تكريم الدكتور دياب يونس
كلمة المحامي جورج بارود بمناسبة تكريم د. دياب يونس
في المهرجان اللبناني للكتاب في الحركة الثقافية – أنطلياس
بتاريخ 6/ 3 / 2024.
أيها الحضور الكريم،
أعَلمٌمن نُكرم اليوم أم نجمٌ ساطع في دنيا الثقافة والفكر والادب واللغة والبلاغة والخطابة والادارة والقانون؟
معلمٌ فقيه، مبدع ومفّوه، محدث وخطيب، ملهم وقائد، هو "دياب يونس".
إسمه يختصر كل الالقاب، فلا لقب يسبقه أو آخر يليه، أوَيحتاج جبران خليل جبران أو نيتشه أو طه حسين أو جان بول سارتر أو ألبير كامو، أو ألفرد دو موسيه أو موريس غارسون أو أمين معلوف أو سعيد عقل إلى ألقاب تُعرّف عنهم.
قُل دياب يونس ويكفي.
دخل علينا في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي معرّفًا عن نفسه بأنه أستاذنا للغة العربية وآدابها وكنا لا نزال طرابين رخصة لم يطّرَّ الشارب منّا بعد.
افتتح الحصة بالنشيد الوطني اللبناني، وأبلغنا بأنه لن يدع واحدًا منّا لا يفقه اللغة العربية ويعشقها إن تلمسنا خطاه وتبعنا وصاياه وسلكنا دربه وحفظنا ما يمليه علينا.
وبدأ بمقدمة تتصل بجمال اللغة وحلاوة الادب وسهولة القواعد بعكس ما كان يخالجنا من شعور عند ولوجنا الاعراب والصرف والنحو في بطون كتب القواعد المدرسية وعلى أفواه معلمي هذه المادة، ما استحوذ انتباهنا وأدخلنا في عالم من السحر والنشوة أمام غمر من الفصاحة والبلاغة والجمال في العبارات المنسكبة على لسان أستاذ يسكرنا بكلماته وبتنا ننتظر حصصه من أسبوع إلى آخر بفارغ الصبر وراحت الروائع تتوالى وتتكاثر من حصة إلى أخرى.
ففي القواعد بتنا نشعر بلذة العبارة وحلاوتها كتابةً ونطقًا بعدما وقفنا على سهولة تركيبها ابتداء من الفعل ومشتقاته، مرورًا بالاسم والصفة والحال والتمييز والتفضيل وصولاً إلى حل أحاجي العدد وقّض مضاجع الهمزة وغلبة الكسرة فيها على الضمة ثم الفتحة عند توسطها الكلمة وهي متحركة وما قبلها متحرك؛ إلى ما هناك من الاغتباط عند شعورك بتملكها، فبتنا في نهاية العام الدراسي نتحكم بنواصي اللغة العربية كما قال لنا في بدايته.
أما عن الادب، فجواهر تتلأْلاْ من فم فنّان شغفه نحت العبارة كتابة وقولاً؛ وكأنه مبدع تمرّس في حكّ الالماس وتركيب النفيس منه على الذهب الخالص المعّد لتزيين الملكات من الكلمات والالفاظ، ما دفعنا إلى تذوق النتاج الادبي بعدما وقفنا معه على أساطينه من الادباء المعاصرين والشعراء: كالياس أبو شبكه وسعيد عقل وأمين نخله وصلاح لبكي وشارل قرم ومحمود تيمور ولا مارتين وألفراد دوموسيه إلى ما هناك من الشعراء والادباء، مقارنًا بين العربي والاجنبي منهم.
وكان يردد علينا بأن دراسة الادب وتذوقه يحصلان في الصفوف التكميلية، أما في الصفوف الثانوية فيحفظ حفظًا.
غاب عنّا دياب يونس سنة ثم عاد إلينا مع بدء العام الدراسي في الصف الثانوي الاول... فوقفنا على ما يمتلك هذا العبقري من تعمّق في اللغة العربية من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث مرورًا بالعصر الاموي والعباسي والشعر الاندلسي وأدب الانحطاط ثم النهضة، ورحنا نسرح مع المعلقات وغزليات جميل وعمر، ووصف ابن الرومي وبدائعه الكاريكاتورية وتطيّره، وفخر المتنبي ومدحه وهجائه وروائع البحتري وتصوف الحلاج ومجون أبي نواس وخمرياته، فأصبح الادب العربي هوايتنا والكتابة لذتنا والخطابة ملعبنا.
أما قوله بأن الادب يُحفظ في الصفوف الثانوية ويدّرس في الصفوف التكميلية فيصح مع سواه من معلمي اللغة العربية، لكن تذّوق الادب معه يتم في أية مرحلة وحيثما علّم وحلّ.
هذا هو دياب يونس المعلم.
