في تقديم كتاب موريس أبو ناضر "التنوير في إشكالاته ودلالاته"

يطلّ علينا في ليالي كانون الملبّدة ، وصفحاته الباردة ، دفء كتاب يسلّط الضوء على التنوير، في زمن كثر فيه الحديث عن الظلامية والجهل والقمع والإستبداد. كتاب يحمل في طياته همّ العقل وإشكالياته المعرفية، محاوراً مضامين الفكر النهضوي. يحفر في الخطاب العربي وينخر في مسامه ليعثر على عبيرٍ مشعٍ محتبسٍ في موقف أو مقال أو دراسة. يغوص في أعماق النهضة، ويفكك أسس الحداثة، ويسائل من ساروا في طريقها للتوصل الى مزيد من العقلانية، وإرساء قواعد التجديد الفكري.

همّ النهضة، ومشروع التنوير باتا يشكلان أفقاً يصعب ، بل يتعذّر الوصول اليه والغوص في ما يُخفيه. الكلّ منهمكٌ بأمور أخرى قد تبدو أكثر إلحاحاً. فسهام التحرير تُوجّه نحو أفقٍ آخر، وهي لا تستهدف قيود العقل ولا حُجب الجهل التي تستر وجه  الحقيقة بالف سواد وسواد.الحراك الإجتماعي ، كما الثقافي يتلهّيان بأمور عدّة، بينما المطلوب ينتظر في مكان آخر من يدّق ولو على سبيل الصدفة بابه. إن المعارك التي تُخاض اليوم بعيدةٌ بعيدة عن الهمّ المعرفي. كثرٌ هم الذين يرفعون رايات التحرير والتنوير والإصلاح والتقدّم، يدّعون العلم بحقيقة الأشياء وما تُخفيه طياتها، من دون الإنتباه الى جوهر المسألة وصلب موضوعها. وحدها أرقام الإحصاءات تشير الى هول الكارثة. فالأمية، والجهل ، والتخلّف، والبطالة، والفقر، والقمع، والسجن، وانتهاك أبسط حقوق الإنسان كلّها حالات تزداد تأزّماً، وأرقاماً تزداد تضاعفاً من دون هوادة.

بات للحداثة وجه آخر، وللتنوير عقل آخر، وللنهضة راية أخرى. كل شيء أكتسب معنى مفاجئا لم يتوقعه احد. انقلبت المقاييس على رأس واضعيها، وانفلشت سرابا في الأفق البعيد.

ينبت في هذا الصقيع غصنُ تنويرٍ يكشّح خيبة المتفرّج الجالس على شرفة اليأس راصداً مشهد التدهور، لكي يفرش بساطاً لوّنته خصوبة التفكّر الجدّي في مسائل العقل والحداثة والتنوير. يظلل بصفحاته الخضراء مساحات مثمرة رسمها مبدعون سبق أن مرّوا من هنا، قالوا ما لديهم ورحلوا، يلملمون بقايا أحلامهم وطموحاتهم المتبعثرة.

قلمٌ مميزٌ بدقّة صاحبه، وموضوعيةِ اليدِ التي تُمسك به، وعمقِ النظرةِ التي ترسم مساره. نحاتٌ على مقام المختلف والمتجدّد،لا يرضى النسخ عن نموذج سبق، أو التقوقع في زاوية فكرية متعالية. موريس أبو ناضر، واحدٌ من الذين جار عليهم الدهر فأصبحوا مفكرين يحملون همّ الإنسان العربي الرازح تحت نير رغبات التحرر والنهوض  المكبوتة والمُجهَضة في أفضل الأحوال، ويوجعهم تدهور حال الأمة وتعثّر خطاها. مستنفَرٌ، يشدّ الرحال في اتجاه الأشكلة والبحث عن الأسباب وتقييم النتائج. تراوده أفكارٌ مشبوهةٌ تحثّه على طرح الاسئلة الكامنة في خفايا وعيه.

"التنوير في إشكالاته ودلالاته" يصل الى يدك محملا على متن أربعة فصول تتنقّل بك بين الفكر والأدب والإجتماع والإعلام ، لتشير الى المسار التنويري فيها. يتجوّل المؤلف في داخل كل فصل ، من نص الى آخر برشاقة وسرعة ولباقة ، حتى أنك لا تكاد تتوقف عند عنوان لفت انتباهك حتى تجد نفسك على عتبة عنوان آخر.لا يداهمك الضجر وأنت تقرأ نص موريس أبو ناضر. يعرف كيف يجذب نظر القارئ ، فعناوينه ملفتة بألفاظها كما معانيها، وتعابيره أنيقة، تحمل المعنى بأبهى حلّة. "اللغة بيت الوجود"، و"اللفظ يسير والمعنى كثير"،"عودةٌ الى ذكورة التاريخ وأنوثة الذاكرة"،"في أن التاريخ حقيبة مليئة بمفاتيح الغيب"، ثقافة الفضائيات العربية... ترفيه وبيع أحلام"...عناوين أينعت ثمارها وهي تنتظر عيوناً كِحلُها عربيٌ لتقطفها.  

