ندوة حول كتاب الدكتور أسعد قطّان

"عندما ضجر التنين"

 

إدارة هدى رزق حنّا

          موعدنا اليوم مع القصة القصيرة وهي تنافس الرواية وتتربّع على صفحات المجلات الأدبية مستفيدة من ميل القارئ المعاصر الى الاستهلاك السريع لغذاء العقل كما هو الحال بالنسبة لغذاء الجسد.

          وعلى الرغم من صغر حجمها يبقى صدى القصة القصيرة يتردد في ذهن القارئ لأشهرٍ واحياناً لسنوات عندما يبرع المؤلف في تخليد دقيقةٍ عابرةٍ من حياة انسان عادي، أو عندما يبدع الكاتب في سبر ظرف استثنائي حلّ في كينونة الفرد فقلب المقاييس وغيّر المسيرة.

          تُساهمُ القصة القصيرة في جعل الفكرة ترسخ في عقل القارئ لأنها تصله كاملة غير مجتزئة ولأنها تتمسرح في اقوال وافعال عدد ضئيل من الشخصيات لا يتعدى الاثنين او الثلاثة في اغلب الأوقات. كما تتخللها مداخلات الراوي الساعي بإمعان الى توظيف الوصف والحوارات وتقييم الأشخاص والاحداث في خدمة فلسفته ونظرته للحياة. فالقصة القصيرة في مجموعة الدكتور اسعد قطّان وعنوانها "عندما ضجر التنين" تثير فضول القارئ انطلاقاً من العنوان. فما يلبث ان يقرأ السطر الأخير من كل أقصوصة حتى يعود الى العنوان ليبحث عن الرابط بين العنوان والقصة فيتراءى له المعنى تدريجياً وتأتيه العبرة بعد التأمل والتحليل.

          فالمؤلف أستاذ جامعي ومربٍ وهو لا يسمح لقرّائه كما لطلابه ببلادة الذهن والجمود ولا يكتفي بحثهم على طرح الأسئلة والبحث عن أجوبة بل يجذبهم بطرافة مواقفه وفرادة أسلوبه اللتين تدعوان الى مراجعة الأفكار المكتسبة والعادات البالية والى تقديس نعمة الحياة ونبذِ العنف والتسلّط في التعامل مع الآخر.

          درس الأستاذ اسعد قطّان علم اللاهوت في ثلاث جامعات جامعة البلمند وجامعة Thessalonikاليونانية وجامعة Erlangenالألمانية. نال شهادة الدكتورا في علم اللاهوت من جامعة Marburgفي المانيا. وهو يشغل منبر أستاذ محاضر في اللاهوت الأرثوذكسي في مركز الأبحاث الدينية في جامعة Munster. وبالإضافة الى مؤَلَّفه المنشور في جامعة البلمند سنة 2010 تحت عنوان "إمكانية التوفيق بين ركائز اللاهوت الأرثوذكسي وعالم الحداثة"،

 

نشر باللغة الألمانية اعمالاً عدّة منها:

1-    الخلاف على مسألة انبثاق الروح القدس من الزاوية التاريخية والكنسية والدغماتية"

2-    التقليد ونقد التقليد في اليهودية والمسيحية والإسلام.

3-    انتشار المسيحية ونقاط التلاقي بين الأديان

تستهويه القصة القصيرة فهي المكان الأنسب لتلاقي العقلانية والشاعرية الرمزية التي يتسم بها أسلوبه السردي، لذا أهدى القراء مجموعتين من القصص القصيرة، الأولى تحت عنوان "قاسم شنيدر في بيروت" سنة 2013 والثانية "عندما ضجر التنين" سنة 2015 وهي موضوع جلستنا اليوم.

     والتنين الذي ضجر من نتانته، جذبت قصته الدكتور طارق متري وسيرة معاليه كما تعلمون، خير اثبات على كفاحه الطويل ضدّ التنين الذي يعيث فساداً وضرراً في بلادنا. ننتظر بشوق تعليقه على اسطورة القديس جاورجيوس المعدّلة وعلى تجربة شهرزاد المغايرة وهواجس ملك الروم المحقّة.

