal status of married women in Lebanon.International Journal of Middle East Studies, (30), 4, 501 - 519

شحادة، ل. (محررة). (1995). بلاد الشام في عهد محمد علي باشا 1831 - 1841 . مجموعة مقالات من كتابة أسعد ج. رستم عن سوريا وفلسطين ولبنان خلال فترة حكم محمد علي باشا. مشروح بالكامل مع مقدمة وفهرس. جونية: المطبعة البولسية.

شحادة، ل. (محررة). (1995). بكنيسة واحدة رسولية. مجموعة مقالات من كتابة أسعد ج. رستم عن كنيسة أنطاكية والمواد ذات الصلة. مشروح بالكامل مع مقدمة وفهرس. جونية: المطبعة البولسية.

شحادة، ل. (محررة). (1970). لبنان في عهد المتصرفية. بيروت: منشورات النهار.

منحة التعليم (Teaching fellowship) من جامعة هارفرد عن الأداء المتميّز كطالبة في برنامج الدكتوراه، من 1965 حتى 1969.

 

لميا الناشطة الاجتماعية شكّلت قضية المرأة انعطافة مهمّة في حياة لميا الأكاديمية. فبعدما كانت دراستها مركّزة على تاريخ الحضارات واللغات في الشرق الأدنى، عملت على إدخال "تاريخ الحركة النسوية" و"الجندرة والمجتمع" كمواد دراسيّة أساسيّة في قسم الآداب في الجامعة الأميركية، مساهَمة منها في رفع الوعي بحقوق المرأة عند جيل الشباب. أصدرت العديد من الكتب عن المرأة أهمها "المرأة في الحرب الأهلية اللبنانية" و "المرأة في الخطاب الإسلامي الأصولي".

إلى جانب ذلك، لعبت لميا، من خلال عضويّتها في اللجنة الأهلية لمتابعة قضايا المرأة في لبنان (1996 ـ 2010)، دوراً هامًّا في إصدار العديد من الدراسات والتوصيات أهمها صياغة الوثيقة اللبنانية الموازية لوثيقة «سيداو» للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة لاسيما في القوانين. أسست عام 2006 Center for women-in-crisisالتابع لجمعية الشابات المسيحيات، ولها صولات وجولات في تعزيز مشاركة المرأة في الشأن العام وفي مراكز القرار، في مجالس النقابات وفي الأحزاب، وصولاً إلى تشريع الكوتا النسائية، التي تُنصفها في التمثيل السياسي. ولها العشرات من المقالات حول وضع المرأة في العالمين العربي والإسلامي.

المحصلةان شخصيتها مثل مجال تخصصها، كما البحث التاريخي، تنشد الوصول إلى الحقيقة العارية المستندة إلى الأصول. صبورة، دؤوبة، صلبة في مبادئها تدافع عنها بشراسة العادل وإذا ما قررت شيئا تنفذه دون إبطاء أو تلكؤ.ومع كل هذا الثبات في الرأي والموقف والعمل، تسعى دوما إلى التجدد الداخلي وهي من قالت يوم فقدت أعز صديقاتها منى تقي الدين أميوني: "(...) علمنتني، أنا المؤرخة المعتادة فهم الحقائق المجردة، أن المؤلفات الأدبية هي ملك القارئ، فيرى فيها أشياء وأشياء بين السطور وخلفها لم يقلها المؤلف ولم تخطر له". أمنت بحقوق الإنسان وكرامته وناصرت المرأة في مسيرة أنسنتها. شخصيتها مثل مجال عملها أيضا، التعليم، الذي لا ينجح فيه إلا من كان معطاءا لا يبخل بعلم أو جهد أو وقت، ومن كان منفتحا على الأخر منكرا لذاته يعي مسؤولية المساهمة في صناعة أدمغة المستقبل.

أعرف لميا شحادة منذ عقود، أو هكذا ظننت...عندما منحتني شرف الحديث عنها، اعتقدت أن المهمة سهلة. ولكن كلما تعمقت بمعرفة جوانب حياتها المختلفة، كلما كبرت صورة لميا أمامي. لا اعتقد اني اعطيت ما طلب مني ما يستحقه انما اختم حديثي بخاطرة: العلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر. وشجرة لميا لم تكن مثمرة فقط بل متجذرة كالتاريخ الذي عشقت ومعطاءة كالمهنة التي اختارت وشامخة كالرجل الذي أحبت.

