في كتاب الدكتور مشير عون:

أهؤلاء هم اللبنانيون؟

بقلم د. أنطوان سيف


يمكن أن يُرى في هذا الكتاب للدكتور مشير عون انعطافاً في مسيرته الفكرية التي تمحورت حول موضوع الدين، وبين المسيحية والإسلام. إلاّ ان هذه المسيرة الممتدّة منذ نيف وعشرين سنة، كانت تستبطن المسألة السياسية، وبعضُها صراحةً، كما كتابه "بين الدين والسياسة: الفكر السياسي المسيحي في بنائه النظري وواقعه اللبناني" الصادر عن دار النهار في بيروت، عام 2008! مع ذلك، كتابه الحالي، وبعد سنوات ثمان، يبدو أكثر "التزاماً"، وأكثر مشاكسةً، واجه فيه، بتأنٍ، صعوبةَ الموازنة بين الأسلوب الفلسفي التحليلي الذي لم يتوقّف عن اعتماده، و"أسلوب المعاينة" الذي جعله قاعدة البحث في هذا الكتاب. وهذا الأسلوب المبتدَع والمعتمَد (وربما خصيصاً لهذا الموضوع لكتابه استثناءً؟) أشاح عنه "الاستقصاء الاجتماعي والنفسي والاقتصادي والجو – سياسي" درءًا لالتباس محتمل مع وفر المقاربات السياسية والسوسيولوجية التي يتأبّى الخوضَ في غمارها. وأسلوب المعاينات (ومنشَؤُها الاختبار الشخصي والقراءات الصحافية خصوصاً) اقتضى منه منهجاً موافقاً، فكان "منهج الواقعية النقدية". وهو لا يبتعد بذلك كثيراً عن منهجية ناصيف نصّار "العقلانية النقدية" التي تنطلق هي أيضاً من الواقعية ولكن المدعّمة، او المتميزة عند نصّار، بالرؤية الجدلية؛ ولا عن المنهجية التي يعلن الجابري انها منهجيته، وكما يعلن أيضاً وضّاح شرارة... وبانضمام عون الى هذا التيار النقدي في الفكر العربي المعاصر، يختطُّ لنفسه موقعاً مميّزاً بأن جعلَ منهجه في منزلة التوسُّط بين طرفين: الطرف الأول هو طرف النقد اليساري الذي يُحيل الاضطراب البنيوي الى خلل طبقي، والطرف الثاني وهو طرف الامتداح اليميني الذي يفترض في البنية الطائفية، في المجتمع والسياسة اللبنانيَّين القدرة على التقويم الذاتي والإصلاح الطوعي". يزعم عون قدرة منهجية "الواقعية النقدية" على تجاوز هاتين الفرضيَّتين اليسارية واليمنية. (ص9).

        لن أتجاوز حدود مهمتي كمدير لهذه الندوة، للدخول إلى فصول الكتاب السبعة الغنية بالتفاصيل حول عطوب الذات اللبنانية كما يتمثلها اللبنانيون بوعيهم، وكما تتمظهر في مسلكهم، والمتدرجة من الفكريات فالوجدانيات فالدينيات فالسياسيات فالاجتماعيات، وكل ما جعله ينضوي تحتها. ولكن علامة الاستفهام في عنوان الكتاب الاستفزازي: "أهؤلاء هم اللبنانيون؟"، تُضمر ايضاً وخصوصاً الإدانة والتخجيل وحتى الاستخفاف والاستهانة! وتستدرج لا توازناً بين "المعاينات"، وهي مطوّلات، و"الحلول" التي يكتنف الكتابَ صمتٌ حول الجهة المولجة بمعالجتها معالجةً ناجعة، او الاكتفاء منها بالوعظ والإرشاد ومن غير همّ المتابعة أو "معاينة" وقعها في الذات اللبنانية نفسها بعد ان تكون قد عرفت مكامن اضطرابها وانبجست فيها، ربما، الإرادةُ الطيبة لتجاوزها! للحلول الناجعة خريطة طريق طويلة المسالك ينبغي ترصُّد مساراتها المتعرجة الى حد الانكفاء احياناً وبخطوة ربما الى الوراء!

يستعجل مشير عون حرق المراحل واختصار طرق الديمقراطية، وللمفارقة، بالحاجة الى الاستبداد المستنير المؤقّت! هذه المغامرة أسقطها التاريخ وحذّر منها افلاطون في وصفه الدولة التيموقراطية، دولة الطاغية العادل الذي بوعوده بالعدل دفنَ الدولة أو الجمهورية العادلة! عبدالله العروي نفسه، بغية حُسن تطبيق مشروعه الماركسي في العالم العربي، اشترط له مرحلة سابقة ليبرالية قائمة على الحريات العامة واحترام الاختلاف وممثليه!

        كما تسيطر على ذهن المؤلف فكرة الطبائع والعقليات المختصة بحضارات دون أخرى، كالتي تختص عنده بالساميّة المشرقية العربية التي ينتمي اليها اللبنانيون، وتستمد منها الطائفية (وهي قمة الاعضال البنيوي للذات اللبنانية) جذورها البعيدة، وهي التي سادت في الفكر الأوروبي منذ منتصف القرن التاسع عشر (الموازي للمرحلة الاستعمارية)، قبل ان يتم التخلي عنها تماماً في نهاية القرن العشرين بفضل انثروبولوجية كلود ليفي ستراوس وسواه!

        نفيس واسع معمّق هذا الكتاب لا يستقيم الكلام على تميّزه في مضمونه الاغضاءٌ عن الكلام على أسلوبه الكتابي العربي الأنيق وسعة مصطلحاته وصياغاته اللغوية... وايقاظه تقليداً فلسفياً عريقاً في جعل الكتاب إجابة من المعلّم على سؤال طالب العلم. فالكتاب يخرج بهذا من مصدره الأصلي ليعود اليه، إذ الطالب هو موضوعه ومآلهُ، الطالب الذي يتماهي مع الانسان المستكمل ذاته دوماً بالمعرفة التي لا تتوقّف.

هنيئاً لك دكتور مشير بهذا الإصدار القيّم المستحق التقدير والشكر.

                                                                                        د. أنطوان سيف

 

________________________________

 

بقلم الدكتور وجيه قانصو

نقد الذات اللبنانیة:

يحرص د. مشير عون على أن لا يترك مسافة زمنية بين  كتاب سابق يكتبه وكتاب لاحق، شديد الحرص على التواصل المستمر مع القارئ، مطلق القارئ ، الذي لا يفترض فيه صفاتاً ضمنية أو افتراضية فيه، أو هوية خاصة، أو ميلاً يتوقعه فيه، بل يطلق قوله لكل من كان قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. 

     فمشير (مع خفظ الأالقاب) دائم الحضور في المشهد العام، ولديه شيء يقوله باستمرار، لا ليضيف إثارة أو يسجل موقف أو يكشف عن فضيحة هنا وهناك أو يصوب قضية سياسية، بل يأخذك وراء المشهد، يبين لك الأرض التي تقف عليها أنت وغيرك ، يظهر لك تواطؤ الحليف والخصم في إنتاج المأساة، رغم التلاوم المتبادل بين جميع الأطراف، هو تواطؤ غير مقصود، لا تقف وراءه نوايا خبيثة، نحن اللبنانيون جميعنا أناس طيبون، من دون استثناء أحد، ومع ذلك نتقن إنتاج الكارثة، ونمعن في الخراب. فالنوايا الحسنة قد تكون ضرورية لكنها غير كافية، وقد تؤمن لنا خلاصاً في الآخرة، لكنها لا تبني لنا أوطاناً، فالسياسة نتاج الفن الإنساني والحيلة والإرادة الإنسانية، هي ليس عادة بل كسر لهذه العادة، هو "كائن صناعي لا طبيعي"، بحسب توماس هوبس، أي إن الصناعة هندسة وابتكار وإبداع، بل هي فعل خلق، فكما أن الله خلق الإنسان، فإن الإنسان يخلق سياسته وقدره. هي قدرة لا على التقيد بقواعد لعبة بالية، بل القدرة الخروج من المألوف وتغيير قواعد اللعبة كلها، حين نستشرف، مجرد استشراف، هبوط الهيكل على رؤوسنا.

