الحركة الثقافية – انطلياس – المهرجان اللبناني للكتاب

تكريم الشاعر شوقي بزيع

كلمة التقديم: فرنسوا قــــزّي

من المكان المثخن بالجراح، والتراب المجبول بخمرة القداسة، من الأرض الطيّبة التي تعشق الريح والمقاومة، من الدروب التي تلوّنتْ بألوان أحلام العذارى، ومن زمن الانتظار، خرج شوقي بزيع، من زبقين خرج يحمل في جيبه، بعض وريقات رسم فوقها صورة قريته الوادعة، ومواكب الصبايا والأطفال على الطرق المؤدية الى حقول التبغ وكروم العنب والتين.

 

مشاهد جميلة ومؤثّرة، تكررتْ بتفاصيلها وألوانها في مجموعاته الشعرية الأولى، بإيقاع غنائي رهيف، وصور توشَحت بغلائل من الكآبة والرموز، كما في:

 

-        عناوين سريعة لوطن مقتول              1979

-        أغنيات حب على نهر الليطاني           1985

-        وردة الندم                                  1990

 

آلهة عشق وأحزان هم الشعراء، مُتعبون ينثرون فوق عينيك تِبْر قصائدهم فيأسرونك ويعبرون بك الى عوالمها، ومساربها، ويتركونك تتخبّط في متاهات مجازاتها، إشراقات أبعادها، وعمق دلالاتها، وغنى رؤاها...

 

متعبون هم، وتَعَبُهم رعشة أنفاس حرّى في حلك ليل طويل، ونشيجهم رقصة ضوء يغتسل بدموع فجر زمن المرارات.

 

يقول شوقي بزيع في أحد لقاءاته: "حين نزلت من القرية أحسست بأننّي أُعرّض نفسي لليباس والتَلَف تماما" كما تقتلع الشجرة من مكانها".

 

ويؤكد بأن "جَذر الكتابة وينبوعها بالنسبة اليّ هو الريف. ومن أصل ثلاث عشرة مجموعة شعرية كتبتُها حتى اليوم، تحتّل القرية والمكان والطبيعة، بأطيافها وتشكيلاتها المختلفة معظم ما كتبته من شعر... طبعا" يمكن أن نضيف بعض كتابات الحبّ، وبعض القصائد التي لها طابع الأسئلة الوجودية المتعلقة بالكينونة والزمن والحياة والموت..."

 

فالمكان عامل مؤَثر ومحرّض وحاضنٌ في شعر شوقي، وهو مكان متعدد الوجوه:

 

       المكان الجغرافي – والمكان المشتهى – واللامكان.

 

أ – في المكان الجغرافي أو في جغرافيا المكان، تتعدد العناصر والمشاهد والكائنات، فتتفاعل وتتداخل (كالأرض والقرية – الأهل والأحبة – الطبيعة والوطن – المدينة – العلاقات الاجتماعية...)

 

فالمكان الجغرافي هو الفسحة الرحبة، الحضن الغامر الأكثر دفئا" في شعره، تنمو في كَنَفه "أنا الشاعر" فتغتذي من مكوّناته وعناصره. هو مرتع الطفولة والصبا، يملأ خيال الشاعر وقلبه وذاكرته:

 

"والأرض كانت جنوبية / والجراح جنوبية / حين تدخل برج الكآبةْ / كأن التراب الجنوبيَّ خارطةٌ للعذابِ / إذا ما توجّع نهرٌ بأرض / توجّع ماء الجنوب / وإن صوَّب القاتلون الى أيِّ جسمٍ / ففي جسم هذا الجنوب تكون الإصابةْ".

 

ومن أغنياتِ حبٍ على نهر الليطاني يقول:

 

"على ضفةِ النهرِ كانت تغني / على نقطةٍ من نقاطِ العبورْ / وتركُضُ / مكشوفةَ الرأسِ حافيةً / فوق عشب القبورْ / شعرُها من مساءاتِ صيدا / صدرها من بساتينِ صور/ خصرها لو دَرَوْا / ذهبٌ في مزادِ الخصور.

