تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي
تكريم الدكتور منير بشّور

 

كلمة الأستاذ جورج أبي صالح
كلمة الدكتور هنري العَويط
كلمة الدكتور منير بشّور

  كلمة الأستاذ جورج أبي صالح

        يسرّ الحركة الثقافية - انطلياس ان تفتح الليلة صفحة جديدة مشرقة في سجلّ تكريم أعلام الثقافة، الذي درجت عليه منذ أربعة وعشرين عاماً، في إطار المهرجان اللبناني للكتاب، الذي يبلغ اليوم سنته الثامنة والعشرين.

        ويسرّنا بخاصة، بل يشرّفنا أن يكون الدكتور منير بشّور في عداد المكرّمين هذه السنة، سنةِ إعلان بيروت سنة عالمية للكتاب.

فالدكتور بشّور حظي طوال مسيرته المهنية والأكاديمية باحترام اللبنانيين والعرب وتقديرهم، لما يمثّله من قيم ومبادئ ولما تتحلّى به شخصيته من خصال حميدة، وما يتّصف به من كفاية وجِدّ وجدارة في العلوم التربوية، حقلِ اختصاصه وميدان نتاجه طوال أربعة عقود ونيّف.

منير بشّور مربٍّ، لا يمارس التعليم مهنة، بل رسالة حياة، كرَّس حياته لها، هو وشريكة حياته السيدة كاترين.

منير بشّور تربوي، والتربية غدت عنده قضيّة، محورها الإنسان. فالإنسان هو الأصل، وما عداه فروع وتفاصيل.

منير بشّور باحث، أمضى القسم الأكبر من حياته المهنية في القيام بأبحاث في شؤون التربية والتعليم، يقيناً منه بأن للبحث العلمي دوراً أساسياً في الحياة الأكاديمية الجامعية وفي خدمة التقدّم والإنسانية.

ومنير بشّور مثقّف متنوع المناهل والمواهب والاهتمامات. مولع بالأدب والشعر والتاريخ والفلسفة، ومتابع دؤوب لنتاجات مختلف أنواع الإبداع الفكري.

منير بشّور مؤلِّف غزيرٍ الإنتاج، تعددت كتاباته، أبحاثاً ومقالات ومؤلَّفات وخططاً وبرامج، بحيث بات نتاجه واسمه من ثوابت المكتبة التربوية اللبنانية والعربية.

على أن منير بشّور لم يكن في حياته المهنية مربّياً، وتربوياً، وباحثاً ومؤلِّفاً ومثقفاً فحسب، بل كان أيضاً وبخاصة شخصية أكاديمية ملتزمة. لذا، فهو بحقّ، ومن منظور حركتنا بالذات، علَم من أعلام الثقافة. فلا ثقافة بلا التزام.

ذاك أن منير بشّور جعل حياته نضالاً مستديماً في سبيل لبنان والعرب، في سبيل الإنسان والمجتمع. فكان همّه الأكبر تحرير الأرض من الاحتلال، وتحرير الإنسان من التخلّف. وقد انعكس ذلك كلّه في كتاباته وأفكاره.

يبقى أن مزيّة الرجل لا تقتصر على عطاءاته الأكاديمية والفكرية، ولا على إسهاماته في تطوير القطاع التربوي العربي، بل تتعدّى ذلك الى مناقبيّته المهنية، ودماثة خلقه، ورسوخ أصالته، وتواضع شخصه ونبل طباعه.

منير بشّور هو واحد في الشكل والجوهر، في الظاهر والباطن، في الطرح النظري والممارسة العملية. لأجل ذلك كلّه، اتّسعت دائرة أصدقائه ومحبّيه واستحقّ منا كل تقدير وتكريم.

فأهلاً بك، يا دكتور منير، علماً مكرّماً من أعلام التربية والثقافة، في لبنان والعالم العربي، تستضيفك الحركة الثقافة - انطلياس للاحتفاء بك، وهي مفعمة، غبطةً واعتزازاً.

أطال الله عمرك وزادك عافيةً وعطاءً.


منير بشّور رسولُ التربية وفارسُ الصداقة

  كلمة الدكتور هنري العَويط

على مدى ثمانيةٍ وعشرين عاماً، يَهُلُّ علينا مع بواكيرِ كلِّ ربيع، ربيعُ مِهرجانِ الحركةِ الثقافيّةِ في انطلياس، معرضاً للكتاب، ومِنبراً للنقاش، ومنتدىً للوفاء. ونحن، في كلّ عام، نفرحُ بهذا الموسمِ المُثقَلِ بغِلالِ الفِكرِ والأدبِ والفنّ.

وكَم حريٌّ بنا في هذا العامِ بالذات، أنْ نُرَحِّبَ بهذه النشاطاتِ الخَيِّرَة، لأنّها تُعيدُ تذكيرَنا، في غمرةِ انفلاتِ الغرائزِ والعصبيّات، وفي حمأةِ التشنّجاتِ السياسيّةِ، بأولويّةِ الشأنِ الثقافيّ، وهو من الثوابتِ في تاريخِ هذا الوطن، وفي صُلبِ رسالتهِ ودورِه ومقوّماتِ وجودِه.

فاسمحوا لي أنْ أوجِّهَ إلى فرسانِ الحركةِ الثقافيّة، المؤتَمَنينَ على هذا التراث، وخدّامِ هذه الرسالة، ومُعزِّزي هذا الدور، تحيَّةَ تقديرٍ وعاطفةَ مَودَّة.

واسمحوا لي أنْ أزجيَ القيّمينَ على إحياءِ هذا اللقاء، خالصَ شكري وعميقَ امتناني، لأنّهم كرّموني حينَ قلَّدوني شرَفَ المشاركةِ في تكريمِ منير بشّور، وأتاحوا لي أنْ أُوَفّي، باسمي وباسمِ أجيالٍ من طلاّبِه وقرّائِه، بعضَ ما نحنُ مَدينونَ له به، وجُزءاً يسيراً من فضلِهِ على التربيةِ في لبنانَ والعالَمِ العربيّ.

* * * * *

أوّلاً - منير بشّور المربّي

لم أحظَ بفرصةِ التتلمذِ على منير بشّور، فلم أُعاين مباشرةً وجهَ المُرَبِّي الذي ما فتئ يُطِلُّ به على طلاّبهِ في الجامعةِ الأميركيّةِ في بيروت، على مدى خمسٍ وأربَعينَ سنة، منذ تعيينهِ في عام 1964 أستاذاً مساعداً في التربية، وتدرّجِه إلى رتبةِ أستاذٍ مشارك في عام 1969، وترقيتهِ إلى الرتبةِ الأرفَع Full professor في عام 1979، وهي الرتبةُ التي ما زال يتبوّأها حتّى اليوم. ولكنّي سَعَيتُ إلى التعويضِ عمّا فاتني، فاستطلعتُ آراءَ عيّنَةٍ ممَّن يتولّى حاليّاً تنشئتَهم، ومن خِرّيجيه أيضاً، الذين خَبَروه مدرّساً أو مشرفاً على رسائلهِم وأطاريحهِم، فأجمعَت شهاداتُهم على الاعترافِ بِفضلِهِ، والإشادةِ بمزاياه.