"ما الفائدة من الكلام الذي لا يصل؟" سؤال يطرحه المؤلّف في مقدمة الكتاب، قاعدته تربوية، يهجس بالتواصل والتحاور المُجدي، ويعيد النظر في جدوى الكتابة المعقّدة المجبولة بالغموض والفراغ. كل ما في الكتاب ينمّ عن رغبة عميقة بلقاء القارئ العربي، الى أي قاعدة انتمى، لايشترط عليك إلا أن تواكب خطواته بدقة وإصغاء.  أسلوبه يدخل مباشرة الى عقل القارئ ووجدانه ، محمّلا بأكثر من همّ فكري، وطارحاً أكثر من تساؤل.أجل، لقد وصل الكلام الى آذان صاغية:الى أستاذ  الأدب العربي في الجامعة اللبنانية، الدكتور ربيعة أبي فاضل، كلماته المعطرة بالجدية والموضوعية مرحبٌ بها دائماً في القلوب كما في العقول، ودقة أبحاثه تشهد لعمق ورصانة ما يقدّمه.

كذلك وصل الكلام أيضاً الى أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، الدكتور أنطوان سيف، الذي سار في طريق الحكمة مسلّحاً برهافة تعابيره، وسعة اطلاعه، يسبر أغوار المستور بدقة واحتراف.

كأس الادب المتأجّج خمرها زيّنت مأدبة الفلسفة في أغورا انطلياس ، فتواعد في هذه العشية الأدب مع الفلسفة احتفالا بمولودٍ ذكرٍ معمّدٍ على إسم "التنوير في إشكالاته ودلالاته". فهنيئاً لأهل الصبي بقدومه خرقاً للعقم الفكري، وإثباتاً على أن الأدب والفلسفة شريكان في السعي وراء المعنى.     

 

 

التنوير في أزمنته الصعبة

ــــــــــــــــــ

كلمة د. انطوان سيف

 

في سعيه الدؤوب والتلقائي للخروج من ذاته، وقصده عوالم غريبة عنه، يغفل الوعي عن حركيّة مغامرته ويُستغرّق في موضوعاته التي غالباً ما يُخطئها، ويتحوّل على وقع وعوده المحبَطة إلى دائرة الشقاء إلى معتقَل الوعي الشقي الذي يتصف بنقيضَي الخيبة والعناد. وعود التنوير البرّاقة عند سوانا لم تنزلق الى ساحنا؛ لم تنر الكثير من ظلماتنا. انتظارنا لها طال ولم ندرِ أنها شاخت وباتت تحمل معها متحفها المتنقّل من جيل إلى جيل يحملونها تباعاً سؤالاً مربكاً: لماذا هم تقدّموا ونحن تأخّرنا؟ لماذا هم ى يزالون يتقدمون ونحن لا نزال عاجزين عن اللحاق بهم؟ والأرعب هو تحويل السؤال إلى واقع موهوم: نحن لا نزال على أصالتنا، أما هم فاغتربوا عن الأخلاق!

استغراقنا في الحداثة كموضوع، وعدم تنبُّهنا لحركيّتها كنقيض دائم، جعلها جامدة على مدى قرنين. ما بعد الحداثة التي هي الاسم الآخر للحداثة المتأزّمة، مع كل انجازاتها الثقافية الراسخة في تاريخ البشرية، على غير سويّةٍ هنا وثمة، لم نجرؤ على استيلاد نظيرٍ لها شابَ في غرفة الانتظار النهضوي هو "ما بعد التنوير"! فالتنوير عنوان عصرنا وزماننا على مدى القرنين السابقين، يصاحبنا في مختلف مشاريعنا وتطلّعاتنا وسقطاتنا وعثراتنا وهزائمنا. هو بيرقنا، نضعه في عنوان مؤلفاتنا ظاهراً، كما فعل موريس أبو ناضر، أم مضمراً دوماً متماهياً مع كل إبداع حقيقي، له – كما يقول العنوان: "إشكالاته" الملازمة لوجوده، "ودلالاته" التي هي دوماً وأبداً بصيغة الجمع والتعدّد والتنوّع الخلاّق. "هواجس التنوير والحداثة وما بعد الحداثة" يمكن قراءتها بنبرةٍ أقل قلقاً وأكثر غبطةً وفرحاً وهما بوصلة كل حضارة.

