ندوة حول كتاب الدكتورة ليلي مكرزل سعد:" السياحة الدينية في لبنان"

ندوة حول كتاب د. ليلي مكرزل سعد

"السياحة الدينية الثقافية في لبنان

استراتيجية لتنمية مستدامة"

9 آذار 2024

إدارة د. نجاة الصليبي الطويل

 

أيها الحفل الكريم،

 

يشعر الانسان منذ القِدَم، بالحاجةللتسامي نحو قوى لا مرئية، نحو عالم آخر، يفسّر وجوده وزواله. إنه ضرب من الحلم في تخطي الواقع وفي البحث عن معالم أثرية قديمة تنوّر مسيرته القلقة، فيكتشف إيمان وحزم وإرادة مَن بنى تلك الآثار، ومَن كان وراءها، وفي اي حقبة وفي أي مدن قامت.

يرى نفسه منجذباً نحو الجمال المختلف وغير المعتاد، ويركّز بشغف على هذا الجانب الفنّيالعريق،ويربطه بسياقه التاريخي والحضاري العام.

انها عملية بناء جسور بين الحاضر والماضي. انه تخوف من محوِ ذاكرة الجذور ونسيانها: فكلمة monument  الفرنسية مستقاة من اللاتينية monumenta  منذالقرن العاشر ومعناها: ما يديم الأثر.

إنه أثر تاريخي جامد تحييه الذاكرة وتتناقله، فتكون مجموعة قناعات ومعلومات مرتبطة بتراث الوطن وبهويته، بثقافته، وبحضارته، مكوّنة بذلك اللاوعي الجماعي.

ترتبط حياة الانسان بالموت لذا يطوق بإلحاح الى الديمومة، فتأتي الآثار لتعزيه ببعض بقاء، وتخطي النسيان عبر الذكرى.

ألا يوجد في نظرة الانسان الحي الى الماضي نوع من إرادة النسخ، لإعجابه بدوام الذكرى التي تُثبت أثرَ الماضي واستمرار وجود الانسان، وإن كانت احياناً ملتصقة بالعبودية او بالحروب وبالصدمات والاصابات التي لحقت بها عبر السنين. فيرتبط الزمان بالأمكنة التي تعبّر عنه.

انه بحث عن معنى لحياته، عن "روح" تغذيه وترفعه، بالأخص في معالم عبادة عامة او دينية، التي تصبح العنصر المكاني الأساسي، في تكوين مجتمع عام، يوحّد زائرين من مختلف الطوائف والأديان.

لكن لا يكفي ان تصمد هذه الأنقاض التي تُظهر عظمة الانسان، او تطوّر تديّنه عبر مراحل تاريخية وفي اماكنها المحددة، لكي تكون محجّاً او وجهة انطلاق حياتية: منذ القِدم وتنتظم المجموعات في زياراتها التعبدية وفي تنسيق أساليبها، وفي تحديد مساراتها.

 

                                         

اكتشفت الدول والمجموعات غير الرسمية أهمية الآثار كمصدر للمردود المادي فأتى تنظيمها واستغلالها وتسخيرها كأداة فاعلة في المساهمة بتنمية الاقتصاد الوطني. فقد انتجت السياحة المنظمة الدولية سنة 2023 ، 1400 مليار دولار.

وإن كانت عوامل المحافظة على هذا القطاع وتنشيطه ضرورية في تأمين التسهيلات الأساسية وبلورة الأمكنة بإدخال الوسائل الحديثة، فهي تبقى مدمّرة احياناً لبيئتها وغير مجدية في ربط قاطينيها مع بعضهم من جهة، ومخرّبة للطبيعة وللمساحات المحيطة بها من جهة أخرى. وهي تفرغها أحياناً من فحوى وجودها لتصبح ترفيهية كالشاطئية والتزلجية وغيرها...

تُطرح تساؤلات كثيرة حول تطوّر مفهوم السياحة وارتباطه بالتديُّن، ومن ثمّ بالثقافة عامة. مفاهيم دقيقة لها جذورها وتطورها وهي ترتبط بالتنمية المستدامة وضرورة وضع استراتيجيات تبلورها وتحد في الوقت ذاته من التجاوزات المؤذية لمحيطها، اضافة الى تنشيط مجالات افادتهم منها والمحافظة عليها للأجيال القادمة.

إن هذه الخطط الرسمية او المدنية ترتكز على أسس ثلاثة عبر توافق بين المجالات البيئية والاجتماعية والاقتصادية.

 

يأتي الكتاب البحثي للدكتورة ليلي مكرزل سعد ليدرس ويفنّد كل عنصر ويربطه بظروفه وتطوّره عبر العهود. ويحدّد كل مفهوم ويعطي أمثلة ويعود الى مراجع كثيرة غنية باختلافها وتكاملها.

هو ليس بحثاً فقط انما مرجعاً وطنياً وثقافياً للسياحة الدينية في لبنان، وبالأخصّ المسيحية، مع تفصيل مخاطرها. وتعطي في الفصل الثالث الأخير مثلاً تطبيقياً واضحاً عن مزار عنايا.

تقدّم أيضاً مقترحات مفيدة عند كل تقصير من جهة او استباحة من جهة أخرى.

كتاب وَرَقي مميّز، مع صفحات بيضاء وخط واضح وإخراج انيق.