 

_________________________________________________________________________________________________

إلى الحركة الثقافية – انطلياس

شهادة سعاد سليم بتكريم الدكتورة لميا رستم شحادة

 

إنّ السيدة الدكتورة لميا رستم شحادة أستاذة بامتياز، تسنّى لي أنّ أعمل معها خلال تنظيم مؤتمرَين جامعيَّين عن المؤرّخ أسد رستم. إنّها تتميز بالروح العلمية والمنهجيّة الأكاديمية والدقة في مراجعة النصوص لنشرها. من العلوم التاريخية واللغات الآرامية القديمة إلى فرع الحضارات والثقافات في الجامعة الإميركية، تميَّزتْ السيدة لميا في مجالها المهني بسعة المعرفة وشمولية الاطّلاع وحبّها المتوثِّب للثقافة. لقد تعرضت خلال حياتها المهنيّة للتفرقة ممَّا جعلها تــندفع في مجال الدراسات النسوية لإبراز دور المرأة وقدرتها على تبوُّؤ أهم المراكز مثل الرجال.

وهي إلى جانب نشاطاتها المتعدّدة ومهنتها في مجال التعليم كانت هي حارسة الهيكل، هي حافظة تراث والدها المؤرخ اللبناني أسد رستم، الذي على الرغم من انشغاله وعمله على حفظ الوثائق العربية في كل من مصر وسوريا وفلسطين، حَدَّدَ خيارَه في الهوية اللُّبنانية في وقتٍ كثرتْ فيه النظريات حول الانتماءات والهويات القومية والثقافية. هو المؤرخ اللبناني الذي عالج تاريخ البلاد دون أن يمزجه بتاريخ الكنيسة التي أرّخ ألفيّ سنة من تاريخها مكتسباً لقب مؤرّخ الكرسي الأنطاكي.

وكذلك لميا التزمت تراثاً دينيّاً وثقافيّاً دون أن يتعارض ذلك مع انتمائها الثقافي والتزامها شؤون المرأة. لقد ثابرت على البحث إلى أن اكتشفت العديد من أعمال المؤرِّخ التي لا تزال مخطوطة. مثل: كتاب عن الاسكندر، وكتاب تاريخ الكنيسة لافسابيوس، الذي ترجمه إلى العربيّة، وكتاب قاموس التعابير المسيحية، وكتاب تاريخ آباء الكنيسة، وغيرها. وهي تثابر على مراجعتها وتصحيحها بغية نشرها. إنّ لميا شحادة المتخرجة في جامعة هارفارد في الولايات المتّحدة نقلت لنا بضميرها المهني وبدقة عملها ومثابرتها على الأبحاث، نقلت لنا هارفارد إلى لبنان.

 

_____________________________________

 

كلمة الدكتورة تراز الدويهي حاتم في تكريم

الدكتورة لميا رستم شحادة

بمناسبة "يوم المرأة العالمي"

2016/3/8

          تسعة وثلاثون سنة مرّت على اعلان منظمة الأمم المتحدة الثامن من آذار "يوم المرأة العالمي". كان ذلك عام 1977، بعد نضال مزمن تعود جذوره الى أوائل القرن العشرين، نضال الطبقات العاملة في قارتي اميركا وأوروبا لتحسين شروط عمل المرأة ومنحها حق الاقتراع.

          واليوم، في بدايات الالفية الثالثة، تبقى الحاجة ماسة للمطالبة ايضاً وايضاً بإقرار العديد من الإصلاحات التشريعية لإعطاء المزيد من حقوق المرأة التي ما زالت تعاني التهميش والاجحاف في ميادين شتى بالرغم من التحسّن النسبي الذي طرأ على وضعها في بعض المجتمعات دون الأخرى. لذا، تدعو الهيئات والجمعيات النسائية في الثامن من آذار من كل عام، للتذكير والمطالبة بضرورة احقاق المساواة بين الجنسين من خلال كتابة الأبحاث والمقالات، إقامة ندوات للتوعية، استعمال وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وتنظيم تظاهرات تجوب الشوارع والمدن الكبرى، بعد ان تُجْري جردة حساب تُقوّم فيها المكتسبات المطلبية النسائية وتعقد العزم للمطالبة بالمزيد في برامج تحركات مرتقبة.

لـــ 2016، اختارت منظمة الأمم المتحدة شعار: "الكوكب 50 – 50 حتى عام 2030: لنحقق المساواة بين الجنسين" “Planète 50 – 50 d’ici 2030: Franchissons le pas pour l’égalité des sexes”.

          وشدّد الأمين العام للأمم المتحدة السيد بان كي مون Ban Ki-moonفي رسالته لهذه المناسبة على ضرورة تأمين الاعتمادات الكافية، توعية الرأي العام، التحلي بإرادة لا تقهر وصولاً للمساواة بين الجنسين. وهذا برأيه، هو الاستثمار الأهم لمستقبل مشرق للبشرية.

          وانطلاقاً من التزامها بقضايا الانسان والوطن، توجه الحركة الثقافية – انطلياس هذه العشية تحية الى المرأة اللبنانية والعربية والى كل نساء العالم من خلال إقامة هذه الندوة التكريمية للدكتورة لميا رستم شحادة. تكرمها الحركة كرمزٍ للمرأة الرائدة، المميزة، المتفوقة في مسيرتها الجامعية والأكاديمية ولدورها في التوعية والدفاع عن حقوق المرأة.