إلاّ إني لم أقوَ إزاء هذا الكتاب على كبح الشعور بالاحباط ولا بالتكاذب على الذات، وأنا أرى مساربَ كثيرٍ من الرؤى التنويرية العربية لم تسرِ في الجسم العام كما النار في الهشيم؛ إضاءاتٍ فرديّةٍ منعزلة لم تنفلش على المسطح الواسع ولا في أعماقه. لكأن التنوير شاخ وما زال أهله يعاندون كقلة خميرية أملُها أكبر دائماً من قنوطها. هذا أولاً. وثانيهِ، أننا ننسى أن للتنوير المحبط تاريخاً ومحطاتٍ تعجّ بالقبل والبَعْد، بالقبل الأقلّ والبعد الأغنى. وبهذا المسار المتعثر نزرع علامات دلالة قادرةً ان تنقذنا من لدغ الجُحر مرتين. وهكذا نجد ان النسبية في التقدّم تصلح هي نفسها لهتك حجُب النسبية في التأخّر، كسلّم هيراقليطس الذي يعمل للصعود والهبوط، أو كهنرِه الذي لا نستطيع السباحة فيه مرتين.

قد يبدو ركيكاً، بالمعنى المعرفي للعبارة، تقديم قائمة بالانجازات التنويرية العربية خلال هذين القرنين! ولكن يبدو مفتئتاً على الحقيقة القولُ بأنّ أوائلها (وأواسطها) وأواخرها سيّان!

فالتنوير بحرٌ له شواطئ وآفاق، له تاريخٌ أي حياة. وعندما نتفحّص "تاريخية" إنجازاته تصبح مقاييسه أكثر وضوحاً. إنّ الحكم على التاريخ، في الأمثولة الهيغلية، هو حكمٌ في التاريخ. ففي هذه الرؤية الثانية للإحباط، لم أقوَ أيضاً على قراءة الكتاب إلاّ في الإطار التاريخي لسنة صدروه، سنة "الربيع العربي" أي العام 2011. وكثير من "مقالاته – الأبحاث" كما سمّاها، يتأرجح على التخوم السابقة "للربيع"، وبعضها ربما في خضّمه المستمر للساعة. ولا أرى بداً من صوغ هذا الإرباك بملاحظات تنطوي على مساءلات:

الملاحظة الأولى: يتضمن الكتاب أقلّ من ثمانين مقالةً – بحثاً، متنوعة، يسوِّغ جمعها "التنوير" الذي يسكن المؤلف كهاجس. وزّعها على أربعة محاور، كل واحد منها يحمل عنوان التنوير: في الفكر، في الأدب، في الاجتماع، في الإعلام. افترض انها وُضعت، وصدرت تباعاً على مدى السنوات القليلة السابقة. إلاّ أن أياً منها لا يحمل تاريخاً، ولا ينبئ بتاريخه! لكأن هذا التوزيع المعتمد هو بعثرة مقصودة "للتاريخيّة" المرغوب فيها التي يصعب فهمها المعمق من غير "موضعتها". فالتاريخية، والموضعة، هما من مصطلحات الحداثة التنويرية التي تمّ إخفاؤها خلف الثيمة. فهل ثمة فعلاً من بينها ما كُتِب في هذه السنة ذاتها 2011؟

الملاحظة الثانية: حتى التوزيع المعتمد لا ينأى عن التداخل بين الحقول المعتمدة، إلا في بعضها النافر. فهو يذكر في إحدى مقالاته تداخل الأدب والثقافة، وتحوّل النقد الأدبي الى نقد ثقافي، بعد أطروحة ادوارد سعيد عن الاستشراق.

الثالثة: عناوين المقالات - الابحاث يمكن ربطها جميعاً في نص متماسك قادر ان يعبّر عن روح الكتاب "وهاجسه"؛ أي يمكن إقامة "بنية" منها لتنوير الكتاب نفسه؛ وفي هذا الخيار يمكن أيضاً الاستغناء عن عدد من المقالات الغائضة التي تتردّد معنىً، لا موضوعاً.

الرابعة: في الكتاب طموح تفاؤلي يعاكس تلك الرؤية التي بالغَ الكتاب في التوقف عندها، وهي "تشاؤمية" هاشم صالحّ.

