محاضرة حول كتابيّ عبدو قاعي

الأخيرين في ما بعد الدّين وفي سلطة الكلمات

 

ايلي يشوعي

عبدو قاعي باحث مسؤول عن فكره وكلمته، يغوص فيهِ بشغفٍ ويقولها بصوتٍ عالٍ مدوٍّ كصوتِ يوحنا في صحراء هذا العلم.

عبدو قاعي رفيقي وصديقي: رفيق على درب نضال مُستميتٍ من أَجلِ إِنسانٍ أَجود ومجتمعٍ أَفضل ودولة أَرقى وصديق في الخُلُق والنهج والمعتقد.

كدنا أَن نكلّف بإِعادة بناءِ لبنان بعد حربِه الداخليّة الطويلة التي هدمتهُ، لكن إرادة الهدم كانت الأَقوى فاستمرّت حاجبةً إرادة البناء.

في نفسيْنا مرارة وأَسف وعتب وحزن، مرارة رؤية الفساد يتغلّب على النزاهة، والرداءة على الكفاءة، والخطأ على الصواب، والجهل على العلم والظلم على الإِنصاف والإِنحراف على الإِستقامة، والفوضى على الصفاء، والماديّة على الإِنسانيّة.

أَسَفٌ على الفُرص الضائعة والخسارة المتراكمة وتدهور مستوى الحياة ونوعيّتها والفقر المتوسّع والمال المُبدَّد.

عتبٌ على أَبي الخيمةِ الزرقاء وسؤالٌ وتساؤلٍ على إِقصاءِ وتهميشِ، كُلِّ قادرٍ على محبّة، لا فرداً بل مُجتمعاً، لا ابناً بل بلدا.

وحزنٌ على ما آلت إليهِ الأُمور في بلدنا وما طبع حياتنا العمّة من شِقاقٍ ونفاقٍ وانقسامٍ واتّهانٍ واصطفافٍ ومُحاصصة.

في كتابيهِ الأخيرين: في ما بعد الدين وفي سلطة الكلمات، يريدُ عبدو قاعي من الإِنسان أَن يعترف بذاتِهِ الإِنسانيّة بعد أَن يتعرَّفَ إِليها. وهو يرى الإِنسان جيّداً في طبيعتهِ، لكنّ المجتمع المختلّ أَفسدَهُ ولا يزال.

إِنّ ذاكرة الإنسان حسب المؤلّف الباحث يُمكن أن تُشكِّلَ عُنصراً من عناصر السوء يؤثر سلباً على قدراتهِ، عندما تجمع الأَحداث الخارجيّة وتُراكمها وتُفرِّقُها في الذاكرة الباطنيّة وتمنعُ وعي ثغرات الأخيرة.

لكن، إذا وعى الإنسان سلبيّات ذاكرتهِ الباطنيّة وتخطّاها، اكتسبَ القُدرة اللازِمة على الإِرتقاء إلى ذاتِهِ الإِنسانيّة. إنَّ الخطّ الثابت في الذاكرة البشريّة صَنع التاريخ أو صنع القيمة الزّمنيّة والبشريّة.

أمّا الإِنسان في هذا العالم إن كان عربيّاً أو آسيويّاً أو إِفريقيّاً أو أوروبيّاً أو أميريكيّاً، هو حقيقة أتى من التكوين الإبراهيمي، وابراهيم صورة واحدة للتكوين الإنسانيّ من الإله الواحد، حطّم الذاكرة الباطنيّة المبنيّة على الآلهة المتعدّدة، وما يجري اليوم في هذا العالم هو إِعادة إِحياء تلك الذاكرة التي حطّمها ابراهيم.

لذلك يريد الباحث من ناس كل تلك الحضارات والقوميّات أن يكونوا متقابلين، متعاونين، متساوين، متجادلين بسلام ومتكاملين باستمرار، وينسب ذلك على اللبنانيين الذينَ يراهم الكاتب أنواتعاً يريدُها أَيضاً متقابلة ومتجادلة ومتسانِدة.

