ندوة حول كتاب: "كمال خليفة شاعر وتاريخ"، للأستاذ جورج خليفة

 

كلمة المحامي جورج بارود

بمناسبة إدارته للندوة حول كتاب:"كمال خليفة شاعر وتاريخ"

للاستاذ جورج كمال خليفة

الحركة الثقافية – أنطلياس

 

        إدارة الندوة حول كتاب:"كمال خليفة شاعر وتاريخ"... تشريف لي واغتباط لنفسي.

        فيوم طرح عليّ الاستاذ جورج خليفة إدارتها لم أتردد لحظة، وقد أسعدني الاختيار لما يربطني بالعائلة من عرى المودة والاحترام؛ إلاّ أن الفضول لدي في الجواب على تساؤل يراود نفسي، دفعني أكثر إلى الترحيب والقبول.

        فمن يعرف عائلة كمال خليفة أو حتى يسمع بها يتساءل: من كان رب هذه العائلة ومن أي طينة ونوع من الرجال هو؟ وكيف استطاع وهو القابع في حدتون على شظف العيش في جبال لبنان يومذاك أن يثقف أولاده على كثرة عددهم، فيصلون إلى أعلى المرتبات العلمية وتنمو لديهم جميعًا الرغبة في البحث والتنقيب والتأليف؟

 

        لقد أسعدني الحظ بمعرفة ثلاثة منهم: نبيل وجورج وعصام إلاّ أن ما يربطني بالدكتور عصام يتجاوز محبة الشقيق لشقيقه. فقبل أن تجمعنا الحركة الثقافية في أنطلياس، عرفته مناضلاً في حركة الوعي بين صفوف الطلاب في الجامعة اللبنانية التي لا تزال همومها ترافقه حتى المضجع، فبات يعتبر أباها وملهم قادتها، ولم يمنعه تقاعده عن الاستمرار في النضال لضبط الخلل فيها، إيمانًا منه بجدية التعليم الجامعي الوطني ورفعته وسمو المؤسسة وسعة آفاق القيمين عليها ونزاهتهم. وهو إلى جانب ذلك المتمسك دومًا بالمواثيق والانظمة، والمدافع الشرس بوجه كل مخالف في كل مسألة وطنية أو علمية أو ثقافية.

فلا غرو أن يكون قد تربى على هذه الصفات في بيئته واكتسب الصلابة في مواقفه من والده والمؤسسات التربوية التي نشأ فيها، وقد أسرّ إليَّ في أحد الايام أن والده كان مولعًا بالقانون، يرتاد المحاكم ويحاور في تفسير النصوص وتطبيق الاجتهادات كرجال القانون في غابر ذلك الزمان.

وعندما تصفحت كتاب الاستاذ جورج خليفة الذي يجمع ما تركه والده من آثار شعرية وزجلية تعكس فكره ومواقفه، ثبت لدي باليقين حب الوالد للعدالة، وتأتي الرسائل المنشورة التي كان يبعثها إليه والده من المهجر لتؤكد حبه للارض والمواسم وشغفه الدؤوب إلى تعليم أولاده وتثقيفهم، فلا يبخل عليهم في إنفاق ما كان يرسله إليه والده من نقود مفضلاً صناعة الرجال على تكديس الاموال، وذلك بالرغم من أيام صعبة كان يمر بها أحيانًا أسوة باللبنانيين في ذلك العصر؛ أما ما يبقى بعد مصروف العائلة ودفع أقساط الاولاد وتجهيز البنات وإيفاء ما تكدس من ديون فلبناء منزل يخلد اسم الوالد ويسجله التاريخ بالفخر والاعجاب ومن ثم شراء الاراضي، مشيدًا دومًا بفضل والده ومعتزًا بعطفه وحنانه.

 

هذا وقد كان كمال خليفة مولعًا بالاصول القانونية، يستخدم العبارات التقنية ودرجات المحاكم إلى جانب عبارات قاضي الاحالة ومحكمة التمييز وسرية المذاكرة، كدليل على شغفه بالقانون وحبه للعدالة وحنكته في الدفاع عن حقوقه.

إلى جانب سعة مداركه تظهر فطرة كمال خليفة الشعرية في الروي والموضوعية والثقافة التاريخية، فتجده في بعض قصائده مؤرخًا لوقائع وأحداث شهدتها البلاد وبوجه أخص منطقة البترون في زمانه، كزيارة البطريرك أنطون عريضه لبلدة ترتج سنة 1935، والحضور الوطني لحميد بك فرنجيه في خمسينيات القرن الماضي، وتعبيد الطريق إلى دير سيدة ميفوق سنة 1931، وتاريخ استلام البطريرك بولس بطرس المعوشي سدة البطريركية عام 1955، وبداية أحداث سنة 1975...إلخ.

