تكريم الدكتور أنطوان سيف

كلمة د. وليد خوري في تكريم د. أنطوان سبف

 

أنطوان سيف: التجربة الممتلئة

 

 

يكفي أن تقلّبَ سيرتَه الذاتية حتى ترتسمَ أمامَك معالمُ تجربةٍ ممتلئةٍ،يتكامل فيها العلمُ والعمل، تحوي من الثراء ما يثيرُ الإعجابَ،ومن فنون المعرفةِ ما يحرّك الألبابَ،تنجلي مداركُها فيما يزيدُ عن ثلاثماية عنوانٍ بين كتبٍ منفردةٍ وجماعية وأبحاثٍ ومقالاتٍ وندوات،يجمعها،عقلٌ متحفّزٌ،يُتقِنُ اللعبَ على خطوط الوصل والفصل بين الفلسفةِ بمقاصدها الكليةِ والتاريخِ بوقائعه اليومية، قلّْ بين الكلي والتاريخي،وقد استويا أصلين جوهريين،استحكما ببنية تفكيره و بالمادة النصية،التي أنتجها، الحاضنةِ لأنواعٍ شتى من العلوم الفلسفيةِ والتاريخية والاجتماعية والتربوية والانسانية بعامة والمطعّمةِ بلُمَعٍ من أدب الجماليات،فإذا الفلسفةُ على محكّ تجربته، فعلُ قراءةٍ خلاقة، والفيلسوفُ قارئٌ محترف، يُخضِع كلَّ ما يقع في مدار حواسه أو في مدى بصيرتِه ومرماها، لقراءته الحافلةِ بالأسئلة والامتحانات.إنجازٌ معرفيٌّ وثقافي متعددُ الآفاقِ،طبعَ مسيرةَ أنطوان سيف الفكرية،زاد قامتَه بهاءً وحكمةً، وكرّسه باحثاً متمرساً، يمتلك من الأدوات المنهجيةِ، ما أفرزته العلومُ الانسانية والاجتماعية الحديثة،يستثمرها واثقاً،متمكِّناً،في محاورة النصوصِ واستدراجِها إلى الإفصاح عن المسكوتِ عنه في منظومها، من المعاني والدلالات،إلى قول ما لم تقلْه أوقيل فيها تأويلاً فكرانياً،على حساب حقيقةٍ ما،بقيت طيَّ التهميش.

 

هذه التجربةُ الفذّةُ، مدينةٌ في رحابة أمدائها،وانبساطِ مقاصدها،لمقدماتٍ،صاغتها بداياتُ أنطوان سيف،طالباً في كلية التربية،يدرسُ الفلسفةَ،بتياراتها المختلفةِ على كبار الأساتذةِ والباحثين في موضوعاتِها،يسبرُ أغوارَها،ويقفُ على أسرارها ويشتغلُ بها تدريساً وبحثاً وتأليفاً،ويعملُ تحت قوسِها في الاجتماع والثقافة والتربية،فانتهت عنده نهجاً في التفكير والممارسة،يتغيّا تحريكَ الأسئلة وفتحَ المعابر إلى فسحاتٍ معرفيةٍ مضيئةٍ ونضرة.

استظلّ أنطوان سيف أنوارَ الفلسفة،تزيّنَ بحكمتها،تشبّعَ عقلُه من صرامةِ منهجها ودقةِ معانيها واستقرّت لغتُه على محكمِ اصطلاحها وبلاغةِ منظومها،في مياهها تعمّدَ وعلى نارها تقلّبَ تطهيراً للنفس من دنس العصبانيةِ وتحريراً للعقل من سطوة الغيبِ وجلبةِ اللامعقول،وثقلِ الأيديولوجيا.

لكن التفلسفَ أو الاشتغالَ بالفلسفة في بيئة ترجّحَ على مرّ تاريخِها،الرأيُ المكفّرُ للفلسفة وأهلِها والمهمّشُ للعقل ولأهليتِه في انتاج المعرفةِ ونقدِها،والمقيّدُ للحرية وللقيمِ المنبثقةِ عنها،اختيارٌ يشي بالمكانةِ التي يحتلُّها الرهانُ على العقل النقدي في تجربة سيف الفكرية،وهو في رهانه على هذه الملَكَة،يكشف عن إدراكه العميقِ لماهية الفلسفةِ،لحقيقتِها،لكونها نظرٌ في الأشياء،يعقِبُه علمٌ بأسبابها وحقائقها.