طالبة في الجامعة الأميركية في بيروت وفي جامعة هارفرد الأميركية، ما استحقت لميا شحادة سوى مِنَح التميُّز للتعلّم والأبحاث والتعليم منها منحة دراسية، نادراً ما تُمنح للطلاب، من كلية الآداب والعلوم في جامعة هارفرد. مجال تخصصها وابحاثها عودة الى الجذور الضاربة في عمق الزمن: فتاريخ وديانة وأدب الكنعانيين كما دراسة النقوش السامية ومقارنة لغاتها، كلّ ذلك اثار اهتمامها. أستاذة في الجامعة الأميركية في بيروت، حاضرت في الثقافة والحضارة في العهد القديم وعبر العصور، في عالم النقوش وفقه اللغات السامية. وأضافت على مناهج التعليم الجامعي مقررات عن النظريات النسوية Théories féministes، عن "الجندر"، عن النقد الفني وعن الحب بين البشري والالهي.

حققت ونشرت إرث والدها المؤرخ أسد رستم ابن ضهور الشوير التي خرّجت العلماء. هو كبير المؤرخين اللبنانيين درّس أجيالاً من الباحثين في الجامعتين الأميركية واللبنانية وصاحب المنهجية العلمية. هو اللبناني الوطني في كتابة التاريخ ومؤرخ الكرسي الانطاكي. نذكر من الكتب التي نشرتها له "اسد رستم مؤرخ الكرسي الانطاكي – مسيرة عمر". وهو العمل الأول الذي دشّنت به بطريركية انطاكية للروم الأرثوذكس منشوراتها.

          اما دورها في التوعية والمطالبة بحقوق المرأة فكان اوله ما نشرت من مقالات وابحاث حول "المرأة في الخطاب الاصولي الإسلامي" "وحقوق المرأة في الزواج والطلاق في الإسلام"، كما تطرقت ايضاً لكتابات افلاطون وتناقضاته حول المرأة، وبالنسبة للمرأة اللبنانية نشرت ايضاً مقالات وابحاث عن "المرأة العاملة في التشريع اللبناني"، "المرأة في الحقل العام" "المرأة في الميليشيات"، "استعباد المرأة في التشريع اللبناني" وصولاً الى "تأثير الصراعات المسلحة على المرأة" "والتغيرات في الدور الاجتماعي للرجل والمرأة".

          وفي سبيل دفاعها عن هذه الأفكار انضمت الدكتورة لميا رستم شحادة الى منظمات محلية، إقليمية ودولية وحضرت مع زميلات لها "للمؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بيجينغ" عام 1995  Beijingوهي عضو مؤسس ونائبة رئيسة اللجنة الاهلية لمتابعة قضايا المرأة بعد هذا المؤتمر. وفي سنة 2006 أسست مركزاً للمرأة المعنفّة. وهي اليوم وحتى 2018 رئيسة نادي خريجي جامعة هارفرد في لبنان.

          سيدتي واجب علينا تكريمك ايضاً كعلم من اعلام الثقافة في لبنان لغنى مسيرتك الفكرية، والثقافية والأكاديمية والاجتماعية. لكِ من الحركة الثقافية كل التقدير والاعجاب. آدامك الله زخراً لوطننا المعذّب وللمرأة اللبنانية. فبجهودك وجهود النساء الرائدات في مجتمعنا يمكن ان يكون المكوّن النسائي في لبنان مثالاً للدول العربية في المنطقة. كي لا يبقى تحرّر المرأة حلماً مستحيلاً، فيأخذ هذا اليوم العالمي المنحى بُعداً مُشرقاً يُفتّح المزيد من المواهب والمزايا النسائية خدمة لتطور المجتمعات.

          وللخوض أكثر في تفاصيل تجربة الدكتورة لميا رستم شحادة والاحاطة بها لإيفائها بعضاً من حقها، الكلام للمحامي سام منسّى، أستاذ محاضر في جامعتي القديس يوسف والبلمند. باحث وخبير في علم الإحصاء خاصة السياسي والاجتماعي منه. له تجربة غنية في الاعلام المرئي والمكتوب والمسموع وفي تجميع ودراسة داتا المعلومات. مؤسس ومدير شركة خاصة للمعلومات والاحصاء في العالم العربي. منتج ومقدم برامج أسبوعية سياسية وهو اليوم مدير عام إذاعة صوت لبنان.

أستاذ سام، لك الكلام، تفضّل.