إنّ المجتمع الدوليّ غير موجود، يقولُ الباحث، لأنّهُ ميّز بينَ الأُمم: دول غنيّة ودول فقيرة، دول ظالمة ودول مظلومة، دول نامية ودول متقدّمة، شعوب رفهٍ وشعوب حرمان، شعوب تُخمة وشعوب جوعٍ ومرض. يريدُ الأُمم كالبشر مُتقابلة، مُتساوية، متعاونة ومتُساندة.

أمّا المُجتمع العربيّ فهو مجتمع أُمراء وإِقطاعٍ من دون شعب، منعوا قيام المُجتمع العربيّ وتحرُّرِ الشعوب وتقدُّمِها. فكما قيافا قال للمسيح عندما أَجابهُ أنّهُ إبنُ الله: "لا تُحرِّر الدّين، فهو مرتبطٌ فينا وبي لا بالله" .

حوّلَ الإقطاعُ والأُمراءُ ربيع التحرُّرِ العربيّ إلى وسائل تسلُّح بها 95% من الشعوب، لكي يقتلوا بعضهم البعض، وكأنّهم كانوا يقولون لهم ولا يزالون: لا تحرّروا المجتمعات العربيّة منّا فهي مرتبطة فينا وبنا لا بالحريّة والمساواة.

أمّا الأُمم، فلكي تكون متّحدة وتستأهل مثل هذه التسمية، عليها أَولاً أن تحترم بعضها البعض، وأن تكون ثانياً على الصورة المثاليّة للدولة والإِنسان.

ويخلصُ الباحثُ إلى القولِ أنّ للإنسان إرادتان: إرادة إرتقاء وإرادة إنحدار ، وإنسان الإنحدار هو إنسان الشيطان الذي ينتظرهُ، عاجلاً أم آجلاً مصيرُ الإنتحارِ والزّوال. ويوزّعُ المؤلّف البشر بالنسب إلى 15% يمثلون إنسان الخير في حال الرّجاءِ و85%، يمثّلون إِنساناً محشوراً في زوايا عديدة ومُربكاً بمعضلاتٍ جمّة.

وأَكتشفُ أَيضاً في كتابات عبدو قاعي، فضلاً عن الفيلسوف المميّز، الإقتصاديّ المُهمّ عندما يتكلّم بإسهابٍ على مبدأيّ الإنتقال وإعادة التوزيعِ اللذينِ يربطهما ببعضهما بمهنيّةٍ وجدارة.

فحُسن إِعادة توزيعِ الثرواتِ بواسطةِ الجدارة والنزاهة وأَنظمة الضريبة العادلة والتقديمات الإِجتماعيّة من قِبلِ أَصحابِ القرارِ يضمنُ أُفقيّة الإِنتقال للسّلع والخدمات ومحاربة الفقر والحرمان وضمان العيش الإنسانيّ الكريم بحريّة وكرامة.

عبو قاعي، فيكَ نورٌ إلهيّ توصّلتَ إليهِ فساعدكَ على تحقيقِ ذاتكَ الإنسانيّة، في المعتقد والتقليد والحداثة والنّقد والإلتزام والتربية والنوايا والإيمان والذاكرة.

لكَ منّي وعندي كلّ محبتي من ذاتي الإنسانيّة.

 

إيلي يشوعي

31/3/2015

 

(*محاضرون: عبدو قاعي-إيلي يشوعي-أمال ديبو-جورج مغامس * الثلاثاء 31 أذار *الحركة الثقافيّة-انطلياس-س: 6.30)

_________________________________

 

كلمة المحامي جورج بارود

في إدارته ندوة حول كتابي الباحث "عبده القاعي"

الحركة الثقافية – أنطلياس

الثلاثاء 31/3/ 2015

 

        كتابان للباحث عبده القاعي في زمن التنازع بين الشك واليقين... بل قل زمن التصلب الديني وقواعده التكفيرية المدمرّة.

        ففي الازمات الصعبة، يضيع الاعتدال ويتحول التفكير إلى أحد قطبي القرص الممغنط الذي يدور على نفسه؛ فإما أن تكون في هذا الجانب الذي يقبل الامور على علاتها من خلفية إيمانية تقليدية مكتسبة، أو تكون في الجانب الآخر الرافض، الذي يطرح الاسئلة ويجترح التفاسير ويحاول الوصول إلى حقائق جديدة وحلول لمسائل مطروحة.

