تكريمالدكتورة نازك سابا يارد

 

كلمة تكريم الدكتورة نازك سابا يارد

 فادية حطيط

نازك سابا يارد صديقتي. ما بيننا من فارق في العمر لن يجعلها تبدو اكبر مني. هي، في اهتماماتها الكثيرة، وشغفها بالتعلم، الذي تنهله ليس فقط من الكتب، وإنما من العيش والثقافة والموسيقى وتعليم الاحفاد اللغة العربية عبر السكايب، تبدو لي اكثر شباباً من نساء كثيرات يصغرنها عمراً.

نازك سابا يارد صديقتي. جمعنا تجمع الباحثات اللبنانيات، فكنا سوية في اكثر من هيئة تنسيقية نتواصل ونتابع شؤون التجمع، الذي تقول أنه عائلتها الآن، كذلك جعلنا التجمع نتشارك في تنسيق مؤتمرين لأدب الاطفال، فكانت لنا اجتماعات كثيرة فيها تواصل وقرب ونقاشات.

نازك سابا يارد صديقتي. وهي، حتى وإن لم نتفق دائماً في النظرة للأمور، إلا انها لديها من الحساسية ما تجعل عدم الاتفاق هذا نافلا. أفكر بأن نازك، التي اشبعتها السنون  نضجاً وحكمة، ما عاد الخلاف يهمها في شيء. تنظر الى الامور من مكان  خارجي، فكأنها تقول لي"هل تتصورين ان ما نختلف عليه امر هام... انتظري قليلا وسوف ترين ان الايام، إذ تجري، تضفي على الاشياء خفة يبيت معها الخلاف امراً مضحكاً"

تحمل نازك في داخلها كنزاً كبيراً، وتبذل جهداً للتخفيف من ثقله عليها وعلى المحيطين بها. لا تتخذ موقف العارف او الحكيم او الفوقي، ولا تجعل لمخزونها ان يثقل على علاقاتها بالناس، لا تطلب من الآخرين التعامل بشكل خاص معها. فلا تنظر من علياء العمر او الخبرة، ولا يخطر في بالها انها حاملة الحكمة. لذلك لا تتمسك برأي إن بدا لها غير مجدٍ، ولا تجمد عند موقف إن كان معيقاً.

ونازك، كمثل كل المبدعين، متعددةُ الهوياتِ والمشارب. فهي الفلسطينية التي عاشت حتى بداية شبابها في فلسطين، هي ايضاً لبنانية بدون اي تساؤل. فلقد صارت لبنانية بفعل الخيار والارادة وحبِ رفيق الحياة، في لبنان علَمت وأحبت وانجبت وكتبت، فكيف لا يكون هو وطنها؟.

وهي التي امضت جلَ حياتِها تعلًم، وكانت، بشهادة الكثير من طالباتها اللواتي تسنى لي الالتقاءُ بهن، رائعة، إلا ان موقعَ الذي يعلَم لا يسيطرُ عليها، لا بل بالعكس فإن نجاحَها يتأتى اكثر من تماهيها بالمتعلمين. ولذلك فالتعاملُ معها بسيطٌ وغير متكلف، لا تقوم بينك وبينها ايُ سلطة، من اي نوع كانت.

تقرأ كتبَها كلها دفعة واحدة. تفتحُ الصفحةَ الاولى من اي من كتبها وتغلقه على صفحته الاخيرة دون توقف. لا نتوءات في صياغتها ولا في الاحداث التي تجري. والتشويق يتأتي من السلاسة اكثر منه من الانقطاع. كنبع يسير رقراقاً ومنعشاً.

لغة نازك هي اكثر ما يشبهها. لغة سلسة طيعة سهلة ومتينة. لا تترك للصنعة ان تظهر نفسها مثلها هي نفسها، لا تتركُ لاختمارِ السنواتِ ان يعلنَ عن نفِسه. هي السيدةُ الأكثرُ تصالحاً مع تجاعيدِ وجهها الناعمة حتى لكأنها جزءٌ من جمالِها نفسِه.