هذا الالتزامُ الصارمُ بالعقلانية، ثقافةً ومنهجاً،لم يكن، عند أي مفصلٍ من مفاصلِ تجربتِه، موضوعاً للمساومةِ،استجلاباً لمنفعةٍ،أو تملُّقاً لسلطان،في زمنٍ دأبَ الكثير من المثقفين على تلمّسِ دروبهم،عند أعتاب أهل السلطة،يستهدون بعقول أصحابِها العقيمةِ والخاويةِ من كل قيمةٍ معرفيةٍ أو أخلاقيةٍ أو وطنيةٍ.

هذه الملكةُ الفلسفيةُ الناقدةُ،سكنت لبَّ تفكيرِه وميّزت حضورَه الكثيف في ميادينَ وحقولٍ شتى،نشطَ فيها وأبلى،لكن شدّةَ وقعِها تجلت في رحلةِ الكشف عن المسكوتِ عنه في الكثير من النصوصِ والمفاهيم القديمة والحديثة،فكانت البدايةُ مع الكندي(٨٠١م-٨٧٣م) وموقعِه في تاريخ الفلسفةِ العربية ومع المؤرخين الذين اعتبروه مؤسسَ الفلسفةِ العربية،وواضعَ مصطلحِها،اعتبارٌ لم يرقَ إلى درجة القطعِ ولا الترجيحِ في الخلاصاتِ والنتائجِ التي انتهى إليها أنطوان سيف في حفرياته.

توسل أنطوان سيف في حواره مع نصوص الكندي بمنهجيةٍ متعددةِ الرؤوس،تتحرّكُ بين التحليلِ الفيلولوجي، البنيوي والاستقرائي،و مطعمةٍ بما أفرزته علومُ الانسان والمجتمع من تقنياتٍ معرفيةٍ قادرةٍ على رصد تحولاتِ معاني النصوصِ ودلالاتِها،في سياقاتها التاريخيةِ،منهجيةٌ ناجعةٌ أفضى الركون إليها إلى توالد الأسئلة من رَحِم بعضِها البعض،فخرجَ مع تداعياتها،إلى الضوء،المسكوتُ عنه واللامفكّرُ فيه في النصوص التي أجرى عليها قراءتَه العميقةَ و المتفحِّصة.

في كتابيه عن الكندي،(الفيلسوف الكندي:مكانتُه عند مؤرخي الفلسفةِ العربية،ومصطلحات الفيلسوف الكندي"بحث تحليلي")،استطاع أنطوان سيف،من خلال هذه المنهجية،أن يبرّرَ طرحَ السؤالِ من جديد حولَ مشروعيةِ ريادتِه في تأسيسِ الفلسفةِ العربية وفي وضعِ المصطلح الذي يعبّر عن هويتِها،لقد وجدَ أن الجزمَ بهذه المكانةِ للكندي مع غيابِ المستنداتِ والوثائقِ التاريخيةِ الحاسمة،التي أهملَها المؤرخون وصاغوا أحكامَهم متغافلين عنها،هو ضربٌ من التسرّعِ،يقع في غيرِ محله من الموضوعيةِ العلمية،لاسيما،إذا كان الأمرُ قد جرى قبلَ البحثِ في الخصائصِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ للمرحلة السريانيةِ السابقةِ لظهور الكندي والمرحلةِ الاسلامية التي تلتها وتلك التي عاصرها وكان له بها اتّصالٌ مباشر.

أما فيما يعود إلى المصطلح،فيجد أنطوان سيف أن مؤلفات الكندي التي بين أيدينا(...) لا تسمح بمعرفة مدى مساهمتِه في وضع المصطلحِ الفلسفي،بشكلٍ مقنع،حتى أن القولَ بمشاركته المترجمين في اختيار المصطلحاتِ العربية التي يمكنها أن تؤدِّيَ معنى المصطلحِ اليوناني أو السرياني،يبدو ضعيفاً لأن الكندي كان يجهلُ اللغتين اليونانيةَ والسريانيةَ،مع الاشارة إلى أن المترجمين المعاصرين له،انطلقوا بدورهم من مصطلحاتٍ،كانت قد وُضعت سابقاً،وبعدَ أن يوردَ سيف رأياً لهنري كوربان،يفيد"أن الأقربَ إلى الاحتمال القولُ أن الكندي لا يقومُ بأكثرَ من استعادة المصطلحاتِ التقنيةِ التي استعملها مترجمو عصره،وليس صحيحاً أنه هو من وضعَ هذه المصطلحات"،ينتهي إلى تأكيد هذا الرأي من خلال نصٍّ للكندي نفسِه،يقول فيه:"فحسُنَ بنا... أن نَلزَمَ في كتابنا...ما قال القدماء في ذلك قولاً تاماً على أقصرِ سبُله وأسهلِها سلوكاً على أبناء هذا السبيل،وتتميمَ ما لم يقولوا فيه قولاً تاماً على مجرى عادةِ اللسان"ويعلّق سيف بالقول"فمنْ كان هذا نهجهُ فمن الصعبِ تحميلِه طموحاتٍ...لاستحداثِ مصطلحاتٍ جديدةٍ،فكلُّ الأفكارِ القديمةِ والحديثة يعبّر عنها"كما يقول على مجرى"عادة اللسان".