والكتاب بحد ذاته تاريخ للعائلة منذ نزوحها عن بجه إلى حدتون مرورًا بالجدين وبشقيق الجد لوالده الخوري يوسف فارس وصولاً إلى صاحب الكتاب، كما يشكل تأريخًا لزمن المجاعة أيام الحرب العالمية الاولى.

فإنه وإن كانت قصائد كمال خليفة تتصف بشعر المناسبة، فهي تزخر بالعبر والحكم والعرفان بفضل كل صاحب أثر أو مكرمة، بصورة شعرية وإلهام فطري وروي يحاكي قصائد كبار الشعراء.

 

وتظهر أريحته الشعرية بصورة جلية في قصائده باللغة العامية حيث تندمج الصورة بالصياغة وتتجلى فيهما المعاناة، فهو يقول:

        "الشمس غابت خلف بحر الروم              والغيم أبرش حامل الامطار

        والريق صار جليد بالزلعوم           ولسان جوا التّم ما بيندار"

لم يكتفِ جورج خليفة بجمع آثار والده ورسائل جده إليه وإنما أراد في كتابه  أن يسكب بعضًا من ذاته؛ فما جمعه من قصائد تحت عنوان "على خطى الوالد" تظهر حبه للشعر الفصيح والزجل الشعبي، وتزخر بالصور الشعرية والعنفوان، وقد خصّ الكتاب بفصل يشكل جزءًا لا يتجزأ منه.

لن أغوص أكثر في كتاب "كمال خليفة شاعر وتاريخ..." تاركًا المجال للمنتديين تمحيص مكنوناته وكشفها، وإنما أرغب في الاشاره أخيرًا إلى الرضى والتسليم بمشيئته تعالى والانصياع للقدر، وهي صفات يتحلى بها أهل الجبل، ومنها يستمدون صلابتهم وحبهم للارض والوطن، وتظهر بصورة جلية في قصائد كمال الوالد وجورج المؤلف.

يبقى في النهاية، أن ننوه بالعمل الذي قام به الاستاذ جورج خليفه في جمعه لاثار والده؛ فكم هي عديدة النصوص القيّمة الضائعة أو المنسية في الادراج لعدم وجود من يجمعها وينشرها.

فكما أن الثقافة هي بحاجة إلى مفكر وأديب، فهي كذلك بحاجة إلى جامع وناشر، وإلاّ لضاع الفكر في غياهب الاهمال.

فالشكر للاستاذ جورج خليفة الشاعر والمربي الملتزم والمولع بالفكر والثقافة، على عمله، وإلى مزيد من العطاءات.

 

 

د. ربيعة أبي فاضل.

 

        كاتب وشاعر وقصاص. مارس الصحافة- فكتب في جريدة النهار والديار والبيرق والقدس – ومارس التعليم، فدّرس في المدارس الرسمية وفي بعض المدارس الخاصة ومنها مار يوسف في قرنة شهوان ومعهد الوردية، وهو أستاذ في كلية الآداب التابعة للجامعة اللبنانية.

له العديد من الكتب المدرسية والادبية في الشعر والنقد والقصة.

إنه ابن نابيه بلدة رئيف خوري وصادر يونس.

وهو قبل أي أمر آخر صديق للحركة الثقافية- أنطلياس. 

____________________________________________________

 

الكلمة التي القيت في حفل توقيع كتاب الأستاذ جورج كمال خليفه لكتابه :

كمال خليفه شاعر...وتاريخ...! في الحركة الثقافية - أنطلياس(الجمعه 10/3/2017)

د. سيمون عبد المسيح

 

تفتح قراءة كتاب الأستاذ جورج عن والده "كمال خليفه شاعر وتاريخ" نوافذ على حقول معرفية متنوعة : التاريخ والأدب والشعر والسياسة والدين والهجرة والإجتماع  والإقتصاد والعادات والتراث..وفي كل حقل من هذه الحقول مساهمات ولوحات وشهادات جديدة، تساهم في إحياء تاريخ عائلة على مدى أكثر من قرن، حيث نعاين صعودها بكل تفرعاتها الذكورية والإناثية، كنموذج عن ترقي الطبقة الوسطى في قريتنا ومجتمعنا. فالكتاب رغم محوريته حول شخص الشاعر كمال خليفه، هو تاريخ لسلسلة الأجيال المتعاقبة منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى الآن، حيث نشأ كل جيل ونما  في رعاية سابقه ناقلا المعارف والخبرات والقيم الى الجيل الذي يليه.