 

ب – المكان المتصوَّر والمشتهى المتمثل برفض الواقع الأليم وبالرغبة بتغييره، وذلك باللجوء الى التعبير الغاضب والمندّد، والدعوة الى المقاومة ... فهذا المكان المشتهى هو اشتهاءُ تحقيق النصر، والتحرّر من الظلم، وتجسيد تطلعات الشعوب إلى العيش الكريم:

 

"سأترك هذه المدن الرجيمة / ذات يومٍ / كي تشيخَ وحيدةً بين المقاهي / وسأستردُّ من المرايا / ضوءَ أشجاري القديمة / فهناك سأقيم مملكتي / ومتكأي الأخير".

 

ج – اللامكان، وهو عالم اللاوعي بجزء كبير منه، وهو شبكة الهواجس والهموم الخلفية القابعة فينا والتي تترصد سقوط القيد الزمني لتَتَمَكْنَن في مشهد جديد، أو في طيّات مجموعة من التهويمات للهروب من عالم ممّضٍ ومضْنٍ:

 

"... واتركيما يدِّل على أنني عاشق / كي أصفّفَ حزني / وأمحو تجاعيد روحي / وأحرسَ هذا النبيذَ / الذي يتكوّن في ليل ثغركِ / داليةً داليهْ / واتركي بين جسمي وبين الغياب / شفا قبلةٍ / كي أؤَجِّل موعدَ يأسي / الى الليلة التاليةْ".

 

هذه الأمكنة التي تفصل بينها خطوطٌ دقيقةٌ جدا" هي بمثابة روافد تلتقي لتصبَّ كلُّها في نهر الحالة الشعرية عندما تبدأ العملية التعبيرية أو عملية الدفق الشعري.

وهناك موضوعات كثيرة نتبيّن خصائصها تباعا" في قصائد شوقي خاصة في مجموعاته:

 

 

-        مرثيّة الغبار           1992

-        قمصان يوسف        1996

-        شهوات مبكرة        1998

-        سراب المثنّى         2003

-        وردة الندم             2005

-        مدن الآخرين          2011

 

فالمنحى الفكري التساؤلي يتطور عنده في إطار من الانكسارات والأحزان ومدارات القلق حول الحياة والأرض والموت والمصير، كما في مجموعته الأخيرة:

 

 "فراشات لابتسامة بوذا"             2013

 

والتي تتضمن خمس عشرة قصيدة، يحاور فيها الشاعر الأشياء والعالم والذات مستعيدا" زمن الطفولة، هربا" من مواجع واقع قاسٍ، جانحا" نحو "فلسفة الطهر البدائية التي اغتالتها الثقافة لتصل بالإنسان الى الإفلاس القيمي..."

 

فهو في هذا الديوان يقف عند مفــارق الزمــن الطفولــي محــاورا" ذاتـه مسترجعا" محطّــات من حياتــه الماضيــة على طريقـــة مارسيل بروست في كتابـــه “A la recherche du temps perdu”مستعينا" بتفاصيل ذاكرته مخاطبا" والده الراحل وهو الطفل اليتيم:

 

" أنا ذلك الطفل الذي خلَّفتَه / في عُهدة الهَذَيان / أمشي خلف نعشك مستظلا" بالسماوات / ... بأيّ لغات الأرض أرثيك / يا أبي / وما لغةٌ إلا ينوءُ بها الحبر / بأي حروفٍ استعين على غدٍ مهيض / ترائيني كوابيسُه الكثُر.

 

هي النزعة الانسانية في شعره تتحقق في علاقاته بالناس، وفي حدْبه على البائسين، وفي تعلّقه بالأرض والأهل، وفي عشقه لبعض العادات والتقاليد الريفية، وفي تقديسه لقيم الشجاعة والبطولة والحرية والحق، وهي نزعة تبرز في معظم قصائده بخاصةٍ في مراثيه. فقد يكون المرثيّ شخصا" فردا" في بداية المرثيّة، وما يلبث أن يتطور في سياق النص، ليصبح حالة عامة أو قضية وطنية قوامهاتنديدٌ بموقف، أو تحفيزٌ على عمل، أو تشجيعٌ لجماعة ورفضٌ لواقع، وثورة ضد الظلم...