 

        عبده القاعي، الباحث الذي نشأ على العمل الاجتماعي، وقد أهواه الفكر الانساني، فاختلطت في منهجه النظم العقائدية بالمسالك الاجتماعية، خاصة بعد الردّة التي لاحظ ولادتها مع عودة المظهر العقائدي البدائي للاديان وبروز التطرف  والتعصب ورفض الاخر ولو كان من نفس الدين وحتى الطائفة إنما من مذهب مختلف من جهة، وسرعة دوّامة الحياة المادية الرامية إلى إهمال السمو وفقدان الذاكرة البيولوجية والانخطاف نحو الذاكرة المكتوبة والرقمية من جهة ثانية؛ فراح يفتش عن ثوابت اجتماعية ضامنة للعدالة والمساواة بين الناس الذين ارتدّوا إلى جماعاتهم وعشائرهم ليؤمنوا الحماية والسلامة لذواتهم وعيالهم.

        لقد عزا عبده القاعي هذا التضعضع المجتمعي إلى فشل الانسان في عيش الحقائق الدينية الصحيحة، بانغلاقه داخل شرنقة عقائدية صمّاء، ما ترك انعكاسًا على أموره الحياتية: السياسية، الاجتماعية والتربوية.

 

        إن كتابي عبده القاعي:

“L’après religion(s) religare, le pourquoi de l’apocalypse”  أي " في ما بعد الدين (الاديان) في سببيّة حلول الرؤيا".

        و:

“Du pouvoir des mots ou de l’histoire des histories de nos histoires »  

أي "في سلطة الكلمات، أو في تاريخ تواريخنا وأحداثنا"،   يدعوانك إلى اكتشاف نفسك، بين واقعك المحسوس وعالمك اللامحسوس، ويشعرانك بمجرد الاطلاع على عنوانيهما بأنك تعيش في عالم نوراني، زمني وروحي يخرجك من عالم ظلمات الظلمات.

 

        أيها الحضور الكريم،

        لقد آليت على نفسي بهذه الكلمة الموجزة أن أمهد لاقدم زميلاً لي، عرف عبده القاعي وعايشه ولا يزال.

        فإنه، وإن كان دوري يقتصر على إدارة الندوة، إلا ّ أنني وبمشاركة جورج مغامس لا أستطيع على عكس عادتي في إدارة الجلسات – إلاّ أن أكون ، على اغتباط واعتزاز يصل إلى حد الانحياز.

        أمّا انحيازي لشخصه، فلانني زاملته شخصيًا منذ بداية الستينات، ونشأنا معًا، وكان كما هو عليه دومًا لمّاحًا، لمّاعًا ولامعًا؛ تستهويك عباراته الصعبة المنحوتة بدقة والرامية أبدًا إلى بعدٍ، تطاله أن تابعته بتأنٍ، وترصدت عباراته ووقفت على مغازيها. فالرجل صعب ومتابعته صعبة أيضًا. يهوى منذ صغره الرمزية ويأنف السهولة والتبسيط. وقد سألني أحدهم، وهو أستاذ كبير في اللغة والادب، لمن يكتب جورج مغامس؟ فأجبته: على ما أعرفه عنه أنه يكتب لنفسه أولاً ولمن يستطيع متابعته ويستحق أن يفهم ما يكتبه.

 

        نعم، إن جورج مغامس يكتب للنخبة، وما أكنه عباراته ان استطعت سبر غورها.

        أما اغتباطي فلإن جورج مغامس سيفتتح هذه الندوة بالكلام على الاستاذ عبده القاعي الذي يعرف حالاته وتحولاته الفكرية تاركًا للمتداخلين الآخرين مسألة مناقشة مضمون كتابيه.

 

_____________________________

رجلُ المواجهات

جورج مغامس

أدركتُه وهو يداركُ القممَ، وقلِ القِيعانَ- سِيّانَ ما بين شامخٍِ رسخَ أو راسخٍ شمخَ، في مخاضاتِ الفكرِ والشّعرِ وتالياتِ التّجلّي!