الكتاب مجموعة بحوث ومقالات نشرت في أوقات متعددة، لكن رغم ذلك، فهنالك وحدة جامعة بينها جميعاً، أولها المؤلف نفسه الذي يحمل هاجساً وتطلعاً عبرَّ عنه في أوقات متفرقة، وهنالك رؤية تجمع جميع هذه البحوث، التي عمد المؤلف بإتقان إلى تآلفها وترابطها، لتولد في القارئ فهماً متناغماً، وليوصل رسالة واحدة متفرعة الجوانب متعددة الأبعاد.

الجديد في كتاب مشير عون، النبرة العالية، لغة احتجاج قوية، بل قسوة غير مسبوقة في كتاباته السابقة. وهذا برأيي مقصود من المؤلف، هي طريقة بلاغية تتطلب مطابقة الكلام لمقتضى الحال. والحال هو واقعنا اللبناني، الذي بدأت مداميك هيكله تتهاوى الواحدة تلو الآخر، وما زلنا منشغلين بجنس الملائكة. (لو كتب بعد أزمة النفايات لكان تصعيده أشد وأقوى) . هو خطاب الصدمة، ونزع الأقنعة بل حتى انتزاعها، لا التي نضعها مقابل الآخرين فحسب، بل نضعها أمام ذواتنا، لنوهم أنفسنا أننا شيئٌ آخر.(تخيل كيف يمكن لشخص أن يضع قناعاً على وجهه ويتأمل جماله أمام المرآة). هنالك آية قرآنية تشير إلى هذه الحقيقة: "هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً". أي إن الخاسر هو الذي يضل الناس أما الاخسر فهو الذي يضل  نفسه.  لذلك فالخسارة تعوض، لكن الأخسر الذي هو خسارة نفسه كيف تعوض لا تعوض، وهذا يتناغم مع قول السي المسيح: "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه".

لا يورطك مشير عون، ولا يورط نفسه في متاهات السياسة، ليدفعك إلى اتخاذ موقف، أو يوفر لك مادة للجدال، فالكتاب بهذا المعنى لا تستهوي المحطات التلفزيونية، الباحثة عن مادة إثارة أو جدال لا مادة كشف واكتشاف، أو ترفع لها نسبة المشاهدين، لتشبع فينا غريزة التفوق والغلبة، بل يأخذك الكتاب إلى المنطقة التي نتحاشاها جميعاً ونتجنبها، للألم الذي تحدثه فينا، إلى الما-وراء، ولا اقصد هنا بالغيب، بل بهذا الشيء المتواري وحاضر دائماً فينا ويحاصرنا من جميع الجهات، هو موجود هناك ومع ذلك نتغافل عنه، نتظاهر عدمه، نقتطعه من ذاكرتنا ومن دون أن ندري أننا بفعلنا ذلك نقتطع شيئاً منا، فتخيل الضوء لن يبدد لك الظلام الذي تحيط بك من كل جانب.

جانَبَ المؤلف محاكمة النوايا (مؤامرة، فساد، )، فأزمة لبنان تجاوزت منطقة حسن النوايا، أو قضية الخير والشر، أو من هو على حق أو من هو على باطل، فكل هذا لم يعد ينفع: لا النوايا الحسنة، ولا غلبة الخير على الشر، أو سيادة الحق على الباطل، فهذه جميعها باتت عدة شغل الصراع ومادة شعبوية، بل مسحة تجميل نجمل بها غرائزنا المتفلتة وغير المنضيطة.

 لم تعد المشكلة عند المؤلف مقتصرة على النظام الطائفي أو الطائفية، بل في الذاهنيات، وطبيعة الاجتماع الساميّ المشرقيّ العربيّ الذي منه ينحدر الاجتماع اللبنانيّ في وجوه كثيرة. فالطائفيّة، بنظر المؤلف، حين يعتمدها أهلُ الاستنارة والرقيّ في سويسرا وبلجيكا وكندا، على اختلاف السياقات والقرائن، تهب المجتمعات الإنسانيّة القدرةَ على إثراء الوعي الفرديّ بتراثات الجماعات وتصوّراتها المتنوّعة. أمّا الطائفيّة التي يعتمدها أهلُ المشرق العربيّ، فإنّها خاضعةٌ لتوتّرات الوعي الدينيّ المذهبيّ، ولتشنّجات الفكر الأحديّ الاستئثاريّ، ولانعطابات المجتمعات العربيّة البنيويّة. هي الطائفيّة المبتلية بأسقام الوعي العربيّ تتهدّد الأفراد والجماعات، وتقذف بالجميع في لجّة الفساد والانحطاط.

إذا إنها قضية وعي راسخة في قعر الأقعار، قضية الذات اللبنانية المضطربة، وبنى اجتماع بدائية، ووجدانيات متوعكة مضطربة مترجرجة، وفكريات تمجد فضائل الإبداع وتفتقد أخلاقيات الأصالة والصدق والشفافية، شخصية تهوى التقية والتورية والتعمية، وتعاني تنازعاً ضارباً في عمق هويتها، انتقائية في تدينها، تستنجد بالغيب في الملمات والشدائد، وتُعرض عن القيم الدينية حين تُملي عليهم مصالحُهم مسلكًا ينصاعون كلُّهم لما تُمليه عليه انتماءاتُهم الطائفيّة صونًا للمواقع الطائفيّة.

 

 

 

اللبنانيّون أشدّ الأقوام حرصًا على استقامة الظاهر، ويخافون الخوفَ كلَّه من الكشف عن حقيقة بواطنهم ، ذات متضخمة  وتوصد الأبواب أمام النقد

الوجدان اللبنانيّ موارب يكره النقد، والحوار بين اللينانيين حوار تورية وتقية.  وجدان مرجئ هارب إلى الأمام،    يستغيث استغاثة الهروب إلى الأمام.  

 أما الفعل السياسي، فقوامه خللٌ في البنية وفسادٌ في الأخلاق وخنوعٌ في العزيمة،  حيث بات الشعور الوطنيّ فيه يتلوّن بتلوّن المبايعات الأيديولوجيّة.  

هو فعل مقترنٌ بطبيعة الاجتماع اللبنانيّ : القبيليّة والطائفيّةالناشبة في تربة الجماعة، لا في عمق الأرض، أو في مدى الوطن، أو في أفق الفكرة، أو في مسالك العقيدة.   

فاللبنانيّون لا ينتخبون، بل يبايعون. وهم لا يختارون، بل ينقادون، ولا يقرّرون بل يخضعون لغريزتهم الجماعيّة

هو فعل مقترنٌ بذهنيته الاتّباعيّة، فاللبنانيّون، شعوبًا وقبائل، ينظرون إلى الخارج نظرتهم إلى مرتكز كيانهم، ومستند هويّتهم، وموئل حمايتهم الخارجيّ.

 هو  فعل   مقترنٌ بطبيعة تفكيره السلفية، يعتصمون بقدر كبير من الاقتناعات الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة والمسلكيّة المتوارثة. فلا يتكبّدون عناء النظر فيها والتحرّي عن صحّتها والتدقيق في ملاءمتها للواقع الإنسانيّ المستجدّ.  