     وقبل ان اعطيه الكلمة دعونا نذكّر أنه تخرّج من الجامعة الأميركية وانه يحمل شهادة دكتورا في العلوم السياسية وقد حاضر بصفة أستاذ زائر في عدة جامعات وكان مسؤولاً عن العلاقات المسيحية الإسلامية في مجلس الكنائس العالمي في جنيف. دخل الحياة السياسية سنة 2005 وحمل حقائب وزارية بارزة في أكثر من تشكيل وزاري.

وقد شغل حديثاً منصب رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

 

________________________________________

 

يحفل توقيع «عندما ضجر التنّين»

كلمة الكاتب

 

بادئ ذي بدء، أودّ أن أتوجّه بالشكر إلى مَن هم جالسون معي على هذه المنصّة.

أشكر، أوّلاً، هدى حنّا، لكونها صاحبة فكرة هذا التوقيع. تبلورت هذه الفكرة بعد جلسة موسيقيّة في بيت «حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة» في بيروت قبل حوالى سنة. وتلاحظون معي، اليوم، أنّها كانت فكرةً سديدة. فما ينتج من الموسيقى جيّد في العادة.

ثانياً، أرفع الشكر إلى طارق متري وهو أستاذ وصديق قديم. وقد رافق مسيرتي العلميّة والفكريّة منذ العام 1988 حين كان يلقي علينا، طلاّباً في معهد اللاهوت في البلمند، محاضرات في مادّتَي «علم الاجتماع الدينيّ» و«تاريخ كنيسة أنطاكية». يزوّج طارق، على نحو مذهل، التحليل والشموليّة، أي ما نشير إليه في الفرنسيّة بلفظَي analyseوsynthèse. وزعمي أنّكم رصدتم شيئاً من هذا في كلمته حين شدّد، مثلاً، على حضور الحزن في قصص «عندما ضجر التنّين». والحقّ أنّي، حيال كلماته، كنت كَمَن يعيد اكتشاف هذه الحكايات من جديد. ولعلّ الأهمّ من هذا كلّه هو أنّ طارقاً قادر على أن يكون معلّماً حين يكون صديقاً، وأن يكون صديقاً حين يكون معلّماً. وهذا ليس ببديهيّ.

أنا ممتنّ، ثالثاً، للصديق فادي شاهين، الذي قرأ بعضاً من نصوص الكتاب الذي نحن في صدده. هذه النصوص ما كانت لتكون على ما هي عليه اليوم، شكلاً ومضموناً، لولا عين فادي الثاقبة النقّادة، حتّى إنّي كنت أضطرّ أحياناً، بفعل ملاحظاته، إلى إعادة الكتابة ثانيةً وثالثة. يضاف إلى ذلك أنّ قصص هذا الكتاب، كما شهدتم، تتّخذ حياةً جديدةً حين يقرأها فادي.