وأوَّلُ ما يسترعي انتباهَك في ما ذكروه، تشديدُهم على توظيفِ عِلمِهِ الغزير وثقافتِه الواسعة، وخِبْراتِه الثريّة والمديدة، لا في تزويدِهم بالمعارِف وإكسابِهم المهاراتِ فحسب، بل في تنميةِ مداركِهم، وتوسيعِ آفاقِ رؤيتهم، وبناءِ شخصيّتِهم، وتمرّسِهم بالقِيَمِ التي تمنحُ العِلمَ جدواه، وتَهِبُ الحياةَ معنىً وغاية. ولَطالَما تذكَّروا إلحاحَه في دعوتِهِم إلى اعتمادِ منهجٍ أكاديميٍّ صارم، ثلاثيِّ الأركان، قِوامُه الوصفُ، فالتشخيصُ، فاقتراحُ الحلول ؛ بل لطالما ركَّزوا على نفورِه من أشكالِ الخِطابِ الايديولوجي كلِّها، وابتعادِه عن التعليمِ المنمَّطِ وقوالبِهِ الجامدة، وأساليبِ الإملاءِ والتلقين، وسعيهِ الدؤوبِ إلى فتحِ أبوابِ النِقاشِ على مصراعَيها، والإعلاءِ من شأنِ الفِكرِ الناقِد، وتعزيزِ الديموقراطيّةِ في إبداءِ الرأي، مدخلاً لا غنىً عنه إلى الوَعي، وسبيلاً إلى المعرفة، وشرطاً للإبداعِ وللحريّة.

ولقد أبرزَ طلاّبُه سخاءَه في العطاء، وبذلَه الجُهدَ والوقتَ في سبيلهم من دونِ منَّةٍ ومن غيرِ حساب، وتفانيهِ في خدمتِهم وفي الاضطلاعِ بمستلزماتِ الرسالة التي نذر حياتَه للقيامِ بها. ويُستَفادُ من شهاداتِهِم أنَّ لِقاءَهُم به، من خلال محاضراتِهِ في قاعاتِ الصفوف، أو جَلَساتِ العَمَلِ في مكتبه، لم يكن حدثاً عابراً في مجرى حياتِهِم، بل أحدثَ فيهِم أثراً عميقاً. وكان مصدرَ اغتناءٍ، وفرحٍ، وإلهام. وغالباً ما تخطَّت علاقَتُهُ بهم إطارَها التقليديّ، فتجاوزَت حدودَ الجامعة، وكانت منطلقاً لإقامةِ روابطَ إنسانيّةٍ أعمَقَ وأشمَل.

 لم أحظَ بفرصةِ التتلمذِ على هذا المربّي المميَّز، ولكنّي تعلَّمتُ منه الكثير، وفي رأسِ ما أخذتُ عنه إيمانَه الراسخ والتزامَه الثابت بأنّ المعلِّمَ الحقّ لا يعلّمُ تلاميذَه، بل يُرشدُهم إلى مناهلِ المعرفة، ويفجِّر مواهِبَهُم، ويوقظُ طاقاتِهِم الكامِنَة، ويوفِّر لهم الأطرَ الملائمَة والحوافِزَ المؤهِّلَة حتّى يتعلَّموا بأنفسهم. فكأنّي به يستوحي وصيَّةَ نبيّ جبران إلى أبناءِ مدينةِ أُورْفَليس : " ما مِن رجلٍ يستطيعُ أنْ يُعلِنَ لكم شيئاً غيرَ ما هو مستقرٌّ في فجرِ معرفتِكم وأنتُم غافلونَ عنه. أمّا المعلِّمُ  الذي يسيرُ في ظِلِّ الهيكلِ مُحاطاً بأتباعِهِ ومُريديه، فهو لا يُعطي شيئاً من حكمته، بل إنّما يُعطي من إيمانِه وعطفِهِ ومحبّته. لأنّه إذا كان بالحقيقةِ حكيماً، فإنّه لا يأمُرُكم بأنْ تدخلوا بيتَ حكمته، بل يقودكم بالأحرى إلى عتَبَةِ فِكركُم وحِكمتكُم".

* * * * *

ثانياً - منير بشّور الباحِث

لم أحظَ بفرصةِ التتلمذِ على منير بشّور، ولكنّي قرأتُ معظمَ ما كَتَبهُ في نِطاقِ التربية. ولقد بدأتُ ذلكَ باكراً، منذ أربعينَ سنةً بالضبط، يومَ وقعتُ في مجلّةِ مواقف على مقالته "مقترحات عمليّة لإصلاحِ الجامعاتِ في لبنان" (1968). ثمّ تابعتُ باهتمام، ولكن عن بُعد، نشاطَهُ التأليفيّ، من خلالِ كُتُبه ومقالاتِه.

لن يتَّسِعَ ليَ المجالُ بالطبع لأقدِّمَ لكم في مداخلتي هذه لوحةً شاملةً بكُتُبِهِ العَشَرَة، ومنها بنية النظام التربويّ في لبنان (1987)، واتّجاهات في التربية العربيّة (1982)، والتعليم في العالَم العربيّ في القرن الحادي والعشرين (1995). ولا لأقدّمَ لكم عرضاً مفصَّلاً بمقالاتِه التي تُناهزُ الأربَعين. فإنَّ هذه المهمّة تقتضي دراسةً متخصِّصةً ومستفيضة، تحيطُ بالموضوعاتِ والمحاورِ التي عالجها، وتُلقي الضوءَ على منطلقاتِهِ الفلسفيّةِ والفكريّة، وتكشِفُ عن أركانِ مذهبِهِ التربويّ، وتُقيّمُ أثرَه، وهو في نظري كبيرٌ وعميق.

ولمّا كان التعليمُ العالي مجالَ اهتمامِهِ الطاغي، ومجالَ اهتمامِنا المشتَرَك، فقد رأيتُ أنْ أقصُرَ مداخلتي على هذا الجانبِ من جوانبِ نشاطِهِ التأليفيّ المتعدِّدَة. فممّا لا شكَّ فيه أنّ منير بشّور أولى قضايا التعليمِ العالي اهتمامَه البالغ. وحسبُنا دليلاً على ذلك قائمةُ الكتبِ والمحاضراتِ والمقالات، باللغتَين العربيّة والإنكليزيّة، التي وقفها على شؤونهِ المختلفة. وهو اهتمامٌ لازمه بصورةٍ منتظمة في مسيرته التربويّةِ الطويلةِ والحافلة. فقد بدأ في مرحلةٍ مبكّرة من نشاطِه التأليفي، وبالتحديد مع مقالته المنشورة عام 1966، بعنوان : «Higher education and political developpment in Syria and Lebanon » ، ثم استمرّ كثيفاً ومتواصلاً طَوالَ أربعةِ عقودٍ ونيّف. فآخِرُ ما قرأته له المحاضرةُ التي ألقاها في قطر، أوائلَ هذه السنة، واختار لها عنواناً مثيراً : « Observations from the Edge of the deluge : Are we going too fast too far in our educational transformation in the Arab Gulf ? ».

ويمكننا أن نردَّ هذا الاهتمامَ إلى دوافعَ شتّى، ترتبط في معظمها بالنظرةِ العامّةِ إلى وظائفِ الجامعةِ ومهامِّها ؛ ولكن يبدو لي أنّ اهتمامَه هذا نابعٌ بشكلٍ أساسيّ من تصوّره الخاص لموقعِ التعليمِ العالي المركزيّ في بنيةِ النظامِ التربويّ، ومن إيمانه بدوره المحوريّ في عمليّةِ الإصلاح، وقد عبّر عن ذلك بوضوح في محاضرةٍ ألقاها في النادي الثقافي العربيّ، إذ أكّد :
" فإن سُئِلتُ من أينَ نبدُأ عمليّاتِ الإصلاح التربوي، من قمّةِ الهرمِ أو من قاعدتهِ، لأجبتُ من دونِ تردّد، لنبدأ من القمّة، لأنّ نِتاجَ هذه هو المعَوَّلُ عليه في توجيهِ عمليّاتِ الإصلاحِ في المراتبِ الدنيا ".

فاسمحوا لي أنْ أقدّمَ شهادةً متواضعةً وجُزئيّةً في عطاءاتهِ المتميّزةِ بغِناها، وعُمقِها، وأصالتِها، متوسِّلاً إلى ذلك سبيلَ الشهادةِ للمنهجيَّةِ العلميّةِ التي اعتمدَها في كتاباتِهِ، مستعرضاً أمامَكم ثلاثةً من أبرزِ عناصِرِها ومقوِّماتِها.