صعب جداً إبراز أهمية هذا البحث وإن كان تقسيمه واضحاً بفصوله الثلاثة، غنياً بأقسامه الداخلية الكثيرة. لا نستطيع تصنيفه بالدراسة او البحث فقط، انه دعوة للتفكير بمكامن عديدة لا نُعِرْها اي اهتمام. هي تشدّك، في تجربتها التي نصتها بوضوح وشغف، الى التعالي، وإعادة اعتبار جبروت الانسان، و ترميم علاقته مع المجهول ومع ربّه.

تنتقل بك الى الواقع والى امثلة حيّة، تضخّ فيك حسّ الانتماء ومفهوم الجماعة وضرورة تعاضدها.

لا تخوّف من عدد صفحاته فلكل قارئ مبتغاه ويستطيع ايجاد، ما يهمّه او ما يبحث عنه، في فصل او قسم مستقلّ عن باقي أجزاء الكتاب. ويعكس عنوان الكتاب مفاصل الموضوع بطريقة واضحة:

"السياحة الدينية الثقافية في لبناناستراتيجية لتنمية مستدامة"

___________________________________________________

مداخلة تقيميّة لكتاب السياحة الدينيّة في لبنان، استراتيجيّة التنمية المستدامة،  للدكتورة ليلي مكرزل سعد

للأب خليل علوان، المرسل اللبناني

لا بد لي في مستهل كلمتي أن اعبر عن اعجابي بهذا البحث الشيّق للدكتورة ليلي مكرزل سعد، وعن تقديري لشموليّة الموضوع الذي يتطلب الكثير من الصبر والدقة في التعبير والمثابرة وصولا الى استخلاص النتائج العلمية. وأعبر ايضًا عن تقديري لايمانها بلبنان «ارض القداسة والقديسين» وبالسياحة الدينيّة كاستراتيجيّة فعّالة للتنمية المستدامة، واحترامي لمحبتها للقديس شربل، الذي بشفاعته خلاص هذا الوطن.

لقد استطاعت المؤلفة، في 448 صفحة، أن تعالج السياحة الدينيّة كوسيلة للتنمية المستدامة، وقد شملت اطروحتها جميع الممتلكات التراثية، كالكاتدرائيات والكنائس والمساجد والأديار والمعابد والمدافن والمقدسات والمناظر الطبيعيّة المقدسة ذات القيم الدينيّة أو الروحيّة المعيّنة. عرفت الباحثة كيفيّة إظهار تأثير هذه السياحة، سلبًا وإيجابًا، على جميع مرافق الحياة ومستوياتها الدينيّةوالتراثيّة والفنيّة والثقافيّة والتنموية والاقتصاديّة.

فقسمت أطروحتها الى ثلاثة أجزاء مع مقدّمة وخاتمة.

في الجزء الأول، عالجت ظاهرة السياحة الدينيّة بصورة عامة، بدءًا بمصادرها الدينيّة والثقافيّة، ثم بديناميّتها الزمنية، مفصّلةً الفرق بين السياحة الدينيّة والحج. لتنتقل في ما بعد الى المساهمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في تطوير هذه السياحة. وخلصت في الجزء الاول من البحث، الى أن السياحة الدينيّة هي فرصة للقاء التراث والثقافة والدين والتنمية، معزّزةً بحثها هذا من أمثلة من العديد من بلدان العالم التي تعتمد في سياحتها على عامل الدين. فالسياحة الدينيّة في حد ذاتها، يُمكنها أن تساهم في الانفتاح بين الحضارات والثقافات والاديان والحوار في ما بينها، الذي من شأنه أن يخلق تنمية مستدامة أكيدة. وتقول في ختام الجزء الأول:

«تحمل المواقع الدينيّة قيمًا روحيّة، .. هي خير مشترك ينتقل من جيل إلى جيل. وإن الكشف عن هذا التراث، أو اظهاره "للآخرين" من مختلف الأديان والثقافات، هو فرصة وتحدٍ على حدٍ سواء. فمن ناحية أولى يبدو أنّ مشاركة القيم الروحيّة وتاريخ هذا المكان أو الجماعة الدينيّة في مكوناتها الماديّة وغير الماديّة هي وسيلة للمعرفة والاعتراف بغنى هذا "الخير المشترك" وإطار للحوار. ومن ناحية أخرى، فإن القيود المفروضة على إساءة استخدام هذا التراث أو تعديله لصالح الخدمات والترتيبات السياحيّة تخاطر بإضراره وإفراغه من روحه». (انتهى الاستشهاد)

في الجزء الثاني من البحث، تنتقل الدكتورة ليلي من البحث في السياحة الدينيّة بشكل عام الى السياحة في لبنان. وتستعرض مقدرات هذا «اللبنان»، الوارث للعديد من الحضارات والثقافات والأديان، والحاوي مكوّنات هذا المزيج من هذه التراثات. وتتساءل هل يستطيع «وطن الأرز» بفضل السياحة الدينيّة ضمان التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافية؟