مؤلّف «عندما ضجر التنّين» هو، في المقام الأوّل، لاهوتيّ ودارس للاهوت. واللاهوت علم من علوم الإنسان يستوجب اطّلاعاً واسعاً على التاريخ ومناهج تأويل النصوص وإلماماً بعدد من اللغات القديمة والحيّة. ليس صعباً على القارئ أن يتلمّس حضور بعض الأفكار والأسئلة اللاهوتيّة في غير نصٍّ من نصوص الكتاب. فالإنسان لا يخرج من جلده. ولكنّ حكايات هذا السفر تريد أن تكون أدباً حقيقيّاً، لا تعبيراً «أدبيّاً» عن أفكار لاهوتيّة سابقة ومستقلّة في ذاتها. طبعاً، ثمّة معالم مشتركة بين الكتابة العلميّة والكتابة الأدبيّة. فكلاهما عمليّة إبداعيّة تفترض المساءلة النقديّة والتعديل والتصحيح وإعادة الكتابة. كما أنّ كلاهما يتطلّب قراءةً مكثّفةً ومعرفةً دقيقةً بما وضعه الذين سبقونا من مصنّفات وأعمال مكتوبة. ولكنّ الانتقال من عالم الكتابة اللاهوتيّة ذات الطابع العلميّ إلى عالم الكتابة الأدبيّة لم يكن مسألةً سهلة. فالكتابة الأدبيّة أوسع أفقاً، لكونها تتوخّى نقل الإنسان في أبعاده كلّها، وتلقي البال إلى مجمل تفاصيل حياته اليوميّة، فيما الكتابة اللاهوتيّة ميّالة إلى تعاطي الأفكار العموميّة بقطع النظر عن الحالات الخاصّة. لذا، هي كثيراً ما تستنجد بالفلسفة بوصفها تفكّراً في القضايا الكبرى التي تشغل الإنسان على نحو نظريّ مجرّد. فضلاً عن ذلك، الكتابة العلميّة غالباً ما تنحصر في التعامل مع جزئيّات الخبرة الإنسانيّة، وهذا مشروع طبعاً، لكونها تتفحّص جوانب محدّدة من هذه الخبرة، ولا تتبسّط في أخرى. فالتاريخ، مثلاً، مطالب بأن يحدّد مادّته. ولذا، هو إمّا تاريخ سياسيّ وإمّا اقتصاديّ وإمّا اجتماعيّ أو يعنى بالأفكار أو بالعادات أو بالفنّ إلخ. وعلم النفس يتحرّى، في العادة، ما يعتمل في طبقات النفس الإنسانيّة، ولا يهتمّ بالتاريخ أو بالاجتماع إلا على قدر تأثيرهما في ما يصطخب في هذه النفس من توتّرات. أمّا الكتابة الأدبيّة، فتأخذ في الاعتبار كلّيّة التجربة الإنسانيّة رغم أنّه لا سبيل لها إلى ذلك سوى الانطلاق من الإنسان الفرد بوصفه مادّة الكتابة الأدبيّة بامتياز. يضاف إلى ذلك أنّ الكتابة الأدبيّة مفتوحة أكثر من الكتابة العلميّة من حيث خواتيمها. فمعظم الأدباء يختبرون كيف أنّ تجربة الكتابة، ولا سيّما رسم الشخصيّات، تأخذهم إلى عوالم ما كانوا يتوقّعونها حين باشروا عمليّة الكتابة. الملاحظة الأخيرة هي أنّ كلاًّ من الكتابة العلميّة والكتابة الأدبيّة يستخدم نصوصاً سابقةً ويبني عليها. نحن، هنا، أمام ظاهرة نشير إليها بلفظ «تناصّ» (intertextualité). ولكن فيما الكاتب العلميّ ملزم بالكشف عن مصادره، لئلاّ يُتّهم بسرقة الأفكار (plagiat)، يستطيع الكاتب الأدبيّ أن يسمح لنفسه بالتكتّم على المادّة الأدبيّة التي استند إليها، سواء كانت نصوصاً مكتوبةً أو مرويّاتٍ شفهيّة، تاركاً للقارئ مهمّة تحديدها، ذلك بأنّ العمليّة الأدبيّة الإبداعيّة تتحمّل، لا بل تحبّذ، إعادة إنتاج مادّة سابقة في سياقات وكوكبات معنويّة جديدة.