أ - الطابع العلمي التوثيقيّ والتحليليّ

أوّلُ ما يسترعي انتباهَك، وأنتَ تقرأُ كتاباتِهِ حولَ أوضاعِ التعليمِ العالي، ميلُه الواضح إلى التوثيقِ والتصنيفِ والتحليل. فتطالعُك، في مَتنِ الصَفَحات، وفي حواشيها، وفي ما بينَها، كما في ملاحِقِها، مجموعةٌ كبيرةٌ منَ الاقتباساتِ، والوقائعِ، والتواريخِ، والأرقامِ، والجداول. يختصُّ قسمٌ منها بالنصوصِ التشريعيّة، من قوانينَ ومراسيمَ وقرارات ؛ ويُحيلُكَ بعضُها إلى بياناتٍ وزاريّة، أو تقارير، أو شُرُعاتٍ تأسيسيّة، أو مقابلاتٍ صُحفيّة، أو أخبار ؛ ويضعُ بعضُها الآخر بين يديك رسوماً بيانيّةً بأسماءِ الجامعاتِ القائمةِ في البلدانِ العربيّة، مع تحديدِ ملكيّتِها وتاريخِ إنشائها ؛ وبأعدادِ الأساتذةِ الداخلين في المِلاك، والمتفرّغين، والمتعاقدين بالساعة ؛ وبأعدادِ الطلاّبِ والخِرّيجين، موزَّعةً حَسَبَ الجنسِ أو الجنسيّة، أو الفئاتِ العُمْريّة، أو حقولِ الدراسة، أو الاختصاص، أو المؤسّساتِ التي ينتسبون إليها، أو المستوياتِ التعليميّة، وسوى ذلك من الجداولِ والبيانات، وهو كثير.

إنَّ الجُهدَ الذي بذله في تجميع ما تفرّقَ وتناثَر من هذه المعطيات، لَكبير ؛ ويذكِّرُكَ تتبُّعه المستجدّاتِ وتسقُّطُه المعلوماتِ بتيقّظِ الصيّادِ المتربِّصِ بطريدتِهِ أو باحترافِ الصِحافيّ ؛ ويستوقِفُك سعيُه الدؤوب إلى رفدِ قاعدةِ المعلوماتِ التي يملكها، لتوسيعِها وتحديثِها بانتظام.

وإنّ هذه المعطيات، في تنوّعِها وتنوّعِ المصادرِ التي يستقيها الدكتور بشّور منها، وفي انسحابِها على مجموعِ الدولِ العربيّة، وفي اتّساعِ مدى الحِقَب الزمنيّةِ التي تغطّيها، فضلاً عمّا تتّسمُ به من دقّةٍ متأتّيةٍ من حِرصه على التدقيقِ فيها والتثبّتِ من صحّتها، تضفي على مباحثه طابَعاً توثيقيّاً جليّاً ومنحىً علميّاً بيّناً.

ويشكّلُ هذا الكمُّ الكبيرُ من التواريخِ والوقائعِ والأرقام، مادّةً خاماً، وعالماً مغلقاً وعصيّاً، لشدّةِ تعقيدِه وتفكّكِ معطياتِه. فليسَ من اليسيرِ أنْ تنسّقَه وتنظّمَه وتعقلنَه، وسبيلُكَ الوحيدُ إلى ذلك ما تُنشئه بين عناصره من روابطَ ومن علاقاتٍ مؤتلِفة. وهذا هو بالضبط ما يحاول منير بشّور أن يقومَ به، وما يوفّق إلى حدٍّ بعيدٍ في تحقيقه. إنَّ عمليّةَ الرصدِ والتقميشِ والتجميع التي نوّهنا بها، ليست سوى الخطوةِ الأولى في سياق المنهجيّةِ التي يعتمدها. فهو يستكملها بخطوةٍ ثانية، بالغةِ الأهميّة، قوامُها الترتيبُ، والتصنيفُ، والتبويب. فتتحوّل التواريخُ المتباعدةُ إلى محطّاتٍ على يديه، ويُدرِج الوقائِعَ والاختباراتِ والتوجّهاتِ المتفرّقةَ في مسارات، ويُنزِلُ الأرقامَ المتضاربَةَ في شَبَكات، وأمّا المؤسّساتُ فيردّها إلى فئاتٍ وأنماط. ثمّ ينتقل بعد هاتين الخطوتَين التمهيديّتَين إلى مرحلةِ التحليلِ، باعتبارِها المحطّةَ التي تتوِّجُ ما سبقها، وتسوّغُه، وتُسبِغُ عليه معناه وغايته. لا يتّسع بالطبعِ المجالُ هنا للإسهابِ في الحديثِ عن منجزاتِهِ على هذا الصعيد. حسْبي أنْ أذكرَ أنّه يُتقنُ، بمهارةِ العارفِ والخبيرِ بالأرقامِ وأسرارِها ورموزِها، فنَّ محاورتِها واستنطاقِها، فيطرَحُ عليها، بلا هوادة، أسئلتَهُ الذكيّة ؛ وحسبي أنْ أشيرَ إلى أنّه يُجيد قراءَتها واستقراءَها، بما اكتسبَه من ثقافةٍ نقديّةٍ واسعةٍ وعميقة، وبما تسلّحَ به من عُدّةٍ منهجيّةٍ ملائمة، وبصيرةٍ نافذة، فإذا بالأرقامِ الخرساء تُفصحُ له عن مغازيها الكامنة، وتسمح له باستخراجِ دلالاتِها المعَبِّرَة. ولعلّنا واجدون في ما خاطب به الجمهورَ الذي كان يُصغي إلى إحدى محاضراته، ما يفسّر سرَّ ولعِهِ الكبير بالأرقام، إذ قال : " إنَّ لغةَ الأرقام تحمل سحرَها الخاصّ وهي تروي حقائقَ يصعُب أن ترويَها أيّةُ لغةٍ أخرى" (المنابر، ص 96).

ويضاعف من تقديرنا له أنّه لا يجد حرَجاً في الاعتراف بما يمكن أن يشوبَ عملَهُ من نقص، فيقول " ليس لدينا معلومات محدّدة حول عدد الطلاّب الذين وصلوا فعلاً إلى مرحلة الدراسات العليا أو حول أولئك الذين يقومون بإجراء الأبحاث " (المنابر، ص 68).

ومع أنّه يجتهد في التعاملِ مع النصوصِ والأرقامِ والتواريخ بدرجةٍ عاليةٍ من النزاهةِ الفكريّة، فهو يعي تماماً أنّ تحليلها وتأويلها خاضعان للنسبيّة، وأنّ مَن يمارسهما عرضةٌ للخطأ. ويدرك بأنّ الحقيقة لا يمكن أن يستأثر شخصٌ واحدٌ أو فريقٌ معيَّنٌ بامتلاكها. فلا يرى غضاضةً في القبولِ بالنقاش. فهذه المواقفُ التي تنبُعُ من تواضعه الجم ومن تنشئته الديموقراطيّة على قيم الانفتاح والمشاركة والحوار، هي المواقفُ الخليقةُ بأهلِ العلم. وحسبي أخيراً أنْ أسجِّلَ أنّه يُحسنُ توظيفَ حصيلةِ ما تجمّعَ لديه من نتائج، في فهمِ تجاربِ الماضي، وإلقاءِ الأضواءِ الكاشفةِ على الواقع الراهن، وفي استشرافِ آفاق المستقبل أيضاً. وهو القائل: " للأرقام، كما للتاريخ، مذاقٌ خاصّ يصعب معه التوقّفُ عند حدودِ الوصف، فيجمَحُ الخيالُ إلى المرغوبِ، وإلى الممكنِ، في المستقبل" (التعليم العالي في لبنان، ص 91).

ب- مقاربة الوقائع من خلال مقارنتها ومقابلتها

ويسترعي انتباهَك أيضاً أنّ منير بشّور اختطَّ لنفسه، منذ أولى مباحثهِ في أحوالِ التعليم العالي، منهجاً قلّما حادَ عنه، قوامُه مقاربةُ هذه الأحوال من خلالِ إجراءِ عددٍ من المقارنات والمقابلاتِ فيما بينها.