_____________________________________________________

 

معالم في الطريق

د. لميا رستم شحادة

 

        عندما أبلغني الدكتور أنطوان سيف بالشرف الذي منحتني إياه الحركة الثقافية لتكريمي في هذه المناسبة التي تهمّ كلّ امرأة في العالم، طلب مني أن أتكلّم أنا أيضاً في هذه المناسبة. حرت في أمري لأنه من الصعب جداً انتقاء موضوع يتناسب مع هذا التكريم. ولكن بعد التفكير والتمحيص، قرّرت التكلم عن المعالم في طريقي التي أوصلتني إلى ما أنا عليه الآن،فأبقى ضمن حدود موضوع هذا التكريم الذي لا أستحقّه؛ إذ ما عملتُ إلاّ ما على كلّ إنسان أن يعمله خلال رحلته الدنيوية، وقد قيل "ومهما عَمِلْتُم فقولوا إننا عبيدٌ بطّالون، ما عَمِلنا إلاّ ما يتوجّب علينا". وإنّي أكيدة من أن الكثيرات من بنات جنسي قد حَلَّقْنَ وأَنتَجْنَ وخَدَمْنَ وضَحَّيْنَ أكثرَ مني.

        أمّا هذا اليوم العالمي للمرأة فقد ظهر من خلال نشاطات الحركات العُمَّالية أوائل القرن العشرين أي السنة 1910/1911 في أميركا الشمالية وأوروبا. وقد جاء هذا اليوم للإضاءة على إنجازات النساء والتعرُّف على التحدِّيات التي واجَهَتْهُنَّ والنَّظَرْ بدقّة على حقوق المرأة والمساواة في الأدوار الإجتماعية التي يلعبها الرجل والمرأة في مُجتمعهما.

        أُعتُمِدَ أول تاريخ لهذا اليوم، 19 آذار، لأنه اليوم لذكرى وعد ملك بروسيا إعطاء النساء حقَّ التصويت في السنة 1848. ولكنه لم يَفِ بوعده. أمّا الثامن من آذار فقد اعتمدته الأمم المتحدة في السنة 1977 وطلبت من جميع البلدان إعتمادَه لمساعدتها وقف التمييز ضدّ المرأة.

        ويبدو لي وكأن الرجال في هذه القاعة يتساءَلون ويَهمسون "لماذا ليس هناك من يوم عالمي للرجل وهو الذي عُرِفَ بالتاريخ بنضاله وإنجازاته التي كانت الأساس لكلّ هذا الإزدهار في عالمِنا اليوم. وها إني أُسرِع لطمئنتهم بأن الأمم المتحدة أقرّت التاسع عشر من شهر تشرين الثاني يوماً عالمياً للإحتفاء به أيضاً. ومن الأسباب للإحتفال بهذا اليوم الدراسة في إنكلترا التي أثبتت أن القاتل الأكبر للرجال دون الخمسة والأربعين من العمر هو الإنتحار فيموت كلّ يوم في المملكة المتحدة ثلاثة عشر رجلاً منه. كما أن هناك رجالاً ضحايا العنف المنزلي والإساءة الجنسية. والرجال بالإجمال يعيشون أربعةَ سنين أقلّ من النساء.

        والآن لنعود إلى البدء: فإن أوَّل مَعْلَمٍ في حياتي هو عندما أَبصرتُ النور في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت لوالدَيّ – وداد وأسد – يَصعُبُ الحصول على مثلهما وكانا قد هَيَّئا لي بيئةً حاضنة ومُحبة مُكَوَّنة منهما ومن أُختَيّ عفاف ونورا وأخي صلاح. وتعلَّمتُ من والِديَّ أَهميّة العائلة وواجب الإحترام لأعضائها ومَحبَّتهم والتضحية في سبيلهم. وقد سكَنَتْ أُم أسد معنا لمدّة عشرين سنة. وكان والدي يطلب من والدتي أن تلعب "الباصرة" معها وتدعها تربح ولكن دون أن تشعر والدته بذلك. ولمّا كانت أم أسد على فراش الموت لازمتها والدتي طوال ذاك الوقت لأن غرفتها كانت كباقي غرف النوم في الطابق الثاني من الفيلا. وكانت أم أسد بكامل وَعْيها وهي في التسعين من العمر؛ وكُلَّما فتحتْ عينيها ترى وداد بقربها فقالت لها: "ماذا تريديني أن أدعو لكِ؟ إن دَعَوْتُ لزوجك فهو إبني وأكون أدعو لنفسي؛ وإن دَعَوْتُ لابنكِ، فهو حفيدي وأكون أدعو لنفسي، لذلك سأدعو لوالدِكِ "ألله يخلِّليِك بيِّك". وعندما عُدنا من الولايات المتحدة قدّمني يوماً الدكتور سمير حاج لأحد أصدقائه "أُمُّها مريم العذرا وأبوها أسد رستم".