هكذا يساهم الكتاب في وصف و فهم وتفسير ظاهرة مرئية ومشعة للأقمار الثلاثة في فلك بيئتنا المحلية والوطنية : نبيل وجورج وعصام . هذه الظاهرة تعبر عن نفسها بالحضور الثقافي والتربوي والإعلامي الفاعل، والتميز الإجتماعي، والموقف السياسي الجريء المبني على البحث الأكاديمي والحس الوطني الصادق والملتزم. فالأجيال المعاصرة بكل أغصانها – الحاضرة الآن بيننا – هي نتيجة تراكم ثقافي وقيمي ومادي، كما لو أنها تحمل خريطة جينية مركبة بين البيولوجيا والبيئة الثقافية.

فما هي أصول هذه الظاهرة ؟ متى نشأت ؟ وكيف تطورت ؟ وكيف تأمنت شروط الإبداع المتناسل من جيل الى جيل ؟ يقدم الكتاب سردا وأرقاما ومشهديات وأنماط تربية وتعليم، ويروي قصة كفاح متواز ومتزامن بين حدتون و مونتيفيديو (الأوروغواي)، بما يساهم في تدعيم نظرية طالما عملت عليها في أبحاثي عن قريتي والمتمحورة حول "المجتمع الكهنوتي". فالكتاب يساعد على فهم أسس الترقي الإجتماعي – الإقتصادي والثقافي والعمراني، ويقدم قراءة ميكرو –تاريخية تمتد لأكثر من خمسة أجيال لعائلة واحدة في قريتنا، بما يساعد على فهم بيئة الإبداع والإنجاز ومعاينة المسار التصاعدي والتراكمي. ولكن هذا التفسير لحالة محددة يسمح بفهم المسار التاريخي لصعود الطبقة الوسطى في مجتمعنا الماروني وبخاصة في بلادي جبيل والبترون.

اسمحوا لي في مداخلتي هذه أن أتوقف عند خمسة عناوين اخترتها نتيجة التفاعل المتبادل بين اهتماماتي والكتاب. الأول يتناول ما اعتبره الإنطلاقة التأسيسية فيما أسميه "المجتمع الكهنوتي" مضيفا اليه و "التربية الإيمانية" من مصطلحات الكتاب. أما الثاني فتحت عنوان " الممارسة الكتابية" ودورها ليس فقط في تصنيف المعارف وتثبيتها ونقلها عبر الأجيال، إنما كوسيلة تفكير. والعنوان الثالث هو "التاريخ والذاكرة" في محاولة لرؤية التكامل بين النص التاريخي الوضعي للدكتور عصام من خلال رسائل شاعرنا كمال الى والده في المهجر في الربع الثاني من القرن العشرين، وعملية الإحياء المشهدية التي صاغها الأستاذ جورج بالإستناد الى الذاكرة. والرابع يتمحور حول الموقف السياسي من خلال بعض القصائد، والخامس والأخير وقفة وجدانية مع جورج خليفه "الكنز المكنون".

1- المجتمع الكهنوتي والتربية الإيمانية :

تشكل العائلة الكهنوتية الترجمة الواقعية الأقرب الى النموذج – المثال الذي وضعته المجامع الكنسية المارونية (وبخاصة مجمع اللويزه 1736)، مستوحية المجامع المسكونية في "سيرة الإكليريكيين وآدابهم" : " وأنت في كل شيء إجعل نفسك مثالا  للأعمال الصالحة حتى يخزي المضاد حيث لا يكون له أن يقول في حقنا سوءاً ولئلا يلحق خدمتنا عيب " (بولس الرسول الى تيطس 2 والى أهل كورنتس) . فللسيرة والمثال أهمية في بعث الناس على التقوى، ولذلك على أهل الكنيسة التمتع بالحشمة لا بالثوب الخارجي بل بتثقيف سيرتهم وتهذيب أخلاقهم كما يقول المجمع. فلا لباس غير لائق بل دائما التدبج بالثياب الإكليريكية، فنسكية الثوب الظاهر تدل على الآداب الباطنة. ونظافة للكسوة البيعية (الدرع والبطرشيل).لا للألعاب غير اللائقة والملاهي والخمارات والحمامات، ولا محافل أعراس، لا إسراف في الأكل ولا مسكرات، ولا استعمال للغناء ولا ترتيل إلا للألحان البيعية، لا تخطر في شوارع المدينة، ولا رواية لقصص وأحاديث لا تليق بمن وجب عليه الحديث في السماويات، ولا لمجالسة أهل الخلاعة، ولا لقراءة الكتب المنطوية على المجونيات والخلاعيات والأباطيل، إنما مطالعة التآليف النزيهة والمصنفات التقوية البيعية. ولذلك عليهم اقتناء الكتب والمواظبة على تلاوة الفروض الإلهية النهارية والليلية في الكنيسة، وتقديم الذبيحة مرة واحدة في الأسبوع على الأقل، وضرورة ممارسة الرياضات الروحية لمدة عشرة أيام في كل سنة، وعلى الأساقفة أن يبحثوا في آداب وسيرة الإكليريكيين.