الخامسة: الكتاب موسوعة غنيّة بالفكر الحداثوي الغربي وبقراءته العربية، أو بترجمته. والكاتب نفسُه هو واحد من هؤلاء القارئين للحداثة الغربية ولمترجميها (معرِّبيها). لا بل هو أحد روادها، كما يعكس ذلك كتاب عمر حيران الجزائري: "النقد العربي الجديد: مقاربة في نقد النقد". هذه الموسوعة جاءت في إطار العمل الصحفي الثقافي لقراءة الكتب العربية الصادرة حول هذه الموضوعات.

السادسة: حول مضامين شتى لهذه القراءات تحتمل أكثر من قراءَة. فالنقد، ونقد النقد، نأى بنفسه عن تسمية موضوعاته بأسمائها التي هي أسماء أعلام لأشخاص وهيئات ودول كلها عربيّة. وهذه ميزة النقد "الثقافي" العربي المعاصر. فهل تكون ميزة سابقة "للربيع العربي"؟ أم مستمرة كما هي، باستمرار ما أتى لتغييره، كما هو؟

        مهما يكن، الأهلّة على التنوير مفتوحة. كتاب الدكتور أبو ناضر هو أحد أبرز مداخلها.

 

د. أنطوان سيف

 

 

*         

التّنوير الحقّ: إمّا النَّص أَو الإِنسان!

بقلم ربيعة أبي فاضل

1-    هاجس الكتاب

كان الدكتور موريس أبو ناضر نشرَ مقالاتٍ عديدةًَ، في بعض الصّحف والمجلاّت، وجَمعها تحت عنوانٍ رئيس هو: "التَّنوير في إشكالاته ودلالاته"([1])، وحدَّد الهاجسَ الأَساس بأَنَّه التَّنوير، وقسَّم فصولَ كتابِه إِلى جوانبِ الفكرِ والأَدب والاجتماع والإِعلام، وعالجَ هذه الموضوعات، استناداً إِلى كُتبٍ قرأَها وأَصدَرها عَربٌ أَو أَجانب. ومن عاداته قارئاً، فتحُ نافذةٍ عامّة على القضيّة المطروحة، والدّخولُ، من ثَمَّ، في الخاصّ المطروح، وَتِبيانُ هُويتِهِ، ومقارنتُه بغيره، ومحاولةُ تقييمه، بتحديد الجدَّة أَو الرَّتابة فيه. وكثيراً ما كان يتوقّف لشرح مُصطلحات، ولمناقشة تفاصيل، إذا لزم الأمر، بلغة موضوعيّة دقيقة، بعيدةٍ منَ الذّاتية والحماسة، إلى حَدّ تتمنّى معه، أحياناً، أَن يُعلن موقفاً، أَو يبالغَ في الصّراخ، لكنَّه لا يفعل ويتركُك، أَنت قارئاً تتلقّى إشاراتِه الذكيّة، وتقرأُ في الكثير من إيجازه وصمته ما سكَت عنه وما حاولَ أن يُشرككَ في عمليّة كشفه وفهمه. ولمَّا كانَ الإنسانُ ذَا فكر، كما قال عنه ابن خلدون، في سياق الكلام على العلوم العقليّة وأَصنافِها([2])، فالنَّاقدُ المفكِّرُ والمثقَّف هنا، لا يتوجَّهُ إلى النّاس العاديّين، حينَ يقدِّمُ أَفكاراً تنتمي إلى حقولٍ علميّة وأدبيّة وفلسفيّة واجتماعيّة متداخلة، بحيثُ لم يعدِ الكلامُ على اللّغة والخطاب والإعلام بمنأًى عن الطبِّ وعلمِ الفلك والتكنولوجيا والعولمة والحداثة، وما قبلُ وما بعد. دَعِ البحثَ في التّراث على ضوء الحاضرِ والمستقبل، وما يَتركُ ذلك من تَداعياتٍ وتناقضات في وجهات النّظر.