وللإجابة على هذا السؤال تستعرض الباحثة واقع السياحة الدينيّة وتداعياتها. فتقيّم الظاهرة الدينيّة في هذه الارض المقدسة وهويتها وصورتها وتنوع تراثاتها الدينيّة وأماكنها المقدّسة. وتنتقل الى تحليل الواقع الحالي للسياحة الدينيّة، فتحدثنا عن ظاهرة الحجّ لدى المسيحيين والمسلمين، النابع من الايمان بالله وانبيائه وقديسيه. وتعدد مجموعة واسعة من المواقع الدينيّة المسيحيّة والإسلاميّة، وتلك التي تتّصف بطابعها الديني والفني والتاريخي معًا – كجوامع بيروت وطرابلس وكنائسهما- وتلك التي تتّصف بالطابع الديني والسياحي المحض- كمقامات الأنبياء مثل مقام نوح وموسى وايوب ويونان وشيت وإبراهيم وغيرهم من وجوه الكتب المقدسة الى جانب أرز لبنان المعروف بأرز الرب، وتلك التي تتّصف بالمواقع «المختلطة» أي التي يتوفّر فيها جميع هذه العوامل الجذّابة للسائحين من فنيّة وثقافيّة وتاريخيّة ويؤمّها المسلمون والمسيحيون على السواء، كمزار سيدة لبنان، وسيدة المنطره، ووادي قاديشا وغيرها. وتصنّف الكاتبة زوّار المواقع الدينيّة، مثل اللبنانيين المؤمنين، والمهاجرين والسياح العرب والاجانب القادمين من بلدان الخليج ومن أفريقيا وأميركيتين وكندا وأوروبا وأستراليا.

وتكرّس فصلًا أخيرًا، لتُعَدِّد إيجابيّات السياحة الدينيّة على المستوى الاجتماعي والثقافي كالحوار بين الأديان الممارسات التقويّة والطقوس «المشتركة» واحترام التعدديّة وغناها. والإيجابيّات على المستوى الاقتصادي التي نتلمّسها في إنفتاح بعض القرى على السياحة، بفضل قدّيسيها، مثل بقاعكفرا التي صُنِّفت القرية النموذجيّة الرابعة في العالم بحسب اليونيسكو، وبلدة حردين، مسقط رأس القديس نعمةالله، ولحفد بلدة الاخ اسطفان، ودير يسوع الملك، نهر الكلب وغيرها. ولا تغفل الكاتبة عن أهميّة مزار سيدة لبنان، إذ كرّست له عدة صفحات، عرضت فيها لتاريخه وللخدمات التي يقدّمها للزوار. وقد اعتبرته صورةً جليّةً للسياحة الدينيّة ونموذجًا لمساهمة المزارات في التنمية المستدامة الروحيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للمنطقة.

فالمواقع الدينية، بنظر السيدة ليلي، هي أخيرًا العامل الأساس في تعزيز السياحة المسؤولة والسياحة البيئيّة. فدير تعنايل تتقاطع فيه السياحة الدينيّة وحماية البيئة، والوادي المقدس يحمل إرثًا تاريخيًّا وثقافيًّا ثمينًا.

وتخلص في ختام هذا الجزء التحليلي للواقع اللبناني الى اعتبار أنّ السياحة الدينة هي الفرصة الأكيدة لاستنهاض الاقتصاد في لبنان والتنمية المستدامة فيه، فتقول: «إن إعلان عام 2018 عامًا للسياحة الدينيّة في لبنان، يؤكد قناعة الحكومة اللبنانيّة وصحوتها على إمكانات السياحة الدينيّة لتكون ناقلاً للتنمية المستدامة. فيمكنها أن تضمن فوائد اقتصاديّة دائمة، وتكون حافزًا لتثبيت القرويين في مناطقهم، ووسيلةً للانفتاح وتوطيد الروابط الاجتماعيّة بين مختلف مكونات النسيج اللبناني، وإعطاء صورة جليّة عن "بلد الرسالة" المنفتح على الحوار بين الحضارات».

واما في الجزء الثالث والأخير، فتختار الباحثة دير مار مارون عنّايا، حيث يقع ضريح القديس شربل والذي يستقبل 4.5 مليون زائِرٍ سنويًّا، نموذجًا لتطوّر السياحة الدينيّة المستدامة التي تفضي الى التطوّر المتعدّد الأبعاد والدائم للقرى والبلدات النائية.

 فتحدّثت عن تاريخ الدير وعن تحوّله ، بفضل وجود رفات القديس شربل والنشاطات الروحيّة مثل مسيرة يوم 22 من كل شهر وتجمع ايام الجمعة وغيرها من النشاطات، من دير رهباني عادي الى موقع حجّ وسياحة دينيّة عالميّة. وبفضله شهدت المنطقة ازدهارًا إجتماعيًا واقتصاديًا كبيرين الى جانب تطور قرية عنايا وتوسّعهَا وتطوير الاعمال الزراعيّة والحرفيّة والمطاعم وتحسين نوعيّة حياة القرويين وتوفير فرص عمل لهم في مختلف المجالات. الى جانب الناحية الاقتصادية، فقد جَسّد دير مار مارون عنايا، من الناحية الروحيّة والاجتماعيّة والثقافيّة محورًا اساسيًّا للانفتاح الديني والحوار، وقد غدا شاهدًا على التراث الحيّ وعلى القداسة.