نازك المليئةُ بالمشاريع، لم ارَ يوماً مفكَرتها، ولكني متأكدة من اني لو فتحتُها، سأرى فيها مواعيد: المسرحيةِ الفلانية، والحفلة الموسيقية الفلانية، والمحاضرة الفلانية لاحد اصدقائها، وهدية لاحدى الصديقات، وموعدِ السكايب لتعليم حفيدها اللغة العربية، وموعدِ لقاء الناشر لقصتها الجديدة، وطبعاً مواعيد الباحثات، فأكثرُ ما تكرهه نازك هو ان تفرغَ مفكَرتها، وثمة الكثير مما يجري في الخارج، ينتظر ان تعبَّ منه. "هل ابقى في البيت ككيس بطاطا!!" كما تدأب على التعجب.

فمن اين اتتك كلُ هذه النِعم، العلم والحكمة والتواضع والمرونة والشغف والرضى، يا صديقتي؟

لقد ولدتِ في القدس، وكان والدُك فلسطينياً ووالدتك لبنانية. فكان التنوعُ اولَ منهل لك. ثم دخلتِ إلى مدرسة ألمانية في القدس وحين اغلقت التحقتِ بالفرع الإنكليزي بمدرسة Saint Joseph de l’Apparition  ، ووجودُك في مدرسة فرنسية أتاح لك فرصةَ تعلمِ اللغةِ الفرنسية، فأصبحت تعرفين الألمانية والإنكليزية والفرنسية، فضلاً عن العربية. وهذا منهلٌ آخرٌ كفيل وحده ببث التألق في النفس.

ثم انك بسبب حبك للعلم، نلتِ منحة لمتابعة دراستك الجامعية في الفلسفة في جامعة فؤاد الأول في القاهرة، ثم جئتِ الى بيروت وعملت فيها في مجال التدريس، ولكن عطشَك للعلم دفعك الى التخصصِ باللغة العربية في الجامعة الاميركية فحزت الماجستير أولاً، ثم شهادة الدكتوراه.

القدس والقاهرة وبيروت، ثلاثة مدن عربية غرفتِ منها. وكان لك في كل واحدة هبة. في الأولى والدان محبان، في الثانية علمٌ وأفقٌ وحبُ رفيق الدرب، وفي بيروت هبةُ أولادِك الثلاثة.

        إلى اوطانِك تلك، القدس والقاهرة وبيروت والزوج والاولاد، كان لك وطنٌ آخر هو اللغة العربية. والعاشقون لهذه اللغة يعرفون انه ليس في وصفها كوطنٍ ما يفيضُ عنها بشيء. لا بل لو سألنا نازك لأجابتنا من دون تردد بأنها، أي اللغة العربية، كانت وطنَها الأحلى.

هذه اللغةُ العربيةُ أعطيتِها جهدَك الأكبر، ولو كان للمرء ان يفكر في انتاجِك الفكرى لوجد فيه مسألتين، التعليمُ عموماً وتعليمُ اللغة العربية خصوصاً. فلطالما سمعتك تعبرين عن سعادتِك بالتعليم، وبالتعليم في المرحلة الثانوية على وجه الخصوص، حيث التعليمُ شأنُ تربويٌ قبل ان يكون اكاديمياً كما هو الحال في المرحلة الجامعية. لقد احببتِ ان تعطي الجيلَ الناشئَ ثقافةً وتعلقاً باللغة العربية ونجحتِ في ذلك بدون ادنى شك. ومع أن اختصاصَك لم يكن ابداً في المجال التربوي، إلا اننا معشرُ التربويين نهفو الى نموذجك، ونقول انه مثال نحتذيه حين نعد أجيال المعلمين.