البالغُ في العلمِ عتيًّا موصولَ الهوى بِبانتِيونِ العظامِ، وفُتحَ عليه من المِيثاتِ والأديانِ إشراقٌ فصيحٌ،

مسكونٌ هو بالهواجسِ الكبرى زَمكانيّةً وماورائيّةً، يصرّفُها أسئلةً تقضُّ وتورّطُ، ويَمخرُ عُبابَ بحرِ الظّلماتِ، يَستكشفُ بحميّةٍ بطرسيّةٍ وإصبعٍ توماويّةٍ وصوفيّةٍ وجوديّةٍ تجاوزيّةٍ رموزًا وأسرارًا.. يَجوزُ رُهابَ التّيهِ والغَرقِ «ووجهُه وضّاحٌ وثغرُه باسمُ»!

هذا،

مِزرابُ الذّهبِ في آرائه ومواقفِه الشّتّى، ضاقت بها قميصُ الجسدِ،

هو أبدًا في غمرةِ المواجهاتِ اللازبةِ، يقطعُ ويصلُ ما بين الدّينِ والإيمانِ، والإيمانِ والعقلِ، والعقلِ والقلبِ، والقلبِ وما فاضَ فيه من الأنوارِ،..

يرى ويعاني كيف يُقتلُ اللهُ على حدِّ الحرفِ والسّبتِ ومَرتَويّةٍ حمقاءَ وسِيمونيّةٍ نكراءَ وفَتويّةٍ لا تُبقي ولا تَذرُ..

يرى ويعاني كيف يُجلدُ العقلُ بوطأةِ التّسخيفِ والتّسخيرِ، وكيف يُحجرُ على نقدِه المفكِّكِ المركِّبِ البنّاءِ، وكيف تُنكأُ جَساراتُه وتَشوّفاتُه ولَقيّاتُه بحرابِ الجهلِ والحقدِ والحسدِ..

يرى ويعاني كيف تُبتلى مَهابُّ الرّوحِ بالآكلاتِ مَكرًا رياءً كبرياءً.. أَثرةً خَبيثةً مصّاصةَ نُسْغٍ ونضارةٍ تسلّمُ لبؤسٍ ليأسٍ، للإلحادِ للاّمبالاةِ، لمذبحةِ عَبَدةِ اللهِ والمالِ..

يرى الشَّيطنةَ تَتقضّبُ حول مَداراتِ العصرِ، تَهصِرُ مواعيدَ المحبّةِ والرّجاءِ وهي في الأرحامِ، ويَغضبُ يزأرُ..

لكنّ البرّيّةَ خُواءٌ، والخُواءُ مستبدٌّ يبدّدُ!

ويظلُّ هو هو حيالَ منظومةِ القيمِ، ينافحُ يكافحُ يَتسَيّدُ، يذرّي ريحًا يؤلّبُ اللهبَ، لا يَني.. يُتعبُ التّعبَ، يستنطقُ يستقرئُ يستنبطُ يستشرفُ يَكسِرُ خبزًا يُطعمُ سمكا..،

فبين يدَيه،

نرى إلى الكلمةِ تتعرّى من صَدفٍ من صَدأٍ ومن وحولٍ مَناتينَ، وتَغتسلُ بماءِ المقاصدِ والسّياقاتِ، تَلبِسُ حُللَ صوتِه النّبويِّ، قُدّت من أصالةِ الأصولِ، ووشّاها الاجتهادُ البصيرُ، فصارت كأنْ هي قواربُ النّجاةِ يَعبرُ بها زيتُ الصّدقِ إلى ضفافِ القناعاتِ..

ونرى..

إلى التّراثِ موروثًا ثمينًا من جواهرِ كلِّ حيٍّ ويُحيي يتيحُ أفقًا جديدًا،

وإلى التّربيةِ مُنقذًا من الضّلالِ ويعيلُ، صخرةً تُبنى عليها بيوتٌ وأوطانٌ، دِنحًا رُشاسُ زُوفاهُ نهرٌ يُزهرُ حمامةً وسرورا،

وإلى السّلطةِ عينًا تَسهرُ، ويدًا تخطّطُ تنفّذُ تحفّزُ تَحمي تَهدي تَعدِلُ وتُسعِدُ،

وإلى الحرّيّةِ شعلةً زرقاءَ في الوجدانِ تتوقّدُ، تنثرُ الأنجمَ على تقاطعاتِ كلِّ حوارٍ.. تفعّلُ تنمّي وتثمرُ بِيضَ المواقفِ التي تُلاحمُ وتشرّفُ،

وإلى.. إلى قيامِ المواطَنةِ الرّشيدةِ السّديدةِ الممتلئةِ نعمةً من اعتدالِ ميزانِ الحقوقِ والواجباتِ وتحقيقِ إنسانيّةِ الانسانِ..؛

فإنّنا نرى إذًا عبده قاعي يعيدُ الاعتبارَ إلى كثيرٍ من الأطاريحِ..