أما دياب يونس الاديب فيكفي أن تتصفح أحد مؤلفاته: مواكب الابطال أو وقفات ومواقف، أو الخطابة القضائية، أو أربعماية وعشرون يومًا في البقاع لتقف مشدوهًا ومسحورًا بأسلوبه وعباراته. فهو يشدك إلى قراءته والتعمق بما يختزنه بأشكال شتى من التنميق والنقش والنحت والتركيب، فهو في البلاغة سيّد ، وفي الفصاحة عملاق، وفي الجمال ملك، أوجز أو أطنب، اختصر أو استطرد، اشاد أو انتقد، خاطب أو حدّث.
ويكفي أن كرّمه سعيد عقل ومنحه جائزة على أجمل كلمة قالها؛وكتب في مقدمة ديوانه 420 يومًا في البقاع: " وكان لنا منه، بخاصة ،هذا الكتاب المزدهي بأشياء الاناقة والجمال، النابض بكلمات النار، المزنر بالجرأة والصدق، المخضوضب بالحنان الذي يتراءى فيه القاصّ والمفكر والصوفي والشاعر".
بيد أنك إن سمعت دياب يونس خطيبًا، فلا تتوانى عن متابعته بشوق العاشق إلى حبيبته، مسحورًا بوقفته، سكرانًا بعباراته وكلماته. وقد قال فيه المطران جورج خضر: أن الموارنة هم أهم الخطباء عند العرب وأن دياب يونس هو أكبر خطيب عند الموارنة، ويصعب كثيرًا على من يليه الكلام بعده.
وعن وطنيته، فلبنان عنده قدس الاقداس، هو دينه وديدنه. وقد أجاب الصحافية الفرنسية يوم استوضحته رأيه في بعض ما توفر لديها من معلومات ونتائج: "اسمعي يا آنستي، ديني هو لبنان، وطائفتي هي المعذبون والمحرومون والمهمشون في لبنان. هي المسيحية علمتني، منذ نعوفة أظفاري وحفرت في قلبي وعقلي، وأمرتني أن أحب الناس بدءًا من الغير، وأن أخدم المناطق بدءًا من الاطراف؛ وهل كثير على من اتبّع المسيح أن يراه في الجائع والعطشان، والخائف والمقرور، والسجين والمريض، فيهرع إلى زيارته وإطعامه وإرواء عطشه والتخفيف عنه..." وختم: "آنستي هذا المسلم أتاح لي أن أكنه مسيحيتي، وأسبر فضائلها، وأدرك أبعادها وأحيا رسالتها وأحول لبنان فردوسًا، وأبارك العناية الالهية التي وضعته على دربي وأوصتني به أخًا ورفيقًا أبديًا".
وقد قال في وطنيته سعيد عقل: "وكان لمحافظنا قلم مشتعل بالله وبلبنان"
أما هو فيقول:" لا فاصل عندي بين عروبتي ولبنانيتي ومسيحيتي وإنسانيتي؛ وفي هذه جميعًا يكمن الاسلام".
ودياب يونس يكره التطييف وينبذ الطائفية ويحارب من أجل الوطن العلماني علمانية كاملة لا تميّز بين المسيحي والمسلم، تقوم على أسس الديمقراطية والتحرر والمساواة الاقتصادية والمدنية والسياسية. وعلمانية الوطن الكاملة برأيه هي الحل.
أما دياب يونس الاداري، فهو وإن ولج الوظيفة العامة مُكرهًا، قد لبّاها لشعوره بحاجة الدولة إليه. ويكفي أن تقف على ما كان يخطط للبقاع غداة تعيينه محافظًا له، على صعيد الاعمال والخدمات، وعلى الصعيد التربوي والاجتماعي والطبي والزراعي والصناعي والانمائي، حتى تتلمس غيرته على الادارة التي تؤمن للمواطن حقه وترسخ علاقته بوطنه. ولمن يرغب في الاستزادة مراجعة ديوانه " 420 يومًا في البقاع الصفحة 39 وما يليها بعنوان " هكذا نلبنن البقاع ويلبنننا".
لقد آمن دياب يونس بالادارة النظيفة المنزهة عن الفساد المبنية على نظافة الكف والانتاج، القائمة على الانماء المتوازن، فلا فضل عنده لمدينة على قرية، ولا ترجيح لمنطقة على دسكرة. وهو لم يتوانَ عن ختم دائرة لديه بالشمع الاحمر لعدم اختفاء الدليل يوم تناهى إليه أمردفع رشوة إلى رئيسها، فحوله دون إبطاء إلى التفتيش المركزي لينال أقصى العقاب. كما أنه لم يتأخر في الاستعانة بعناصر الدفاع المدني لانجاز معاملات مكدسة في دائرة النفوس، بعدما نصب خيمًا على سطح الدائرة؛ وكان يردد دومًا على مسامع الموظفين: إن الوظيفة تقوم على ثالوث مقدس، أقانيمه التقيد بدوام العمل والانتاجية العالية ونظافة اليد، ولن أسمح بتدنيس هذا الثالوث.