 

 باختصار الكيان اللبنانيّ يحتضر ووقائع الانحطاط تقول بضرورة الثورة. بيد أنّ اللبنانيّين لا يثورون على طوائفهم وزعماء طوائفهم، بل على الطوائف الأخرى والزعماء الآخرين. وإذا ثار قومٌ من طائفة على قوم من طائفة أخرى فلن يأتوا بثورة لبنانيّة، بل بحرب أهليّة تحرق الأخضر واليابس.

وليس من سبيل إلى تغيير النظام السياسيّ المتخلّف والطبقة السياسيّة الفاسدة في لبنان إلّا بتغيير الذهنيّة اللبنانيّة في عمق أعماقها. ولا تغيير في هذه الذهنيّة إلّا بارتداد ثقافيّ شامل. وليس من مُكنةٍ لارتداد ثقافيّ شامل من غير ثورة حقيقيّة. ولكنّ اللبنانيّين لا يثورون

 

أصلُ الانعطاب الإعضالُ الديمقراطيّ البنيويّ في الاجتماع اللبنانيّ

 فهي ناجمة عن ضروب ثلاثة من التعطيل الناجم عن الوضعيّة الجيوسياسيّة الإقليميّة، الناشئ من انعطاب الواقع السياسيّ اللبنانيّ، والمنبثق من صميم الخلفيّة الثقافيّة العربيّة.   

1.    المعوّقات الجيوسياسيّة الإقليميّة فهو بسبب تأثّره المباشر بوضعيّة المجتمعات العربيّة التي ما زالت تمتحنها أزماتُ العالم الثالث التي   تُفصح عن ذهنيّة عسكريّة استبداديّة، تُشبه في خصائصها العامّة الحكم العسكريّ المترسّخ في مجتمعات العالم العربيّ.

  

2.     المعوّقات السياسيّة الداخليّة: الاستبداد داخل الجماعات في ظلّ النظام الطائفيّ، طائفيّة الوظائف في النظام السياسيّ اللبنانيّ، استخدام الدين للسياسة واستخدام السياسة للدين، تواطؤ المؤسّسة الدينيّة في لبنان مع أهل السياسة.   

3.    المعوّقات الأنتروبولوجيّة الثقافيّة

وهي بنيةُ الذهنيّة الاجتماعيّة،   وانفطار الجماعات اللبنانيّة على تصوّرات ثقافيّة ذاتيّة لصيقة بكينونتها وبهويّتها هي أشبه بالثوابت البنيويّة التي لا تخضع لعوامل البيئة والاقتصاد والاجتماع والسياسة.  

 الكتلة الثقافيّة المسيحيّة والكتلة الثقافيّة الإسلاميّة، يبسطان في معتقدهما تصوّرًا تاريخيًّا للإنسان يتباين في أصوله وفي طبيعة مقاربته.

الأنتروبولوجيا المسيحيّة تقول بإنسانٍ هو مستودع الهبة الإلهيّة وشريك التدبير الإلهيّ، يقوم في مقام الابن الوارث للحياة الإلهيّة في مسرى الوجود التاريخيّ وفي ما يتجاوز هذا المسرى التاريخيّ. أمّا الأنتروبولوجيا الإسلاميّة، فتقول بإنسانٍ هو خليفة الله على الأرض، كلّفته المشيئة الإلهيّة بصيانة الأرض وإعمارها واستصلاحها واستثمارها.وممّا لا شكّ فيه أنّ الاختلاف في تصوّر جوهر الإنسان لا بدّ له من أن ينعكس اختلافًا في تصوّر النظام الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يليق بمثل هذه الهويّة.

 وممّا يبدو من النقاشات الفكريّة التي يتواجه فيها الفكران المسيحيّ والإسلاميّ أنّ الأنتروبولوجيا المسيحيّة أقرب إلى اعتماد التصوّر الديمقراطيّ والنظام الديمقراطيّ للمجتمع الإنسانيّ في لبنان، ولو أنّ المؤسّسة الكنسيّة المسيحيّة لا تُطيق اعتماد المبدإ الديمقراطيّ اعتمادًا كاملاً في تدبير شؤون الجماعة المسيحيّة، في حين أنّ الأنتروبولوجيا الإسلاميّة أقرب إلى اعتماد مبدإ الحاكميّة الإلهيّة والشورى المستندة إلى مرجعيّة الشريعة الدينيّة القرآنيّة في تنظيم شؤون المدينة الإنسانيّة. وممّا ينبغي التبصّر به في هذا السياق أنّ هويّة الابن الوارث تضع الإنسان في موقع المشارك الحقيقيّ في رعاية شؤون الكون، وتمنحه الحرّيّة الكاملة في استنباط الصيَغ التدبيريّة التي تؤهّله لصيانة فرادته الشخصيّة، وتعزيز خصوصيّته الخلاّقة. فالإصرار على مقام الإنسان الفرد الحرّ وعلى مرجعيّة الضمير الشخصيّ في الاضطلاع بمسؤوليّة الوجود، يهيّئ الأنظومة الفكريّة المسيحيّة لاقتبالٍ هنيّ لمقترحات الأطروحة الديمقراطيّة في خلفيّاتها الثقافيّة، ومفترضاتها النظريّة، ومقتضياتها القانونيّة. هذا الأمر بعينه لا يتأتّى بسهولة للأنظومة الإسلاميّة التي تعاين في الإنسان كائنًا مستخلفًا يستمدّ قوامَ فرديّته من إسلام أمره للمشيئة الإلهيّة التي تدبّر له في منطويات الشريعة الإلهيّة نُظُمَ الحياة الفرديّة والجماعيّة في مختلف قطاعات الوجود. ولذلك لم تكن الديمقراطيّة هي الإطار القانونيّ الأنسب للأمّة الإسلاميّة التي لا تركن إلى إرادة الشعب، بل ترتاح إلى الوثوق بالأمر الإلهيّ المباشر. 

فنشأت في لبنان محاكم القانون المدنيّ التي ترعى أحوال الإنسان اللبنانيّ بصفته مواطنًا، وذلك بحسب مصادر التشريع الديمقراطيّ الغربيّ، ونشأت في موازاة هذه المحاكم سلطةٌ دينيّة ترعى الأحوال الشخصيّة. فإذا بالإنسان اللبنانيّ يتنازعه ضربان من المرجعيّة القانونيّة. وإذا بالمجتمع اللبنانيّ يقوم في منزلة الوسط بين النظام الديمقراطيّ الصافي والنظام الدينيّ الخالص. لأنّ كثيرًا من اللبنانيّين ما زالوا يعاكسون هذا التراتب الديمقراطيّ. فيضعون في المرتبة الأولى هويّة الإنسان المؤمن، ومن ثمّ هويّة الإنسان المواطن، فهويّة الإنسان الإنسان. فإذا بالإنسان اللبنانيّ، في وعي كثير من اللبنانيّين الطائفيّين، مسيحيٌّ أو مسلمٌ، ومن ثمّ مواطنٌ لبنانيّ، وأخيرًا إنسانٌ يشترك في الإنسانيّة عينها مع نظرائه أبناء البشر في المسكونة قاطبةً.