في ختام هذه الدارسة الشيّقة، المعززة بالجداول والارقام والاحصاءات، تعرض الباحثة الكريمة لمكونات الحالة اللبنانيّة فتقترح توصياتٍ، وتستخلص ثوابتَ أربعًا، أوردها هنا:

  1. تُثَبّت السياحة الدينيّة في لبنان، التي هي سياحة مستدامة، التماسك الاجتماعي وتشكّل منصّةً للقاء والحوار والتسامح،
  2. تساهم السياحة الدينيّة في إعادة التوازن المناطقي للأنشطة خارج المدن السياحية المعروفة، مما يجعل هذه السياحة تكامليّة مع الاقتصاد المحلي.
  3. تُسهم الحركة السياحيّة التي تقام في لبنان، سواء من قبل المواطنين من الداخل اللبناني أو من قبل المغتربين والسياح الاجانب من الخارج، في أمرين أساسيين:
  4. أولًا، في التنمية الاقتصادية، بكل تأثيراتِها الايجابيّة على السكان المحليين وعلى الأرض وعلى الاقتصاد الوطني.
  5. وثانيًا، في تغيّر مستوى معيشة المواطنين بشكل كبير، في ظلّ هذه الظروف الصعبة، كنتيجة طبيعيّة للتحسن في الحالة الاقتصاديّة ومستوى المعيشة.
  6. تُسلّط السياحة الدينيّة في لبنان الضوء على التراث العمراني والطبيعي والحيّ، وتُقدّره كثروة متميزة، وتحافظ عليه كنزًا غاليًا.

وتختم كتابها بهذه الكلمات: «.. في الوقت الذي يسعى فيه العالم إلى الحوار بين الحضارات والأديان، فإن أرض الأرز ذات الثروات الثقافيّة والدينيّة والتراثيّة والطبيعيّة، مُطالبةٌ باغتنام هذه الفرصة لتقديم نموذج للتعايش والحوار من خلال مَواقِعَها الدينية».

يهمني في ختام هذه الجولة الشاملة حول هذا الكتاب، أن أشكر الدكتوره ليلي على اهتمامها بشأن السياحة الدينيّة وعلى ذِكرها مرارًا جميعة تنمية الحج والسياحة الدينيّة في لبنان، التي تأسست عام 2007، بتكليف من لجنة متابعة توصيات المجمع البطريركي الماروني، وتنفيذًا لمقرراته، وقد جاء في النص الثامن عشر للمجمع، وعنوانه «الكنيسة المارونيّة والثقافة»، التوصية الخامسة، ما يلي :

«يوصي المجمع، الأساقفة والكهنة والعاملين في الحقل السياسي، بتشجيع السياحة الدينيّة في الأماكن التي تحمل تاريخنا الكنسيّ، كمثل وادي قنوبين، ومراكز البطريركية، والمزارات المريميّة، ومزارات القدّيسين وغيرها، على أن يتوفر في هذه المزارات الجوّ الروحي المطلوب».

وقد أسس رؤساء المزارات المارونيّة هذه المؤسسة، التي لي شرف رئاستها، لهذه الغاية ولتكون بمثابة المرجعيّة الكنسيّة الصالحة لجميع الأشخاص المعنويين، وللمنظمات الحكوميّة وغير الحكوميّة، وللنقابات، والجمعيّات، والشركات التي تُعنى بالحجّ والسياحة الدينية، لتنمية هذا القطاع.

ولم يكن هذا التأسيس إلا قناعة منّا بأهميّة هذا المرفق الحيوي بالنسبة لنا في الشرق كوسيلة للأنجلة الجديدة. وقد شدّد السينودوس من أجل الشرق ألاوسط، الذي عقد في روما عام 2010، تحت عنوان: «الكنيسة الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة»، على أهميّة الحجّ كوسيلة تبشيرية، وقد جاء في توصيته الثامنة ما يلي: «إن الشرق هو أرض الوحي البيبليّ، ممّا جعله، منذ القدم، محطّ أنظار الحجّاج على خطى إبراهيم في العراق، وموسى في مصر وسيناء، ويسوع المسيح في الأراضي المقدسة (مصر، وفلسطين، واسرائيل، والأردن، ولبنان)، وعلى خطى مار بولس وكنائس أعمال الرسل وسفر الرؤيا (سوريا، قبرص، تركيا). لطالما شجّع الباباوات على الحجّ إلى الأراضي المقدّسة. إنّه فرصة ملائمة لتعليمٍ مسيحيٍّ معمّق من خلال العودة إلى الينابيع. وهو يتيح اكتشاف غنى الكنائس الشرقيّة، واللقاء مع الجماعات المسيحيّة المحليّة، حجارة الكنيسة الحيّة، وتشجيعها».

وفي السنة نفسِها، خَصَّص مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان دورته العاديّة لدراسة توصيات هذا السينودوس والعمل بموجبها، فطلب من مؤسستنا مواصلة جهودها، معتمدًا اياها جهازًا لراعوية السياحة الدينية لجميع الكنائس الكاثوليكية. وقد جاء في توصيته الخامسة ما يلي: «يشجّع المجلس مؤسسة تنمية الحجّ والسياحة الدينيّة على مواصلة جهودها لتعزيز هذا القطاع في لبنان، لما له من دور فاعل في ابراز خصوصيته الدينية، وفي تغذية إيمان المؤمنين وتقواهم، مع الحفاظ على طابعه الروحي»،

تدرك المؤسسة جيدًا أبعاد الاستنتاجات الاربعة التي خلص اليها هذا الكتاب القيّم، وتدرك أيضًا أهميّة راعويّة الحجّ والسياحة الدينيّة في لبنان في الأنجلة الجديدة، بعدما نقل قداسة البابا «راعويّة السياحة الدينيّة» في الفاتيكان من دائرة «المهاجرين» الى دائرة «الأنجلة الجديدة» إيمانًا منه بأهميّة المزارات على الصعيدين الروحي والتبشيري. وهذه هي المُهمّة الأساس لكل مزار من مزاراتنا.