فعلى سبيل المثال، يراعي في المقالةِ التي نشرها في مجلّة دراسات لبنانيّة بعنوان "معالم من تاريخ التعليم العالي وجغرافيّتهِ في لبنان"، التمييزَ المعهودَ بين القطاعَين الرسميّ والخاصّ، وذلك بأن يُفْرِدَ لدراسةِ أوضاعِ الجامعةِ اللبنانيّةِ جُزءاً من مقالته، وجُزءَها الآخر لدراسةِ أوضاعِ الجامعاتِ الخاصّة. ولكنّه سرعان ما يتجاوز هذا التقسيم، فيعقدُ، في كلِّ مقطعٍ من هذا الجزء الأخير، سلسلةً متَّصلةً من المقارناتِ والمقابلات، ذاكراً أنّه " يمكننا أن نتابعَ تقصّي الأوضاع ونقابلَ حالَ الجامعة اللبنانيّة بحالِ غيرها من الجامعات..." (مجلّة دراسات لبنانيّة، ص 134).

ولا يقتصر هذا التوجّهُ على ما كتبه في شأنِ مؤسّساتِ التعليمِ العالي في لبنان، بل تَراه يوسّع مداه البحثيَّ وإطارَه الجغرافيَّ ليغطّي سائرَ أقطارِ العالم العربيّ. فيتبدّى هذا التوجّهُ في أجلى صورهِ وأكملِها، في المحاضرةِ الشاملةِ التي ألقاها في جامعة لند في السويد، وقد اختار لها عنواناً معبّراً يُغني عن الدخول في تفاصيلها، ألا هو : " الشَبَهُ والاختلافُ في التعليمِ العالي في الوطن العربيّ ".

وخيرُ دليلٍ على أنّ هذه المقاربةَ تشكّل خِياراً منهجيّاً أثيراً وثابتاً عنده، المداخلةُ التي ألقاها مؤخَّراً في بيروت، وموضوعُها " نماذج واتّجاهات في التعليم العالي العربيّ ". ففي معرضِ حديثِهِ عن المدينةِ التعليميّةِ التي تمّ تدشينُها في قطر، ذكر رغبةَ المسؤولين عن هذا المشروع، في توطينِ العلمِ في بلدهِم " من أبوابٍ جامعيّةٍ عالميّة "، مبرزاً الاختلافَ الجوهريّ بين التوطينِ الذي يحدث الآن في قطر، والتوطينِ الذي سعى إليه مؤسّسو الجامعةِ الأميركيّة في بيروت. ثمّ يستطرد فيقيم مقابلةً نقديّةً بين تجربتَي قَطَر ومصرَ في هذا المجال.

وقد عرض، بصورةٍ مفصّلة، مفهومَه لهذه المقاربة، وتحديدَه لشروطِ تطبيقِها، وتصوّرَه لفاعليّتِها، في الدراسة التي نشرها بعنوان " الدولة والتعليم في فرنسا وانكلترا". ورأى فيها أنَّ منهجيّةَ المقارنة والمقابلة هي، على حدِّ تعبيره " البديلُ الوحيدُ الممكنُ في العلوم الاجتماعيّة..." (الدولة والتعليم في لبنان، ص 99).

وحقيقةُ الأمر أنّ هذه المقاربة، بما تنطوي عليه من جَدَليّات، وتثيره من إشكاليّات، تنفَحُ نصوصَه بحيويّةٍ فكريّةٍ مميَّزة.

وإنّ من شأنِها أنْ تبيّن، من جهةٍ أولى، تعدّديّةَ الأنظمةِ التربويّة، التي هي وليدةُ اختلاف الأنظمةِ السياسيّة، والأوضاعِ الاقتصاديّة، والأحوالِ الاجتماعيّة، والمعطياتِ التاريخيّة، وأنْ تدعو، انطلاقاً من هذا الواقع،  إلى احترامِ هذه التعدّديّة وأخذها في الاعتبار.

ولكنّ من شأنها أنْ تشكّل أيضاً، من خلال التجارب المختلفة التي تقدّم لوحةً بها، مرآةً ترى كلُّ بلادٍ أو كلُّ مؤسّسةٍ للتعليم العالي نفسَها فيها بصورةٍ أجلى، وتعرِض بالتالي خبرةً يمكن الاسترشاد بها، وتتضمّنُ دعوةً إلى التكامل.

ولعلّه بسبب ذلك كلِّه اعتبرَ، عن حقّ، أنَّ المقاربَةَ التي اعتمدَها هيَ الوسيلةُ الأجدى لمحاولةِ تفسيرِ الطريقةِ التي تنمو فيها الفكرةُ الواحدةُ أو القضيّةُ الواحدةُ بشكلٍ مختلف في بلدان مختلفة، وهي وسيلةٌ تصلح في الوقتِ نفسهِ، للكشفِ عن النوازعِ التي تدفعُ بالأنظمةِ التربويّةِ المختلفة باتّجاهِ بعضِها البعض، بالرَغمِ ممّا بينَها من اختلافات. إنّها باختصار، كما يحلو له أنْ يؤكّد، الطريقةُ الأفضل " لتِبيان أوجهِ الشبَهِ والاختلاف، أو بلغةِ ابن خلدون أوجهِ "التشابهِ والتبايُن"، بين البلدانِ والشعوب..." (الدولة والتعليم في لبنان، ص 41).

ج- الجمع بين التنظير والاقتراحات العمليّة

قد يحمِلُ ما سبق عرضُه على الظنِّ أنّ منير بشّور منصرفٌ بكلّيته إلى الأبحاثِ النظريّة فحسب. والصحيحُ أنّه يوفِّق في دراساتِه، بصورةٍ متوازنةٍ، بين المنحيَين النظريّ والتطبيقيّ، وتجتمعُ فيه شخصيّتا الباحثِ والداعي.

لقد سعى، في كلِّ ما كتب، إلى التحلّي بالموضوعيّةِ التي يُفتَرَض في كلّ باحثٍ أكاديميٍّ رصين أنْ يلتزمَ بمقتضياتها، من توخٍّ للدقّة، وإعمالٍ للنقد، وممارسةٍ لفضائلِ التجرّدِ والصدقِ والنزاهةِ والانفتاح، وتجنّبٍ للهوى والتعصّبِ والأحكامِ المسبَقة، ووفاءٍ بسائرِ مستلزَماتِ الروحِ العلميةِّ الحقّة، وقيَمِها الجوهريّة، ومسؤوليّاتِها الجسيمة.

ولكنّه يأبى الوقوفَ على الحِياد. إنّه رَجلُ مواقف، يعبّر عنها حيناً بخَفَر، بصورةٍ ضمنيّة، تاركاً للقارئ أن يستشفّها، ولكنّه غالباً ما يَجهَر بها، بصورةٍ مباشِرة وهادفة.

فإذا تحدّث عن الجامعةِ اللبنانيّة، التي يعتبرها "جامعةَ كلِّ الأطراف، وحاضنةَ المستقبل"،  ذكرَ أنَّها " كانت ولا تزال، الرَحِمَ الذي يحملُ في أحشائه احتمالَ أنْ يقومَ في لبنان مجتمعٌ جديد، وفي الوقتِ نفسه الميزانَ الذي يعكِس تصارعَ القِوى على أرضِ الواقعِ وعلى كاملِ مساحةِ المجتمعِ القائم. ولعلَّ هذا التجاذبَ أو التناقضَ بين الوجهَين هو ما يفسّرُ حرارةَ التفاؤلِ أحياناً بأنْ تتمكّنَ هذه الجامعةُ من تأديةِ دورِها الأساسيّ في المستقبل [...]، وذلك في مقابل هبوطِ التفاؤلِ أحياناً أخرى قياساً على تجاربِ الماضي وما تعانيه الجامعةُ في الحاضر".