بالنسبة إليّ، لقد اقتضت عمليّة الانتقال من الكتابة اللاهوتيّة ذات الطابع العلميّ إلى الكتابة الأدبيّة الإحجامَ عن اعتبار الخبرة البشريّة الفرديّة «تعبيراً»، أو «مثلاً»، عن خبرة إنسانيّة عامّة تتجاوز الأفراد. واستلزمت العزوف عن النظر إلى الكتابة الأدبيّة بوصفها مجرّد مكان للإفصاح عن أفكار كبرى ذات طابع فلسفيّ.كما استوجبت الاهتمام بالمعالم الفرديّة والتفاصيل الصغيرة بوصفها جزءاً لا يتجزّأ من الحبكة الأدبيّة. ولكنّ الاختلافات الجذريّة بين نمطَي الكتابة هذين لا تنفي التقاطع. فالإلمام، مثلاً، ببعض جوانب التاريخ الكنسيّ والقصص الدينيّ كان عندي واحدةً من القواعد التي ارتكزت عليها لعبة الكتابة الأدبيّة. ويتّضح هذا، على سبيل المثال، في قصص مثل «سفر الرؤيا» و«عندما ضجر التنّين». في المقابل، صار إنتاجي اللاهوتيّ ذو الطابع العلميّ الصرف أكثر تطعّماً بالأدب منذ إقبالي على الكتابة الأدبيّة.

القصص المتضمّنة في «عندما ضجر التنّين» مرفوعة إلى أساتذة أربعة تتلمذت عليهم خلال المرحلة المتوسّطة والثانويّة في مدرسة الحكمة في بيروت بين العامين 1980 و1985. وهم، بحسب التسلسل التاريخيّ، إميل كبا وفرنسوا روحانا وأنطوان حلو وهنري كريمونا. في ذلك الزمن، كانت قراءة جبران خليل جبران طقساً من طقوس مدرسة الحكمة، ربّما لأنّ جبراناً نفسه كان حكمويّاً، وكان إميل كبا، أستاذ اللغة العربيّة وآدابها، رئيس كهنة هذا الطقس بلا منازع. فرنسوا روحانا، أستاذ اللغة الفرنسيّة وآدابها، كان قادراً على شرح أيّ درس من دروس القواعد في ثلاث دقائق ينصرف بعدها إلى ثقافة من نوع آخر، إلى الأخذ بيدنا في دهليز الميثولوجيا اليونانيّة والثقافة الكلاسيكيّة عموماً. أمّا أنطوان حلو، أستاذ الأدب الفرنسيّ، فلقد حرص على أن يقرأ معنا أندروماك راسين، بيتاً بيتاً، طوال عشر أسابيع، واعتبر أن أفضل مقدّمة لقراءة بعض قصائد ديوان شارل بودلير «أزهار الشرّ» (Les fleurs du mal) هي شرح نظريّة المثل لدى أفلاطون على مدى أسبوع كامل. الجدير بالذكر أنّ زملائي في جامعة مونستر ينذهلون اليوم حين أخبرهم هذه الأشياء. أخيراً، هنري كريمونا، أستاذ الفلسفة، كان لا يتوانى عن أن يصف نفسه بأنّه «مؤمن كبير» حتّى حين يعرض بشغف نظريّة المعرفة لدى إيمانويل كانط. لهؤلاء الأربعة منّي جزيل الامتنان للثقافة التي نهلتها من معينهم.

قبل بضع من السنين، سرق السرطان من وسطنا عازفة القانون الأولى في لبنان إيمان حمصي، وهي بعد في ذروة إبداعها وتألّقها. الذين عرفوها عن كثب كانوا يدركون معنى الالتباس الغريب في شخصيّتها. فعصبيّتها، التي لم تكن تخفى على أحد، كانت تتفجّر في مقطوعات موسيقيّة تضجّ بالفرح. لهذه التي مضت عنّا قبل الأوان موسيقى تمكث معنا رغم الرحيل، وتضفي معنىً على حياتنا. ألا تكمن عبقريّة الموسيقى في أنّها تسبغ على حياتنا الوقتيّة معنىً يتعذّر استمداده من مقولات هذا العالم؟ لقد وُضعت حكايات «عندما ضجر التنّين» تحيّةً لعازفة القانون وفي ذكراها.

 

                                                                أسعد الياس قطّان