 

ويتماوج كل ذلك في حنايا القصيدة، من خلال الوصف والسرد الشعري، والانزياح في التعبير، والرموز، والحركة الدائرية للنص، (مراثيه في أيمن، وحسن الحايك، وعلي بزيع، خاصة قصيدة الصوت في غالب فحص ورفاقه)

 

هذا الالتزام الانساني بقضايا الناس والأرض، يعود الى الغنى الثقافي في شخصيته، والى التجربة النضالية التي اكتسبها في ريَّان شبابه، من خلال النشاطات الحزبية والمظاهرات التي كان يشارك فيها، وملاحقته لأخبار أحداث الجنوب يوم كان يعيش في المدينة ويتابع اختصاصه الجامعي في كليّة التربية... فقد كانت المدينة، بالنسبة اليه، منبرا" يطلّ منه على الناس شعرا" وفكرا"، ومكتبةً يستقي منها ليروي العقل والوجدان، وساحةً ينشط فيها لخدمة مبادئه وتطلّعاته، ومجتمعا" يعيش همومه وقضاياه.

 

لقد أحبَّ المدينة موردَ تثقيف وتنوير ومشاركة وانفتاح على الآخر، وعندما شحَّت فيها هذه الموارد، جافاها ويمّم شطر الجنوب، ليس طوعا" بل قسرا"، لأن الوساطة لم تتوافر له، ليستمرَّ في أفيائها.

 

شاعر، ملاذُه شعره، الحضن الدافئ الذي يرتمي بين جنباته، حيث يحاول دائما" الحفاظ على صفائه الداخلي، فيهرب من غبار الشوارع وضجيج الساعات، والأعمال الإدارية في المؤسسات، لأن ذلك يُبعده عن الاهتمام بتثقيف ذاته، وصَقْل تجربته الشعرية.

 

فالقصيدة لديه، نهاياتها مشرَّعةٌ على آفاق جديدة، والشعر عنده حدسٌ، توقّع، توجّس، اكتناهٌ، اكتفاءٌ مريحٌ وانفتاح فسيح... ويزخر هذا الشعر بفكر شفيف ونغم لطيف يعانق بإيقاعاته فضاءَ النص ليرسم الإطار الجمالي والدلالي الذي يُغويك بصوره وألوانه وأبعاده...

 

-أما في النثر، والنثر لديه توأم الشعر، فله مؤلَّفان هما:

       - أبواب خلفية            2005

       - هجرة الكلمات          2008

بالإضافة الى مؤلفٍ ثالث نشره سنة 2010 تحت عنوان: "بيروت في قصائد الشعراء"

هو شاعر وناثر وناقد.

 

ناثرٌ زادهُ ثقافةٌ واسعة، وتجربة انسانية غنية، وذائقة فنية، وبراعة نقدية. في مقارباته النقدية، درس بعمق وموضوعية، وعلى ضوء المفاهيم الجديدة للنقد، قصائد كثيرة ونصوصا" مختلفة، وترك قلمه يسري في طيَاتها مستكشفا"، منقبا"، محللا"، متوقّفا" عند المضيءمنها، ومثنيا" على الجميل فيها، ومستغربا" متسائلا" أحيانا" عن أمور وقضايا تضمّنتها بعض المواقف والأبحاث. (مجلة الآداب، الناقد، الرائد، وبعض المجلات العربية خارج لبنان)

 

هو شاعر عاشقُ لغةٍ، وقد انزرعت هذه اللغة في وجدانه وعقله، فأحسن سبكها لفظا"، وإيقاعا" ومضمونا"، ودلالةً وصورةً وصياغة، وانهَدَلت على رؤوسِ أنامِلِهِ كأعجوبة قدْسية تجترح السماء، وتوزع الضوء على مسار الكلام، فتنزل الألفاظ في منازلها، لتؤدي وظيفتها بغنائيةٍ هادئة، يصبح الشعر معها جنوبيَّ المذاق حداثي اللون والسياق، إنسانيَّ الأبعاد وشوقيَّ المشاعر.