 

هل ثمة إمكانية أو قابليّة للديمقراطيّة في المجتمع اللبنانيّ

الاختبار اللبنانيّ، على علاّته وأسقامه، ليس فاقدًا في ذاته القدرة على التفاعل الإيجابي مع الطرح الديمقراطيّ. لكنها قابلية لا تأتي لوحدها بل تصنع وتنتج ، لا بد أن تأتي مصحوبة مع إرادة، من خلال استنطاق اختبارات التاريخ اللبنانيّ الدمويّة والسلميّة، وبناء إرادة الطوائف في الصراع السلميّ.  فالديمقراطيّة يمكنها أن تدخل إلى الواقع السياسيّ اللبنانيّ دخولها إلى الواقع السياسيّ السويسريّ أو البلجيكيّ أو الألمانيّ أو الكنديّ من غير أن تعطّل في الاجتماع اللبنانيّ انسلاكه الموروث في النظام الطائفيّ.. امتناع الاستبداد في نطاق التنوّع الطائفيّ اللبنانيّ : ديمقراطيّة الطوائف لا الأفراد

 فالاساس هو : حرّيّة الإنسان اللبنانيّ أصل الأصول في التحوّل الديمقراطيّ

 

 إذا ما السبيل إلى ذلك:

 

1.    من معاينة الذات إلى مجاوزة الذات

ينبغي للّبنانيّين أن يقبلوا ببعض من الاستبداد المستنير حتّى تستقيم الأحوال في لبنان. وهذا إنّما يناسب المرحلة الانتقاليّة التي تلائم طبيعة الذات اللبنانيّة. فالاستبداد يناسب تطلّب بنية الذات اللبنانيّة في عمق اضطرابها، والاستنارة تحتاج إليها الذات عينُها حتّى تنتقل من الاضطراب إلى السويّة النفسيّة الجماعيّة التي تؤهّلها للتمييز بين السياسيّات والدينيّات. ولذلك كان التمييزُ هو عماد المرحلة الثانية التي يدرك فيها اللبنانيّون أنّ نهوضهم لا يتأتّى لهم إلّا بالانعتاق من تواطؤ الدينيّات والسياسيّات.

طبيعة التأزّم اللبنانيّ، في جميع وجوهه، تقتضي اختبار المرحلة الانتقاليّة التي فيها يُفرَض على اللبنانيّين فرضًا ترميم اجتماعهم الهشّ. وهذا لا يتأتّى لهم إلّا باستبداد مستنير تمارسه سلطةٌ تستمدّ شرعيّتها من خطورة الأزمة المستفحلة. وبما أنّ اللبنانيّين فقدوا حسّ المسؤوليّة الوطنيّة المشتركة وحسّ المسؤوليّة الأخلاقيّة العامّة، فإنّ الاستبداد المستنير يهزّهم هزًّا ويدفع بهم عنوةً إلى الارتداد. أمّا التمييز بين الدينيّات والسياسيّات، فيحمل إليهم فرصة الانعتاق من عقدهم وكوابيسهم ومآسيهم وانسداداتهم. ذلك بأنّ التواطؤ قد أفسد الحقلين معًا. ولا سبيل إلى النجاة إلّا بضبط تعدّيات الحقلين ولجم مطامعهما الهدّامة.

1.    المرحلة الأولى تقتضي الإقرار بمأزق الفكر في الاجتماع اللبنانيّ

مهمة أهل الفكر أن يفتضحوا هذا الانسداد التاريخيّ في الوضعيّة السياسيّة اللبنانيّة.  

. 2. المرحلة الانتقاليّة تستوجب الاستبداد المستنير طريقًا إلى الديمقراطيّة

  لا بدّ من الدخول في طور ملتبس من الاستبداد اللبنانيّ المستنير. وأعني بذلك أن يُسلَّط على لبنان مدبِّرٌ تنتدبه الأممُ المتّحدة باسم شرعة حقوق الإنسان وباسم الحقّ في هداية المتهوّر وتجنيبه مهلكة الهاوية. من مزايا هذا القاضي المدبِّر أن يُخضع اللبنانيّين جميعًا لأحكام شرعة حقوق الإنسان وأن يرعى في الحدّ الأدنى مقتضيات العيش الإنسانيّ الأساسيّة. ومعروفٌ أنّ الفكر السياسيّ المعاصر استخرج لمثل هذا الاستبداد المستنير شيئًا من التبرير العقليّ حين سلّم بأنّ الاضطراب السياسيّ الذي يصيب الكيان لا بدّ له من أن ينتظم بفعل إرادة فرديّة تعتصم بالسلطة إلى حين، وتتعالى على الأنانيّات المتقاتلة حتّى تستقرّ في وعي الأفراد ضروراتُ الخضوع الطوعيّ للقوانين والأحكام. وقد يكون لبنان قد اختبر من الفساد ما يؤهّله لأنّ يحظى بنعمة هذا الاستبداد المستنير. فحوى القول أنّ الاستبداد الذي يفرض على الجميع احترام شرعة حقوق الإنسان، هو الاستبداد المستنير الذي تحتاج إليه الأمم التي فقدت القدرة على التخلّق الطوعيّ بأخلاق القانون الإنسانيّ الرفيع، فأعوزتها فترةُ من التوجيه والرعاية حتّى تعود إلى رشدها.

2.    مرحلة المجاوزة تستدعي التمييز بين الدينيّات والسياسيّات سبيلاً إلى العَلمانيّة الهنيّة

  أن يميّز اللبنانيّون تمييزًا صريحًا فاعلاً حقل الدينيّات من حقل السياسيّات. والحال أنّ كثيرًا من اللبنانيّين يدركون معنى ارتباط الدين بالسياسة وارتباط الدين بالثقافة إدراك الشيوع والإبهام والغفلة.

 أن يقتنع اللبنانيّون بأنّ حقل السياسيّات هو حقلٌ مستقلّ في صلاحيّته التدبيريّة والتقنيّة ليس له أن يتأثّر باختلافات الرؤى الدينيّة الروحيّة. فيتهيّأ لهم حينئذ أن يغتنوا بتنوّعهم الدينيّ من غير أن يتخاصموا في تصوّرهم لتدبير المدينة الإنسانيّة اللبنانيّة. فالدينيّات لا طاقة لها على تدبّر الشؤون المدنيّة في إدارة المعيّة الإنسانيّة. أمّا إذا أراد اللبنانيّون أن يستلهموا قيم الإيمان الذاتيّ، فلهم أن يستدخلوها في خفَر عظيم وتواضع صادق، وهمّهم الوحيد أن يرتفعوا بالإنسان إلى المرتبة التي تليق به، لا أن يفرضوا على البنى التشريعيّة والمؤسّسات التنظيميّة، وعلى نظرائهم وشركائهم اللبنانيّين، أحكامَ الفقه الدينيّ الذي يبايعونه.

لا شكّ في أنّ اليقين المعرفيّ الذي تعتمده العَلمانيّة الهنيّة في الفصل بين الدينيّات والسياسيّات هو الذي يُنقذ الاجتماع اللبنانيّ من التكاذب الطائفيّ، والتغالب المنفعيّ، والتحارب الإلغائيّ.  

 

هنا أود الدخول مع المؤلف في نقاش مسائل ثلاث، والهدف ليس الاستباك أو الاعتراض، إما هي في جزء منها توضيح وفي جزء آخر استيضاح.

1.    مسألة القابلية المسيحيية لقيم الديمقراطية وعدم قابليتها في الإسلام.  هي فكرة يتبناها المؤلف بحذر لا بحماس، لكنه يميل إليه.

أقول أولاً أن قراءة الفكر الإسلامي في ظرفه العشريني الأخير هو عقل متأزم، ومأزوم، جاء في سياق الخوف على الهوية بعد سقوط الخلافة العثمانية، وبالتالي جاء في سياق رد فعل على الحداثة كلها، تغافل عن أسئلتها وحاول مواجهتها، ورد فعل على إخفاق دولة الاستقلال في تأمين الحرية وااوحدة والرفاه.

هذا فكر أخذ يعيد بناء الإسلام بصيغة أيديولوجية، وابتكر مولة الحاكمية والجاهلية، والأخطر من كل هذا ابتكر ما يسمى يالدولة الإسلامية.

