أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

تكريم الدكتور معين حدّاد

معين حداد جغرافي مسّه التفلسف

كلمة د. نايلة أبي نادر

 

يقول غوته: "أحببتُ الحياة لأن فيها من يحبني"، مشيراً الى أهمية الآخر، الى أثر نظرته وانهمامه بنا، الى المعنى الذي يضفيه على أيامنا حين نشعر أننا محاطون به. وها نحن اليوم نتحلّق حول علمٍ عرف كيف من خلال حبه للمكان أن يَحبك الصِلات بساكنيه، فيحيط نفسه بمن أحبوا عمله، واستفادوا من عطاءاته، واستناروا بعلمه، وهم كثر.

عندما يكرّم منبر الحركة الثقافية أحد أعلام الفكر في لبنان أو العالم العربي، فهو يبغي في ما يبغيه أن يحتفي بوليمة المحبة على مذبح الفكر، ليقدّم للمكرّم أرقى ما ينبض به وعيٌ محب ومعترف بالجميل، يتلقّى المعرفة باحتفالية إنسانية عنوانها ردّ المحبة بمثلها، ورفع الاسم عالياً ليملأ أكبر جغرافيا قلبية ممكنة.

معين حداد، أسمٌ لمع في رحاب الجامعة اللبنانية، ليشعّ معرفةً تلقفتها بلاد الافرنج وأفسحت لها المجال لكي تخترق منابرَها الأكاديمية إرضاءً لظمئها العلمي. إنه إبن هذه الأرض التي احتلّت مساحة ضيّقة في جغرافيا الشرق الأوسط، لكنها ضجّت بالأحداث المدوّية التي وسّعت من رقعة انتشارها على مدى خريطة العالم.

بين معين حداد وبين الأرض أكثر من قصة وأبعد من رباط.

بينه وبين الجغرافيا أكثر من خريطة وأبعد من موقع.

بينه وبين البيئة أكثر من نظرية وأبعد من دراسة.

بينه وبين الجيوبوليتيك أكثر من كتاب وأبعد من أفق.

بين معين حداد وبين الفلسفة أكثر من حسن توظيفٍ لمصطلح وأبعد من صدفة.

تمكّن من أن يفتح اختصاصه على باقي الحقول المعرفية، والموضوعات الساخنة المطروحة بقوة على الساحة العالمية، ليخرج من الخاص الى العام، ومن الدائرة الضيّقة الى المدى الأرحب.

أراه غير منضبط بمقاربة محدودة الأفق، يقف خارج أي نهج أحاديٍ مستقيمِ الخطى، لا تستهويه الإقامة في الشرانق مهما غلا ثمن حريرها. يعزف نظرياتهِ على مقام الأنا أفكر، والأنا أختبر، والأنا أراجع وأنتقد. لا تهدأ قريحته، تراها في صخب الدوران حول الإشكالية وفي عمقها. يحلو له أن يتمرّس في الحفر والنقر على وتر المكان ليحلّق عابراً في الزمان بين التاريخ البعيد والحقبة المعاصرة، باحثاً، ومنقباً، لا يهدأ ولا يستكين. نجده يتنقّل من مشروع الى آخر، ومن إنجاز الى ما يليه، لا تعرف النقطة الختامية الى نصه سبيلاً، إذ يتركه مفتوحاً على النقاش، ومشرّعاً أمام النقد.

في كتابات معين حداد مخزون ثقافي عارم، يغوص في الجغرافيا غوصاً متعدّد الأبعاد والمقاربات، ومن وجهة مشبّعة بالحداثة. تجد الانتروبولوجيا حاضرة في دراساته، كما أن السياسة تجاورُ الجغرافيا وتدخلُ معها في جدلٍ مثمر، كذلك نجد البيئة تُقارَب من زاوية النزاع الدولي لتبدو بصورة أقل كارثية من المقاربات الأخرى. يستوقفنا عنوان لأحد كتبه سطّره في نقد الفكر الوطني، هذا النقد الذي يحتلّ مقاماً هاماً في سياق معالجة شروطِ تحقّق الأوطان في جغرافيا العالم. يبدو جلياً أن الفلسفة قد مرّت به وتركت بصمات واضحة المعالم، ليس في اختيار عناوين كتبه وحسب، إنما أيضاً في النظرة المشكَلة الى المكان والانسان وما بينهما من علاقة برية وبحرية، على سبيل المثال لا الحصر. لم تعد الخريطة الجغرافية عند معين حداد مجرّد انسياب خطوط، وتحديد مواقع، ذهب بها الى حيث الماوراء، الى فعل الأشكلة نفسه، الى المكان المتعمّد بميرون الفكر، وقلق السؤال، والتنقّل بين الأضداد، الى حيث لا يجرؤ الدخول الا لمن بلغ سن الحكمة والرؤية الحسنة.