 

وشكرا"

فرنسوا قزي

 

كلمة الدكتورة زهيدة درويش جبور

 في حفل تكريم الشاعر شوقي بزيع

 في إطار مهرجان الكتاب - الحركة الثقافية أنطلياس

 

السيدات والسادة،

أود بدايةً أن أوجه تحية تقدير للحركة الثقافية أنطلياس التي دأبت على مدى سنوات على تكريم كوكبة من المثقفين والمبدعين إيماناً منها بأن ثروة هذا الوطن الصغير ورأسماله الأهم إنما تكمن في قواه البشرية الحية وفي عقول أبنائه الذين رفدوا الثقافة العربية في شتى مجالات الإبداع الفني والفكري والأدبي. وأن يكون المكرّم في هذه الأمسية شوقي بزيع الذي شق لنفسه طريقاً متميزاً وأرسى حضوره على الساحة الشعرية المعاصرة في لبنان والعالم العربي إنما هو مدعاة سرور لي لسببين الأول لما تربطني به من علاقة صداقة وإن باعدت بيننا المسافات والمشاغل، والثاني، لأن المناسبة وفرت لي فرصة جديدة للعودة الى نتاجه والاستمتاع مجدداً بقراءته وبالتالي الإضاءة عليه.

لو أردنا أن نصف تجربة شوقي بزيع الإبداعية بكلمة واحدة لما وجدنا أفضل من النهر، حركته متجددة دائمة، وماؤه واحد لا يتغير؛ ولو أردنا أن نختصر لغته الشعرية بلفظة لقلنا أنها الشجرة، جذورها ضاربة في الأرض، نسغها نزف وجدان، وأغصانها مسافرة في فضاء الإنسانية الرحب. والأرض جنوبية أولاً، لا تغترب عنها الخطى إلا لتزرعها غرسة مباركة في ثلم القصائد، والنسغ دم الشهادة يجري في حبر الكلمات فينبت زيتوناً وورودا، والفضاء حريق تشعله جناحا طائر عشق الشمس حتى ابتلعه اللهب فانبعث كالفينيق من رماد اللغة.

 لم يحمل الشاعر الشاب قلمه في السبعينيات إلا ليكتب المكان علّه لا يتلاشى تحت أقدام الغزاة، كأن القصيدة تمسك الرمل حتى لا ينزلق من بين الأصابع، أو تغرس ذاتها في التراب كي لا يزحل. لذلك اقترنت في عناوين الدواوين الثلاثة الأولى مفردات تنتمي الى حقلين دلالين مختلفين: الكتابة والمكان. فالقصائد "عناوين سريعة لوطن مقتول"، محاولة أخيرة للوقوف في وجه الموت الذي تتقدم عرباته ناهشة جسد الأرض، و"رحيل الى شمس يثرب" المدينة الرمز التي لم تبتلعها لجة الزمن الغائب إلا كي تصير لؤلؤة الأعماق تختبىء في محارتها وتنتظر من ينفذ إليها مغامراً تحت ركود السطح، وهي "أغنيات حب على نهر الليطاني" ليست الحبيبة فيها سوى الأرض وليس النهر فيها مجرد إطارٍ جغرافي للقاء الحبيبين على ضفتيه بل هو نفسه الحب وموضوعه. تمثل هذه الدواوين المرحلة الشعرية الأولى حيث القصائد طويلة بغالبيتها تغذيها نفحة غنائية واضحة تجعل منها أناشيد يطلقها الشاعر لتمجيد قوافل الشهداء فتنبض بنفس ملحمي يلهب الجماهير ويشعل فيها جذوة الثورة والمقاومة، أو يرفعها الى حبيبة بعيدة المنال مريمية القسمات، نورانية الحضور فترّق كتراتيل أو صلوات.  تتمحور القصائد، إذن، حول الأرض والحب، الوطن الذي تمزقه الحرب الأهلية ويدميه العدوان الصهيوني على جنوبه، والمرأة التي تلهم وتعد بلقاء مستحيل، فيرتدي الحب طابع عذرة أو تميم. وسواء كتب الشاعر شعراً مقاوماً أو غزلاً فهو لم  ينزلق الى سهولة التعبير أو الى الكتابة البوحية حيث القصيدة شجو أو بكاء ذلك أن الإحساس لا يصل إلا مقنعاً بلغة المجاز، متلفحاً بعباءة الصورة. وهو اختار الخروج على القصيدة العمودية وعدم الالتزام بالوزن والقافية أشكالاً وقوالب تفرض على القصيدة من خارج، ليتجه نحو شعر التفعيلة وليعتمد على الإيقاع الداخلي الذي يتماهى مع حركة التجربة وهي ترتسم على الصفحة وفق تشكيلات بصرية حيث للمساحة البيضاء لغة خاصة. فتصبح القصيدة لغة تخاطب العين والأذن كما العقل والإحساس والمخيلة. كذلك نراه يمارس لعبة تعدد الأصوات في القصيدة الواحدة التي تكتسب في بعض الأحيان بنية مسرحية وتتنوع فيها المشاهد.