        وتعَلَّمتُ واجب التضحية في سبيل الأولاد من والدتي أيضاً فقد كانت فاكهةُ الفريز في تلك الأيام باهظة الثمن ومَوسِمَها قصيرٌ جداً. وكان يأتي بائع الفريز إلى المنزل فتبتاع منه والدتي حاجَتنا وفي نهاية الغداء كانت تجلب الفريز إلى الطاولة وتُوزِّعُهُ علينا جميعاً بالتساوي ولم يكن يبقَ لها إلاّ حبّة أو حبَّتين. وكنتُ أنا أعشق الفريز في تلك الأيام؛ ولكن ما كان يُكَدِّرُ عليّ التمتّع بتلك الفاكهة، كان التفكير بأنني عند زواجي وإنجاب الأولاد سوف أضطر أن أعطيهم كلّ الفريز ما عدا حبّة أو حبّتين لي فقط. أمّا الحادثة الثانية التي علّمتني المحبة القصوى والتضحية فقد حصلت وأنا في التاسعة من عُمري وقد مرضت بداء الخانوق ولم تكن المستشفيات في حينها تأخذ الحالات المُعدية إلاّ مستشفى الكرنتينا الحكومي. فرفض والدي إرسالي إلى هناك وتعهَّد للطبيب بأن يجعل من غرفتي حجراً صحّياً. وجلب الطبيب دواءً جديداً يجب أن يُعطى في ثلاث حِقَن الواحدة أكبر من الأخرى في ثلاث خطوات. ولكن قد يكون له في الليل ضرراً يجلب الموت في طيّاته، فأحضر معه الطبيب ممرضة كي تسهر عليَّ كُلَّ الليل. ولكن ما إن ذهب الطبيب وصار وقت النوم حتى جاءت والدتي ونامت بقربي في السرير وهي حاضنة لي كي تشعر بأي حركة منّي أو توقّف تنفّسي. فكان هذا أهمّ درس لي بالتضحية والمحبة التي لا حدود لها.

        وتعلّمتُ من والدي أشياء وأشياء كأهمية الصدق والنزاهة والسعي وراء الحقيقة وحب العمل والوطن ومساواة المرأة بالرجل بالحقوق والواجبات. فجاء حبّه للبنان عُشقاً يُضَحِّى لأجله بكلّ شيء. أما عشقه الثاني فكان الكنيسة.

        أما المعلم الثاني في حياتي كان التعرّف في مدرسة الإنكليز على السيدة سميرة حداد معلمتي في مادة التاريخ فعشقتُ هذا الموضوع وتخصّصت بتاريخ الشرق القديم في الجامعة الأميركية في بيروت ومن ثمّ في جامعة هارفرد في الولايات المتحدة.

        أما المعلم الثالث في حياتي فهو دخولي الجامعة الأميركية وتَعَرُّفي بعصام شحادة تلميذِ الطُب في سنته الأولى، والأول في كلية الآداب والعلوم. لماذا هو معلّمٌ في حياتي؟ لثلاثة أسباب: السبب الأول هو تَعَرُّفي للحُب الذي في نظري هو الذي يُعطي معنًى للحياة ويليه في ذلك العمل والإنتاج. السبب الثاني هو تعليمي طريقة الدرس للإمتحانات فكان عصام يُلَخِّص مادة الإمتحان ويدرسها ويُراجعَها ثلاث مرّات قبل الإمتحان وآخر يوم قبل الإمتحان كان يذهب إلى السينما بينما زملاؤه الطلاب كانوا يدرسون للامتحان. ولكني لم أفعل كلّ هذا!! والسبب الثالث هو ذهابه إلى جامعة هارفرد للتخصُّص في المناعة وغسيل وزرع الكلى. فاقتديت به وطلبت الإلتحاق في هارفرد وقُبِلتُ في دائرة لغات الشرق الأدنى وأدبه مع منحة كاملة من كلية الآداب والعلوم في هارفرد.

        المعلّم الرابع هو الدرس في جامعة هارفرد والتَعلُّم من قِبَل مشاهير العلماء والقُدرة على البحثِ معهم في شتّى المواضيع. تعلَّمتُ منهم إحترام الطلاب والطالبات والإصغاء إلى آرائهم أو آرائهنَّ. وأُعجِبتُ بزملائي الطلاب عن كشفهم بكلّ إعتزاز عن كمّية الدرس التي يقومون بها والكتب التي يقرأونها من خارج المنهاج. فالطلاب والطالبات في الجامعة الأميركية كانوا ينكرون الدرس حتى لو كانت نتيجة امتحانهم تسعين.

        إنه من الصعب جداً وصفُ الجوّ في هارفرد إذ يَشعُرُ الفرد دائماً أنه مُحاطٌ بالعِلْمِ والثقافة والرُّقي في البحث عن الحقيقة إن كان هذا الفرد في الصف أو في الطريق أو في إحدى مكتبات هارفرد الواحدة والتسعين أو في إحدى المقاهي المحيطة بالجامعة يرتشفُ القهوة. فتعلَّمتُ أن أكون دائماً مُستعدّةَ للخوض في أي حديث علمي أو ثقافي. وتَعَلَّمتُ احترامَ الآخر وآرائه. ففي السنة 1968 عندما أضربت الجامعات في الولايات المتحدة ضدّ الحرب في فييتنام وجاء دور هارفرد، وقفت طالبة بين الجموع الهارفردية الداعية للإضراب وخاطبتهم قائلةً إنها هي أيضاً لها حقوق في هذه الجامعة وهي لا تريد الإضراب بل الدرس. فتراجع الطلاب عن طلبهم وتابعت هارفرد التعليم.