أود في الختام، مع تقديري الكبير لهذا البحث العلمي الدقيق والشامل، أن اضيء على ظاهرتين امتازت بهما السياحة الدينيّة المسيحيّة في لبنان:

الظاهرة الأولى، اصطحاب اللبنانيين المنتشرين في العالم معهم سيدة لبنان وقدّيسيه مار شربل ونعمة الله الحرديني ورفقا. اذ نشهد حاليًّا تكريس العديد من الكنائس في العالم على اسم سيدة لبنان ومار شربل والقديسة رفقا والقدّيس نعمة الله،

والظاهرة الثانية، كثافة التطوافات والمسيرات التقويّة السنويّة والموسميّة الوطنيّة والمحليّة في مناسبات الاعياد، وقد استعرضنا العشرات منها في مؤتمرٍ خاص بالموضوع عقدناه في الجامعة الأنطونيّة عام 2018. من هذه المسيرات التي تعدّ بالعشرات، هناك:  

  • التطوافات القربانيّة، كتطواف زحلة وجونيه،
  • والمسيرات المريميّة، كمسيرة سيدة مغدوشه وسيدة بشوات وسيدة زغرتا، وجزين وحراجل والعاقورة،
  • والمسيرات السيديّةمثل مسيرة عيد الصليب – فريا – شبروح، ومسيرة الخنشارة - العيشيّة، ومسيرة التجليّ – جبل حرمون.

وأخيرًا، اسمحوا لي، في مناسبة إعلان قداسة البابا فرنسيس العام 2025 «سنة يوبيلية»، «سنة حج وصلاة»، تحت عنوان «حجّاج الرجاء»، أن ازفّ الى اللبنانيين خبر بدء مسيرات الحجّ داخل لبنان على غرار مسيرات الحجّ الى كامبوستيلا - اسبانيا،

هذا المشروع الذي يدعى "دروب لبنان" Caminos of Lebanonهو مشروعطموح يهدف إلى جمع رحلات حجّ التي تربط بين المزاراتالمقدّسة والمواقع الروحيّة المسيحيّة والإسلاميّة في لبنان من خلال عدة دروبفي مختلف المناطق، مما يعزّز اشراك جميع الأديان والكنائس في مسيرة واحد من شأنها تعزيز القيم المشتركة والتنمية المستدامة التي طالما حلمنا بها وسعينا إليها. وتعمل مؤسّستنا على أن تكون قاعدة لهذه المبادرات، وشبكة تواصل مع جميع الجمعيّات واللجان المعنيّة والمنظمات غير الحكوميّة والمجموعات المحليّة ذات الصلة. ومن أهم هذه الدروب:

  1. درب السما
  2. درب القمر - درعون
  3. درب (WADA) - دير الاحمر
  4. درب التجلي – حرمون
  5. درب الدوّار – دير مار جريس الميرعه – كفرون
  6. درب وادي حربا – (دير مار يوسف جربتا)
  7. درب مار شربل: انطلاقًا من دير مار انطونيوس قزحيا مرورًا بالأديار والمواقع التي مرَّ بها القديس شربل وصولًا الى مزار سيدة لبنان، وطول الدرب حوالي 130كيلومترًا.

حضرة الدكتوره ليلي مكرزل سعد، شكرًا من القلب على هذا الإنجاز الرائع، الذي سوف يكون «دليل العمل» الشيّق لجميع العاملين في هذا المضمار، وأدعوك، في هذه المناسبة، باسمي وباسم أعضاء مؤسسة تنمية الحجّ والسياحة الدينيّة للانضمام الى صفوفنا، لنعمل بيد واحدة لاستنهاض بلاد الأرز من كبوتها عن طريق السياحة الدينيّة.

 

 

 

 

 

 

على أمل أن يعي المسؤولون في وطننا الزاخر بالأثار أهمية تنوعها وغناها، والتي تمزج بين سحر الطبيعة والتاريخ والفلسفة والدين، فيخططون لاستراجيات اقتصادية مستدامة مع تأمين الظروف المؤاتية لها وبخاصة الأمنية،

أتقدّم منك د. مكرزل سعد، بإسمي وبإسم زملائي في الحركة الثقافية – انطلياس، بأصدق التهاني بصدور هذا الكتاب القيِّم عن الجامعة اليسوعية العريقة وكرسي الأونيسكو، مع تمنّياتنا لكِ بالنجاح الدائم.

وشكرا لإصغائكم.

___________________________________

كلمة الشيخ د. محمد نقري في ندوة كتاب د. ليلي مكرزل

 

قراءة حول كتاب السياحة الدينية الثقافية

لمؤلفته ليلي مكرزل سعد

 

 

ضوء البدر حين يسطع نوره يختفي بريق نجوم السماء. هذا شعوري الأول لقراءتي ما خطته أنامل الكاتبة ليلي مكرزل في كتابها عن السياحة الدينية الثقافية. الأمر الثاني الذي جعلني أحيد عن الدخول مباشرة في موضوع هذا الكتاب ما خطه الدكتور أنطوان مسرة من كلمات رائعة ودقيقة ومفصلة لتكون مقدمة لهذا الكتاب ولكلمته التي أتحفنا بها في لقاء هذا المساء. لو كنت في هذه الندوة وحيداً لقلت لنفسي كما في المثل العربي مع فارق المناسبة التي قيلت فيها : قطعت جهيزة قول كل خطيب. لذلك فإن مداخلتي ستتسم بطابع الخصوصية حول السياحية الدينية الإسلامية.