اهتمامُ أنطوان سيف بفلسفة الكندي وبالمصطلحِ عنده،بأصولهما اليونانية،وذلك عقِب اكتمالِ اختصاصه الأكاديمي في الفلسفة،وتشبّعِه من تاريخها وتمكّنِه من الفلسفة اليونانية وأعلامِها لاسيما سقراط وأفلاطون وأرسطو،يقودنا إلى تصدّيه لترجمة كتاب"quelle philosophie pour le 21ième siècle?أي فلسفة للقرن الحادي والعشرين"(وهو،عبارةٌ عن مجموعةِ أبحاثٍ،قُدِّمت باللغة الإنكليزية،في مؤتمر نُظِّمَ في باريس بالتعاون بين مركز جورج بومبيدو ودار النشر غاليمار،سنة ٢٠٠٠ ...)فجاء العمل،علامةً فارقة في مسيرته البحثية،لأن الكتابَ،إنجاز ٌفلسفيٌّ مركّب،جمعَ بين دفتيه قراءاتٍ معاصرةً للمقولاتِ العشر عند أرسطو وهي لبُّ فلسفته،قام بها عشرةٌ من كبار الفلاسفة المعاصرين،تناول كلُّ فيلسوف منهم، من موقعه الفلسفي وخلفيتِه الثقافية،ومنهجيتِه البحثية،مقولةً من هذه المقولات،فكتب -الجوهر:Jules viullemin -الكم:Jaques bouvresse -الكيفIAN HACKING -الإضافة:Vincent Descombes -المكان:Gilles-Gaston Granger -الزمان:John R.Searle -الوضع:Jocelyn Benoist -الملك:Salvatore Veca -الفعل:Donald Davidson -الانفعال:Stanley Cavell (الجوهر،الكم،الكيف،الزمان،المكان،الوضع،الإضافة، الملك،الفعل،الإنفعال).

عشرُ قراءاتٍ معاصرةٍ لعشر مقولاتٍ،شكّلت في تاريخِ الفلسفة مادةً للنقدِ والمراجعة،لكنها صمدتْ وبقيتْ إرثاً أرسطياً مؤسِّساً للعقلانية وضابطاً لمنطقها الصارم.

لم يكن أنطوان ليتنكّب هذه المهمة لولا ثقتَه بالثقافة الفلسفية التي يختزنها،مع امتلاكِه للغة المنقولِ عنها وهي الفرنسية،التي نُقِل إليها الكتاب على يد بيار-إيمانويل دوزات،وللغةِ الإنكليزية باعتبارها اللغة ،التي وُضِعَ فيها الكتاب،أضف إلى ذلك،خبرتَه مع المصطلح اليوناني،بلغته الأصلية،و تمكنَّه من قواعدِ الترجمة العلمية،ومن اليسرِ الذي يرافقُ استثمارَه للمنهجيات المعاصرة،في تفنيد شروطِ استعمالِ المصطلحِ العربي استعمالاً يستجيبُ لمتطلباتِ الأمانةِ في نقل المصطلح الفرنسي،ومراقبةِ سلامة نقله عن اللغة الإنكليزية،دون أن يُغْفِلَ الحرصَ على أن يبقى معنى المصطلح في أصله اليوناني،المعيارَ الحاسمَ لصحة النقل وتكافؤ اللفظ والمعنى.لا شك أن مثلَ هذا العمل يتطلّبُ اطِّلاعاً واسعاً على الفلسفات الغربية عموماً ولاسيما الفرنسية والإنكليزية واليونانية منها،ويستلزم إلماماً وافياً بالخصيصة الفيلولوجية لكلِّ لغة من اللغات المنقول عنها كما للّغةِ المنقول إليها.والمكرَّم،عرِفَ كيف يستفيدُ من مزاياه اللغوية والفلسفية في نقل هذا المؤلَّف،نقلاً هو أقربَ ما يكون إلى الأمانة،فالتعليقاتُ على النصّ والهوامشُ التي تذيِّلُه،كافيةٌ للتعبير عن ثقافته الفلسفية المترامية،وخبرتِه في نحتِ المصطلح الفلسفي بالعربية،فقراءةُ الترجمة،تشعرُ القارئَ أن الكتابَ موضوعٌ باللغة العربية،أو كأنه نصٌّ على نصّ أوكلامٌ على كلام وهو أصعبُ الكلام (برأي التوحيدي).