  وقد حافظ الشاعر على هذه التقنية خلال مسيرته الطويلة التي بدأت تتجه نحو مرحلتها الثانية مع ديوانه الرابع "وردة الندم" حيث نرى القصيدة تتكلم عن نفسها لتكشف عن أسرار الدخول في الحالة الإبداعية ولتضيء نظرة الشاعر الى نفسه وإلى فنه كما إلى علاقته بجمهوره. إلى ذلك تكشف المرأة عن وجهها الآخر لتوقد نار الشهوة  تعبر عنها لغة ترقى بفن الغزل الى قمة  الجمالية بفعل خيمياء الرؤيا التي تحدث التحولات، وبقدرة الرمز الذي يعتمده الشاعر كي لا يسمي الأشياء بأسمائها مشرعاً للخيال النوافذ وفاتحاً دروباً للسفر. فيأتي المعنى ملتبساً غامضاً على شفافية كأنه الشعاع لاتحجبه سوى غيمة ربيعية ما إن تذوب في ديمة حتى يلتمع بكامل ألقه. لكن التحول الأساسي يتمثل في تعميق التجربة الداخلية حيث يهبط الشاعر الى بئر ذاته الذي يتسع ليحتوي المكان بأسره فينتشله ويرفعه على أجنحة الكلام. فالمكان جغرافيا داخلية، لذلك لا حاجة بعد للإشارة إليه في العناوين التي تميل الى اعتماد التجريد والصورة: "وردة الندم"، "مرثية الغبار". كذلك تظهر سمة جديدة للكتابة وهي اعتماد القصيدة القصيرة التي وإن برهن الشاعر عن قدرته على ابتداعها، لا تنجح في استهوائه بعد أن أنس الى سكب وجدانه على الورق منساباً كمياه النهر الذي يفيض عن مجراه. ثمة علاقة تكامل بين "وردة الندم" و "مرثية الغبار" تجعل منهما منعطفاً مهماً في تطور التجربة؛ يقف الشاعر على قمة الأربعين من عمره ليتأمل في ماضيه وحاضره ومستقبله، فيكتشف رهانات خاسرة لجيل بأكمله آمن بحقائق وناضل من أجلها فتكشفت أوهاماً، ويرى الحاضر سديمياً والمستقبل ضبابياً معتماً. يشعر بخطى السنين تتقدم لتخّط في جبينه علامات عمره الهارب، وتدبّ في رأسه شيباً وحكمة. فتنضج تجربته وتغتني القصيدة ببعد فلسفي يتجلى أحياناً من خلال فن الحكمة، وأحياناً أخرى من خلال فن الوصف الذي يتحول الى محاولة رصينة للقراءة في كتاب المعنى فيخلو من التقرير لأن العدسة التي تلتقط المشهد ليست للعين بل للرؤيا التي تنفذ الى لب الأشياء متجاوزة مظاهرها الخادعة. فإذا بالمشهد العادي نافذة على الغريب، وإذا بالقائم يغتني بوعود الممكن. ولعل سر القدرة على الارتقاء بالذاتي الى الشمولي وبالخاص الى الإنساني يكمن في تلك الطاقة على الرؤيا الثاقبة والتي تتجلى في أبهى صورها في ثلاث قصائد أعتبرها من أجمل ما كتب في أدب الوصف والحكمة: "الأربعون"، "البيوت"، "الصور"، حيث يحقق الشاعر المزاوجة بين المألوف والغريب مولداً الدهشة من قلب اليومي، محدثاً الصدمة اللذيذة. يتحول الوصف في القصيدة المشهدية الى تأمل في الذات وسفر الى الداخل كأن المادة الموضوعية ليست إلا مجرد ذريعة خارجية أو شرارة توقد نار الحضور.