أما مسارُك التربوي فكانت أبرزُ محطاتِه اطروحةُ الدكتوراه التي نُشرت في كتاب بعنوان "الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة". والذي كتب انيس صايغ عنه أنه "افضل الدراسات في العلاقات العربية الغربية على الصعيدين الفكري والثقافي إن لم نقل انها أفضلُها إطلاقاً". لقد كان همُك الأول في هذه الاطروحة النهضة العربية تحديداً، و بالنسبة اليك فإن المدخلَ الأساسيَ لاسترجاعها هو باللغة العربية واوافقك الرأيَ تماماً في أن اللغةَ مدخلُ كلِ تطوير فكري. أما الرحالةُ، الذين لم تعاودي درسَهم مباشرة، فإنك استرجعتهم بأشكالٍ اخرى، في حملِك شنطةَ الظهر وسيرِك في شوارع بيروت لسنينَ خلت، وفي شخصيات قصصِك التي تهوى الأمكنة وفي حبِك للسفر إذ زرتِ مع زوجك فرنسا وانكلترا وايطاليا والمانيا واسبانيا والمغرب وتونس ومصر واليابان وتيلاند والفيلبين. وحين لم يعد بإمكانه أن يسافر معك سافرت وحدك إلى الهند وكبادوس في تركيا والبرتغال وروسيا وايران... وما زالت رغبةُ السفرِ تلحُ عليك وتتحملين معاناةً كبرى في شركات التأمين التي تطالب بأثمانٍ غالية لمن يودُ السفرَ في عمرك....

ثم عملتِ في ميدان النقد الأدبي ولكن ليس من أجل أن تكوني ناقدة وإنما لتكوني مربية فوجهت اولَ كتبِك الى طلاب البكالوريا لكي يفهموا جيداً شعرَ احمد شوقي وابن الرومي والياس ابو شبكة. صحيح ان عملَك لم يقتصر على الطلاب فلقد جمعتِ ودرستِ وحقٌقتِ شعرَ شعراء عباسيين لم يكن قد جُمع شعرهم ووضعت مقدماتِ نقدٍ وتحليلٍ لكلِ من مؤلفات جبران خليل حبران العربية والمعرّبة، ولكن هدفَك من كلِ ذلك كان تربوياً بحتاً إذ ساعدتِ القراءَ على فهمِ أبعادِ انتاجهم، والمصادر التي استقوا منها وتأثروا بها. كما قمتِ وبالاشتراك مع زميلتنا في "تجمع الباحثات اللبنانيات" نهى بيومي بوضع بيبليوغرافيا للكاتبات اللبنانيات ما بين 1850 و1950 (2000). وايضاً كان الهدفُ هو التعريفُ بكل كاتبة لبنانية في تلك الحقبة، أياً كانت قيمة ما كتبت، إذ أغفل التاريخ معظمهن.

ولم تتوقفي عند الطلاب او عمومِ الجمهورِ العربي، فاتجهت ناحية الجمهورِ الأجنبي وكتبت بالإنكليزية هذه المرة، كتاباً عن العلمنة في العالم العربي Secularism and the Arab World(2002) تناولتِ فيه فكرَ المفكرين العرب ما بين أواخرَ القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، لتظهري لغير العرب ما كان لدى هؤلاء المفكرين من تجردٍ وجرأةٍ في مواقفهم من السياسةِ والحكمِ والدينِ والمجتمعِ والمرأةِ وغير ذلك.

وحيث ان شغلك الشاغلَ كان النهضةُ العربيةُ وهي لم تقم فقط على الأدب فلقد وضعتِ كتابين في اللغة الانكليزية ايضاً للتعريف بفنانين لبنانيين هما محمد الرواس وشوقي شمعون، كذلك اهتممتِ بالتعريف بمخرجين لبنانيين وعرضِ أعمالهم من خلال مشاركتك في لجنة مهرجانات بعلبك وجلُ همك كان التعريفُ بنماذج مميزة من الثقافة العربية.