وإذا تحدّثَ عن مؤسّساتِ التعليمِ العالي الخاصّ، التي يستعيرُ لتسميةِ عددٍ منها تعابيرَ مثل "دكاكين وبوتيكات وسوبر ماركات للتعليم"، رأى أنَّ "الحاجةَ الملحّةَ اليومَ هي إلى ضبطِ الانفلاش، والتأكّدِ من الجدارةِ الأكاديميّةِ لكلِّ هذه الجامعات،... " (الملحق، 1994).

وإذا تناولَ قضايا التعليمِ العالي في البلدانِ العربيّة، اعتبرَ أنَّ هامشَ الحريّةِ المفتوحَ أمامَها في مواجهةِ العولمةِ وانتشارِ الأنموذجِ الأميركيّ الواحدِ في الثقافةِ كما في الاقتصاد " يسمحُ بالتحرّكِ في المستقبلِ في الاتّجاهاتِ التاليةِ، بل هو يحضّ عليه، إن كان لهذه البلدان أن تبقى عربيّةً وأن تتقدّم :

- إقامةُ جسورِ التوأمةِ والتعاونِ بين الجامعات في البلدان العربيّة بعضِها مع بعض، وعدمُ الاقتصارِ على مثلِ هذه الجسورِ مع الخارج.

- تأسيسُ نظامٍ فعّالٍ من المنحِ الدراسيّة لدعم المؤهّلين من الفقراء [...]، تجنّباً لنشوءِ نظامٍ مزدوجٍ في التعليم، واحدٍ للفقراء وآخَر للأغنياء، وكذلك لربطِ التعليمِ بعمليّات الإنتاج والسوق .

- المحافظةُ على التعليمِ باللغةِ العربيّة [...]، مع المحافظةِ على إتقانِ لغةٍ أجنبيّةٍ واحدةٍ على الأقلّ، في كلّ الاختصاصات الجامعيّة... ".

إنّه صاحبُ مواقف، وإنّه صاحبُ قضيّة، وقد نذرَ قلَمَهُ لنشرِها، والدعوةِ إليها، والدفاعِ عنها. فعندما تراجعُ مجموعةَ النصوصِ التي ألّفَها، تكتشف أنَّ أكثرَ المفاهيمِ تواتراً فيها، هو الإصلاح. يتبدّى ذلك في العناوين، ومنها، على سبيلِ المثال : "مقترحاتٌ عمليّة لإصلاح الجامعات في لبنان"، (مواقف، 1968) و"تسعة قضايا لإصلاح التعليم في لبنان"، (ملحق النهار، 1994). بل إنَّ الدعوةَ إلى الإصلاح تخترقُ كتاباتهِ من دفّتها إلى دفّتها، وتتكرّرُ فيها بما يشبهُ اللازمة، وتُضفي عليها، على تعدّدِ المناسبات، واختلافِ الموضوعات، سياقَها الجامعَ ووحدتَها العضويّة : إصلاحُ الجامعةِ اللبنانيّة، وإصلاحُ التعليمِ العالي الخاص في لبنان، وإصلاحُ التعليمِ العالي على مستوى العالم العربيّ كلّه.

تستمدّ هذه المواقفُ وهذه الاقتراحاتُ وهذه الدعوةُ وزنَها من واقعيّتِها، فهي تتأسَّس على تحليلٍ دقيقٍ للأوضاع التي تصدُر في شأنِها؛ وتستمدُّ مصداقيّتَها من شخصيّةِ مَن يُطلقها، فهي عُصارةُ خِبرتهِ الطويلة، ووليدةُ ممارستهِ ومعاناتهِ في آنٍ معاً ؛ وتستمدّ من التزامه حرارَتَها، ومِن تفاقمِ المعضلاتِ وتراكمِ الخيباتِ طرفاً من المرارةِ التي تخالطُها؛ ولكنّها تستمدّ من إيمانِه العميقِ بالإنسانِ وطاقاتِه الخلاّقة جذوةَ الأملِ التي لا تنطفئ فيها.

ثالثاً - منير بشّور الأديب

لم أحظَ بفرصةِ التتلمذِ على منير بشّور، ولكنْ قرّبني منه اهتمامُنا المشتَرَك بأحوالِ التعليمِ العالي في بلدِنا، وفي سائرِ البلدانِ العربيّة. وقرَّبَني منه أيضاً شَغَفُه بالأدبِ المُعاصرِ عامّةً، والعربيِّ منه على وجهِ الخصوص. فلئن طَغَتِ الشواغِلُ التربويّةُ في مسيرتِهِ الأكاديميّة، تدريساً وتأليفاً، فهي لم تستأثر باهتماماتِهِ كلِّها، ولا تختزِلُ أبعادَ شخصيّتِهِ الفكريّةِ المتنوِّعَة. وقد يُفاجأُ الكثيرون من زملائهِ وطلاّبهِ وقرّائهِ إذا قيلَ لهم إنّ الشهادةَ الجامعيّةَ الأولى التي نالَها، من الجامعةِ الأميركيّةِ في بيروت، عام 1965، هي البكالوريوس في الأدب الإنكليزيّ. وسرعانَ ما توطَّدَت علاقتُه بدنيا الأدبِ والأدباء في السنواتِ التالية، أي في المرحلةِ التي شهِدَت فيها بيروت واحدةً من أبهى محطّاتِ إشعاعِها الثقافيّ، واضطلاعِها بريادةِ حركةِ الحداثةِ الشعريّةِ في العالَمِ العربيّ.

ونَمَت علاقتُه هذه من خلالِ مشاركتِهِ الفاعلة في حَلَقاتِ "خميس مجلّة شعر"، وتعرّفهِ إلى كوكبةٍ من أعلامِها، وفي طليعتِهِم يوسف الخال، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، ومحمّد الماغوط، وفؤاد رِفقة. ولكنّ نشاطَه الأدبيّ لم يقتصر على المشاركةِ في ما كان يُعقَد من لقاءات ويدور من نقاش، بل تجلّى أيضاً في ممارسته الكتابة الإبداعيّة والنقديّة، فخصَّ مجلّة الأديب وملحقَ جريدة النهار بمجموعةٍ من قصصهِ القصيرة، ونشرت له مجلّة شعر في عددها الثاني (نيسان عام 1957) ترجمةً لعلّها الأفضل، لقصيدةِ ت . س . إيليوت "أربعاء الرماد"، أرفقها ببحثٍ مطوَّل عن هذا الشاعر الإنكليزيّ المتألّق. وظهرت له في المجلّة دراسةٌ نقديّة بعنوان "السمفونيّة في شعر أدونيس"، شكّلت فاتحةً لصداقةٍ طويلةٍ وثريّة بصاحبِ قصائد أولى، وأوراق في الريح، وأغاني مِهيار الدمشقيّ.

ويُخطئُ مَن يظنّ أنّ نشاطَه الأدبيَّ هذا كان مرحلةً عابرةً في مسيرته، لأنّ مَن تملَّكَ قلبَه وقلمَه يوماً حبُّ الأدبِ لن يجدَ إلى الفِكاكِ منه سبيلاً ما حيي. ويُمكنُك أنْ تستشفَّ هذه النزعةَ المتأصّلةَ فيه من خلال حرصِهِ على إضفاءِ مسحةٍ من الأناقةِ على كلّ ما يكتب، بل من خلال سعيه إلى الملاءمةِ بين تحلّيه برصانةِ الباحثِ والتزامِه مقتضياتِ المنهجِ العلميِّ الصارِم، من جهة، وميلِهِ، من جهةٍ ثانية، إلى ترصيعِ كتاباتهِ بفيضٍ من التراكيبِ والصورِ الناضحةِ ببلاغةِ التعبير والتماعاتِ الشِعر.