لم يقف أنطوان سيف في استثمار منهجيته المركّبة عند حدودِ الفلسفة المنشغلة بالكلّي من المعاني،بل تعداه إلى الفكر العربي الحديث، يتعقّب حضورَ المفاهيمِ القِيَميَّة الجامعة، فيما حَمَلَه من أفكار حداثية تجلّت عند مفكرين لبنانيين،جمع ثلاثةً منهم، في كتاب أصدره تحت عنوان:ثلاثةُ حكماءَ من جبل لبنان:بطرس البستاني،كمال جنبلاط وعادل إسماعيل؛حوارٌ مثمر أجراه مع بعضٍ من إنتاجهم الفكري،أكتفي منه بثلاثة مفاهيم محورية،،تطرق إليها أنطوان سيف،تجلّت عندهم، تتصل بواقعنا الراهن،الوطنيةُ،التسويةُ والحوار،عمِل على تظهيرها،تعبيراً عن الحاجة إليها في وطن رافقته على امتداد مائة عام، الشكوى من قلّة الوطنيةِ الصادقة وانسدادِ أفقِ التسوية البنّاءة،وانقطاعِ سبُل الحوار المجدي .

يعتبر سيف أن الوطنية قد نالت حقَّها في أدبيات بطرس البستاني،لقد كتب المعلمُ تحت عنوان"أبناءُ الوطنِ""الوطنُ أشبهُ بسلسلةٍ متصلةٍ كَثُرَت حلقاتُها،طرفُها الأول منزلُنا أو مسقطُ رأسِنا بمن حواه،وطرفُها الآخرُ بلادُنا ومن عليها،ومركزُ طرفيها ومغناطيسُهما قلبُنا..."،لئن بدا هذا المفهومُ للوطن على شيء من الالتباسٍ والغموضِ عند البستاني،فإن خطابَه إلى أبناء الوطن في واجباتِهِم حياله وحقوقِهم عليه، يبقى في وضوحه الناصع، خيرَ هادٍ لكل محبٍّ لوطنه ومؤمنٍ بديمومته.

يُكمِلُ سيف تفنيدَه لوطنية المعلم بطرس،فيجدُ عندَه أن على الوطن حقوقاً لبنيه، منها"منحهُم الحريةَ في حقوقهم الأدبيةِ والمدنيةِ والدينية،ولاسيما حريةَ الضمير في أمر المذهبِ وما أكثرَ الذين ذهبوا شهداءَ هذه الحرية"وكأني بسيف يسأل،أين نحن اليومَ من حرية المذهب،والوطنُ غارقٌ في طائفية،تحاصر أبناءَه،تسدُّ عليهم سبُل تنظيمِ حياتهم في ضوءِ ما تقتضيه القوانين الوضعية،وقضايا الأحوالِ الشخصية،من الأمثلة الدامغة على هذه المحاصرة،ويتوقف سيف عند تأكيدِ البستاني على واجبات الأبناءِ تجاه وطنِهم،أولُها،حبُّه"حبُّ الوطن من الإيمان"وما أكثرَ الذين بذلوا حياتَهم...حباً لوطنهم،وأما الذين يُبدلون حبَّ الوطن بالتعصّب المذهبي ويضحّون خيرَ بلادهم لأجل غاياتٍ شخصية فهؤلاء لايستحقون أن يُنسبوا إلى الوطن وهم أعداءٌ له،...