إن الهمَّ التربوي لديك، توسع فطالَ ليس فقط اهل العلم طلاباً وجمهوراً ونماذج، وإنما ايضاً خضت مجالَ الإصلاح الاجتماعي، فعملت مع السيدة تينا نقاش على إطلاقِ حركةِ الدفاعِ عن المرأة اللبنانية ضد العنف المنزلي.

        وكأن تعليمُك وكتاباتُك ونشاطُك العملي لم تكفك في رفدِ النهضة التي سعيتِ إليها، فانبريتِ الى كتابةِ الروايات لمعرفتك بأن الرواية هي سلاحٌ نافذٌ في اصلاحِ المجتمع. وكلُ موضوعاتِ رواياتِك استلهمتها من الواقع الاجتماعي، في الرواية الأولى عام 1983، اطلقت فكرةً ما زالت الى اليوم تستدعي الكتابات والابحاثَ العديدة، وفيها ان المرأةَ المتعلمة قد تختارُ المهنةَ وليس الزواج والإنجاب. ولأن قضيةَ المرأة كانت عزيزةً على قلبك عدتِ إليها في كتاب "الذكريات الملغاة" عام 1998 وكان تركيزُك على قضيةِ العنف وحرمانِ النساء من حضانة اولادهن بسبب قوانين الاحوال الشخصية المجحفة. أما في روايتي "الصدى المخنق" و"كان الأمس غداً" فخضت موضوع الحرب اللبنانية وأهوالها. ثم في رواية "تقاسيم على وتر ضائع" تناولت قضيةَ الأقلياتِ في العالم العربي، وايضاً طرحتِ فيها موضوعاً جريئاً لا يزال ملحاً حتى يومنا هذا، فبينتِ ان العروبة ليست حكراً على المسلمين وإنما المسيحيون ايضاً كان لهم الفضل في نهضة العرب ولغتهم العربية وآدابها.

ولأنك مربيةٌ اصيلة، اتجهت ناحية الناشئين، فكتبت لهم أدباً باللغة العربية لأنه هالَك أنهم لا يعرفون لغتَهم العربية،  ولاحظت ان ما كُتب للناشئين في اللغة العربية قليلٌ جداً، والكثيرُ منه إما مملٌ، أو بعيدٌ عن حياتهم المعاصرة ولغتها. ولم يغب عن بالِك كذلك إن المواطنة هي حجر اساسٍ في كلِ نهضةٍ، فكانت رواياتُك تسعى الى التعريف بلبنان ومناطقه وثقافته العريقة، من جبيل الى صيدا الى دير القمر الى بيروت.

نازك سابا يارد، أنت الاديبة الباحثة المناضلة، ولكن أسمى من كل أنت المربية. فكلُ أعمالِك اتسمت بالبعدِ عن تكريسِ الذات العارفة، بل كان الموضوعُ هو غايتُك وتوعيةُ الجمهور هو هدفُك. ولو قرأتُ أنا نفسي هذا التعريف ملصقاً بشخص آخر لظننته تقليدياً محافظاً. ولكن معك، سيدتي، أخذ هذا التعريفُ ابعاداً تجديدية وحداثوية لا أعرفها في الكثير ممن يوصفون بالحداثة.

وسأعطي أمثلة عن ذلك:

في المواضيع: في قصة "ايام بيروت" تعيش الام قصة حب، وكلما عاد فريد ابنها المراهق وجد ذلك الرجل الذي تحبه امه في البيت. إنها أم/امرأة "تحتاج الى رجل"، مثلما تخبرنا القصة. وهي وضعية غير مألوفة بل مستهجنة في مجتمعنا خصوصاً في ادب الأطفال. ثم أن هذه الام غير انهيارية فلا نراها تضحي بحبها بعد ان يتركها ابنها ولا يطاولها اي شعور بالندم. وهذا ايضاً غير مألوف.