ولا يسعك على كلِّ حال إلاّ أنْ تقدِّرَ عنده، وهو خِرّيجُ نظامِ التعليمِ العالي الانكلوساكسونيّ، إيثارَه الكتابةَ بلغةِ الضاد، رُغمَ إتقانِهِ لغةَ شكسبير، ووضعِهِ فيها مؤلّفاتٍ ارتقَت إلى مرتبةِ المراجع. ويتعاظمُ هذا التقدير حين تكتشفُ أنَّ هذا الأستاذَ في الجامعةِ الأميركيّةِ في بيروت قد قرَّر، عن سابقِ تصوّرٍ وتصميم، الكتابةَ بالعربيّة، رُغمَ معرفتهِ بأنَّ الأنظمةَ الإداريّةَ المتبَعَةَ فيها لم تكن تعطي ما يُنشَرُ بهذه اللغة وزناً كبيراً لأغراضِ الترقيةِ الأكاديميّة. وهو لم يستوحِ في توجّهه هذا خياراتٍِ قوميّةً فحسب، وثيقةَ الارتباطِ بمفهومِهِ للهُويّةِ والانتماء، بل جسَّد إيمانَه بدورِ المثقَّفِ ورسالةِ الكاتب في بيئته، وبمسؤوليّته عن توظيفِ معارِفِهِ ونتائجِ أبحاثِه في خدمةِ مجتمعه، وضرورةِ مخاطبةِ أبناءِ هذا المجتمعِ بلغتِهِم، إنْ هو أراد فعلاً المساهمةَ في عمليّةِ تنويرِهِ وتطويرِهِ وتنميته.


رابعاً - منير بشّور الصديق

لم أحظَ بفرصةِ التتلمذِ على منير بشّور، ولكنّي حظيتُ بامتيازٍ كبير، منذ نَعِمْتُ بصداقتهِ الرائعة. وأجملُ ما فيها أنّها نشأَت في مرحلةِ النضوج، وفي سياقِ تعاونِنا على تحقيقِ سلسلةٍ من النشاطاتِ والمشاريع.

فلقد تشارَكنا على مدى أربعِ سنوات (1995-1999)، في عضويّةِ هيئةِ التخطيطِ والمتابعة، التي عُهِدَ إليها في المركزِ التربويِّ للبحوثِ والإنماء بالإشرافِ على ورشةِ الإصلاحِ التربويّ، ووضعِ الخطوطِ العامّةِ للمناهجِ الجديدة، وتنسيقِ عملِ اللجانِ الفرعيّة، ورسمِ الخُطَطِ والاستراتيجيّات.

وساهمنا، في عام 1997، بمبادرةٍ من الهيئةِ اللبنانيّةِِ للعلومِ التربويّة، وإشرافِ الزميل عدنان الأمين، في تأليفِ كتاب التعليم العالي في لبنان. ثمّ أشرفنا، في عام 1999، مع زميلِنا رؤوف الغصيني، على إعداد كتاب الدولة والتعليم في لبنان. ونظَّمنا، في عام 2002، بمبادرةٍ من اللجنةِ الوطنيّةِ اللبنانيّةِ لليونسكو، نَدوةَ "التعاونِ بين المؤسّساتِ التربويّة لتحسينِ نوعيّةِ التعليمِ في لبنان".

وجمعَتْنا، في مكتبهِ في الجامعةِ الأميركيّة، أو في مقرّ المكتب الإقليميّ لليونسكو، لقاءاتُ عملٍ طويلة ومكثَّفَة. وضمَّتنا، في بيروتَ، ودمشق، والإسكندريّة، ودُبَي، والمنامة، وباريس، وغيرها من العواصِم، مؤتمراتٌ كانت لنا فيها مداخلات، ودارت بيننا على هامشها حواراتٌ ومكاشفاتٌ في شؤونِ التربيةِ وشجونِها، وفي أحوالِ الوطنِ ومعاناةِ أبنائه، وفي قضايا الكونِ وأسرارِ الوجود.

فشكَّلَت هذه النشاطاتُ والمشاريعُ واللقاءاتُ التي انخرطنا فيها، إطاراً ملائماً لتعارفٍ معمَّق، سرعانَ ما أفضى بنا إلى المودَّةِ التي توثَّقَت عراها ووشائجُها، وما لبثت أن ارتقت إلى مرتبةِ الصداقة.

فإنّها لَصداقةٌ أفخَرُ بها وأعتَزّ، لأنّها تأسَّسَت على إيمانِنا المشتَرَك بمنظومةٍ من المبادئ والقِيَم التي نستوحيها في عملنا، وفي طليعتها : الحريّةُ، والديموقراطيّةُ، والعدالةُ، وكرامةُ الشخصِ البشريّ. ولأنّها تستقي نُسْغَها وتستمدّ حيويّتَها من سعينا المشتَرك، على ضآلةِ الإمكانات وتواضعِ الإنجازات، إلى إقامةِ نظامٍ تربويٍّ سويّ، يؤمّنُ تكافؤَ الفرص، ويضمَنُ جودةَ التعليم، ويحفِّزُ على الابتكارِ والتجديدِ والإبداع، ويُسهمُ في الاندماجِ الوطنيّ، وتوطيدِ السلمِ الأهليّ، وتحقيقِ الإنماء المتوازن، وتطويرِ المفاهيمِ والبِنى والعقليّات، وإحداثِ التغيير المَنشود، وبِناءِ المستقبلِ الزاهِر.

وإنّها لَصداقةٌ أفخَرُ بها وأعتزُّ، لأنّها قامَت على قاعدةِ الانفتاح. فلم تَعرِفِ الأثَرَة، وأبتِ الانغلاق، وتخطَّتِ الحواجزَ والحدود. ولئن ترسَّخَت جذورُها في أرضِ لبنان، وحبِّ لبنان، فهي تحتضنُ همومَ العالمِ العربيّ، على امتدادِ أرجائهِ، وتتَّسِعُ دائرَةُ تطلّعاتِها إلى آفاقِ الإنسانيّةِ الجامعة.

فدعوني أعترفُ أمامَكم بكلِّ بساطَة بأنّي مَدينٌ بهذه الصداقة لِما في قلبِ منير بشّور من حبٍّ دفّاق، وسخاءٍ غامِر. ودعوني أعترفُ بالبساطَةِ عَينِها بأنّي لا أُقدِّرُ في منير بشّور مزايا المربّي، والأديبِ، والمفكِّرِ، والباحثِ فحسب، بل أحبُّ فيه الإنسانَ أيضاً.

أحبُّ وجهَهُ المنوَّر، وابتسامتَهُ البشوشة، وجبينَهُ الوَضّاح. وأحبُّ قصّةَ الحبِّ الرائعةَ التي نسج خيوطَها مع أميرةِ قلبهِ كاترين. وفضلاً عن براءتهِ التي تذكِّرُكَ بأميرِ سانت اكزبري الصغير، أحبُّ فيه تواضعَهُ الجمّ، ودماثتَهُ الآسرة، وشفافيّتَهُ الساطِعَة، وهدوءَهُ الرزين، وحماسَتَهُ الجيّاشَة، وطيبَةَ أبناءِ الريفِ وصلابتَهُم.

وقد اكتسَت هذه الصداقةُ أبعاداً فكريّةً وعاطفيَّةً معاً، فتميَّزَت بنكهةٍ خاصّة يتداخلُ العقليُّ فيها بالروحيّ.

فدَعوا العقلَ يعترِفُ بِما قاسَهُ مِن عمقِ أفكارِهِ، ورحابَةِ تطلُّعاتِهِ، وغِنى إبداعاتِهِ !

ودَعوا القلبَ يَبوحُ بما خَبَرَهُ من رهافَةِ عواطِفِهِ، وصِدقِ مودَّتِهِ، وأصالَةِ محبَّتِهِ !

ودَعوا عقلي وقلبي يَهتِفانِ بالشُكر لِمنير بشّور، رسولِ التربيةِ الأمين، وفارسِ الصّداقةِ النبيل !

بين النار والنور

 كلمة الدكتور منير بشّور

        الصديق العزيز الأستاذ جورج أبي صالح، مدير هذه الجلسة.