 

في احدى النصوص المتداولة عن شيخ المتصوفين المسلمين في القرن الثامن الميلادي أبو يزيد البسطامي، ما روي عنه أنه قال : مررت بدير فيه راهبة ، فسألتها أهنا مكان طاهر أصلي فيه ؟ فقالت : طهر قلبك ، و صلِ حيث شئت. لعلي بهذه البداية أكون قد أخذت منحى جديداً في قراءتي لهذا الكتاب القيم. فمن عنوانه سمحت لنفسي بالغوص في أعماقه  للتعرف على جواهره الثمينة، فهو ليس كتاباً عن السياحة الدينية التجارية التي أخشى من تفاقمها وأجانبها، بل هو عن السياحة الدينية الثقافية التي أنحو اليها وأشجعها. ولعل إدراج كلمة الثقافية تحد من جشع تجار الهيكل الذين لهم في كل مصطبة صداحين لفتح شهية أبرياء الناس الساعين الى التقرب الى الله. قد يسأل متدين بريء عن أهمية إقحام الثقافة في مسائل السياحة الدينية، لأجيبه بأن الإيمان مقره القلب ولا أحد يطلع عليه الا الله، فكم من متظاهر بالايمان أخفى منفعته المادية وجشعه بادعاءه لنفسه الصلاح والتقوى، وللمكان الذي يدعو لزيارته التقرب الى لله والتأسي بالأولياء والقديسين، وأما الثقافة فمقرها العقل والتفكير ولمعرفتها يكفي أن يتكلم مدعي الثقافة ليؤكد حقيقة معرفته أو ليفضحها. وقد قال سقراط لرجل يمشي متباهياً بين تلامذته في إحدى مجالسه "تكلم حتى أراك"، كما جاء عن الامام علي قوله "الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام".

 

في مجال المقارنة لاختيار أماكن السياحة الدينية ولمعرفة روحية المكان الذي يقصده الزائر ومدى تأثيره عليه في بناء شخصيته الروحية أو المادية، أذكر ما حدث لإمام العيش المشترك الأوزاعي الذي وقف في القرن السابع الميلادي مناصراً مسيحيي المنيطرة في جبل لبنان ضد الوالي العباسي، فحين سافر الى بيروت من مدينة ولادته كرك نوح المجاورة لمدينة زحلة، وقف قبل الدخول اليها على مشارفها ليسأل عن وجهته فصادف امرأة عجوز في مقبرة من الضواحي فسألها أين المعمورة فأجابته وهي تشير بأصبعها الى المدافن : المعمورة ها هنا، ثم أشارت بإصبعها الى ناحية بيروت وقالت له وأما "الخرابة فهناك"، فأعجب الامام الاوزاعي بإجابتها وعفويتها وعمق فكرها الإيماني، ثم استقبل وجهته قاصدا بيروت وحين وصل الى أسواقها التجارية سمع صوت أحد الباعة وهو ينادي : "معنا بصل أطيب من العسل"، فوقف الامام غاضباً ونهاه عن هذا الكلمات وليطالبه بأن يكون لسان حاله في تجارته صادقا، وانه سيحاسب امام الله عن زلات لسانه. حينها قرر الاوزاعي السكن في بيروت متخذا زاويته في الوسط التجاري لبيروت التي ما زالت قائمة الى الآن ليرشد الناس الى القيم المثلى للدين، وليقف على سر هذا التأرجح بين الثقافة الدينية والخدع التجارية داخل المجتمعات حين تجمع بين حكمة عجوز آثرت العيش بجوار المدافن ودهاء تاجر كاذب يجول في الأسواق. أقول لولا هذين الحدثين لربما عاد الامام الأوزاعي الى قريته تاركاً بيروت لمتناقضاتها أو توجه الى دمشق الشام والتي كانت عاصمة الدولة في ذلك الوقت.

 

انطلاقاً من هذه المقدمة أدخل الى الموضوع الذي يخصنا في تقديم هذا الكتاب ولكني سأدخله من بابه الجانبي لأشير الى خصائص السياحة الدينية الإسلامية.

 

في البداية أذكّر بالنصوص التأسيسية للسياحة الدينية عند المسلمين فهي تتفرع الى نصوص قرآنية ونصوص مستمدة من كلام النبي محمد :

 