في طريقة الكتابة: تخبرنا نازك أنها تعطي مخطوطات كتبها الى اولاد من عمر القارئين المحتملين. وتأخذ برأيهم فتغير ما في القصة تبعاً لأرائهم. وإن دل هذا الأمر على شيء فهو احترام رأي الصغار وعقولهم. وهذا طرح جديد يسعى التربويون اليوم الى ايجاد ترجمة سلوكية له.

في اللغة: تضبط نازك الكلمات بالشكل تسهيلاً للقراءة، وتتوخى سلاسة الأسلوب الى درجة ان بعضَ التلاميذ، كما أخبرتنا سألوها، لماذا تكتب القصة بالعامية! فبينت لهم أن اللغةَ التي استعملتها لغةُ فصحى صافية ولكنها سهلة، سلسة، قريبة منهم ومن حياتهم. وهذا أيضاً ما يحاول الكثيرون الوصول اليه، باعتباره هدفاً تربوياً منشوداً.

نازك في تقديم سابق لي عنك قلت اننا نحن المشتغلون بأدب الاطفال في لبنان، قد توافقنا على افتراض ان روز غريب هي رائدة هذا الادب، ولا شك أننا سنتفق على أنك، أطال الله بعمرك، من الروافد القوية فيه.

ولكني في تكريمك اليوم أودُ أن أضيف، بأن المشتغلين بالتربية، يتوجب عليهم ان يروا فيك قدوةً، وأن يرتقوا من خلال الاحتذاء بمسيرتك الى درجات أعلى في أدائهم المهني.

نازك، بينما أنا اكتب كلمتي هذه، كنت طوال الوقت أسمع صوت قاسم أمين يوشوشني خافتاً، قولي أنها توأمي المعاصر، قولي انها تعيد إحيائي انا ورفاقي في النهضة العربية، قولي اني أسلمها رايتي. فهل استجيب وأقول انك مثال للنهضويين العرب الحديثين؟ أخاف إن فعلتُ ان ترتفع الأصواتُ معترضةً، لسنا نائمين لننهض، ولا نحن جاهلين لنتعلم، ولم نكن غافلين عن شؤوننا لنُدعى، وإنما نحن نتخبط في الاندراج بمسار عالمي مفتوح، ويصدمنا ثقلُ الواقع ليس في ما تمثله الثقافة العربية ولا اللغة ولا الادب ولا الفنون وإنما محمولا بهذه الانظمة السياسية الفكرية المهترئة....   

                                ***

ختاماً، يا صديقتي، اود ان اشكرك على اتاحتك الفرصة للتعرف عليك وللسير في الطريق معاً وللكتابة عنك وللتعلم منك، ولا يغيب عني ان السهولة التي تتبدى لمن يود تقليدك ليس إلا خداعاً ووهماً، فإنك من العمق بحيث أن تركتك تكفي جيلاً بأكمله.

                       ***

 

ولأني لا أريد ان انتهي، اودُ ان أخبرك، أننا نحن صديقاتك في تجمع الباحثات اللبنانيات نحبك. ننظر اليك باعجاب، نتأمل اناقتك، تايوراتك ذات الالوان القوية، الحلق والبروش والخواتم الجميلة، تفاصيلٌ تدخلنا  في حالة جمال صافٍ... فنحب الحياة حين تكون متجسدة بك، ايتها السيدة الممتلئة نعمة وعطاء.

نازك سابا يارد صديقتي.. كم انا محظوظة.

 

__________________________________________________

تكريم د. نازك سابا يارد

كلمة د. نجاة الصليبي الطويل

 

يُسعدُ الحركة الثقافية- انطلياس، أن تكرِّم كل سنة خلال معرضها في شهر آذار، رعيلاً من أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي. بالاضافة الى تكريم سيدة مناضلة ومنتِجة في يوم المرأة العالمي ومعلمَين مشهود لهما بالنجاح والتجدّد في يوم المعلّم.