2-    التَّنويرُ بالفكر أَوّلاً:

ولأَنّي للمرَّة الثانية، أَكتُب عن كتاب التَّنويرِ وإشكالاته، فقد ارتأيتًُ هنا، أَن أَحُدَّ الموضوعَ بالنَّاحية الأُولى وهي التّنويرُ في الفكر، حرصاً منّي على أَن أَستفيدَ شخصيّا، مِنَ النّاحية الكيانيَّة هذه، على ضوء ما يَجري من تحوّلات في الحياة العربيَّة، وما يُميِّزُ نظرةَ العرب، أَمسِ واليوم، إلى العقل الغربي ونتاجاته، منذ توسُّعِ الصِّناعة، وازدهارِ العقل، وانحسارِ دور رجال الدّين، والكنيسة، وتمدّدِ العلمانيّة الملحدة والمعتدلة في شرايينِ الحياة الأُوروبية، ثمّ الأميركيّة. وما يُشجّع أَنّ قراءَتي للنَّص القارئ والمحلّل والمؤوِّل والمفكِّك، أَشعرني بلذّة عميقة لكون القارئِ الناقدِ نفسِه والذي عاشَ مرحلةً من حياته الثقافية في فرنسا، وانطلقَ أَلسُنيّاً، تَخطّى ذاتَهُ واختصاصَه، واستثمرَ علمَ اللُّغة ليَخرُج إِلى آفاقٍ معرفيَّة أَبعدَ وأَعمقَ كي لا يَبقى الشّكلُ سيّداً، ويتَلاشى الجوهرُ، ويَغدو الخِطابُ الفاعلُ المغيِّرُ ضَحيّةَ الصَّرفِ والنَّحو والإيقاع والصُّورة والإحصاءات والمعاجم... وغيرِ ذلكَ مِنَ الجهود التي لا تَخلُق وحدها، الجمال ولا تَفتحُ إطلالات على ملكوتٍ، وعلى تصنيع إِنسانٍ جديد أَو مجتمع جديد. وكان ابن خلدون نفسُه حَذّّر منْ أَنّ الظّلم والعدوان يُذهبان الآمال، ويَقضيان على الرَّعايا، ويُخرِّبانِ الحضارةَ والعُمران، ويُفسدان النّوعَ البشري([3]). من هنا النظرُ إلى اللّغةِ مكتوبةً أَو متداولةً على أنّها حقلٌ للحوار والتَّواصل، وقوّةٌ لإعادة تشكيل المواقفِ من الحياة والوجود. وإذا كان النّقدُ لا ينتهي إِلى قلب الإنسان وعقله فهو عقيم جدّاً.

وقد سبقَ ولحظَ ناقدٌ عايشه أَبو ناضر في كلية الآداب، أَنّ الباحثَ يدخلُ النصَّ أَلسنّياً، كأنَّه داخلٌ في غابة دغلة، ما من إشارة ولا لافتة تُساعده على شقّ طريقه فيها فيَسيرُ على غير هدًى، إلى حائط مسدود.. أَو نادراً جدّاً إِلى الباحات الفسيحة"([4])، ولذلك أَقرَّ زكي نجيب محمود بدوره، لشتّى المذاهب النقديّة، بضرورة قيامها معاً، متعاونة، على الإحاطة بالعمل الأدبيّ، من جميع نواحيه، ملتمسةً طريقَها إلى صميم ذلك العمل في جوهره([5])فمَن يقدر أَن يتصدّى لقراءَةٍ شاملةٍ وعميقةٍ غيرُ المثقَّق العالم المبدع، وغيرُ القادر على التَّخييل والتأويل وقراءَةِ الحاضر والغائب، والممكن والمستحيل؟!