لقد تم إعداد الكهنة معرفيا وسلوكيا – بمن فيهم كهنة عائلة الخوري  سابا – في إكليريكية مار يوحنا مارون كفرحي، حيث كان الطلاب يدرسون الفرنسية والسريانية والعربية والإيطالية واللاتينية، أما المواد الدراسية فهي الفلسفة والتيولوجيا واللاهوت الأدبي والأخلاقي والعلوم الرياضية والطبيعية. وقد تم إرسال بعض تلامذتها الى إكليريكية Saint – Sulpice  في باريس للتخصص والعودة معلمين فيها، ومنهم الخوري سليم عريضه البطريرك لاحقا.

لقد بدأت سلسلة هذه العائلة الكهنوتية في حدتون أواسط القرن التاسع عشر مع الخوري حنا ابن الخوري سابا خادما للرعية، ولم يكن الخوري حنا مجرد كاهن بسيط في قريته، بل – وكما تبين الوثائق الأبرشية المنشورة – كان له دور ملحوظ وقيادي من ضمن فريق كهنوتي في بلاد البترون مناويء للبطريرك بولس مسعد في أواخر الخمسينيات. واستمرت السلسلة الكهنوتية مع ابنه الخوري بولس ومع حفيده الخوري يوسف فارس ناسخ الكتب الليتورجية واللاهوتية، والمطلع بعمق على مقررات المجمع اللبناني الشهير وعلى مرجعيته الكنسية المسكونية : المجمع التريدانتيني. ومن ثم مع الخوري باسيليوس ابن أخ الخوري يوسف وخريج إكليريكية مار يوحنا مارون .  إن معرفة المجامع الكنسية لا شك أنها تؤثر في تحويل قواعدها المتعلقة بتنظيم الأسرة والرعية والحياة الإكليريكية والأسرار المنظمة لحياة المؤمنين الى سلوك ، والى تربية دينية و قيمية صارمة في المحيط العائلي.

إن المنهج الذي خضع له كهنة القرية في إعدادهم العائلي والمدرسي قد سمح لهم بالإنتقال من الحالة "الطبيعية" الى الحالة "الثقافية" أي الى مجموعة من القيم الروحية، كان لها أبعد الأثر في الترقي. فمن المفترض، أن يولد المكرس "إنسانا جديدا" أي يتحول الى آخر وفقا لنموذج موصى به، فالإنسان الروحي ليس "معطى" (أي نتيجة لعملية طبيعية) بل إنه يُصنع وفقا لنماذج موصى بها، أو موضوعة من قبل السلطة الإكليريكية. ينتقل المؤهل عبر تكريس البلوغ الى عالم مقدس، أي الى العالم الذي تعتبره الثقافة التي ينتمي اليها بمثابة العالم الفعلي والحامل للمعنى، تماما كما تتوصل الذات بوصفها عقلا مفكرا الى إدراك الواقع الفعلي للعالم وذلك عبر الإختزال الفينومينولوجي. 

هكذا نشأ جرجس إذا (والد شاعرنا) في بيت كهنوتي معاصرا قبل سفره عام 1912 ثلاثة منهم عمه " الخوري يوسف فارس وعم والده الخوري بولس ابن الخوري حنا، وابن عمه الخوري باسيليوس. سمحت له هذه المعاصرة معرفة القراءة والكتابة، والتزود بالقيم الدينية والأخلاقية، وإعداده لخدمة الخورس. لقد كان لهذه النشأة تأثيرها في نجاح والد الشاعر في الأوروغواي إن لجهة الحفاظ على سلوك مستقيم، أو في الإدارة المعقلنة لتجارته في الأقمشة، او في قدرته على التواصل مع عائلته في حدتون، ومقدما في الوقت عينه خدماته لمن لا يحسنون القراءة والكتابة من أبناء قريته المهاجرين. وعندما عاد الى حدتون أواسط الخمسينات من القرن العشرين معينا وكيل وقف، شاهدته وأنا ما زلت ولدا في الستينيات يخدم القداس راكعا على كرسي يمين المذبح الكبير مرتلا وضاربا بمطرقة خشبية صنجا نحاسيا معلقا تحت مذبح اليمين بقوة وحماسة مولدا جوا ليتورجيا كنسيا أقرب الى عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى. واستمر بعده حفيده نبيل وكيلا للوقف ومنشدا الألحان الكنسية بصوت رخيم.