ويكون لتكريم سيدة كعَلمٍ من أعلام الثقافة نكهةٌ خاصة إذ يخيّم مناخٌ يعبق برهافة الإحساس، بالارادة وبالأحلام... إن نجاح سيدة يعيد الى الأذهان مشاهد كفاح وقلق من جهة، وثبات وقوة من جهة أخرى. صُور الأمومة المُرهِقة صحياً ومعنوياً، مرافقة الأطفال في جميع المراحل وتربيتهم؛ الى محطّات اجتماعية ضاغطة من حياتها الزوجيّة، إلى متابعة مسارٍ علمي متعرّج، يتعرّض فيه لكثير من الهزّات. ولكن توقَ المرأة الى التقدم والكمال يكسبها مهنيةً عالية وَسْطَ انكارٍ لما تحقّقه وإغفال لقيمته. فإنْ توصلت الى إثبات عملها وإبرازه تكون قد أُنهِكت لاضطرارها الى تخطّي الكثير من الحواجز، المرتبطة بذهنية التمييز، التي غالباً ما تدفع الى تسخيف ما تحقّقه المرأة. أما استمرار سيّدة في التقدّم فيُعتبر انجازاً ويستحقُّ مضاعفة التقدير، فكيف إن رافقته ظروف حياتية ووطنية صعبة؟

 

تكرّم الحركة الثقافية- انطلياس اليوم، د. نازك سابا يارد التي شهدت حروباً متعددة: الحرب العالمية الثانية، نكبة فلسطين، الحرب اللبنانية.

وُلدت في القدس من أب فلسطيني ومن أم لبنانية. تابعت مراحل الدراسة في القدس، في ظل الانتداب البريطاني، ومع نشوب الحرب العالمية الثانية. استفادت من منحة لدراسة جامعية في القاهرة. لم تستهوِها أساليب الأساتذة "الأزهريين" في تعليم الأدب العربي فانتقلت الى قسم الفلسفة ونالت اجازة تعليمية.

وكان لحرب فلسطين وما رافقها من اضطرابات سياسية وأمنية بين العرب واليهود أثراً بالغاً في حياتها إذ اعتقل الاسرائيليون عائلتها وبعد الافراج عنهم توفي والدها بسكتة قلبية نتيجة الإهانة والذل، فعادت والدتها واخوتها الى لبنان.

 

تلت هذه المرحلة الأليمة، زواجها السعيد من المهندس اللبناني ابراهيم يارد، فابتدأت مرحلة المرأة المتزوجة، الأم والمعلمة ثم الكاتبة.

علّمت اللغة العربية ونالت من الحكومة الفرنسية وساماً برتبة فارس، واصبحت أماً لثلاثة أولاد وتابعت التعليم ومع ذلك عادت الى الجامعة الأميركية فتخصصت في اللغة العربية وآدابها "حبها الأول" كما تقول، فنالت الماجيستير ثم الدكتوراه، وانتقلت الى التعليم في الجامعة اللبنانية الأميركية.

بدأت حياتها ككاتبة وباحثة، بسلسلة  من النقد الأدبي، كما شُغفَت بالفكر والأدب العربيين فجمعت ودرست وحقّقَت شعر شعراء عباسيين، ووضعت مقدمات نقد وتحليل لكل مؤلفات جبران خليل جبران العربية والمعرّبة. وقد شغلها الفكر العربي وكتبت بالانكليزية كتاباً عن العلمنة في العالم العربي تناولت فيه فكر المفكرين العرب ما بين اواخر القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية ونُشر سنة 2002. قامت بدراسات وأبحاث عديدة إلى جانب التدريس الجامعي.                                     

إنها ناشطة في مجتمعها فكانت عضوةً في لجنة مهرجانات بعلبك الدولية من 1970 الى 2015، وهي عضوة في تجمّع "الباحثات" الذي يناقش ابحاث وينشر كتاباً كل سنة يتناول احدى قضايا العالم العربي ومن ضمنها قضية المرأة. وكانت قد ساهمت د. سابا يارد سنة 1994مع صديقة لها تينا نقاش في اطلاق حركة الدفاع عن المرأة اللبنانية ضد العنف المنزلي.