        أمّا المعلم الخامس في حياتي فهو إنجابي حليم الذي زاد النور في حياتي ووسَّعَ قلبي بحُبِّي له، ذاك القلب الذي ظننتَه مليئاً بحُبِّي لعصام وليس من مُتَّسَع لغيره. ولكن ما إن رأيتُه، أي حليم، حتى حفر مكاناً له وتربَّع به ولا يزال هذا المقرّ يَتَّسِعُ ليس لأنه إبني فقط ولكن لإعجابي بخُلُقِه وعِلْمِه وتواضعه ومحبته اللامتناهية وقيامه بواجباته تجاه والدَيه وزوجته وولديه وعمله الذي أسَّسه لوحده ودون أي مساعدة.

        المعلم السادس كان انضمامي إلى قسم الحضارات في الجامعة الأميركية في بيروت وابتعادي عن اختصاصي باللغات السامية القديمة وتاريخ كنعان (فينيقية) والشرق القديم لأن رئيس دائرة التاريخ حينئذٍ قال لي إنه ليس هناك من مكان لإمرأة في دائرة التاريخ. ولكني لم أندم يوماً على دخولي قسم الحضارات إذ اغتنيتُ روحياً وثقافياً وبدأت الإهتمام بوضع الإنسان والوجودية. ولمدّةٍ طويلة اتُخِذتُ بموضوع الموت وما بعد الموت، ولم يهدأ بالي حتى قرأتُ رأيَ الفيلسوف سُقراط بالموت عندما حُكم عليه بالإعدام فقال لطلابه الذين أرادوا الفرار به من السجن: "أولاً يجب احترام القانون. فالقانون يعلو ولا يُعلى عليه وإذا كان مُجحِفاً بحق المواطنين فما عليهم إلاّ أن يَشرِّعوا قانوناً عادلاً. أما كَسْر القانون فهو ممنوع. ثانياً، وبحسب سقراط، لا يجوز الخوف من الموت لسببين: إما هناك حياة بعد الموت وعندئذٍ نلتقي بالأحبّاء والعلماء، أو ليس هناك من شيء، فيكون الموت كالنوم العميق لا يشعر الإنسان شيئاً خلاله.

        أمّا المعلم السابع فكان قراءتي لأندريه مالرو ووصفه لدور المرأة ومُدافعته عنها في كتابه La condition humaine. ثم قرأت لطيب صالح "موسم الهجرة للشمال"  فانصدمت بوضع المرأة الإنكليزية والسودانية. وبدأت أفكِّرُ في قضية المرأة وحقوقها. فأدخلتُ مادةً جديدة في قسم الحضارات والجامعة وهو "مُقدِّمة للنظرية النسويّة". نَجَحَتْ هذه المادة نجاحاً باهراً فأدخلتُ غيرها في منهج الدراسة وبدأتُ النشر في هذا الموضوع في المجلاّت العلمية في الغرب. كما نشرت كتابين في جامعة فلوريدا في الولايات المتحدة: الأول في "المرأة والحرب اللبنانية"، والثاني "المرأة في الخطاب الأصولي الإسلامي".

        وشاءت الصدف أنه خلال بحثي لكتابي الأول، طلبت مُقابلة الدكتورة أمان كباره شعراني، رئيسة المجلس النسائي حينئذٍ وسألتها رأيها في وضع المرأة في لبنان. وبعد سنتين دعتني الدكتورة لأُشارك في لجنة ترأستها هي للتحضير لمؤتمر المرأة الرابع العالمي في بيجينغ. فدخلتُ حينها حقلَ النضال لحقوق المرأة على الأرض وأسَّسنا برئاسة الدكتورة أمان اللجنة الأهلية لمتابعة قضايا المرأة بعد بيجينغ. كما تابعتُ البحث في هذا الموضوع والنشر في لبنان والغرب.

        واسمحوا لي هنا أن أقول شيئاً ولو مقتضباً عن وضع المرأة في تاريخ الأنسنة وماذا حلّ بها حتى استأهلتْ أن يكون لها يوم في السنة وكلّ سنة تفتخر به وتدعوه يومها هي، من دون أي منازع، وتفرح بأن بعد آلاف السنين من العمل الصامت والتضحية في سبيل العائلة والوطن والاستبداد بها دون غيرها، إنتَبَه أخيراً النصفُ الثاني من هذه الخليقة أن المرأة أيضاً إنسان وبمجرّد أنها إنسان عليه أن يحترمَها ويحترمَ حقوقَها التي جلبتها معها يومَ أَبصرَتْ النور فيقرُّ بكرامتها وحريتها واستقلاليتها.