3-    حركة التّنوير وقوَّة الانسداد

وكما أَنارَ صاحبُ المقدّمة مِشكاةَ فَنّ التاريخ للمُستَبْصرين، وأَذكى سراجَه، وأَوضَح طريقَه ومِنهاجَه[6]وكما حاول د. ناصيف نصار، منذ اثنتين وأربعين سنة، التعمّقَ في تفهّمِ الوضعيَّةِ التاريخيّة التي تُوجّهُ سيَرنا في عالم الحضارة، وممارسةَ النّقد، وإكمالَ رسالةِ الإِنارة لإخراج لبنانَ والعربِ من القرون الوسطى، ومن "الجمود الرهيب"، كما قال([7])، هكذا رأى أبو ناضر أنّ التّنويرَ عمليّةُ تحرُّرٍ منَ التقليد الأعمى، وهو مصدرُ تجديد للحياة، وإعمالٌ للعقل في التعاطي مع الوجود ومع الآخر([8])وانتقالٌ من القرون الوسطى إِلى الحداثة، وما بعدَها([9]). وقد عرضَ معظمَ الآراءِ الغربيّة حولَ التقدُّم والتَّحديث، وتوقَّفَ على الحال العربيَّة بإزاءِ التّراثِ والفكر الحداثي، فتبيَّنَ له أًنَّ سرَّ التطوّر الهائل في أُروبا ناتجٌ من النَّزعةِ النقديّة والتحرُّرِ من سلطان التُّراث، واحترامِ الإنسان وكرامتِه. لذا كرَّر طرحَ سؤالِه المفتاح: "كيف نتقدَّم؟"([10])، وانطلقَ من كونِ الحداثةِ بثورتِها الفكريّةِ والتكنولوجية والاتّصالية والمعلوماتية تَخدِمُ العربَ وثقافتَهم ولا تهدِّدُ الهُويّة([11]). وطرحَ سؤاله الثاني: "هل فلسفةُ التَّنوير التي فَتحت ثغرةً في جدار التّاريخ المسدود، في الغرب، تتكرَّر في تاريخ العرب؟([12]). هنا، نجد معجماً من المصطلحات أو التَّعابير، من المفيد التوقّفُ عندها، للتأمّل في أيّ إِجابة أَو مجاوبة، خصوصاً وأنّ القارئَ والنَّاقدَ مصرٌّ كما لاحظنا، على استكمال رسالة النَّهضة والنَّهضويّين، ضمنَ رسالته الأَدبيَّة والفكريَّة: (لاحظوا ما يلي:) "الانغلاقُ الكامل"، الغطيطُ التّاريخي"، "الانسدادُ التّاريخي"، "الفهمُ الضَّيِّق للدّين"، "كثرةُ الطّنطنة وقلَّةُ الجدوى"، "الدِّينُ يَرتبط بالعنف"، "إِخراجُ العقل العربيّ من السِّياج الذي انغلق داخله"، "الاجترار والتّكرار"، "الميِّت والمتخشّبُ في كياننا العقليّ"([13])دَع الآتي: "السُّلطاتُ الاعتباطيَّة"، "أناسٌ ينتمون إِلى القرون الوسطى"، "الفوضى العميقة"، "غياب القواعد"، "اغترابٌ ويأس"، "التَّدمير الخلاّق"([14]). ووسَط هذا المناخ، واكتشافِ الهوّة الرّاعبة ما بينَ انفصالِ الغرب عن ثنائياتِه وتَناقضاته وغَرقِ العرب في تعقيداتهم وثنائيّاتهم، وفي تخبّطهم والغموض، تجاه حداثة الغرب وقيمه وأَفكاره... نقرأُ سؤالهُ الثَّالثَ والأَخير وهو: "ماذا نأخذُ من الآخر، وما الذي نُحافظُ عليه من الموروث؟"([15]).

إذا شئنا البحثَ عن جواب مقبول فهو لدى جاك بيرك وموريس أَبو ناضر معاً. الأَوّلُ حَسمَ المسأَلَة بقوله إنّ العرب لم يفكّروا في ظاهرةِ الحداثةِ من خلال القطيعةِ مع الماضي بل من خلال استدعائه في كلّ أبعادِه السّحرية والأسطوريّة([16])وقال أبو ناضر إنَّ الغطيطَ التَّاريخيَّ أَنبت الأُصوليَّةَ الإسلاميَّةَ الإِطلاقيَّةَ، والفهمَ الضَّيِّق للدِّين، وهو معادٍ للعقل والانفتاح والتَّسامح([17]). وبينما كنتُ أَقرأ في نصّه، عن الفهم المستنير للدّين (ص 39)، سمعتُ طرحاً سلفيّاً في مصر يُذكِّر، بأنَّ الأَقباط واليهود كُفّار، فتساءَلت: وعن أَيّ ربيع يَتحدّثون، وكيف يفوحُ الزَّهرُ وسَطَ مُستنقعاتِ الدِّماء والتخلّف والعودة إلى القرون الوسطى؟!. وعلى الرّغم من ذلك، كرّر أبو ناضر أنَّهُ يجب فصلُ الدِّينيِّ عن السياسيِّ([18])، وهي مقولةُ رجالات النّهضة من بطرس البستاني المعلّم إِلى الزعيم أَنطون سعاده، ما بدا لنا سابعَ المستحيلات، كما تقول الاختبارات! سواءٌ بربيع مُصطَنع أَم من دونه!