ويتابع د.سيف وطنياتِ البستاني،في الخطبة الرابعة نفسِها"في نفير سوريا""يا أبناءَ الوطنِ نحذّرُكم من أربعةِ أمور:من التعنّتِ،والتحكّمِ،والتعصّبِ والبُطْلِ،فإنها ليست من الخيرِ في شيء وننبّهُكم إلى الكلمةِ الذهبية،كما تريدون أن يفعلَ الناسُ بكم،هكذا إفعلوا بهم أنتم أيضاً".لا شكّ أن استحضارَ هذه النصوص يأتي في سياق شعورِ سيف باستحكام هذه الآفات في لبنان،فالتعنّتُ صفةٌ ملازمةٌ لأهل السياسة و أبناءِ السلطة،والتحكّمُ برقاب الناس تقليد سائد،يعبّرعنه انتهاجُ سياسات تلتفُّ على القوانين وتفضي إلى انهيارات اجتماعية واقتصادية،منها الإفلاس والهجرة،والتعصّبُ الديني نجم الساحات والمنابر، يستبدّ بجمهور المؤمنين من كلِّ طائفةٍ ومذهب،والبُطْلُ مستقوٍ بحُماته، يقبض على مؤسسات الدولة،"يُشبِعُها" فساداً وهدراً،أما تلك القاعدة الذهبية التي أطلقها البستاني، فصداها عند الناس شحيحٌ،فليته يقوى،فيستجيبوا ويفعلوا في معظم الحكام والسياسيين ما يفعله هؤلاء بهم.

آفاتٌ،كان لها وقعٌ سيّء على البلاد،حالت دون تقدّمِها وازدهارها،يقول" إن بلادنا المشهودَ لها بأنها من أحسن البلدان،مضت عليها أجيالٌ كثيرة بانت عرضةً لفساد قومٍ من أهلها،لذا ترونها متأخرةً عما سواها من البلدان".

لم يكن اهتمامُ سيف بالمعلم بطرس،وبالأفكارِ الوطنيةِ الرائدة التي نادى بها وبشّر،ودعا إلى اعتناقها،سوى صدى لثقافته العلمانيةِ الآخذة بمبدأ المواطنةِ ،وبالأفكار الحداثيةِ المنجدلةِ حول الانسان وحقوقِه في الحريةِ،والديمقراطيةِ، والعدالةِ،وانهماماً بأعراض التفكّكِ ومشاعرِ التباغضِ التي تضرب أوصالَ الوطن وتتفاعلُ بين مكوناته،وتهددُ وحدتَه.

واصل سيف تعقّبَ صدى هذه الأفكار،بعد قيامِ دولة لبنان الكبير،فكانت له وقفةٌ مع لبنانياتِ كمال جنبلاط،مع نظرته إلى الحرية بما هي أفهوم محيي،فلبنان،يقول كمال جنبلاط:صرْحٌ ديني،فلسفي،علمي،لا مثيل له...، توليفةُ عقلٍ وحرية،التناقضُ،التسامي،التنوّعُ، العقلانيةُ،التفهّمُ،العائلاتُالروحية،المكانُ،الجغرافيا،توليفةٌ كبرى تجد في لبنان دلالتَها الأكثرَ تعبيراً عنها،وينقلُ عنه سيف قولَه:لبنانُ السياسي قائمٌ على هذا التنوّعِ الغريب العجيب،منه يستمدّ هذه الحرية وهذه السماحة وهذه التقاليد الراسخة في الشورى والديمقراطية"،ويَمضي سيف،في تتبُّع هذه الأفكار الوطنية البناءة عند كمال جنبلاط،التي كان يرى فيها ما يسهم في حماية هويةِ لبنان ويضمَنُ استقرارَه،ففيضيف نقلاً عنه،"ولبنانُ في الحقيقة محاولةُ تأليفٍ ضخمة، ومحاولةُ تعاونٍ وانسجام بين النصرانية والاسلام وجميعِ المذاهبِ والفرقِ والطرقِ الفكرية المشتقّةِ منها....وهو نموذجٌ مصغّرٌ لمنطقةِ العالم العربي..."ثمّ ينتهي سيف إلى بيت القصيد عند جنبلاط،إلى التسويةِ كمفهوم يلازمُ الحريةَ ويخدمُ التعدّدَ والتنوّعَ في لبنان،يقول،والكلام لجنبلاط،"هي التسوية وهي قدرةٌ على التكيّف...وكل تسويةٍ هي حوارٌ وحريةٌ وهي إسمٌ للتعايشِ أو الديمقراطية اللبنانية"