نالت سنة 1998 جائزة الأمير كلاوس الهولندية المرموقة لنشاطها الثقافي والاجتماعي والعلمي.

وكان لموهبة القصّ حيّز في كتاباتها، هي التي عايشت الحرب اللبنانية وما استتبعها من أزمة الانتماء والهويّة، فكتبت الروايات:

"نقطة الدائرة" سنة 1983، "الصدى المخنوق" 1986، "كان الأمس غداً "1988،"تقاسيم على وتر ضائع" 1992 (نالت جائزة اركانسو لأفضل رواية مترجمة من العربية)، "الذكريات الملغاة" 1998 وفيها تركيز على بعض قضايا المرأة في لبنان ومشكلة قوانين الأحوال الشخصية، ورواتي "الأقنعة" و"أوهام".

 

      ولها روايات للناشئين منها: "في ظل القلعة" 1996 (نالت جائزة الهيئة اللبنانية لكتب الأولاد)، "بعيداً عن ظل القلعة" (نالت جائزة جمعية المكتبات اللبنانية لأفضل كتاب ابداعي للناشئين، "أيام بيروت" 2002 التي حُوِّلَت الى نص مسرحي أخرجته علية الخالدي.

     والى جانب الروايات للبالغين وللناشئين كتبت بعض معالم سيرتها الشخصية والمهنية والأدبية في كتاب "ذكريات لم تكتمل" سنة 2007.

 

          وفي النهاية، عند سؤالي الفضولي لها عمّا تعتبره الأهم في مسيرة حياتها، أجابت:

في حياتي المهنية اسعدَني واغناني التعليم الجامعي لصلتي المباشرة مع جيل الشباب الذين لم تفسدهم الحياة بعد.

     

 تبقى د. نازك سابا يارد الأديبة والروائية المميّزة، المناضلة التي كسبت التحدي الأدبي والثقافي وهي التي دأبت على ذلك في شبابها عندما كانت تخوض المباريات الرياضية في الركض وكرة المضرب...

إنها مثال المرأة المبدعة، ُيحتذى به في مجالاتٍ متعددة كأم وزوجة ومعلمة وأستاذة جامعية وباحثة وروائية وناشطة اجتماعية. انها رمز للمثقف المنفتح، للانسانة الشغوفة بالحياة تنمقها بزيارة المتاحف والمعارض الفنية والاستمتاع بالحفلات الموسيقية والمسرحيات، وبالاستماع الى الاسطوانات وبقراءة الكتب وتغنيها بعطاءاتها وإشعاعها.

فهنيئا لك هذا التكريم وهنيئا لنا وجودك.

____________________________________________

 

الدكتورة نازك سابا يارد

تكريمي

 

سيداتي، سادتي، أصدقائي،

أودّ، أولاً أن اشكر القيمين على معرض الكتاب في أنطلياس. أشكرهم، على الجهود الجبارة التي بذلوها في الماضي ولا يزالون لنشر المعرفة والثقافة. ثم لاهتمامهم بنشاطات ثقافية مختلفة نحن جميعاً في أشد الحاجة إليها. كما أشكرهم على هذا التكريم الذي خصوني وفاجأوني به، فلكم كل الشكر من أعماق قلبي. وفي النهاية أشكر كل أصدقائي على حضورهم ومساندتهم لي.

وإذ طُلب مني تقديم نفسي بشكل مختصر، سأركّز على النقطتين اللتين عُرفت بهما، أكثر ما عُرفت: التعليم والكتابة. ليس لحاملة شهادة في الآداب كبير مجال للعمل، فعُرضت علي وظيفة تعليم اللغة العربية.

بدأت أعلم اللغة العربية في الصفوف المتوسطة ثم الثانوية في المدرسة الانجيلية الفرنسية في بيروت، وأعد في الوقت نفسه لماجستير ثم  دكتوراه في الأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، قبل أن أنتقل إلى التعليم الجامعي في الجامعة اللبنانية الأميركية.