في وطن محموم كلبنان، ومنطقة مضطربة كالشرق الأوسط، ومحيط متفجر كالذي نغرق فيه، لا يسع معين حداد أن يبقى أستاذا بارداً، بلا موقف ولا رأي، يتلقّى ما يحدث ويكرره أمام طلابه. اختار أن ينخرط في ورشةٍ وضعَ شروطها بنفسه، من دون أن يمليها عليه أحد سوى شغفه المعرفي، وفضوله العلمي. لكن، للأسف، ان الشاشات المتنوعة والتي تضج بالبث التحريضي المباشر، وتتباهى بكميات التسطيح التي تنشرها، لا تعرف ان تحطّ عند ما أنجزه أمثال معين حداد، لتفسح لهم المجال في ترسيخ النظرة العلمية كما المقاربة الموضوعية من حولهم، حيث العالم قائم على العصبية والغريزة والسخف المستفحل. ساعات البث المباشر لا تجد متسعاً من الوقت لمن قدّموا أفضل ما عندهم في مجال البحث والتنقيب وإنتاج المعرفة. ذنبك أنك تفكر. وجريمتك أنك تنتقد. ونقطة ضعفك أنك لا تتقن التسطيح، ولا زرع الفتنة، ولا التضليل.

يرى بركلي أن "أطول الناس حياة أكثرهم فكراً، وأشرفهم شعوراً، وأصلحهم عملاً"، فانعم يا معين حداد بطول عمر يمتدّ طالما أن على الأرض عيناً تقرأ، ووعياً يسأل، وعقلاً يتفكّر. مبروك على الحركة الثقافية تكريمك، ودمت علماً متربعاً على عرش الفكر الجغرافي اللبناني والعربي.

__________________________________

كلمة الدكتور رضا إسماعيل

__________________________________

 

كلمة شكر للدكتور معين حداد

اتوجه بالشكر الجزيل للحركة الثقافية انطلياس وللقيمين عليها . لقد بات البلد بأسره يدين لها بما يكتنز فضاءه الثقافي من قيم ومعاني على قدر كبير من الاهمية. غير ان هذه القيم والمعاني تجد نفسها في مواجهة شديدة الحدة مع مجريات العديد من الامور من بينها واخطرها راهنا المسألة البيئية.

في كتاب عنوانه "الانهيار" بالانكليزية"Collapse" يتقدم استاذ الجغرافيا في جامعة كاليفورنيا- لوس انجلس- جارد دياموند"Jared Diamond" بنظرية مثيرة تذهب الى حد التأكيد على ان المجتمعات قد تأخذ قرارا بالانتحار وتنفذه من خلال تدميرها لبيئتها... ويعطي على ذلك امثلة عديدة  كالفيكينغ والمايا ...وغيرهما... تحيلنا هذه النظرية على ماجرى ويجري في لبنان مؤخرا لجهة مسألة النفايات الكارثية بحيث يبدو لنا وكأن المجتمع اللبناني  قد اخذ قراره بالأنتحار.

على ان مسألة النفايات  ومضاعفاتها  ما هي  في التحليل الأخير ، ومن الدخول في التفاصيل، الا حاصل التنابذ والتفكك في المجتمع اللبناني خلال العقود الأخيرة.

هل يعني ذلك ان مآل الأمور الى الأنهيار أو الأنتحار كما تناولهما دياموند؟

في الواقع تشير تجارب شعوب عديدة الى امكانية النهوض على  رغم التفكك او التحلل وما يتأتى منهما من معوقات.

نتوقف هنا عند التجربة الألمانية في القرن التاسع عشر حيث ان البلاد كانت مجزأة  وأهلوها عاجزون عن تحقيق التآلف فيما بينهم، وكانت وحدتهم تبدو من باب الأوهام الغير قابلة للمنال حتى ان كارل ماركس لطالما كان يلمح الى ان العقل الألماني  لا يجيد التعامل  الا مع الطوباويات  وهو  لا يملك الملكات العملية التي تمكن اصحابه من تحقيق وحدتهم الأمرالذي يبقي انقساماتهم تتحكم بمصيرهم.

لنستعيد في هذا السياق مقطعا من قصيدة للشاعر الألماني الساخر هنريخ هينه"H. Heine" والتي يقول فيها

"للروس وللفرنسيين البر، وللأنكليز البحر

اما  نحن فلنا الأثير والأحلام 

وفي هذا لا يضاهينا احد 

رفي الاوهام نمارس هيمنة مطلقة

فيها فقط لا ننقسم 

وفيما عدا ذلك على كل شيء نختلف"

ولكن ما إن احلت الستينيات من القرن التاسع عشر حتى تمكنت المانيا من تحقيق وحدتها  وباتت تلك القوة الناهضة التي راحت تذهل الجميع في مختلف الميادين  من علمية وفنية واقتصادية وسياسية...

على هذه الملاحظة المتفائلة اشكر مشاركتكم في هذه الندوة التكريمية.

 

معين حداد