في "مرثية الغبار" يطرأ كذلك تحول على حضور المرأة في القصيدة، فيذوق العاشق فرح تصالح الروح والجسد. ويمكن القول أن الشاعر الذي أتى الكتابة عاشقاً إنما يطرح مسألة الحب في بعدها الثقافي والحضاري، لافتاً إلى أن تاريخ الحب في هذا الشرق القائم على تمجيد السلطة في مجتمعات ذكورية بامتياز، محكوم بالمأساة: "من لم يمت بسيوف السلاطين/ أو تحت هول الفتوحات/ مات اختناقاً على الدرب/ بين المثنى ومفرده/ أو بين وجه الحبيبة والأحجية."

أما المرحلة الثالثة فتبدأ في منتصف التسعينيات مع "كأني غريبك بين النساء" وتكشف عن مفهوم للشعر يجعل منه طريقاً الى المعرفة ودرباً الى تصالح الذات المنقسمة مع نفسها ومع الكون. تتماهى القصيدة مع الأنثى حتى يصعب التمييز بين قصيدة الحب والقصيدة التي تتكلم عن نفسها. يظهر ذلك بوضوح في "قمصان يوسف"، و "شهوات مبكرة" و "سراب المثنى" حيث يتأمل الشاعر في جوهر الشعر ومقاصد لغته ويغوص في سر المعنى المتقنع بالجمال الأنثوي، كأن السر جوهر مشترك بين القصيدة والأنثى. وتتسم الكتابة في هذه المرحلة بتكثيف الرمز وباغتناء الصور التي تتوالد الواحدة من الأخرى وتتدفق كسيلٍ جارفٍ دليلاً على عبقرية الخيال الشعري كما تكشف عن شغف الشاعر بسحر الكلمات ودأبه على الدخول إلى أسرارها، كأنه سليل عائلة عريقة القدم في تراثنا العربي تبحث في لغز الحروف عن معنى الوجود وتسعى لتتلمس من خلالها ما يخفى على الحواس. إذ أن كل حرف حضور وكل إسم حياة.

لقد برهن شوقي بزيع عن قدرته على بلورة نظرية متكاملة في الشعر ودوره دون أن يتوسل لغة التنظير والمنطق، ولعل أبرز مثال على ذلك قصيدة "قمصان يوسف" حيث استقى من القصة القرآنية مادة حولها بالرمز لتصبح لغة للمغامرة الشعرية التي تتطور وفق ثلاثة مراحل: الهبوط الى البئر ومعاقرة الموت ("قميص التجربة")، تتبعها الولادة الجديدة يرافقها شعور بالغربة وبازدواجية الذات التي تدخل في مناخ الحيرة والتردد ("قميص الشهوة")، قبل أن تجمع قواها لتنتصر على التوتر والخوف في لحظة إشراق الرؤيا ("قميص الرؤية")، حتى إذا ما بلغت القصيدة نهايتها رفع الشاعر القناع ليعلن: "الشعراء كالعشاق لا يصلون/ ما لم يحرقوا خلفهم سفن الهيام" والحقيقة ليست في الرحيل أو في المقام بل  في الطريق ولا بد من "صنعا" والمقصود صناعة فنية، بمعنى أن الشعر تجربة ولغة وتقنية إبداعية عالية وليس مجرد سكب الأحاسيس في قوالب لفظية: "ليس الشعر أن نبكي/ على ما ضاع من فردوسنا" بل "أن نضرم تحت اللغة البكماء نيران المجاز".