  1. النص القرآني الأول يتكلم عن أهمية التدبر في سيرة الأولين من خلال التنقل في البلاد ومشاهدة ما أصاب الظالمين منهم من عذاب لتكذيبهم الأنبياء والرسل : (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاراُ في الأرض)، فتكون السياحة في هذا المنظور القرآني للتعرف على تاريخ الأمم القديمة والتدبر والإعتبار لما أصابها من شدائد.
  2.  النص التأسيسي الثاني هو دعاء النبي إبراهيم بأن يجعل من المكان الموحش والقاحل الذي سكنته هاجر وابنها إسماعيل مكاناً لتوافد الناس اليه (رَّبَّنَاۤ إِنِّیۤ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیۡرِ ذِی زَرۡعٍ عِندَ بَیۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِلَعَلَّهُمۡیَشۡكُرُونَ)فتكون السياحة من هذا المنظور للتعبد وللحج والإعمار وأحياء المدن القاحلة والفقيرة وللإنعاش الاقتصادي.
  3. والنص التأسيسي الثالث هو للسعي الى الراحة النفسية والإنعتاق من الهموم ومتاعب الحياة وإن اقتضى الأمر الهجرة الى البلاد الأخرى، فالنص القرآني يتكلم عن مصير الذين ظلموا أنفسهم باتباعهم أهوائهم واعراضهم عن مناصرة الحق بأنهم سوف يسئلون عن سبب ذلك، فإن أجابوا قائلين (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) فيأتيهم السؤال (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ؟)، فتكون السياحة هنا بمعنى السفر الى أرض الله الواسعة إن ضاقت بالناس سبل الحياة، كي لا يحتجوا بأنهم كانوا مستضعفين ولا حول لهم ولا قوة بسبب الوهن والكسل أو لأي سبب آخر تعزو الى سوء تقدير الإنسان.
  4. النص التأسيسي الرابع هو الحديث النبوي " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا"، وهذا النص يتعلق بالمفهوم اللغوي للحج وليس بالمفهوم الديني الا في جزئية منه، فالسياحة الدينية بمعناها االحصري تتحقق بزيارة الأماكن الثلاثة الأشد قدسية عند المسلمين وهي المسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة والمسجد الأقصى في القدس الشريف.

 

لهذا السبب نستطيع أن نقول بأن السياحة الدينية عند المسلمين وخاصة السنة ترتكز بكثافة عددية هائلة على زيارة هذين المكانين بانتظار تحرير المكان الثالث المسجد الأقصى في مدينة القدس الشريف، وتهمل زيارة باقي الأماكن الدينية، سواء في لبنان أو في بلاد العالم. أضف الى هذا الأمر ما ذكره المستشرق  Henri BOUSQUET  Georgesفي كتابه , Les grandes pratiques rituelles de l'Islam,بأن الأماكن الدينية عند المسلمين لا تحتوي على ما يشد الإنتباه كما في الكاثوليكية والأورثذوكسية، فلا وجود لآلات موسيقية ولا تماثيل ولا صور ولا كؤوس ولا صواني ولا شمعدانات ولا بخور، بل كل ما فيها عبارة عن بسط تفترش الأرض للسجود أثناء الصلاة، ومنبر للوعظ ومحراب للإمام. فبهذا المعنى يستطرد المستشرق بأن المسلمين لا يستطيعون وضع أي أدوات دينية كما في متحف  Musée Guimetفي فرنسا. وإن كانت العمارة الإسلامية والزخرفة والخطوط العربية التي تزين جدران المساجد تلفت الانتباه وتحث على زيارتها.      

 

يبقى أن أسأل قبل أن أختم مداخلتي عن السياحة الدينية هل يجب أن ندلي اهتماما في المقام الأول للسياحة الدينية في النفوس قبل الأمكنة وما تحويه من نقوش ونصوص. لأجيب عن هذا السؤال أعود الى الوراء قليلا لأتذكر زيارة أحد الكرادلة من أمريكا الى دار الفتوى موفداً من قبل البابا طيب الذكر يوحنا بولس الثاني وما دار بيني وبينه من حوار حين ذكرت له مشروعا تساهم به المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية يتضمن بأن تنشأ مكاتب سفر تمنح تخفيضات كبيرة لمن أراد من رجال الدين السياحة بصحبة رجال دين آخرين من مذاهب مختلفة، وهدفي بذلك بأن هذه السياحة الدينية داخل النفوس هي أحرى بالتشجيع، انطلاقاً من كلام الراهبة التي طلبت من شيخ المتصوفين البسطامي بأن يطهر قلبه ويصلي أينما شاء، باعتبار أن طهارة القلوب أولى بالاتباع من طهارة الأمكنة، فتكون السياحة الدينية بهذا المعنى التي تعمل عملها داخل قلوب المؤمنين وخاصة رجال الدين أولى بالإهتمام والتشجيع من زيارة الأمكنة السياحية وأنها ستجني ثمرات من الصداقة والأخوة تعود فائدتها على المؤمنين جميعا بكل الأديان. لا أخفي عليكم دهشة الكاردينال وبريق عينيه وابتسامته وهو يحدثني معتقداً بأن هذا المشروع هو قيد التنفيذ، فأجبته بأنه ما زال من لبنات أفكاري نتيجة الصداقة والمحبة التي تربطني برجال دين مسيحيين في سفراتنا المتعددة الى الخارج. فتمنى لي تحقيق هذا المشروع ودعمه له.