يجاهدُ الجهادَ الحسنَ، يُخشى ولا يَخشى، ويثيرُ الجدلَ؛

وما همَّه أَنَّه الطّريدُ من جنّةِ السّلاطينِ، أو هو على قارعةِ الحقيقةِ رسولُها الشّهيدُ!

وما همَّه أخو الصَّفا هذا، أنّه حلاّجُنا الجديدُ!!

 

 

# في تقديم د. عبده قاعي، في ندوةٍ حول كتابَيه: - L’après religion (s)… - Du pouvoir desmots

شارك فيها د. أمل ديبو -د. إيلي يشوعي، وأدراها المحامي جورج بارود، في الحركة الثّقافيّة- أنطلياس، بتاريخ 31- 3- 2015.

 

___________________________

أمل ديبو

أيها الحفل الكريم

نحن أمام عملين، مكتوبين بعرق ودم وبسهر العيون والضمير. هذا الجهاد الذي نذر الباحث والكاتب والعالم الإجتماعيّ حياته له، هدفه أن ننفذ بواسطته إلى الحقيقة من وراء الكلمات وإلى الجوهر من وراء الأديان. وإعادة الخلق لتصويب مسيرة البشر.

وما يجمع بين الكتابين وكل الكتب التي وضعها عبدو قاعي وبين كل الكتب هي "الكلمة"، وهي القناة التي تجمعنا بالله، ولولا الكلمة التي اودعها الله الأنبياء وتجسّد في ابنه، ونقلها في القرآن، لما عرفنا التوحيد.

فالكلمة، هي "الطريق والحق والحياة" وقد اعطانا الخالق عقلاً و ضميراً. أعطى كل ذلك للإنسان لكي يفهم.

ما الفهم؟ وما الحقيقة؟ عندما سأل بيلاطس المسيح الذي كان مُزمعاً أن يكشف حقيقة ذاته وحبّه على الصليب، لم يتفوه المسيح بكلمة.

من هنا صعوبة أن يأتي الكلام في لون مع الحقيقة، وهي ابتعاد المعنى عن المصدر.

ويدأب الباحث عبدو قاعي، من جهة إلى إجلاء المعنى الأوّل للكلمة، للمفهوم، من كل الشوائب التي علقت فيه من تفاسير وخبرات على مرّ العصور، ومن جهة أخرى يسعى إلى جمع كل المعاني التي وسّعت المفهوم إلى واحد، إلى الأصل.

من خلال الحوار بين المعاني المتراكمة التي يدعوها الباحث أن تحمل ذاتها إلى التخليّ عن ذاتها، لتنصهر في صيرورة مع الآخرين، و لتنهض من محدوديّتها من أجل أن يصير الكلُّ بالكلِّ، في كلمة ننحتها كلّنا بضمائر نقيّة، فيشرق الغد.

وبهذا المعنى الجامع، الغد هو في الماوراء، و في البدء " في البدء كانت الكلمة".

ما هي الكلمة؟ يسأل عبدو قاعي، متوجهاً " إلى العقول السليمة، يدعوها إلى إعادة إكتشاف غنى المساحات الزمنية والمحلية التي عبرتها الكلمة، وكل كلمة بمقايسها الحسيّة الخارجيّة والداخليّة المخبأة، النفسيّة والروحيّة.

يدعونا إلى السفر على متن كل كلمة لنلتقيها في كل مرحلة من وجودها وتواريخها.

الحوار الدائر بين الخبرات، المعترف به من قبل عقل الآخر والآخرين، هدفه أن نرتفع عن الفوارق والتقسيمات، حتى نظفر معاً بالمعنى المنطقيّ لكل منها، وننكبّ على قراءة جديدة جامعة لتواريخها، لكلّ التواريخ التي سردُها يجعلها في تضاد.