وفي الرّوحيّة عينِها، اقترحَ المفكّرُ علي حرب تعميمَ مبدإِ الانفصالِ عنِ الأُصول والجذور والتراث للاستمكان من اتِّخاذ مواقفَ حداثويَّة، وتكوينِ رؤًى جديدة، خارجَ التَّشبيهات الأَيدولوجيَّة، والنّصوصِ المتحجِّرةِ، محرّكةِ الأزمات وصانعةِ التّعاسات الإِنسانيّة والاجتماعيّة([19]). وبناءً على كلّ ذلك، قال أدونيس: "إنّ الفكرَ العربيَّ الإسلاميَّ إِمّا أَن يقومَ بتفكيك نَفسِهِ أَو لا يكون"([20]). وكرَّر أبو ناضر في المقام عينه، أنّ العقل هو الطَّريقُ الملكيُّ للوصول إلى الحقيقة([21])، والتّكريرُ هذا يعني ضرورةَ القطع مع الغرائز، ومع ما تعفّنَ في التراث، ومع الفهم المغلوط للدِّين، فالسّماءُ لا تَفرحُ بالعنف، وبِتَمييز البشر بعضهم من بعض. وأَمامَ العقل وهاجسِ التقدُّم، لا شيءَ مُقدَّساً خارجَ روحِ الله، واللهُ محبَّة. ومن المفيد التوقُّفُ، في هذا الإطار، على قول محمد الجابري إِنَّه لا بُدَّ من الانفصال عن التّفسيرات السَّابقة لموضوعات التُّراث، وإعادةِ قراءَته على ضوءِ الحداثة([22]). وبعد، هل نحن أَمام "عصرِ أَنوار عربيّ جديد" أَو أَمامَ "نهضة عربيَّة ثانية"، كما توقَّع بعضُهم؟([23]). الواقعُ أَنّ الموضوعيّة تقضي بكلام على جاهليَّة حقَّةٍ هذه المرَّة، وعلى ما قبلَ القرون الوسطى، بعد الهجمة السّلفية المعطِّلة للعقل والحوار، والآخذةِ بفكرٍ آحاديّ انحطاطيّ قاتل.. لا يُريدُ الانفصالَ عن تراث تسبَّب في بؤس الأجيال، وفي صراعات ثقافيةٍ وحضاريّة قد لا تعرف نهاية.

4-    المأساة عميقة:

ولأَنّ الجهلَ معمَّم ولا مجالَ لإصلاح لوثريّ عندنا، ولاستعادةِ العقل حقوقَهُ، وللتنوُّع في المواقف، وللقُبول بالآخر المختلف، ولأَنّ تثبيتَ الحدود بينَ العلوم العقليَّةِ والعلومِ الدّينية، في المقامات العربيَّة، أَمرٌ مستبعد حتى الآن([24])، فنحنُ اليومَ، أَمامَ حالٍ من اثنين: إِمّا نقبلُ بأَن نكونَ ضحايا الجهل والتطرُّف والإساءَة إِلى الدّين الحَقّ أَو أَن نتمسَّكَ بقيم الحريَّة والعدالة والمعرفة، وبتقاليد الحوار والتّفاهم، وبحقّ الفكر الحرّ في التعبير عن ذاته وطموحاته، وفي حماية الإنسان وحقوقه وكرامته. ولم يعد رفعُ شعار "الدِّين لِلّه والوطن للجميع" كافياً([25])، لأَنّ الّذين يَستخدمون الدّين للإرهاب باتوا عبئاً على البشريّة، ولا بُدَّ من إيجاد طرق لتوعيتهم أَو لإِنقاذ الله منهم ومن أَيديهم الملطَّخة بالدِّماء، وقلوبهم الملوَّثة بالجريمة، و"بالثُّنائيّات الانفصاميّة" التي تُفسدُ آمال العرب، وتَنشرُ الظّلمَ الذي حذّرَ منه ابنُ خلدون، وبالتّالي تُجمّدُ الحياة في صقيع أَيَن منه صقيعُ الأتراك، خلال خمسمئة سنة! أَولم يقل المفكّر موريس أبو ناضر: "لا يُمكنُ التضحيةُ بالعقل في سبيل الثقافة التقليديّة، ولا بالابداعِ في سبيل التقليد، ولا بالحريّة في سبيل الاسترقاق للجماعة والتّراث"([26]).