ولا بد من الإشارة الى أن شوقي متأصل في تراثات المشرق العربي المتنوع حيث تعاقبت الحضارات من بابلية وسومرية وفينيقية ومسيحية وإسلامية وعربية تضرب جذورها ما قبل الإسلام، يتمثلها جميعاً فتصهرها عبقريته لتخرج لماعة كالذهب من خيميائه السحري. فهو لا يرضى لنفسه أن يكون مجرد شاهدٍ على التراث أو وريثٍاً له يختزنه في وعيه ويستنسخه، بل نراه يخرجه من بئر الذاكرة نابضاً بروح جديدة تبثها فيه رؤياه الشعرية التي تصدر عن حضور كثيف في مناخ العصر. إن عروة بن حزام، وديك الجن، وقيس لبنى، و عمر بن أبي ربيعة، وامرىء القيس، يصعدون درج الزمان ليحضروا في قصائد تسبغ عليهم حيوات جديدة، كأن الذي عاشوه يوماً ليس سوى مادة للتحولات. ويثرب والأندلس والفرات والنيل ووجدة وقرطاجة ليست مجرد جغرافيا للحنين، بل ترتفع الى مرتبة رموز لتصبح هيروغليفيا للذات الحميمة. كذلك يغرف الشاعر من معرفته بالتاريخ القديم وبأساطير الإغريق مادة يلقح بها خياله فيخصب. من جهة أخرى يتجذر في التراث الروحاني الإسلامي والمسيحي الذي يشكل رافداً أساسياً لشعره وعنصراً مهماً في تكوين عالمه الذاتي فتبقى القصيدة متصالحة مع الله حتى في ذروة التمرد أو في قعر الهاوية. فالرموز الإسلامية والمسيحية ليست مجرد مادة تغرف منها لغته الشعرية بل مكونات أساسية للذات التي تشّف عن إيمان يتخطى الفروقات بين الأديان السماوية الى وحدة جوهرها. إن فاطمة الزهراء ومريم العذراء، كما المسيح وعلياً والحسين وجوه مختلفة لحقيقة واحدة: تحمُّل العذاب والانتصار على المأساة وتحويل الألم الى معراج للنفس الإنسانية نحو الألوهة والقداسة. كأن الجريمة نفسها تتكرر على مدى الدهر في هذه الأرض المشرقية، كأن الدم نفسه ينزف كل يوم من الجليل الى كربلاء، حتى تتطهر الأرض ويعشب الجرح، أو يطلع من تحته اللهب.

 يتضح مما تقدم أن السمات الأساسية لهذا الشعر، هي أصالة الانتماء، والأمانة للتراث الحي النابض، والالتزام بقضايا الوطن والإنسان علماً بأن لغة الالتزام تختلف بين المرحلة الأولى حيث تطغى "القصيدة الجماهيرية" التي تتخذ شكل نشيد حماسي، والمراحل التالية حيث يتراجع النشيد أمام "القصيدة البصرية" التي تحافظ على غنائيتها بعد أن تلبسها حلة جديدة. لكن شوقي بزيع في كل أعماله يبقى شاعر التجربة يكتب القصيدة إملاء الداخل فتخرج رعداً تارةً، وتنساب لحناً منكسراً تارةً أخرى وفق حركة تتراوح بين الثورة والاستسلام، القيامة والموت، الأمل واليأس. تستوقفه اللحظة الهاربة فيقبض على جوهرها، وتلفته الحادثة اليومية فينفذ ببصيرته الى أعماقها لتستحيل مادة شعربة بامتياز. ولأنه لا يكتب إلا استجابةً لإملاءات الوجدان ولإلحاح السؤال عن المعنى يبقى شعره لصيقاً بالحياة. وهو لا يزال في حالة تجاوز مستمر مطوراً لكتابته الشعرية، مجترحاً الجديد.  فها هو يخوض في آخر ما قرأت له ديوانه الرائع "فراشات لابتسامة بوذا" مغامرة جريئة محولاً كتابة السيرة الى نصٍ شعري بامتياز يستلهم حياة بوذا أو سيدهارتا ليجعل من محطاتها مرآة لمسيرة الشاعر في بحثه عن جوهر المعنى وسر الجمال.

ختاماً لا يسعني سوى القول أن شوقي قد أثبت بالممارسة أنه استطاع أن يحقق الهدف الذي طالما سعى إليه وهو "ان يستهل الأبجدية" وأن يصل بالقصيدة الى "غير ما اجترح الأوائل".