        من مكاني حيث أجلس على هذا المنبر، أنظر وأستمع إليكم، وتصلني كلماتكم، كما نسمات الربيع، تحمل أريج زهرِ الليمونِ في انطلياس، أستمع وأشعر بامتنانٍ كبير لكم شخصياً، لترؤسكم هذه الجلسة ولكلماتكم الطيبة، وبامتنانٍ وشكرٍ إلى الحركة الثقافية في انطلياس، وإلى أمينها العام، ولجنتها الإدارية بشكلٍ خاص، لاختياري بين مكرّميها لهذا الموسم الثقافي، ومن مكاني على هذا المنبر أستمع أيضاً الى الصديق العزيز الدكتور هنري العويط الذي تكرَّم بتقديمي، والذي كلّما استمعت إليه أتعلّم منه، وأشعر بارتواءٍ روحي عميق. وإلى الصديق العزيز الدكتور رؤوف غصيني والصديق العزيز الدكتور مسعود ضاهر وكلماتهما الطيبة. أشعر بالشكرِ والامتنان لكم جميعاً، ولجميع الحاضرين الأصدقاء المحبّين الذين تكبّدوا عناء الحضور في نهاية هذا اليوم المزدحم بالسيارات وفي منتصف الأسبوع. أنظر وأستمع وأتساءَل بيني وبين نفسي: هل أستحقُّ كلَّ هذا الكلامِ الجميل، كلَّ هذا التكريم، وهل أنا حقّاً المقصودُ بهذا التكريم؟.

        كانت الرجفةُ الأولى لهذا السؤال الذي اختلج في صدري عندما وصلني صوت الصديق الأمين العام للحركة ينبئني على التلفون بأن الحركة الثقافية في انطلياس اختارتني لأكون بين مكرَّميها لهذا العام. ثمّ تبعتها رجفة أكبر وأقوى، عندما وصلتني بطاقة الدعوة وفي زاويتها اليمين شعار الحركة الجميل، ثمّ الدعوة لتكريمِ عَلَم الثقافة: التربوي، د. منير بشّور. عَلَم الثقافة! إذن أنا عَلَم؟ وفطنتُ إلى أن عَلَم هي مفرد لأعلام وهي كلمة سمعناها وقرأناها في مجالِ الحديث عن أعلام الدول والحكومات، وهي أيضاً في كتب التاريخ والأدب عندما يتحدّثون عن كبار الكتّاب والشعراء. وبمثل تتابع شريط الصور تذكّرت عبارة تقول: "عَلَم في رأسِه نار"، فقلتُ لنفسي، لعلّ النار في قلبي، لكنها ليست في رأسي قطعاً. أمّا ما في رأسي، فلعلّه نورٌ، أو بعض نور، فارتحت لهذا التفسير، واستكنتُ إليه بعضَ الشيء، خاصة وأنه يتناغم مع الاسم الذي أُطلق عليَّ منذ ولادتي والذي عُرفت به. ولكن ما هو التربويّ؟ هل هو الشخص الذي يهتمُّ بالتربية أو يبحثُ فيها؟ صحيح أنا أهتمّ بالتربية وأبحث فيها، ولكن أنا أيضاً أمارس مهنة التعليم منذ ما يقاربُ النصفَ قرن. فلماذا لم أُعطَ صفة المربِّي، وقد رأيت هذه الصفة تُطلق على بعض الأشخاص في مناسبات معيّنة. أو صفة المعلّم، خاصة وأنّني كنت قد قرأت ما قاله صديقي العزيز هنري العويط في مناسبة عزيزة مثل هذه، منذ عام تقريباً، إبّان تقديمه المكرَّم من هذه الحركة الثقافية نفسها، البروفسور انطوان غصين، حين نقل هنري عنه قولَه، إن "ما من معلّم يستحقّ لقبه هذا ما لم يتفوّق عليه تلامذته، وهو بعدُ على قيد الحياة". خاصة وأنّني أعرف أن بعضاً من تلاميذي، وبعضهم موجود هنا في هذه القاعة اليوم، تفوّقوا عليَّ، ولو أنّهم هم لا يعترفون بذلك. وها أنذا ما زلت على قيد الحياة!.

        بالطبع، اللوم لا يقع على الحركة الثقافية لتوصيفي بالتربوي. وأنا شاكرٌ لها أطيب الشكر وأجملَه توصيفها لي كما تريد. لكن تصوّروا لو وصلتكم الدعوة لتكريم عَلَم الثقافة: المعلّم د. منير بشّور!

        وفي الحقيقة إنّ المشكلة معقّدة، وأصعب بكثير من أن تتمكَّن الحركة الثقافية من حلِّها، أو أن أتمكَّن أنا من حلِّها. لهذا اسمحوا لي بأن أغتنم هذه الفرصة، وأستغلّ الصفة التي تكرَّمت الحركة وأطلقتها عليَّ كَعَلَم ثقافة- وتربوي، أي باحث في التربية، لأتحدَّث عن هذه المشكلة أو حولها، ولأحاول أن أُلقي عليها بعض النور.

        المشكلة في الجوهر، متعلّقة بتعريفنا للعِلْم، وفي تعاملنا مع تعريف العِلْم في الثقافة العربية، وبخاصّة في اللغة التي نستعملها للتواصل في نطاق العِلْم. وهذه المشكلة تتبدَّى بأجلى صورها في ذلك النوع من العِلْم الذي لا هو بين العلوم الطبيعية أو العلوم الصلبة، ولا هو بين العلوم الإنسانية أو الأدبية. فهو يقع بين هذه وتلك في المنطقة الوسط، أو المنطقة الهجينة التي ندعوها العلوم الاجتماعية، والتي تشمل، في ما تشمل، علوم الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس وعلم السياسة، وما يتفرّع عن هذه العلوم من علوم تطبيقية كالتربية والإعلام والإدارة. مشكلتنا مع العلوم الطبيعية أو الصلبة ليست مشكلة تعريف أو فهم لما هي عليه، وإنّما مشكلة وجود، أو قلّة وجود أو ندرته في مجتمعاتنا وثقافتنا العربية. وكذلك بالنسبة للعلوم الإنسانية أو الأدبية، فمشكلتنا معها هي أيضاً ليست مشكلة تعريف، وإنّما، بخلاف العلوم الطبيعية أو الصلبة، مشكلة وفرة أو غزارة في الإنتاج والوجود. أمّا في المنطقة الوسط، منطقة العلوم الاجتماعية، فمشكلتنا هي على طوقين: أي أنها مشكلة مضاعفة، فهي مشكلة تعريف ومعرفة من جهة، كما أنها مشكلة عدم وجود أو قلّته، أو ندرته من جهة ثانية. وتنعكس هذه المشكلة المضاعفة أكثر ما تنعكسُ وضوحاً في اللغة التي نستعملها في إطار هذه العلوم الاجتماعية، وخاصة في تطبيقاتها في ميادين التربية والإدارة والإعلام.

        منذ زمانٍ طويل، وصف فرنسيس بيكون (1561-1626) هذه المشكلة بالصنم أو بالوثن، وأعطاها الموقع الثالث بين الأوثان الأربعة التي اعتبر أنها تقف حائلاً بين البشرية وبين التقدّم والرقيّ، وسمّاها وثنَ السوقِ أو المتجرِ، حيث تختلط الأمور بعضُها ببعض، بسبب الاختلاط في فهم معاني الكلمات. وبعد قرنين من الزمن، في عصر التنوير، عصر الثورة الفرنسية، جاء ديستوت دي تريسي (1754-1836) ليرفد هذه الثورة بالمنهج القائم على العِلْم، فصوّب سهامَه أولَ ما صوّب باتّجاه اللغة، قائلاً: إن تكوين الأفكار وثيقُ الصلة بتكوينِ الكلمات، فكلُّ عِلمٍ يمكن ردّه إلى لغة أُجيدت صياغتها، ومعنى قولنا عن عِلمٍ معيّن أنه تطوّر وتقدَم، هو أن ذلك العِلمَ قد ضُبطَت لغته، لا أكثر ولا أقلّ، ضبطاً يتمُّ إمّا بتغيير أَلفاظه، وإمّا بأن تجعلَ الألفاظُ القائمة أدقَّ في معانيها". (زكي نجيب محمود، في تجديد الفكر العربي، دار الشروق، الطبعة الرابعة، القاهرة 1978، ص 211). أمّا نحن، في ثقافتنا العربية، فما زلنا نخبط في هذه المنطقة الوسطى، أي في منطقة العلوم الاجتماعية بين الألفاظ الخطأ، والمعاني الخطأ.