        سُئِلت عدّة مرّات من زملائي وأصدقائي "لماذا الآن؟": لماذا لم تطالب المرأة بحقوقها قبل مئات أو آلاف السنين؟. ولكن هذا السؤال بحدّ ذاته إعترافٌ بأن المرأة كانت ولا تزال مسلوبة الحقوق. أما السؤال "لماذا لم تُفكِّر المرأة بحقوقها إلاّ الآن"؟ فغير صحيح إذ بإمكاننا الرجوع في التاريخ إلى القرن الخامس قبل المسيح في اليونان عندما قرّرت النساء خلال الحرب الشهيرة بين أثينة وإسبارطة أن يُضرِبْنَ عن المجامعة مع أزواجهن حتى يحجمون عن الحرب. وفي القرن الثالث قبل المسيح أصدرت رومة قانوناً خلال حربها مع قرطاجة منعت فيه النساء من إرث أزواجهن والتبرّج واللباس الذهبي والأرجواني وأخذت هي حينها، أي الدولة، هذه الأموال لتمويل الجيش والحرب. لم تعترض النساء على هذا القانون حُباً بوطنهن. ولكن شاءت الظروف بأن تفوز رومة في الحرب ويرجع الإزدهار إليها. ولكن هذا القانون بقي ساري المفعول لعدّة سنين بعد  الحرب. فقرّرت النساء عند رفض الشيوخ الإصغاء إليهن وإبطال هذا القانون، إقتحامَ مجلسِ الشيوخ والتهديدَ بالبقاء هناك والإشتراك بمقرّرات المجلس. فما كان من شيوخ رومة إلاّ الإنصياع وإبطال القانون المُجحِف بحَقِّهنّ.

        وفي القرن الثامن عشر تأثّرت بعض النساء وخصوصاً ماري والستونكرافت الإنكليرية بتعاليم جان جاك روسّو، عِرَّاب الثورة الفرنسية حين قال "إن الإنسان وُلِدَ حُرًّا ولكنه مقيّدٌ بالسلاسل أينما وُجِد"، ظنّاً منها أن روسُّو يتكلّم عنها أيضاً لأن المرأة إنسان أيضاً ولذلك يحقُّ لها التحرُّر من السلاسل التي تُقيِّدها. ولكن ما لبثت أن قرأت كتابه "إميل". حيث يصف تربية إميل المثالية وينتقل إلى تربية صوفي حيث ينصح الأهل بوضع الطوق على رقبتها دقيقة ولادتها، لا تلتفت يميناً أو يساراً، كالثور في الفلاحة، بسبب نزعتها للحرية والتحليق. فها هو أيضاً يُقِرّ بإمكانية المرأة التحليق إذا تُرِكَت على طبيعتها. فضاق صدر ماري وكتبت كتابها الشهير عن حقوق المرأة Vindication of the Rights of Women.

        سوف أعبر من هنا إلى ثورة النساء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين طالبنَ بحقهنَّ بالتعليم العالي والتصويت. وفي السنة 1920 أعطت السلطات الأميركية النساء هذه الحقوق. وفي السنة 1923 قدَّمت السيدة لوكريتيا موت مشروع قانون يُعطي المرأة حق المساواة في كل المجالات الإجتماعية والإقتصادية وغيرها ولكنه بقي في أدراج الكونغرس (كما هي الحال عندنا اليوم) حتى السنة 1973 عندما قامت النساء بثورتهن الثانية التي ما زلنا ننعم بنتائجها إلى يومنا هذا ومن أهمها المؤتمرات الدولية التي رعتها الأمم المتحدة بين السنتين 1975 في مكسيكو و 1995 في بيجينغ. وأخذت الأمم المتحدة على عاتقها أن تطلب من جميع حكومات العالم التقيّد بهذه النتائج.

        وفي السنة1990 على ما أظنّ، بدأتُ البحث في تأثير الحرب اللبنانية على موقع ودور المرأة اللبنانية فذهبتُ إلى نقابة المحامين أسأل المحامين منهم والمحاميات على التمييز الموجود في القانون اللبناني فبدت الحيرة على وجوههم ووجوههن عند هذا السؤال وأجاب جميع الذين قابلتهم أنه لا يوجد تمييز ولا مشكلة في القانون اللبناني. واللافت هنا أن أهمّ تمييز في القانون والواضح وضوح الشمس هو لغة القانون – أي إستعمال المُذكَّر في جميع المواد والقوانين. وكأن لبنان مكوَّن من جنسٍ واحد فقط أو أن القانون وُجِد لحماية الرجل فقط. ولا تقولون لي الآن إن هذه قوانين اللغة العربية إذ عندما احتجّت النساء للنبي محمد بأنه يخاطب الرجال فقط أقرّ بحقّهن وأصبحت الآيات القرآنية تخاطب الرجل والمرأة مثل "المؤمنون والمؤمنات" الصالحون والصالحات" الخ... فبدأتُ أنا دراسة القوانين بمساعدة كتاب الأستاذة لور مغيزل " المرأة في التشريع اللبناني". وما لفت نظري أيضاً أن القوانين المُجحفة في حق النساء تتناول النساء المتزوجات فقط. فجاء القانون وكأنه وُجدَ لمساعدة الرجل على كَبْت زوجته.