لم يكن شاعرنا بعيدا عن هذه التربية، وقد نشأ وتتلمذ بعد هجرة والده عام 1912على يد ابن عم والده الخوري باسيل وقبله متعرفا على الخوري يوسف. لقد عايش الحياة الكهنوتية في صباه، متعلما من الخوري باسيليوس القراءة والكتابة في مدرسة للوقف افتتحها بين 1912-1914، كما تعلم منه عقلانية محاسبية في كيفية مسك دفاتر اليومية لتسجيل المدخول والمصروف، والموازنة بين "الإعتبارات الروحية" و"الإعتبارات المادية". وتعلم في مدرسة ميفوق للرهبانية اللبنانية المفتتحة عام 1922 أصول نظم الشعر من خلال الإطلاع على المخزون الشعري الكلاسيكي والنهضوي، متأثرا بأستاذه الشاعر والمسرحي الخوري يوحنا طنوس[1]. وعندما تزوج وأسس عائلة من 4 صبيان و3 بنات، كانت "التربية الإيمانية" كما رسم لوحتها "الفنان" جورج حيث تحتل صورة العائلة المقدسة مكانة الرمز مع مجموعة من صور القديسين وأمامها باقات الورد، فيما يشبه مذبحا بيتيا تقام الصلوات فيه كل مساء، وتنشد فيها "أرزة البيت" "إليك الورد يا مريم ". في هذا المناخ العائلي كان يتكون الرأسمال اللغوي والقيمي قبل الإلتحاق بالمدرسة .

 

 

2- ممارسة الكتابة 

تنمو في دائرة  "البيوت الكهنوتية " "ثقافة الكتابة" أو "الثقافة المكتوبة"، وكما هي عامل نجاح في المدرسة بحسب عالم الإجتماع (Bernard Lahir)في كتابه "ثقافة الكتابة واللامساواة المدرسية"، كذلك هي عامل نجاح في الحياة. فعندما نتحدث عن "ثقافة مكتوبة" لا نعني فقط اكتساب رموز الكتابة ولا القدرة على القراءة بمعنى فك الحرف، ولا القدرة على الكتابة بمعنى صياغة رسائل. إننا نعني بها مجموعة من الكفايات أكثر اتساعا  مثل معرفة التأليف والإنشاء، ومعرفة استخدام الكتابة كوسيلة تفكير، ومعرفة اكتناه الحقيقة من خلال الكتابة، الخ..وفي توسيع هذه الكفايات طريقة لتسيير العالم الذي نسميه "الفكر الكتابي " (La pensée scriptural).

فالممارسة الكتابية هي عدد من طرائق العمل والنظر الى العالم، ومحاولات من الإلفة الطويلة مع الكتابة. ولفهم أهمية ممارسة الكتابة – ينبغي تخيل مجتمع لم يتعودها- مجتمع أنتروبولوجي (بدائي لم تمسه التغيرات)، حيث فسر (Jack Goody)ماذا يحمل إدخال الكتابة إلى الإعداد الثقافي الإنساني . تسمح الكتابة ببناء وتثبيت لوائح نباتات وحيوانات وأشياء، واستخدامات كل منها، وبناء لائحة بالأعمال المباحة وغير المباحة.. هذه اللوائح هي جزء من المعرفة الإنسانية وأداة فعالة لتصنيف العالم، تصنيف هو مصدر المعرفة. كما تسمح الكتابة بحفظ اللوائح، وعدم نسيانها وتحديد المتضمن والمستبعد وتثبيت المفاهيم.

ويمكن قياسا على المقارنة بين المجتمعات البدائية والمجتمعات الكتابية، أن نقارن في وحدة قروية صغيرة بين من لا يعرفون القراءة والكتابة والعائلات الكتابية، ففي الأولى غياب للتوقع والرؤية المسبقة، والإبتكارات والخبرات الإنسانية تتلف وتنسى. في حين أن العائلات الكتابية تسمح بالقيام بالمشاريع واستمراريتها، والزمن هو الذي يسمح بالبناء والإكمال والتطوير. إذا هناك انتقال من الوقت المدمر (un temps destructeur)الى الوقت البناء (un temps constructeur).