        إذا كان عندي خلاصة أقدّمها استناداً إلى تجاربي وملاحظاتي خلال هذه الفترة الطويلة من التعليم التي قضيتها في رحاب علوم التربية - ولهذا أنا تربوي، تذكّروا - هو أن أصعب ما يعاني منه طلاّبنا هو تحديد المعاني، كتابة وشفاهة - وهم لا يستعملون القواميس أو المعاجم، وقد يستعملونها في اللغة الإنكليزية أو في اللغة الفرنسية، لكنهم لا يستعملونها عندما يكتبون أو يقرأون باللغة العربية: ماذا تعني بقولك هذا؟. وسألهم، ما هو دليلك، كيف عرفت، ما هو برهانك؟ ويأتيني الجواب دائماً، ولو يا أستاذ، هذا واضح، كلّ الناس تعرفه - أو إذا أصابتهم الخشية، يقولون أن هذا ما قصدت قوله، أو أن هذا ما جاء في الكتاب، أو ما شابه.

        لا تلاميذي فقط، وإنما كبار الكتّاب والمفكّرين: في عيد المعلِّم الذي مرَّ علينا منذ أيام كتب رجل دين بارز يواظب على الكتابة كلَّ أسبوع، قائلاً: "ربّما كان هذا هكذا في أحيان"، والكلام هنا لرجلِ الدين الذي يتابع فيقول: "يقول لنا علماءُ النفس أن بين مَن يَختارون مهنة التعليم ساديِّين تتطلّب نفوسهم معاقبة التلميذ..." (المطران جورج خضر في النهار 7/3/2009). فمن أين جاء لنا هذا الكاهن المحترم بهذه المعلومة نقلاً عن علماء النفس، ومن هم هؤلاء العلماء؟ أم أنه افترض، استناداً إلى ملاحظات شخصية عن بعض المعلّمين الذين يعرفهم، والذين يعاقبون التلاميذ، أنه لا بدَّ أن يكون هؤلاء ساديُّون، وأن نفوسهم تطلب معاقبة التلميذ، وأنهم لا بدّ اختاروا مهنة التعليم لأنهم ساديّون، وأن لا بدّ أن يكون عالِم من علماء النفس على هذه الأرض الواسعة، قد لاحظ ذلك، وتحدَّث به أو كتب عنه- وهؤلاء هم، أي المعلّمون، على أية حال، بين من اختاروا مهنة التعليم لا كلّهم... فلو أسند الكاتب المحترم رأيه إلى خبرة أو ملاحظة شخصية وقدّمها على أنها كذلك، لهانت المسألة، ولكن لماذا ينسبها إلى علماء النفس- علماء النفس كلّهم، لا واحداً أو بعضاً منهم- فيصيب عِلْم النفس، كما يصيب ذهن القارئ بالتشويش والفوضى والاضطراب، إن لم نقل أكثر.

        وكذلك الشاعر الكبير أدونيس، الذي أحبّه كثيراً، والذي تربّيت على شِعره فيما تربّيت، فهو أيضاً يكتب، منذ أيام، في مداراته الأسبوعية في جريدة "الحياة"، بعد زيارة قام بها إلى عُمان، أن أيامه الخمسة هناك تؤكّد له، أن "الشِعر هو الضوء الوحيد لقياس المسافة بين الإنسان والحقيقة." (جريدة الحياة 5/3/2009). ما أجمل هذا الكلام، وما أروعه، ولكنه كلام خطأ، لأنه يتناول مسألة لا علاقة للشعر بها، ولا للأدب. ليس الشعر هو الضوء، ولا هو قطعاً الضوء الوحيد، لقياس المسافة بين الإنسان والحقيقة. وليس هو مقياساً لقياس أيّ شيء، بين أية مسافة من هنا، أو مسافة من هناك...

        المشكلة ليست في الشِعر طبعاً، ولا في الأدب، وإنما في استعمال الشعر والأدب في المكان الخطأ. وهكذا تزحل بنا اللغة تدرجياً وبالممارسة في صفوف المدارس، وعلى المنابر، وفي الصحف وفي الكتب والمنشورات، وتجرفنا من الكلام الجميل في الموقع الخطأ، إلى الكلام الخطأ في الموقع الخطأ، فتتحوّل الميزانيات من مئات المليارات إلى مئات الملايين، والريال السعودي إلى الدولار الأميركي، بدون أن يرفّ للكاتب جفن، وتُحذف الحواشي والمراجع من أبحاث مهمّة لضيق المساحة، بينما يذهب ربع الصفحة هباءً في مقدّمة لا معنى لها عن الزواج المدني، تأتي لتقدّم أشخاصاً أُجريت معهم مقابلات صحفية لا يعرّف عنهم بشيء سوى بأسمائهم المجرّدة.

        للشعر وللأدب مكان هام في حياتنا بدون شكّ. وكذلك للرأي، ولكنني أفترض أن إعطاء الرأي بدون برهان أو دليل، وبدون مرجع، وبالتالي الوعظ، هو نوع من الاعتداء على القارئ أو من الاستعباد له، بينما إعطاء الدليل أو البرهان، تزويد القارئ أو المستمع بالمعلومات ليتعرّف بها ويستخلص منها ما يريد، هو احترام له، كما أنه يحرّره ويُطلق له الإرادة ليستخلص ما يريد كإنسانٍ حرّ.

        ما نحتاجه في ثقافتنا العربية هو إيقاف هذا الزحف من الشعر والأدب باتجاه العلوم الاجتماعية، ورسم الحدود، والسعي لوضع الكلام الصحيح في الموقع الصحيح. وأنا لا أقول جديداً هنا، فقد قال المتنبّي هذا القول بصورةٍ أجمل وأروع بكثير، حين قال:

              ووضعُ الندى في موضعِ السيفِ في العُلى    

                                                مُضِرٌّ كوضعِ السيفِ في موضِعِ الندى.

        أيُّها السيّدات والسادة، أيُّها الأصدقاء والأحباب،

        لقد بدأتُ كلمتي بالإشارة إلى رجفةٍ أصابتني عندما تسلّمتُ بطاقةَ الدعوة إلى هذا التكريم كما ذكرت في مطلع كلامي وعليها التعريف بي في عَلَم الثقافة. واسمحوا لي أن أنهي حديثي هذا بقفزة، بدل الرجفة، أربط بين ما أقوله عن أهميّة تحديد الألفاظ والاتّفاق على معانيها، واستخدامها بالشكل الصحيح، وبين هذه الأزمة الوجودية التي نعاني منها نحن هنا في لبنان، منذ قيام الدولة والتي تفجّرت في العام 1975، ولا تزال تعصف بنا، ونحاول مرّة بعد مرّة احتواءها أو تغطيتها بما نسمّيه الحوار والدعوة إلى قبول الآخر.

        إنّني أدّعي في هذه القفزة العريضة في نهاية كلامي أن الاتفاق على معاني الكلمات وتحديد معاني الألفاظ هو شرط ضروري ومسبق لنجاح أيّ حوار على أيّ مستوى في لبنان، وأنه بدون هذا الاتفاق يبقى كلّ حوار مضيعة للوقت.

        أشكركم جميعاً على حضوركم، وتحية لكلّ واحد وواحدة منكم أبعثها من هذا القلب الذي يخفق في صدري بنار المحبة.