        وفي السنة 1994 استطاعت اللجنة التي كانت تُعِدُّ التقرير عن حالة النساء في لبنان للمشاركة في مؤتمر بيجينغ برئاسة الدكتورة أمان كباره شعراني، وبعض الجمعيات الأخرى، إلغاء بعض هذه القوانين – منها القانون الذي يمنع المرأة المتزوجة من مزاولة التجارة بدون إذن زوجها.

        وازدادت اللجان بعد مؤتمر بيجينغ لتحرير المرأة وتنزيه القانون اللبناني من التمييز وتقدّمنا، أي النساء، في هذا المضمار، ولكن لا يزال هناك عدّة قوانين مُجحِفة بحقوق المرأة والتمييز ضدّها. منها: الضمان، الزنى، البغاء، الجنسية وغيرها.

        أمّا المعلم الثامن في حياتي فكان حلول ضيفٍ علينا بدون إذنٍ أو إستشارة: إسمه "سرطان الثدي". فأُجريت لي جراحة خضعت من بعدها إلى المعالجة الكيميائية لمدّة سنة كاملة والمعالجة بالأشعّة لمدّة ثلاثين يوماً. لماذا أسميت هذا الحادث بالمعلم؟ لعدّة أسباب: السبب الأول هو خضوعي الكامل لهذا الوضع وقبوله والتسليم لمشيئته. فقد فهمت لأوّل مرّة ماذا عناه القدّيس أوغسطينوس في كتابه "مدينة الله" بأن الفرق الوحيد بين المؤمن وغير المؤمن هو كيفية التفاعل مع المصاعب، فالمؤمن يُعطيه الله النعمة لتقبُّل المرض بينما الغير مؤمن يثور ولا يقبل ما حلّ به فيتألّم أكثر. السبب الثاني هو عدم الخوف من الموت حتى مع تعليل سُقراط. فهو آتٍ لا محالة لكننا لا نعلم متى. وقد وصف أوغسطينوس وضع الإنسان بأنه منذ ولادته أي الانسان هو في سبقٍ للموت فكلُّ يوم يعيشه هو يوم أقرب للموت. وفهمت أيضاً ما كان يعنيه والدي عند قوله في آخر سنة من حياته: "إن حقائبي مضبوبة وجاهزة للسفر عندما يطلبني الرب. فلا اعتراض على مشيئته". ثالثاً، أنعم الله عليّ بمحبة عصام وحليم لي باعتناء الأول اللامتناهي وفهمه تماماً ما كنتُ أُعانيه من المعالجة. واعتناء الثاني بمجيئه من دُبي مرةً كلّ ثلاثة أسابيع ليحضر جلسةَ المعالجة دون أن يسألني أو يسألَ والده عن تاريخ الجلسة لأنه كان يعرف هذا بنفسه ولم يكن بحاجة للإستفسار، فيأتي الخميس مساء ويصرف نهار الجمعة كله معي في المستشفى قافلاً هاتفه الخليوي حتى يكون اهتمامه الكامل بي دون أي منازع، ثم يرجع مساء إلى دُبي وعائلته. أما زوجته الحبيبة دانا فكانت تُكلمني يومياً من دبي وتُعلمني بما قرأت عن هذا الموضوع أو المحاضرة التي سَمِعَتْها أو الصديقة التي شرحت لها تأثير العلاج فتشاركني بالمعلومة بكل محبة وحنان علّني أشعر بتحسّن.

وأخيراً، عند قراءتي الثانية لهذه الكلمة لاحظتُ أن التركيزَ كان على المحبة وحقوق الإنسان فأردتُ أن أُشْرِكَكُم بما قالته لي إحدى الطالبات وقد أخذت معي المادة عن النظريات النسوية والمادة عن الحب. فقالت لي يوماً "أريدُ أن أُصارِحَكِ: عندما أخذت مادة النسوية قلتُ لنفسي "الله يساعد زوجها" والآن في المادة عن الحب ومعناه أقول "نيال زوجها". فشرحتُ لها أن الإثنين لا يتعارضان أبداً فالحبيب يعطي حبيبه حقوقه أي الحرية والإستقلالية والكرامة والإحترام تلقائياً والثاني ليس بحاجة عندها للمطالبة بحقوقه او المساواة.

        أمّا المعلم الأخير فهو احتفال اليوم الذي لن أنساه أبداً فشكراً لمحبتكم ومحبتكنَّ ومجيئكم ومجيئكنَّ وتقديركم وتقديركنّ لي ومشاركتكم ومشاركتكنّ لي في هذا الاحتفال المميّز.