وبشكل عام، إن كتابة الأعمال تسمح بإدخال عنصر تأملي على العقل الإنساني: بالإضافة الى الكلام في ومن أجل العمل، هناك كلام عن العمل... وللكتابة فوائد إدراكية (حتى تحت شكل الرسم أو الوسم) بحيث تسمح بحفظ الشهادات الحسية عن العالم، وفرض قواعد موحدة على مشاهدات الطبيعة ومقارنتها ومراكمة النتائج بين الأفراد وبين الأجيال. وعليه تصبح الكتابة شرطا للتفكير العلمي.. إن الكتابة قبل أن تكون أداة تواصل هي اداة للتفكير بالعالم، وكذلك هي ذاكرة ورؤية استباقية للأعمال الإنسانية. والدخول الى المعارف يتطلب الممارسة الكتابية.ولقد كان الإنتشار الإجتماعي لممارسات الكتابة مولدا لشروط التكنولوجيا والأخلاق والسياسة. إن الكتابة هي واحدة من أسس حضارتنا.

كان هناك إدمان على القراءة عند شاعرنا (ومعه أبناؤه ومن بعده)، للصحف اليومية والمجلات والكتب، قراءة مصحوبة باستماع دائم للإذاعات والتلفزيون، بهدف الإطلاع ومواكبة الحدث والتثقف. لقد سمحت الكتابة لكمال ( وبالطبع لأبنائه من بعده) بممارسة المواطنية بأبعادها المختلفة، ولم تكن الممارسة الكتابية فقط أداة ضرورية للحصول على المعارف، بل احتلت موقعا حاسما في ممارسة المواطنية. لقد سمحت الكتابة بالمشاركة في حفلة زجل، وفي إلقاء قصيدة في مناسبة إنمائية أو اجتماعية أو سياسية أي في اتخاذ موقف ومحاولة إقناع الآخرين به. كما استخدم كمال الكتابة لتفسير القوانين والمحاججة أمام المحاكم رغم توكيله للمحامين، أو لفرض قوانينه/ شروطه عبرها.

في نص مشهور كتبه ليفي - ستراوس (Levi- strauss)يروي فيه كيف أن شيخ قبيلة هندية في البرازيل (Les Nambikwara)اكتشف الكتابة، وفي الوقت عينه إمكانية استخدامها لتقوية سلطته. لقد كان لكمال في قصائده ما يشبه الكتابة الوهمية –التي استخدمها شيخ القبيلة- من أجل اتخاذ القرارات وتوزيع الهدايا. لقد كان للكتابة مفاعيلها التمدنية، فالممارسة المستمرة للسلطة تتطلب الكتابة، لا بل إن إدارة الأشياء والأرزاق تتطلب الكتابة : لقد استطاع الوالد في الأورغواي معرفة ما يجري في حدتون عبر الكتابة. إنها الكتابة التي تسمح بالمعرفة عن بعد.

3- التاريخ والذاكرة:

عند عودته من الأورغواي أواسط الخمسينيات حمل أب الشاعر رسائل ولده، التي استثمرها حفيده الدكتور عصام في نص موثق من نصوص هذا الكتاب. لقد سمحت هذه الرسائل بمعرفة تاريخ المناخ وتاريخ المواسم الزراعية في حدتون بين 1931 و1956  (مع ثغرة بين 1933و1940) ورسم منحنيات الأمطار والثلوج والأسعار، وكيفية التحول في الزراعات نتيجة السياسات التدميرية للزراعة والأرياف . فمن مواسم قمح وحبوب وتبن عاطلة نتيجة الضربات المناخية والضرائب والأمراض (الرهبون)، ، الى مواسم عنب وزيتون عاطلة أو "عدم شرعي"، يلاحظ  وجود مواسم جيدة أو "مصطلحة" بلغة الرسائل، أو" ليست كالسابق"، وعندما تكون المواسم جيدة تبرز مشكلات التسويق للعنب والزيتون، وعندما تكون عاطلة تبرز مشكلة التمون بالقمح والتبن . وتبين الرسائل المنازعة الأخيرة لموسم القز حيث انخفضت أسعاره بشكل مستمر بين 1948 و1954 وقد بدأت في هذه السنة الأخيرة عملية اقتلاع أشجار  التوت والتوسع في زراعة الزيتون والتفاح، ومنذ 1947 بدأ التفكير بالتخلي عن زراعة التبغ واستبداله بالتفاح. كما تعكس الرسائل الأخيرة بداية أزمة القمح والتفكير بتشجير الأرض السليخ. كما تعرض الرسائل لكيفية التخلص من الديون عام 1943 وبداية التوسع العقاري والمباشرة ببناء الحارة التي تبادر ضيفها أهلا وسهلا.