هي اختراع حديث، جاءت لتناهض فكرى الدولة الحديثة وتستبدلها لا بمفهوم دولة بديلة بل لتقويض أصل فكرة الدولة، بصفتها كائن معنوي غير مشخصن يقوم على قواعد حوكمة عقلانية ولا مركزية، وحقوقية، واستبدالها بسلطة مركزية تستبدل الفرد والمجتمع إلى رعية، والسلطة إلى راعي. أي استحضار شكل حكم تاريخي. يقوم على فقه الأحكام السلطانية: بوجوي الطاعة، وأن السلطة شأن غيبي.

هنالك سلطات متعددة لمسلمين، هنالك دول مسلمة أي دول لشعوب مسلمة، وليس دولة إسلامية، وكان دائما هنالك أكثر من سلطة مركزية في الوقت نفسه.

أقول أكثر من ذلك، أنه لم يكن هنالك زمن النبي دولة، حتى في المدينة، فالنبي هب إليها مهاجراً  لا حاكماً وفق بيعة العقبة التي لم تكن بيعة سياسية بل معاهدة أو تعهد بحماية النبي لتبليغ دعوته، ولم تكن ما يسمة بصحيفة المدينة، دستور حكم، بل آلية لضبط الاختلافات والتناقضات داخل مكونات المدينة المتعددة. ولذلك كان النبي يقتل الذين يتآمروا عليه من قريش، أما  الذين تأمروا عليه في المدينة وسموا بالمنافقين، فلم يستطع المس بهم. بل لم يجرؤ على التشهير العلني بهم: ومن حولك من الأعراب منافقين لا تعلمهم نح نعلمهم.

السبب في ذلك أن مفهوم الدولة هو مفهوم حديث، جاء إثر فكرة السيادة التي جاء بها جان بودان، والتي كانت إطلاقة لتمييز كائن معنوي يملك صلاحية التصرف العام بمعزل عن الاشخاص. وهذا المفهوم لم يكن موجوداً من قبل.

بل إن قيم الديمقراطية والحقوقية لم تكن نتاجاً لاهوتياً بل جاءت في سياق القطيعة الكاملة مع الللهوت المسيحي، وسلطة الكنيسة، خاصة بعدما وصل اللاهوت المسيحي إلى اعتماد فكرة أولوية سلطة الكنيسة على سلطة الملك، وتوجتها بنظرية سلطة السيفين التي انتجت لدعم لاهوت غرغوريوس السابع في القرن الحادي عشر.

"إرع خرافي عبارة قالها لبطرس ، فابن الله قال لبطرس بأنه سيعطيه مفاتيح مملكة السماوات مع سلطة الحل والربط: إن كل ما تربطه على الأرض سيكون مربوطاً في السماء وكل ما ستحله على الأرض سيكون محلولا في السما, والمسيح لم يستثن أحدا بمن فيهم الملوك. فسلطة البابا مثل سلطة بطرس ذات مصدر إلهي ومن واجب البابا أن يمارس سلطة الربط والحل التي أسندها المسيح لبطرس بكامل مداها,  .. الحبر الأعزم كلي مسموح له أن يعل الاباطرة ولا يجب أن يحاكم من قبل أي شخص ويمكنه حل الرعايا من يمين الوفاء الذي أدي للظالمين.

-       تظرية مطرقة واحدة لكل الكون.

-       وصاغ القديس برنارد دو كليرفو 1152: صاغ نظرية السفين: حين قال المسيح لبطرس أعد سيفك إلى غمدك : هنا سيفان روحي ومادي، الإثنان ملك لبطرس, أي للكنيسة, هو له ولها: "إنه السيف (المادي لك، وتحت إمرتك يمكن أن يكون ولكن ليس في يدك، السيف الروحي والمادي يعودان إلى الكنيسة, السيف المادي يجب أن يسحب في سبيل الكنيسة والسيف الروحي فهو بيد الكنيسة ، السيف الأول بيد الكاهن والثاني بيد الجندي وتحت إشارة الكاهن وإمرة الأمبراطور".

-       تطور فكرة المجال السياسي هي بسبب شروط اقتصادية واجتماعية، أدت إلى نشوء المدينة، فتبلور نظام قيم تعبر عن مصالح هذه الجماعة، ولم تنشأ إلا يعج القطيعة التامة مع السلطة الكنسية، ويعد أن دفع مارسيليوس دي بادي، وهو علماني، نادى يحصرية السلطة ووح\انيتها وحصرية القهر الني هي بيد الفئة الحاكمة. فالكهان فقهاء القانون الإلهي وخدام الأسرار المكلفون يتعميم البشر كيفية الحصول على الخلاص الابدي ليس لديهم أي سلطة من هذا النوع في العالم.

-       إن الأإكراه ليس له أي فائدة روحية من أجل الخلاص الأبدي لأولئك الذين يقع عليهم.

-       بودان: هذه القوة السيدة التي تعطي للدولة استقلالها ولها سمتان مصلقة ودائمة وشاملة وسبطة سن القانون ونقضه وحدها،

-       إذا نشأ هذا المجال خارج اللاهوت المسيحي، نتيجة تبدل في المزاج الإجتماعي، أخذ يفرض نفسه على الكنيسة واضطرت إلى التكيف لاحقاً معه.

-       الخليفة غير الخلافة، هي القيام مكان الله في الأرض، أن تقوم بوظيفته بالنيابة عنه، أي تحقق ناموسه بالنيابة عنه، لكن هذا الناموس ليس معتقد. فالقرآن لم يتكلم عن عقيدة بل تكلم عن قعل، حتى مفهوم العقل تكلم عنه بصيغة الفعل لا الذات والهوية، والخلاص خلاص فعل لا معتقد: "م آمن بالله وعمل صالحاً".

-       لذلك كل التنظيرات اللاهوتية التي نظر لها داخل فضاء الحداثة جاء ليتكيف مع هذه الحداثة ويتبنى منجزاتها، لا لينتجها أو يؤصلها او يؤسس لها. وهاذ عطي صفة موجودة في المؤسسة الدينية، أنها لا تخلق وضعاً بل تتكيف معه وتنشيء لنفسها أنظومات ومباني تبعاً للأوضاع الجديدة، وهذا واضح في سياق تطور اللاهوت مع تطور انماط الحياة العامة. وكذلك الأمر في الغسلام.

2 – قضيى العلمانية الهنية:

لا اعتراض لي على كل ما جاء، لكن ما وصفه المؤلف هو العلمانية، مع قطع النظر عن التوصيف الإضافي الذي أعطاه لها وهو أنها هية، أي يسهل أكلها من دون أن تخنق أو تضايق البلعوم أو تتسبب بمغض معوي.

العلمانية برأيي اكتشاف وليس أيديولوجية، ولم تبدأ مع فرنسا، التي عندما شرعته، تكون ترجمت المبدأ والفكر إلى إطار ناظم للحياة العامة. هي منطلقة من اكتشاف المجال السياسي المستقل عن غيره هو مستقل عن الدين وعن الأخلاق وعن أوجه نشاطات أخرى. بدأت حين استقل المجال السياسي عن باقي المجالات وأخذ يظهر تمايزه. فالسلطة لاجل السلطة، صحيح أن فيها جانباً عملياً براغماتياً لكنها أيضاً فكرة علمية هي هي كشف عن ظاهرة كانت مندمجة ومختلطة مع ظواهر أخرى.