ولذلك إشتغل الباحث على الذاكرة، على الوقت، " القبل" و"الحين"، وتقطُّع الوقت وموصوله.

تضيق الحدود بهذا الضمير الذي يأبى العبودية والمحدودية-العبودية. وهكذا ينطلق الباحث على طريق البحث والغوص والمخاطرة إلى حدّ أنه يستطيع أن يكتشف الرابط السريّ بين ولادة الأحرف وولادة الحضارات الإنسانيّة.هذا الرابط هو من فجر الخليقة حين آدم سمىّ الأشياء بأسمائها.

على عكس فرويد الذي كان يرى فيه الأخر " المغتصب" والمهاجم،  عبدو قاعي يرى أن " الحضارة الإنسانيّة، هي التي، فردياً وجماعياً، كانت دائماً "تحمي الانسان من طبيعته الدفاعية البدائية، على عكس ذلك، الديانات بنت لها حصون" وشنّت الحروب تحت لوائها لأنها فقدت الروح: الإصغاء والقبول والانفتاح والتسامح والفهم: فهم القلب والإنتباه إلى ألام الأخرين. هي تلك التجارب التي تجعل من الحضارة مساحة من التحرر الإنساني حتى نساعد الثقافات الاجتماعية على التحول إلى ثقافات مدنية.

" في المدينة ال-polis، يصير الفرد إنساناً قال أرسطو باحتكاك الآخر بالآخر.

الإنسان ليس عنده خيار، يجب أن يعيد خلق ذاته بصفته كائن الكلمة وهي مغامرة الكلمة، الكلمة التي تحمي البشرى، الكلمة القول والفعل والبُشرى. الكلمة اللغة، قاعي يربطها ببعضها البعض ويشدّها إلى الإلتزام.

لأن القول والإعلان عن هذا القول والإعتراف بهِ هو أخذ موقف من الأشياء، اللغة الانسانية هي إلتزام المواطنة.

المواطنة ليست أقل الكلمات التي أوقف لها عبدو حياته. هذا الباحث الذي رأى النور والمشهد الآخرويّ exchatologiqueيرجع إلى الأرض ليحكي لنا رؤياه.

انهّا ذوق، ذوق مطلوبيّة الذات في الكلمات، هو يستعمل كل الأساليب: الشعر، والصورة المركّبة، جمل طويلة تتداخل بعضها ببعض، لأن لكلّ جملة وظيفة توضيحيّة تعقِّد المفهوم أكثر وتغنيه. جملة إذا استسلمنا لها بالإصغاء، يقودنا بناؤها تصاعدياً نحو المدينة الفاضلة، ونزولاً بدوار يحمّلنا اعباء المهمة المستحيلة.

تفاسير الكلمات أخذت بالتباعد عن معناها الأصل.كلّ الكلمات عليها أن تصوّب، أن تؤلّف وأن يعاد تأليفها هنا وألان وفي كل الأزمنة مجتمعةً، على مسافة من الحدود الإجتماعية والثقافية المتنوّعة والتي تتضارب فيها وتتأثر منها. 

 أما المعني في التجسّد فهو الله. الله هنا، هو الذي يخاطبنا في خبرات الانفتاح والتلاقي. هو يفرد لكل من كلماتنا باباً. لنأخذ مثلاً اليوم لكلمة يكثر إستعمالها وهي كلمة developpement:الإستثمار أوالتنمية.

عند عبدو، الإستثمار أو التنمية هو عمل للتفكُّر وللتبصّر أكثر منه هدفاً نصل إليه ونطوّعالارض التي بدأت تئنُّ من الدّمار والبناء العشوائي المدمّر لروح المدينة. وهذا الاستثمار عند عبدو ليس هو ذاته عند هؤلاء المستثمرين الذين يخنقون المدينة اليوم . قراءته للإستثمار تدعونا للبحث في المستوى الإجتماعي البيئيّ والإنسانيّ، هو يدعونا، بخاصّة، لأن نكون كاملين وأن نستطيع أن نكمّل العالم بأفضل وجه.

التواصل هو أفقياً وعموديّاً. هو الصليب ونقطة جمع الخبرات أفقياً وعمودياً هو اللحظة التي تُبنى فيها الكلمة.