  ولكني أعتقد أني تعلّمت بقدر ما علّمت إن لم يكن أكثر البال. تعلّمت من تلامذتي أموراً لم تكن قد خطرت لي، منها أن صفاً من صفوف البكالوريا كان عليّ أن اعلمهم منهج الادب الذي كان مفروضاً لنيل البكالوريا اللبنانية. ولكن ضعفهم اللغوي أشعرني بعبث تعليم الأدب وهم لا يحسنون التعبير الصحيح بالعربية. فقرّرت أن أدرسهم اللغة لا الادب. وإذ بتلميذة تحتجّ قائلة إنهم يدرسون اللغة منذ إثنتي عشرة سنة من غير فائدة، فلمَ لا أجرّب تدريسهم الأدب لعل ذلك يفيدهم لغوياً أيضاً. ففعلت. وفي الواقع انتهت السنة المدرسية بتقديمهم فروضاً ممتازة لغوياً، ونجحوا جميعاً في امتحانات البكالوريا اللبنانية. ومع أني انتقلت إلى التعليم الجامعي بعد نيلي شهادة الدكتوراه، ما زلت أعتقد أن التعليم الثانوي كان بالنسبة إليّ أكثر مكافأة معنوية ونفسية. وإلى اليوم، أقابل تلامذة قدامى يتذكرونني ويؤكدون أنني نجحت في جعلهم يحبون اللغة  العربية. فكيف لا أحببهم بلغة أعشقها أنا نفسي؟

أما الكتابة، فدفعني إليها أولاً عشقي للقراءة منذ طفولتي. لم يكن لي اصدقاء كثيرون وكان الكتاب أعزَّهم. ولأنني كنت معلمة ناجحة على ما بدا لأهل بعض تلامذتي، اقترح علي الاستاذ جبران مسعود أن أكتب له

دراسات أدبية لدار للنشر كانت له فكتبت دراسة عن أحمد شوقي، واخرى عن ابن الرومي ثم ثالثة عن الياس أبو شبكة. بعد ذلك عرضت عليّ مؤسسة نوفل نشر اطروحة الدكتوراه التي كنت قد قدّمتها في الجامعة الأميركية، فنشرتها بعنوان "الرحالون العرب وحضارة الغرب" وما لبث أن ترجمت إلى الإنكليزية. فبما أن النقد الادبي اختصاصي، تابعت أكتب وأنشر دراسات في الادب والفكر العربيين، منها مقدمات لكل من كتب جبران خليل جبران العربية والمعربة، أحللها وأنقدها.

إلا أنني، منذ صغري أيضاً، أحب الروايات وهي أكثر ما أقرأ. فتجرّأت على كتابة روايتي الأولى "نقطة الدائرة". وحين أعجبت من قرأها تشجعت على كتابة الروايات الأخرى، منطلقة من المشكلات الاجتماعية التي نعيشها. وإذ لاحظت أن الروايات العربية للناشئين قليلة جداً وقد يكون هذا أحد أسباب قراءتهم  روايات فرنسية أو إنكليزية فكّرت في كتابة رواية للناشئين. توجهت بالمخطوطة إلى ثلاث مراهقات. قالت الأوليان إن القصة أعجبتهما، اما الثالثة فكانت أدق وبيّنت لي ما أعجبها وما لم يعجبها فيها. فغيرت ما لم يعجبها، وبفضل هذه الصبية نالت الرواية وتلك التي تلتها جائزة هذه الفئة من كتب الأحداث.

ولكن بعد هذه الكلمة، أبقى مدينة بالدرجة الأولى إلى والديّ اللذين اهتما بتنشئتي وتعليمي وتحبيبي باللغة العربية، وإلى القدر الذي جعلني ألد في البيئة التي ولدت فيها فمكّنتني من أن اصبح من أنا، بصرف النظر عن قيمة من أنا.

                                                                          وشكراً.

نازك سابا يارد