هذا التلازمُ بين التسوية والتنوّع،عند كمال جنبلاط،كما تجلّى في قراءة سيف، يحرّكُ النظرَ والتفكّرَ في حضور هذا المفهوم عند ميشال شيحا وكمال الحاج،يقول ميشال شيحا"إن لبنانَ،هو، وإلى "وقتٍ طويل"،بلدُ التسويةِ الطائفية،يجبُ إذاً أن لا نطلبَ منه أن يعاكسَ طبيعةَ الأشياء،إذ من الأفضلِ له أن يعيشَ أعوجَ من أن يحطّمَ أضلاعَه"ويعلّق كمال الحاج على كلام شيحا مع تعديلٍ لافت،يقول:إن لبنانَ هو"دائماً وأبداً" بلد التسويةِ الطائفية،يجب إذاً أن لا يُطلَب منه أن يعاكسَ طبيعةَ الأشياء وإلا عَرَجَ وحطّم أضلاعَه"،وعليه يبدو مفهومُ التسويةِ أكثرَ ثباتاً،والرهانُ على ديمومتها أقوى يقيناً عند الحاج لأنها ملازمة للبنان"دائماً وأبداً"،كأنها،حقيقةٌ من الحقائق المركوزة في كينونته،والمعربة عن ماهيته،في حين،وضع شيحا لبنان بين خيارين:أن يعيش مع "التسوية"أعوجَ الحال، أو بدونها،محطمَ الأضلاع،وربما كان جنبلاط،قد وجد في التسوية نهجاً مناسباً لإدارة التنوّع،و وجهاً من وجو ه الفطنة التي يجب أن يتحلى بها القيمون على وضع السياسات الملائمة في المجتمعات التعددية.

 

كلُّ تسويةٍ هي حوارٌ،كان من شأن هذا القول أن يقودَ سيف إلى منهجية المؤرّخ عادل إسماعيل،المنعقدةِ على التوليف بين الخلافات والتناقضات حول الميثاق الوطني اللبناني،فيرى سيف أن هذه التوليفة،يمكنُ تسميتُها بالوسطيةِ والتصالحية والميثاقية والتوافقية التي لا تُبلغُ عنده إلا بالحوار،و هو بمعناه الأشمل مرادفٌ للسلام الأهلي والعالمي،ولكلِّ تعاونٍ بين البشر،هذا التعاونُ الذي يصنعُ وحدَه الحضاراتِ ويطورها،وهذا هو المعنى العميق لقول عادل إسماعيل"إن مبدأَ الحوار الفكري والسياسي هو في أساسِ وجودِ لبنان".

هذا بعضٌ من ثمرات العلم الذي اكتنزه أنطوان سيف،وزناتٌ معرفيةٌ وأخلاقية،تجلى وقعُها في ساحات العملِ ومعاركِ النضال التي خاضها من أجل الانسان والوطن،لعلّ بداياتِ هذا الجانب من تجربته، كانت إسهامَه إلى جانب نخبةٍ من المثقفين المؤمنين بالعلمانية مشروعاً ثقافياً، في تأسيسِ حركة الوعي،المتفرّدةِ في حداثتِها،وصولاً إلى مشاركته في تأسيس الحركة الثقافية،التي وجد الكثيرون فيها،صيغةً متجدّدةً لحركة الوعي التي تقلَّص ظلُّها مع بداية الحرب الأهلية وسيطرةِ الأيديولوجيات الطائفيةِ المسلحة على جميع الساحات،لكن أفكارَها،بقيت راسخةً في وجدان أهلها،حتى كانت الحركةُ الثقافية،صرحاً ثابتاً في الثقافةِ والوطنية، أعاد انبعاثَ تلك الأفكار،واحتضن أهلَها،فكان لهم منبراً،يحميه،إشعاعُه الفكري وريادتُه في "تأجيج" ثقافةِ الحوار بين المختلفين، تحت قبةِ الحرية،أصلِ الأصول الإنسانية،في أزمنةٍ،انحسر فيها وجودُ الأحرار وتقلّصت مساحاتُ الوعي.

أيها الأصدقاء

 

أتركُ للدكتور عصام خليفه،صديقِ أنطوان سيف وشريكِه ورفيقِه، على امتداد هذه المسيرة ،...أن يقولَ القولَ الفصلَ،في هذا الجانب النضالي من تجربته،وهو الأقربُ إلى يومياتِ المكرّم في ساحاتِ العمل والكفاح،من أجل القيم الانسانية الجامعة.