لماذا أقول هذا الكلام، لأن هنالك محاولات لأسلمة العلمانية، بالقول علمانية مؤمنة، فتأصيل العلمانية على أساس ديني هو نقض لأساس العلمانية، فالفعل السياسي يستمد مشروعيته من ذاته، مثل السيادة أي سيادة الدولة، فطالما هنالك دولة هنالك سيادة، فالشعب لا ينشيء سيادة هو ينشيء دولة التي تكو السيادة ملحق من ملحقاتها الذاتية أو عوارضها الذاتية. لذلك إحالة العلمانية على اعتبار لاهوتي أو إيماني لا ينقض أصل العمانية لأنها لا تحتاج إلى مشروعية بل هي حاجة ثقافية لرفع موانعها.

-       نعم هنالك جانب خصب تعرض له المؤلف وهو إسهام الوعي الديني في إغناء السلوك المدني والمجتمعي، داخل الإطار العلماني، إذ بقدر ما تسهم المؤسسة لا في إنتاج قيم العلمانية بل بإزالة المعوقات من أمامها،  وبناء مناخ صحي من التساح وقبول الاختلاف وقبول الآخر.

-       أي بدلا من خلق واقع صدامي، فإن للدين دور في تحولات هائدة وسلسلة نحو قيم الديمقراطية والعلمانية وهو ما يجعلها علمانية "هنية".

-       -  قضية الاستبداد المستنير، وهي فكرة مقتبسة من المستبد المتنور التي أطلقت في القرن الثامن عشر على الأمبراطور الألماني، وهو لقب كان عزيز على قلبه.

-       فبعد أن استنتج المؤلف أن العطل ليس في النظام بل في الذات التي باتت منبنية على إقفالات ذاتية، وموت إرادوي وغيبة وعي، لم يعد بإمكان العودة أو الانتقال إلى الفضاء الحقيقي للديمقراطية والحقوق الإنسانية، وجد ضرورة وجود قوة من خارج الجسم السياسي، أو الاجتماعي، من خارج الفضاء العربي الذي هو أيضاً مصد ر هذه الأزمات، وهو منتب أممي يقوم بالإجراء الللازم الإكراهي إذا لزم الأمر لتحقيق ذلك مؤقتا، أي زرع الوعي إجراء الإصلاحات المطلوبة، ثم تسلم الأمور من جديد إلى المجتمع بعد أن يعاد إنتاجه من جديد.

-       أسباب الفكرة ودوافعها مفهومة، لكن المقترح إذا كان فعلاً يحل المسلكة قد لا أعترض عليها، لكن أليست الأمم المتحدة هي شبكة مصالح القوى الكبرى التي لا تعنيها مصائر شعوب مثل الشعب الفلسطيني، كما أننا اختبرنا قرارات الأمم المتحدة في احتلال العراق، وغيرها.

-       هذا في الجانب العملي، في الجانب النظري، الحقوق فعل اختبار لا قرار، مصير  لا خيار، سلوك ينزرع فينا ويخرج منا. ما لم يصبح حقيقة ننتجها نحن لا تزرع فينا لا تعود لها قيمة ولا تحدث التجول المطلوب.

-       الاستبداد المستنير هي لحظة من لحظات الإقفال التي يعاني منها الواقع اللبناني، وبرأيي هي لحظة يأس نعاني منها.

-       أقول للدكتور مشير، مثلما أن هنالك واقع سوداوي، هالك جانب مشرق في لبنان، . ما نشهده هو نتاج لوضع أحكم أقفالاته، أقول الطائفية هي السبب ونحن منتج من منتجاتها، لا أنها منتج من منتجاتنا. الثقافة دائما داخل الحلقة التي ننتجها وتنتجنا في آن،

-       توجد إمكانية لكن الهيكل مفقود، المسار طويل،  التحول بطيء، لكن لا بديل عن قوى تغيير مجتمعي، ينقلب على ذاته، يحدث قطيعة مع نفسه، لديه جرأة نزع الاقنعة.

مهما يكن من أمر ، قدم لنا الدكتور مشير عون لوحة معانات، ووضع اليد على مكامن عطب صورة

____________________________________

 

حاجة لبنان إلى طاولة حوار فلسفي

د .سعاد الحكيم

- نقاش مع د .مشير عون حول بعض أفكار كتابه " أهولاء هم اللبنانيون؟ "

   طوال مئة سنة تقريباً ، من عام 1920( تاريخ إعلان دولة لبنان الكبير ) إلى عام 1943 ( تحديداً 22/11/1943 تاريخ إعلان استقلال لبنان ) وصولاً إلى اليوم .. حوالي قرن من الزمان ( إلا أربع سنوات ) كان وطننا لبنان موضوعاً للتفكر والنقاش بين ( ومن قِبَل ) أهل السياسة أو العلوم السياسية أو القانون أو الاجتماع .

   وربما هي المرة الأولى التي يصبح فيها لبنان موضوعاً للتفكّر الفلسفي .

   سبعين عاماً على انسحاب القوات الفرنسية كلياً من لبنان ( 17 نيسان 1946 ) ، ولا نزال نرى العديد من رجال السياسة اليوم يرفعون في خطاباتهم شعار " استقلال لبنان " .. لكأن هذا الموضوع ( الاستقلال ) لا يزال في طور التأسيس .

   لقد قام الزميل د .مشير عون بالخطوة الأولى ، وافتتح بكتابه " أهولاء هم اللبنانيون؟ " ، أو على الأقل آمل أنه سوف يفتتح بهذا الكتاب ، حواراً حول الفلسفة التي انبنى عليها لبنان ، أي فلسفة التركيبة اللبنانية .. لأن معرفة هذه الفلسفة هي " المادة الأولى " لأي حوار مثمر بين جميع اللبنانيين  .. في هذه المعرفة تكمن الحلول الممكنة ( المعرفة نصف العلاج ) .

   ولن أدّعي أنني سليلة هذه الثلة العارفة من رجال السياسة الكبار أو القانونيين الضالعين بالشأن اللبناني .. ولكن أنا لبنانية وأنا أفكر .. ومن هذا المنطلق أتوقف عند سبعة تأملات ، أرى أنها تستجيب لدعوة د .عون لجميع اللبنانيين " إلى الاعتراف بالخلل والاجتهاد في استشراف الحلول الممكنة " ( ص 78 من الكتاب ) :

التأمل الأول .. مشاهدُ تثير الغضب .

   يتألف هذا الكتاب من سبعة فصول ، تتمحور حول ثلاثة موضوعات : اهتمت الفصول الخمسة الأولى بتوصيف الداء اللبناني " الاضطراب اللبناني في الوجدان والسياسة والدين والاجتماع " ، والفصل السادس تناول مسببات تعثر الديمقراطية في الوطن العربي ، وفي الفصل السابع والأخير يفصح د .عون عن طريق الخلاص .

   لقد أمسك د .مشير عون (في الفصول الخمسة الأولى) بمرآة ، وقهرنا على النظر فيها . وكثيراً ما كنت أبتسم من تصويرة لخصلة لبنانية سيئة في ذات الإنسان اللبناني ، وأعترف بأنني كنت أرى – أحياناً - لمحة منها في ذاتي أو في ذوات الكثيرين ممن يحيطون بي .. كما تشاركت العديد من ملاحظاته حول "المحن الناشبة" في الوجدان اللبناني أو في الاجتماعيات أو السياسة مع أهل بيتي .. مما حرّك فيهم حماساً لقراءة الكتاب .. وربما أحياناً دفعهم للقول بصوتٍ عالٍ : معه حق .