بالتوازي رسم لنا الأستاذ جورج عدة لوحات ومشهديات تدل على قدرة فائقة على تصوير الواقع عبر الوصف والسرد. مشهديات تتتابع : البيت المبني على أنقاض مبان قديمة، التقسيمات الداخلية والوظائف السكنية والإقتصادية، مستخدما المصطلحات التراثية (السدة والسقيفة والمسطبة، الحشايا والطراريح، الخلية، الطبليه، الدكوجه، التيفار..)، ثم ينتقل الى رسم لوحات الأرض بعد أن تم تحويلها الى مدرجات: لوحة زراعة القمح، لوحة الحصاد هي الأجمل ولا تقل عنها جمالا لوحة دراسة السنابل وتذريتها على البيادر، واصفا الأدوات الزراعية، وتحويل الإنتاج الى مونة : طبخ التين، صناعة الدبس الرخو والمضروب...أما الجناح  الذي يعرض فيه لوحات الأعياد من هذا المتحف الريفي فلا يقل روعة وألوانا : دق الجرس في عيد مارالياس، المهرجان الفولكلوري، حلويات بولس السمسميه الكوسباوي مع صدره النحاسي وخشبيته الثلاثية، شحاده البشعلاني، شراب الورد المغطس بثلج جبل ترتج. في لوحة ثانية شريط الزائرين على تلة ماردوميط، صورة القديس تحت الحنية (مستخدما كعالم آثار متخص المصطلحات الدقيقة)، حجر التبريك، الموائد الحجرية وأكل العنب في آب. اللوحة الثالثة آخر الصيف الى مارتوما، بالإنحدار الى "نهر حبات" ثم الصعود الى الدير، ومنظر الناس من القرى المجاورة تحت السنديانات الدهرية، ثم العودة الى نبع النهر.

يتكامل في هذا الكتاب السرد التاريخي الوضعي مع السرد شبه الفني، وبخاصة عند محاولة إحياء مشهديات الأنشطة الزراعية، ففي حين يبدو السرد الأول أكثر التزاما بالزمانية والتواريخ والأرقام، يبدو الثاني مليئا بالمشاعر والألوان دون انزياح عن الموضوعية كما يقول الدكتور نبيل في تقديمه لهذا الكتاب.

4- الموقف السياسي :

يحكى عن علم لبناني كبير ومطرز كان يضعه المغترب في محله في مونتيفيداوي، حمله معه عند عودته الى لبنان. وهنا في لبنان اطلق الشاعر كمال اسم الأرزة على إحدى بناته، وكانت الأرزة دائمة الحضور في قصائده. وعندما بنى حارته الجديدة رسمها في سقف شرفتها الغربية. ولا حاجة للحديث عن استمرارية هذه الوطنية مع مواقف الأبناء، من دفاع عن الكيانية، الى ترسيم للحدود، الى أبحاث في موارد الوطن المادية (ماء ونفط) والبشرية، الى مواقف نضالية مشرفة.

لكن هذه الوطنية على حدتها، لم تكن لتحول دون تطلع شاعرنا الى المسألة السياسية والإجتماعية والإنمائية، ففي الثلاثينيات، وفي قصيدة استقبال البطريرك عريضه في جارتنا ترتج خاطب البطريرك :

يا سيدي إن البلاد                            بأسرها تشكو البليه

فاضرب على أيدي القساة                   وقل لأهل العنجهيه

إن البلاد بقبضتي                            فالويل للبادي فريه

وفي الثلاثينيات أيضا بدأت تتشكل الخيارات السياسية التي ربما كان لها تأثيرها في خياراتنا وثقافتنا السياسية في حدتون ، حيث تابع في القصيدة عينها :

للكل أنت فلا يقال                           محمديه  وعيسويه

ضم الهلال الى الصليب                    وقد جمعتهما سويه

لا فتنة لا قسمة                               لا نعرة لا طائفيه

وفي سياق الإنفتاح عينه يخاطب القاضي المنفرد في دوما الرئيس أمين العابد ابن المختاره (1959) :

إمامٌ من بني معروف صيدُ                  من المختارة العليا عياله

وساعد صاحب القصر المجلى             زعيم الشعب فليحيَ كماله

به المجدُ المؤثلُ عن جدود                  حفيد بشير عنوان البساله

حوى في بردتيه الفخرَ طراً                فضم صليبنا ورعى هلاله

وفي عام 1953 وخلال تهنئته أحد النواب الفائزين في الإنتخابات، قال :

هذي بلادك يا زعيم                بجسمها دب الشلل

أوصالها مقطوعة                  قد غلها داء الكسل

عطشى الى الماء الزلال          تعيش في القفر الوشل

تحتاج للطرقات في                العصر الحديث على عجل

محرومة من كل حق               للشعوب على الدول.