يبقى،

أن أختمَ،متمنياً للصديق أنطوان سيف دوام الصحة والمزيد من التألّق في ميادين الفكر و الثقافة.

 

د.وليد الخوري

_____________________________________________

كلمة د. أنطوان سيف في يوم تكريمه

ولا تطاوع الإرادة مراميها وغاياتها، ذاك أن الذات عندما تُحمل على رواية سيرتها، تغفلُ عن الكثير من قدراتها على الوفاء بجردة هادئة لمنجزات العمر، المحزوقة بوفر من الخيبات التي تُربك السويةَ الواحدة التي ترتاح اليها.

لم تتسنّ لها ممارستها إلاّ لماماً، وغالباً كمقدمات لما نزمع القيام به في اليوم التالي. تتوهّم مقاربتها حقيقة كبرى للحياة هي نواتىء من نهر تلك السيرة، لا تستردُ السواقي الى المجرى الأصلي للإكتفاء بالسرد ولمرّة واحدة. ثمة إستحالةٌ ههنا: فالذاكرة الضرورية لا تلبّي، وما تبقىّ من النذر اليسير يتعرّض للإختيار والتشذيب، ومن غير الإعتراف بالإنتهاك للتذكرُّ وماهيّته، ولا مستطاع أن نروي ماضياً، إن عرفنا حدوثه، فمعناه يخوننا... السيرةُ الذاتية التي بناءً عليها، وعليها وحدها، يُبرّر كلُّ تكريم، ليست ذاتيةً بالقدر الذي نظنُّ، فهي بالحقيقة "سيرةٌ مع الآخرين"، وأقلّه سرديّةٌ لا قيمة لها بالفعل إلاّ بروايتها للآخرين الذي ننتهك حرمة ذاتيَّتهم من غير استئذان، وتستعملهم "الذات"، وهي بلا حدود ذاتيةً واضحة ومستقلة، تطرح إشكالية فكرية، وهي مفضجرّ كل العلوم الإنسانية الحديثة، حول صدقية فكرة وجود إنسان فرد بالفعل، وتالياً فكرة سيرة ذاتية فعلية، ويؤول هذا التسلّم الى معنى المعيار المعتمد، والمعلن، للإختيار لتكريم الأفراد من غير الآخرين الذين نحوّلهم عن وسط الرواية، إذ أنّ لكلّ "فرد" منهم "سيرة ذاتية" غير قابلة سلفاً لأحكام سلبيّة، باللجوء إليهم "ككومبارس" لصاحب السيرة الذاتية الذي هو محطّ الاهتمام آناً! النتيجة من كل هذا الكلام ليس عدم وجود إنسان فرد بإنجازات محض ذاتية، ومن غير الآخرين المنضمين لزوماً الى هذه الإنجازات وفي مختلف حقول المسالك والمهمّات التي تزجُّنا فيها الصدف والحظوظ التي سمّاها المفكرّون القدامى "البخت"، وهو دائماً إيجابي كي يتحكّم بالاختيار للتميّز والتكريم الذي هو، في مصدره اللغوي، إغداق للكرم.

أراني في هذا الموقف أتجاوز المجاملة لأعترف بكل صدق بأنّ تكريمي اليوم، أو حصّتي الكبرى فيه على الأقلّ، "معجوق" بكثير من الزملاء والرفاق والأصدقاء، في ملكيّته، ذكوراً وإناثاً، وجمهوراً داعماً، أفراداً ومؤسسات، وبخاصة في الحركة الثقافية – أنطلياس، ومنذ، لناحيتي الشخصيّة، حوال نصف قرن، وتكاليف الحياة الثمانون، وأستميحكم بالشكر لكون الإنجازات المتراكمة، على الرغم من أنّ زمننا ليس موضوعياً من أسعد الأزمنة، لا في ماضيه البعيد، ولا في حاضره قياساً لماضيه القريب، ولا في الغيوم السود التي تتجمّع وتتلبّد في سمائه، هذه الإنجازات هي ملكية مشتركة.

أيُّها الأحباء، وستبقى. ولستُ، أنا أنطوان سيف، سوى أمين إعلام أتكلّم بإسمكم، فشكراً لنا جميعاً لأننا وهبنا هذه الحياة سعادة زائدة وقيمة إضافية.

______________________________________________