   يفصل د .مشير عون في هذه الفصول الخمسة ملامح الإنسان اللبناني في ذاته وممارساته : فاللبنانيون استقالوا من مسؤولية الإحساس في وجدانهم . وهم معادون للحقيقة في لاوعيهم (ص23) ، ماهرون في تضليل وعيهم الذاتي (ص21) . الوجدان اللبناني موارب ، سمته الهروب : يهرب من الواقع (مثلاً : إن فاتحت مسؤولاً عن مفسدة إدارية صغيرة برر فساده بالإشارة إلى مفاسد إدارية كبيرة ، وإن واجهته بمفسدة كبرى استدعى فساد الدولة ، بل فساد الدول الصغرى والكبرى : الفساد الأعلى يبرّر الفساد الأدنى) ، الوجدان اللبناني صداميّ ، مطبوعٌ بوضعيّة المواجهة مع الآخرين كبديلٍ عن مواجهة الذات . اللبنانيون هم بالفطرة من أصل المرجئة يرجئون استحقاقات اليوم إلى الغد (ص24) ، النقد مستكره لدى اللبنانيين (ص21) . اللبناني يخاف من انكشاف باطنه فيغلفه بطبقات سميكة من الظاهر المتقن الصناعة . اللبنانيون لا ينتمون إلى لبنان ، بل إلى شعوبهم وعشائرهم ومذاهبهم ومناطقهم (ص 43) . اللبنانيون لا ينتخبون بل يبايعون (ص44) ، .. إلى غير ذلك من مشاهد من حقول أربعة (الوجدان ، السياسة ، الدين ، الإجتماع ) .

   جاء هذا التوصيف مشبوكاً بمشاعر الغضب والإدانة .. وأنا أقدر مشاعر الغضب هذه وأفهمها ، بل وأعذره في مناحي عديدة .. لأن ما وصلنا إليه لم يعد محزناً بل أصبح يثير غضب الحليم .

   ولكن ، ورغم تفهمي لهذا الغضب إلا أنه ليس مبرراً كافياً ليقترح دكتورنا العزيز حلا غريباً - ولو مرحلياً – في الفصل الأخير من كتابه .. (ولنا وقفة مع هذا الحل في تأمل آت ) .

 

التأمل الثاني .. تجارب الأمم في بناء الأوطان .

   إن تجارب الأمم وخياراتها ليست واحدة أحادية في بناء الأوطان . وقد ميز الباحثون في الشأن اللبناني بين نمطين من البناء القومي :

: النمط الأول ( وهو الرأي السائد لدى الباحثين المتأثرين بالثقافة القانونية والتاريخية للمجتمعات الغربية الكبرى ، تنبني فيه "الأمة" انطلاقاً من مركز يمتد بالقوة إلى الأطراف .. يتشكل المركز عبر منطقة إقليمية أو سلالة حاكمة أو طبقة اجتماعية أو طائفة قوية أو حزب متراصٍّ متمكن ، ثم يمتد هذا المركز إلى الأطراف بممارسة السلطة واتخاذ القرارات . وفي المقابل تمتد الأطراف إلى المركز عبر مطالبها الموجهة إلى السلطة المركزية . (انظر : انطوان مسرة ، النظرية العامة في النظام الدستوري اللبناني .. أبحاث مقانة في أنظمة المشاركة ، ص 46) .

والنمط الثاني(حيث يوجد عدة مراكز قوى لا تستطيع واحدة منها الحسم بالغلبة ) ، تنبني فيه "الأمة" ليس على القوة والغلبة لمركز واحد ، بل على سياسة تسوية وتوافق ، يجد جميع الأطراف والقوى الوطنية أنها تحقق الاستقرار ، وأنها المخرج من مأزق النزاعات الداخلية والخارجية (المكلف) ، ومن عدم وجود منتصر .

   والواقع يحتم علينا أن تنضوي صيغة الاجتماع اللبناني تحت هذا النمط الثاني من بناء الأوطان بالمواثيق ؛ وبأي شكل من أشكال الاتحاد أو الائتلاف أو التوافق والوافاق : بين المتعدد والمختلف . وهو نمط يتمثل في عديد من الديمقراطيات الأوروبية الصغرى .

التأمل الثالث .. قيام لبنان على فلسفة التسوية .  

   إن فلسفة التسوية تحتاج منا إلى مزيد تفكير ، ومزيد اضطلاع على تجارب الأمم ، وكتابات الفلاسفة . وربما ، يأتي دور التفكر الفلسفي في لبنان لتوضيح أسس هذه الفلسفة ، وكيفية الاستفادة من التجارب المضيئة في هذا المجال ( كما أشار دكتورنا العزيز مشير عون : سويسرا وبلجيكا وكندا ...) .. للانتقال بها من تسوية حصص ومصالح تزيد وتنقص مع تأرجح ميزان القوى ، إلى تسوية ميثاقية حقوقية لها صفة الاستمرارية .

   إن التسوية كفلسفة ميثاقية تفترض : تنازلات متبادلة ، وحماية لحقوق كافة الأطراف ( دولة الحق وليس فقط دولة القانون ) ، وعدم وجود غلبة لأحد الأطراف ... ولا بد من التنبه إلى وجود مسائل أساسية غير خاضعة للتسوية ، مثل : لبنان في حدوده الإقليمية ، عروبة لبنان المسقلة عن أية وصاية ، كرامة الجيش اللبناني ، خضوع الأجانب للقوانين اللبنانية ..

   وفي المقابل فإن التسوية ليست من جنس "المساومة" ، والفرق أن المساومة قد تخرق حقاً من الحقوق الأساسية ، أو قد تكون تحت ضغط انهزام وغلبة ، فيلجأ المغلوب إلى ترتيب مرحلي تكتيتكي يسميه "تسوية" . وهو في الحقيقة مساومة على الحقوق (حتى لا أقول على المصالح ) بانتظار تغيير موازين القوى لتنشأ مساومات أو تسويات أخرى .

   إن فلسفة التسوية الميثاقية اللبنانية هي خيار حر وشبه وحيد ، للخروج من مأزق النزاعات ، ولحسن إدارة التعدد والتنوع ، بكافة أشكاله . ( تسوية في الحقوق لا اقتسام مصالح) .

   ومن هنا ، فإن الفلسفة مطالبة – من وجهة نظري ، وبناءً على وجود هذا الكتاب بين أيدينا - بأن تقوم بدورها في التفكر بفلسفة التسوية ، وأن تعمل العقل في احتمالاتها ومزالقها وضوابطها ومظانها . وهذا ما قد يؤمّن للوطن احتمالات تنميةٍ متوازنةٍ ومستدامة لجميع فئاته . كما أن هذا يؤنسن الفلسفة ، لأنه يجعلها تنظر في المعيش وتعترف بحدود الإنسان وطاقاته .

التأمل الرابع .. الوطن خبرة وتجربة ولا يحتمل التجريب .

   إن القيادات المستنيرة للدول ، وكذا الشعوب ، تستفيد من نضالاتها التاريخية ومن التجارب التي عاشتها ودفعت أكلافها . وذلك كي لا تتكرر المآسي والحروب والنزاعات .

   وفي هذا السياق ، أرى أن للبنان تاريخه وتجاربه ونزاعاته الداخلية والخارجية التي لا بدّ أن تؤخذ بعين الاعتبار .. ويتعيّن أن ينبني أي تفكير رؤيوي مستقبلي - أو بحسب تعبير د .عون - أي طريق إلى الخلاص .