السؤال الثاني الذي به أختم حديثي وهو سؤال أدلي به دون أن أعطي جواباً مفصلاً عنه : في مجال التنافس بين الطوائف والرغبة في جذب المؤمنين في كل دين ومذهب، هل يحق للمؤسسة الدينية تمرير بعض الأساطير الخيالية حول الأماكن والشخصيات الدينية؟ في حديث جمعني برجال دين من كل الطوائف ومن خلال ابحاثهم تبين لي دون أن أدخل بجوهر اجاباتهم على هذا الموضوع، بأن بعض الأساطير تحاك فعلاً عن أماكن وشخصيات دينية تشد اليها الرحال في لبنان من قبل المؤمنين. وقفت على هذه الإجابة ليدب بي الذعر والخشية من الأجيال الصاعدة التي لم تعد تتقبل الخرافات والأساطير وخاصة عندما تتوشح بمظاهر دينية براقة وخداعة، فتذكرت المقولة التي تنسب الى André Malrauxالمفكر الفرنسي الفيلسوف والوزير في فترة رئاسة الجنرال ديغول حين قال : « Le 21ème siècle sera religieux, ou ne s

era pas»....أخشى بأن يصبح القرن الواحد والعشرين لا دينياً إذا لم نضع حدا لانتشارهذه الأخطاء والأوهام المقصودة داخل كل الأديان، وأن نستبدلها بنشر قيم المحبة والسلام والعدل وقول الحقيقة مهما كانت الأسباب والمكاسب والمحفزات.

 

 

الشيخ د. محمد نقري

_____________________________________

                                                       ندوة حول كتاب

                          " السياحة الدينيّة الثقافيّة في لبنان: استراتيجيّة لتنمية مستدامة"

                                           كلمة المؤلّفة  د. ليلي مكرزل سعد.

 

شكرًا من القلب لكلّ شخص منكم، محاضرين وحاضرين، تحيطون بالكتاب وبالكاتبة، مما يعكس  اهتمامكم بموضوع هذا العمل، اضافة الى محبتكم، وهذا مدعاة فرحي وفخري،  ومصدر قوّة مضافة للمتابعة.

 

يتمحّورهذا الكتاب حول  سؤال أساسي:

 كيف نجعل من السياحة الدينية سبيلاً للتنمية المستدامة ؟

 

أما الجواب، الذي حاولت اظهاره من خلال هذه الصفحات، فقد ولّد قناعات أذكرها باقتضابٍ، وهي نتاج عمل بحثيّ وتطبيقيّ على الأرض استغرق أكثر من خمس سنوات:

 

  • القناعة الأولى أن لبنان ارض مُقدّسةزارها السيد المسيح ، واجترح أولى عجائبه في قانا الجنوب ،

وهو كذلك أرض القدّيسين والأنبياء والأولياء وشهداء الايمان اللذين رووا ترابه.

تنتتشرعلى خريطته الصغيرة، مئات بل ألآف المعابد والمزارات والآثار الدينيّة، (1927 كنيسة على اسم  678 قديس موزّعة على 929 قرية ومدينة). هذا الأرث الغنيّ غائب عن اهتمامات السلطات  المعنيّة، والمجتمعات المحليّة. وهذا ما يستوجب التدخّل واعطاءه الأولويّة.

 

  • القناعة الثانية تعتبر أن غنى هذا التراث لا يقتصر على النواحي الثقافيّة والتقويّة والاجتماعيّة- وكلها اساسيّة- إنما يتناول خاصّة المنحى الاقتصاديّ،  لأن السياحة الدينيّة في لبنان تشكّل مصدر دخلٍ فرديٍ وقوميّ لم نستثمر منه حتى الآن إلا الجزء المحدود.

اننا أمام ورشة عمل لا تنتهي ينبغي أن تقودنا الى انقاذ اقتصادنا.

 

  • القناعة الثالثة تؤكّد أن تفعيل السياحة الدينية باتجاه انماء شاملٍ ومتكامل ومسّتمر هو عمل ضروري، ولا يجب أن يكون انفراديّا، او ارتجاليّا، او فورة عاطفيّة او عصبيّة او طائفيّة، انما يتطلب خططا حكيمة ومُحكمة، ويشترط تعاضداً مدروساً بين جميع مكوّنات هذا القطاع، بغية وضع الاستراتيجية الهادفة والمتناغمة. وينبغي لهذه الاستراتيجيّة أن تنطلقمن الارض  وأصحابها، ومن مبادراتهم وأفكارهم الخلاّقة، فتبدأ مع السلطة المحليّة، وتشمل كلّ القطاعات المعنيّة بالسياحة، مع التأكيد أن للأوقاف دوراٍ أساسيّا، وأن على الدولة وجوب الرعاية الدائمة.

 

 

  • القناعة الرابعة تعتبر ان هذه المعالم الدينيّة هي واحات تلاقٍ ووحدةٍ بين اللبنانيين، وذلك من خلال الزيارات واللقاءات والنشاطات المتعلّقة بها؛ لأن السياحة الدينيّة والثقافيّة ليست فقط اكتشافًا للمعالم، انما للذات وللآخرين، و هذا غنى تنوّعنا.

 

وفي الختام أقول ان أرضنا التي تضمّ كل هذا التراث الغنيّ هي حقيقةً "وقف الله"، والوقف لا يباع، وليس هو موضوع تفاوض، أو مغامرة تجاريّة، او مقامرة سياسيّة على موائد الأمم.

 

ان هذا الكتاب بموضوعه وأهدافه العميقة، هو دعوة لنا في هذا الظرف الأصعب من تاريخنا المعاصر، الى مزيدٍ من الرسوخ،  حتى نتشبّث بأرضنا التي هي جزءٌ من ايماننا، والى مزيد من الشموخ، حتى نرتفع فوق يوميّاتنا وخلافاتنا فنبقى على مستوى رسالة لبنان، ودعوته، ودعوتنا التاريخيّة.

 

 

الحركة الثقافيّة- انطلياس                                                                      السبت 9 آذار 2024