(أولوية الوطنية على الخيارات السياسية المرتبطة بالوعي الحقيقي للمسألة الإجتماعية – الإقتصادية. فاعتناق الشيحاوية كإيديولوجية سياسية – إقتصادية لا تعطي أهمية للبعد الزراعي، وكانت مسؤولة بشكل أو بآخر عن تدمير الريف ونزوح  وهجرة إبنائه، هو مؤشر على أولوية السياسي)

5- جورج خليفه "الكنز المكنون " :

أخيرا اسمحوا لي أن أكون أكثر وجدانية  مع الأستاذ جورج القريب والنسيب والمعلم والشاعر والناشط إجتماعيا وسياسيا  . فجورج ملتزم برسالة التعليم :

إن يُعصَرِ الفِكُرُ عِلماً! فهو مدرسةٌ                   "دربٌ الى الله" نحو المجدِ يقتربُ

مُستقبلُ العزِ أن نحيا رسالتَنا                         نستلهمُ النورَ إن يُحدق بنا اللهبُ

 وملتزم بدينه :

طفل المغارة للدنيا شُعاعُ هُدىً                       بَردُ السلامِ هَمَى بالخالق الأحدِ

طفلٌ صليبُه هز الكونَ فانفتحت                     للعالَمِين دروبُ المجد للأبد

ملتزم بقريته وناديها :

أكرِم بأرضكَ واسأل أمسَكَ الغرِدَ                    واستقبل الفجر تياهاً به أبدا

وانشر مع الصُبح نورا للعُلى ألِقاً                    واسكُب مع الليل عِطرا للهُدى ونَدَى

عزما وعلما، وإخلاصا وتضحية                    ودربَ مستقبلٍ هادٍ لنا، وهُدى

تلك الصفات بها نبني ، ونرفَعُهُ                     صرحاً لنادٍ به عُمرُ الصِبا وُعِدَ.

....

واسأل : فنحن "خليفيون"، منبِتُهمُ                             من "بجة" الأصلُ: قومٌ يمموا صُعُدا

يبنونَ "حتونَ" فوق الساميات ذُرىً                 للِمكرُماتِ شُموخاً، وطَدوا العُمُد

ما همَ  قِلتُهم :  فالعِزُ  شيمتُهم                        والسامياتُ ترومُ النوع لا العدد.

قبل 100 عام من تاريخ القاء هذه القصيدة كان جده لأمه سمعان عبد المسيح (شيخ الصلح القرية لاحقا) قد أرخ رفع قبة جميلة فوق كنيسة مار الياس :

 

 قصيدة الأم :

...

جورج خليفه لن أستطيع أن أقول فيك أجمل مما تقوله في مناسبات مختلفة، وأنت القائل :

 

لا المال يَغري، ولا الأمجاد تُفرحني                لا الفخرُ يُبهر إقدامي وتحناني

نَذرٌ علي بأن أبقى سليل عُلىً                        كالسيف يَحني الريا.. لكنه حاني

حسبي بأني قضيت العمر أُرضي به :              ربي، ضميري، ومدرستي ولبناني.

 

 

الدكتور سيمون عبد المسيح

 

-         دكتور في التاريخ

-         أستاذ في كلية التربية – الجامعة اللبنانية.

رئيس قسم تعليم العلوم الانسانية والاجتماعية في كلية التربية حاليًا.

-         شارك في عدة دراسات تدريبية للمعلمين في إطار برنامج المركز التربوي للبحوث والانماء.

-         عضو في عدة جمعيات تعنى بالتاريخ.

وله عدة دراسات منشورة.

-         إنه ابن حدتون – بلدة كمال خليفة وهو على صلة قرابة به يعرفه عن قرب كما يعرف المؤلف والعائلة.


[1]التحق بهذه المدرسة عدد قليل من الأولاد وبعضهم كان قد تجاوز السن الدراسية ، ومنهم الياس ابن الشيخ سمعان عبد المسيح وأديب مسيح. هذا الإعداد الذي لا يتجاوز سنوات معدودة سمح لهؤلاء مع كمال – أن يؤسسوا "جوق النهضة الشمالي"  حيث أقاموا الحفلات في حدتون والقرى المجاورة.