   ومن هنا ، فإنني أعجب من الاقتراح الذي يورده د .عون في الفصل الختامي ، حول " الإكراه الخلاصي" .. وأن الطريق إلى العلمانية الهنية والنضج الديمقراطي لا بد له من أن يمر في "طور ملتبس من الاستبداد اللبناني المستنير" (ص85) .. وهذا يعني ، "أن يسلَّط على لبنان مدبرٌ تنتدبه الامم المتحدة باسم شرعة حقوق الإنسان ... ومن مزايا هذا القاضي المدبّر ، أن يُخضع اللبنانيين جميعاً لأحكام شرعة حقوق الإنسان ..."(ص85)

   ونتشارك هنا التفكير : تدلنا التجارب البعيدة والقريبة التي عشناها أن الشعب اللبناني لا يحكم بالقوة وخاصة من الخارج وبعدما قطعنا ما يقرب القرن من الاستقلال ، وقد أثبتت هذه التجارب أنه عندما يدخل فريقٌ خارجيٌّ - عموماً – ليصبح جزءاً من تجاذب القوى الداخلية ، ويحاول السيطرة ومصادرة القرار من الجميع بالقوة ، وكلما قارب الوصول إلى مراده ، يكون قد كتب نهايته بيده ..

إن الدرس التاريخي هنا ، أن لبنان هو أرض التوازنات ، لا يحكم بالقوة .. بل بميثاقٍ استراتيجيٍّ لا يخضع للمساومات التكتيكية ..

   ولو سلمنا جدلاً ، بهذا المندوب من الأمم المتحدة "لبلوغ سن الرشد أو حتى نعود إلى رشدنا" ، فمَن هي الجهة التي ستفرض بالقوة على جميع اللبنانيين القبول بهذا الحل ، وإن كان مرحلياً ؟ ..

   وأقول ، إنه رغم وجود اتجاه حالي لدراسة تكوين الأمم انطلاقاً من القمة ، أي بفرض دولة حديثة على مجتمع تقليدي .. إلا أن هذا يظل في إطار الفرضيات ، وهو من جنس التجريب المفتوح على حروب أهلية ، وعلى تكرار أخطاء الماضي ومآسيه .. (الوطن خبرة تاريخية .. والاستقرار السياسي والاجتماعي يتأسس على دراسة الواقع لاستنباط الحلول وتطوير الواقع ، الأنموذج الكندي : الفيلسوف تشارلز تايلور في كتابه : العلمانية وحرية الضمير – دولة حيادية علمانية تتأسس على حاجات الناس وخبراتهم على تاريخ وواقع) .

التأمل الخامس ..اللاهوت المسيحي يوفر قابلية للديمقراطية ..

خصص د . عون الفصل السادس لدراسة الإعضال الديمقراطي الذي يصيب الاجتماع اللبناني ، ويشلّ فيه كلّ توقٍ إلى الإصلاح .. وحتى تأتي دراسته متكاملةً كاشفةً عكف على التبصّر في جانبين : جانب العوائق التي تنتصب في مواجهة الديمقراطيّة وتعارضها ، وجانب القابليّات المناصرة للديمقراطية ..

وهذا الفصل وحده يحتاج برأيي إلى طاولة حوار فلسفي ، تنصبّ أعمالها على مناقشة وتقييم ما هو قائمٌ في لبنان من سياقاتٍ ديمقراطية ، منها : المشاركة في السلطة وفي الموارد ، تعدّد الأحزاب ، حرية التعبير عن الرأي .. إلى غير ذلك من سياقاتٍ ديمقراطية .. ثم الالتفات إلى معوقات مساراتٍ هامةٍ من مساراتها (وأهمها : المحاسبة ..) للخروج بها من ديمقراطية مسطحة إلى ديمقراطية حقوقية إنسانية ، تضمن حريات كافة الأطراف ، وترعى الاختلاف الثقافي والتنوع الفكري والديني . وبذلك تكون الفلسفة فاعلةً في المجتمع ، ومتفاعلةً مع تحدياته ومشاكله .. كما كان حالها في المفارق التاريخية الكبرى للعالم المتقدم .

والملفت أن دكتورنا العزيز يضع لبنان والدول العربية ودول العالم الثالث في سلة ديمقراطية واحدة .. وهذا موضوع قابل للنقاش .

أما الفكرة التي تستوقف القارئ – المسلم خاصة : فهي أن لبنان يتألف من كتلتين كبيرتين : الكتلة الثقافية المسيحية ، والكتلة الثقافية الإسلامية . وكل كتلة تقدّم – انطلاقاً من معتقداتها ومن منطوق النص الديني لديها – تصوراً تاريخياً للإنسان ، يتباين في أصوله وفي طبيعة مقاربته .

وهذا كلامٌ يدلّ على التباين الثقافي والديني ، وهو واقع لا يمكن إنكاره . ولكن أن يكون هذا الاختلاف الثقافي في تعيين جوهر الإنسان مؤشراً لقبول الديمقراطية أو عدم قبولها ، فهذه مسألة تحتاج إلى نقاش .

وخاصةً أن الناتج منها هو أن اللاهوت المسيحي يوفر قابلية للديمقراطية أكثر من اللاهوت الإسلاميّ ..وأظنّ أنّ زميلي الدكتور قانصو سوف يتوقف عند هذين التصورين للإنسان : "ابن الله في المسيحية" و"الخليفة في الإسلام" ..

ولكن أشارك فأقول ؛ إن ميل المسيحيين لقبول الديمقراطية أكثرمن ميل المسلمين – إن صح ذلك – فهذا يرجع إلى أسباب تاريخية (تحتاج إلى نظرٍ واسعٍ ومناقشة متأنية لمسيرة الديمقراطية) ، وعلى كلّ الأحوال فلا يمكن أن يرجع هذا الميل إلى أسباب لاهوتية تتعلق بتصور الطرفين لجوهر الإنسان .

التأمل السادس .. كل نظامٍ سياسيّ له أمراضه ..

إن الركون إلى فكرةٍ مثاليةٍ للعلمانية يثير تحفظاً فلسفياً .. وذلك لأن كل نظامٍ له أمراضه ، ويحمل في ذاته بذور فساده ، ولا يعفى من وضع آلياتٍ للمراقبة والمحاسبة والمراجعة .. إن الإتيان بنظامٍ جديدٍ لا يحتوي على أمراض النظام القائم لا يجعله نظاماً سليماً من الأمراض .. ولا يمكن اعتباره كذلك .

التأمل السابع والأخير .. وبه أختم : الجواب على سؤال العنوان : "أهؤلاء هم اللبنانيون؟" .

بعد رحلةٍ فكريّةٍ طويلةٍ في متعرجات الكتاب وتضاريسه ، أقول جواباً على السؤال ، كما قال ابن عربي لابن رشد : نعم ولا .

نعم هذه خصال سيئة لبنانية ، هذه ممارسات سياسية لطبقة القوة والمال والسلطة .. ولكن الإنسان اللبناني غنيٌّ بالإمكانات غير المتوقعة ، وهو في شريحةٍ كبيرةٍ من شعبه منزهٌ عن سفاسف الأمور ، يسعى جاهداً لبناء الخير المشترك ، وليس المصالح المشتركة فقط ، يلتقي حول ثقافة حقوق الإنسان ، ويجتهد لحمايتها في أطرٍ قانونيةٍ .. إن الكثرين من اللبنانيين يعملون حثيثاً على الانتقال من إرساء ميزان القوى إلى إرساء ميزان الحقوق .. وأظنّ جازمةً أن مؤلف هذا الكتاب هو واحد منهم .. وكذا الحاضرين في هذا المحفل الثقافي ..

أتمنى أن أكون قد تلقيت كتاب الزميل العزيز مشير عون ، بما يليق به من الاحترام العلمي .. وأعملت عقلي على التفكّر حول أفكاره . وأرى أنه كتابٌ يستحقّ أن يقرأه اللبنانيون بعناية وفي هذا الوقت بالذات ، وتدفعهم القراءة ليس إلى الاصطفاف : مع أو ضد .. ولكن إلى النظر في الذات اللبنانية ، وفي الوجود اللبناني .