وعظمة دياب يونس تتجلى بكونه محاميًا وقانونيًا، فخذ كتابه: "الخطابة القضائية أو تعريبه لرسالة في الخطابة القضائية لموريس غارسون، لتقف عند براعته وطول باعه في علم القانون لاسيما الجزائي وبالاخص الجنائي منه. ومن يسمعه مترافعًا أو يضطلع على لائحة أو مذكرة له تدهشه بلاغته وفصاحته، في مجال الادعاء كان أو الدفاع؛ ما يكفي لتكوين القناعة لدى المحكمة والسامعين بما أوكل به أو توكل عنه.
فيا معلمي،
لا أبالغ إن اعترفت في هذه المناسبة بتأثيرك الكبير عليّ وعلى زملائي ممن حالفهم الحظ وتتلمذوا على يديك. فكنت لي ولهم المعلم والمرشد، ولا زلنا نحبو إليك لتشبع ظمأنا كلما ألّم بنا عطش أو اشتد علينا ضيم، فنستمد منك القوة والجرأة والرجولة والتمسك بالقيم.
وما تكريمك الليلة سوى مفخرة للحركة الثقافية- أنطلياس بإلقائها الضوء على مفكر ومبدع ومثقف وقائد وهو بعد على مقاعد الدراسة. وقد أسّر لي زميلنا وكبيرنا الدكتور أنطوان سيف بأن حركة الوعي في الجامعة اللبنانية كانت في حاجة إلى قائد وكان دياب يونس قائدها. فكان عندما ينتصب خطيبًا على المنبر يجتذب المؤيد والمعارض ويتكوكب حوله الطلاب من اليمين كانوا أم من اليسار. فكان يشكل ظاهرة يندر وجودها.
إننا بالرغم من السنوات المتعاقبة لا نزال نجد فيك الشباب يشتعل والرجولة تنبجس والنخوة تتجلى، فكنت ولا تزال نبراسًا وقائدًا وبدرًا يفتقد في الليالي المظلمة.
فيا معلمي،
عندما زرتك لابلغك بأن حركتنا الثقافية قررت تكريمك، سألتني عن السبب. أفلا تشكل الملكات والمناقب التي ذكرت سببًا كافيًا لتكريمك؟ ومن أحق به منك؟
فهنيئًا لك التكريم، وشرف كبيرٌ لا أستحقه أحاطتني به الحركة عندما كلفتني إدارة الحفل والكلام عليك.
___________________________________________
تقديم إ. جورج مغامس
تزاملنا ونحن لا نزال سنابل طرية لم يصل قمحها بعد إلى مرحلة البلوغ.
شلّة كنا على مقاعد مدرسة سيدة اللويزة، يدفعتا حب المعرفة التطلع إلى ما وراء النجوم، يختزن كل منا طاقات تنتظر من يفجرها.
على رأس هذه الشلة ثالوث مكون من جورج مغامس وجورج قرداحي وجورج بارود، ووكان دياب يونس الكيمياء التي فتّحت البراعم الندية، ونفحت فينا حب الادب ومكنتنا من اللغة العربية، ونمّت فينا روح العنفوان والالتزام بالمبادئ الوطنية.
بعد تخرجنا، سلك كل منّا طريقه في الحياة، فجورج قرداحي إلى الاعلام، والداعي إلى القانون والمحاماة، أما جورج مغامس فإلى الادب العربي؛ واختياره هذا لم يكن مفاجئًا، فهو منذ نعومة أظفاره إن كتب يكتب أدبًا وإن تكلم أو تحدث يقول أدبًا وإن تنفس يتنفس أدبًا.
خلال تخصصه مارس تعليم اللغة العربية والادب العربي واستمر بعد نيله الاجازة فيهما. ونحا صوب الاعلام الاذاعي التزامًا منه بالواجب الوطني، وبرع فيه، وأصبح مديرًا للبرامج في إذاعةصوت لبنان. لكنه هجر الاعلام كرهًا بالسياسة وتفّرغ إلى الادب الذي أحبه. وتعيّن في جامعة سيدة اللويزة مديرًا للشؤون الثقافية والاعلامية وأشرف على إصدار مجلة سبيريت Spiritالموسمية فيها، وكان قد ألف من الكتب ما يزيد على أصابع اليد الواحدة،
وفاضت غزارة التأليف لديه بعدما تفرغ للعمل الثقافي الجامعي ففاقت مؤلفاته العشرات من الكتب الادبية على اختلاف أنواعها.
أحب جورج مغامس مذ كان على مقاعد الدراسة الادب الرمزي واختاره أسلوبًا في كتاباته ودواوينه فنصه يكتب للنخبة من القارئين ومحبي الادب. إنه يبتعد عن السهولة وينحت في سبك التعابير، يرغب أن يتابعه القارئ أو السامع بانتباه مطلق، ويفتش عن ما يرمي إليه من المغازي أو المعاني في سطوره.
بارع هو جورج مغامس إن كتب نثرًا أو أنشد شعرًا، وقد تجلت ملكته الادبية أخيرًا في كتابة اللغة المحكية، فهو يُتحفنا كل يوم بقطعة من بدائعه وروائعه على صفحات التواصل الاجتماعي.
إليكم جورج مغامس مغامس يكرم أستاذه ومعلمه دياب يونس.
_____________________________________________