يبقى أَن أَقولَ مع الغزالي، إنَّ اسمَ النُّور على غير النُّور الأَوَّل مَجازٌ مَحْض... وكلُّ كلام على النّورِ والاستنارةِ والتَّنوير، بالتّالي، إِنَّما هو مستعارٌ، والمستعيرُ هو فقيرٌ في نَفسه والغنيُّ هو المُعيرُ، منه الإِنارةُ والإِدامةُ والخلق.([27])لقد اضطُّرَّ الغرب إلى نوع من القطيعة مع الميتافيزيقيا والتطلُّعات الماورائية، لكي يُدبِّر شؤونَ الحياة وشجونَها، وقد نجحَ في تلميع جَسده على حساب الرّوح، فأَبرز المظهر وطمسَ الجوهر... فهل يحتاجُ أكثرُ العربِ إلى الله الحقّ،المُتسامح، الرَّحيم، ضامنِ الحرّياتِ والكرامات، كي يَتفاهموا معه من جديد، فتتحوّلَ استنارتُهم من المجاز إِلى الحقيقة، وتغدو دنياهم سماءً، من دون أَن يُضطَّرُّوا إِلى التّكفير، وإِلغاء الآخر؟ هل هم في حاجة ملحَّة إِلى الانفصال عن النَّص والاتّصال بالنَّفس، ليُدركوا أَنَّ الحياة في تطوّرها إنّما تَنشُد السّلامَ والكمال، وأَنّ النَّصَّ في ثباته وجموده إنّما يُمثِّل التحجّر والموت. فمتى يتوصّلون إلى هذه المصالحة-المعجزة مع الذّات، ومع الآخر، ومع الله الحقّ والخير والجمال؟ قد يحتاجون إلى مزيد من قيم الانفتاح والحب والحرية والديمقراطية. ولا أَجد من باب، في حال أَشحنا عن الغزالي والتصوف والزّهد والاتحاد المباشر بالحقيقة، سوى قول بابلو كويللو، في "مكتوب"، للتأمّل:

“un homme qui ne cherche que la lumière et se dérobe à ses responsabilités ne rencontrera jamais l’illumination. Un homme qui garde les yeux fixés sur le soleil finit par devenir aveugle »[28]

ولذلك، لقد أَزعَجْنا اللهَ كثيراً، وهو لم يطلب منّا كلَّ هذا الجنون، فلْنَعُدْ إلى حماية الإنسان من دون تفرقة وتعصّب؟! فلنعُد جَماعياً إِلى تحصين الأُمَّة بالعقل، وإلاّ فالتّركُ على صعيد الذات... ولْندعِ الحياةَ تُقلّع أشواكها بأَيديها لأَِنّ الإِصلاح في دنيا الشَّرق الأوسط، وفي المستقبل القريب، ضربٌ من المستحيل، في حال بقي النّصُ يقتلُ النّفس، وظلَّتِ التَّربية ابنةَ الشَّياطين تَحوط بها ظلماتُ الجحيم!

 

 



*         أُلقيت في الحركة الثقافية-أنطلياس، 19/1/2012

[1]- موريس أبو ناضر، التنوير في إشكالاته ودلالاته، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، ط 1، 2011

[2]- ابن خلدون، مقدّمة ابن خلدون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لا.ت. ص 478 (في العلوم العقليّة وأصنافها)

[3]- ابن خلدون، ص. 286 – 289 (في أنَّ الظّلم مؤذن بخراب العُمران)

[4]- نقولا سعاده، قضايا أدبيّة، دار مارون عبّود، ط 1، 1984، ص 271، 272

[5]- زكي نجيْب محمود، في فلسفة النّقد، دار الشروق، ط 1، 1979، ص 121

[6]- ابن خلدون، المقدمة ص 7

[7]- ناصيف نصار، نحو مجتمع جديد، دار النهار، بيروت، ط 2، 1970، ص 11، 15

[8]- التنوير في إشكالاته ودلالاته، ص 16، 19

[9]- ن. ص 19، 20

[10]- ن. ص 32

[11]- ن. ص 35

[12]- ن. ص 37

[13]- ن. ص 36، 37، 38، 39، 54، 79، 89، 95

[14]- ن. ص 16، 19، 21، 24، 29، 32

[15]- ن. ص 33

[16]- التنوير في إشكالاته ودلالاته، ص 91

[17]- ن. ص 38

[18]- ن. ص 39

[19]- ن. ص 104

[20]- ن. ص 110

[21]- ن. ص 118

[22]- ن. ص 96

[23]- ن. ص 99، 100

[24]- راجع محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ت. هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986، ص 13

[25]- راجع أمينة غصن، أمين الريحاني في العبء الرَّسولي، دار الفارابي، بيروت، ط 1، 2011، ص 11، 12، 17

[26]- التنوير، ص 114

[27]- رفيق العجم، موسوعة مصطلحات الإمام الغزالي، مكتبة لبنان ناشرون، ط 1، 2000، ص 839-840 (نور)

[28]- Paulo Coelho, MAKTUB, Eds Anne Carrière, Paris, 2004, p 17