إنه يدعونا إلى التخلّي عن أنانيتنا لنلاقي الآخر، ابراهيم تخلّى عن ابنه الوحيد وأصغى لأوامر الخالق فأعطاه إرثاً يفوق الأمم، وكلّم موسى وأعطانا قانون الخليقة الكاملة.

نكسنا بالعهد ولم نصحّح شيئاً. الجشع طابع عصرنا، مقاومة الفكر للطبيعة الاجتماعية هو في أصول الكلمة التي تجمع الأضداد إلى واحد. نسيج اللغة لدينا ينبع من صراع داخليّ ذي طبيعة إجتماعيّة ثقافيّة ودينية فاقدة الثقة بين الناس ومتحفظّة بسلبيّة وإستنفار.

نحن اليوم نعيش حالة تشظّى في اللغة (برج بابل)، نحن نسمع دويّ الانفعالات، كأن الطبيعة تعود إلى بدائيّتها الموحشة.

فيحاول عبدو أن يتصدّى لهذا الواقع في العقول، فيبدأ البناء.

يفرد لكلّ ركنٍ من أركان الحياة الحضاريّة والانسانيّة باباً: السّلام / الحوار/ الإقتصاد/ المواطنة/ السّلطة/ الإستثمار والتنمية/ الدّين والإيمان/ الطّاعة/ الفقر/ التربية.

عبدو يتحدّى العقول النيّرة. رجلٌ لا يُغمِض عينيه على مآسينا. ملتزمٌ، مواطنٌ مخلصٌ، طاهرُ القلبِ، حرُّ التفكيرِ من قيودِ المادّة والنفعيّة. يخاطبُ الناس أَجمعين، بعد أن اكتشف أنّ من العقول النيّرة من ارتهن لمسايرة الإمبرطوريّات الرومانيّة الحديثة.

عبدو يندفعُ مع الأمل الجميل الذي بقي في أرواحنا وضمائرنا، وهو الأمل الذي يجبُ انعاشه بواسطة إِصرارنا على القراءة والإصغاء والتّحليل العميق والجدّيّ والموضوعيّ، إنطلاقاً من استعادتنا لإيماننا بذواتنا وبالآخرين ككائنات تقدر أن تتخطىّ نفسها وأن تتبلْور وتنهض بمجتمع على دروب الكمال بالحبّ.

فإذا سمعتُم صوتَه وقرأتموه، لا تُقسّوا قلوبكم.

 

أمل ديبو

31 أذار 2015

_______________________

  

في ما قبل الأَديان،

رجاءُ الإِنسان الدّين

كتحرُّرٍ بالكلمة: كلمة العهد

عبدو قاعي

تناول هذان الكتابان ثلاثة حقول أبحاث أَساسيّة تمّ التركيز عليها نظراً للأهميّة العلميّة والرّوحيّة التي أكتسبتها في العقود الزمنيّة الأَخيرة. هذه الحقول هي:

 

في ما بعد الدين: الأديان،

في سببيّة الرؤيا: سلطة الكلمة

في التاريخ (الكلمة) كتوليدٍ صادق (تأريخ) لتواريخ نزاعاتنا وأَحداثنا

 

في ما بعد الدّين، أي ارتباك الصّلة بين السماء والأرض، حيثُ تمّ الوقوع في فقدان الثقة داخل العلاقات التي تربط بين الطرف والطرف الآخر، أو في تجربة الأَديان، وفي سلطة الكلمة، هو تنبيه من مدى خطورة هذا الإرتباك في الصّلة بين السماء والأرض ومن فقدان الثقة بين الناس، أَتى في كتابين صدرا سنتي ال2012 وال 2014.

فذُكرَ هكذا في هذا التنبيه، أن على البشريّة أَن تُعيد قراءة ذاكراتها جميعاً: الذاكرة البيولوجيّة، كما وذاكراتيها المكتوبة والرقميّة، في ضوء المواجهات الثقافيّة والدينيّة التي تمرُّ بها حاليّاً في كافّة أَنحاء العالم.

وقد ارتكز هذا التنبيه، في ذلك، على كون أَنَّ الأديان قد عادت لتظهر، من جديد، في هذه الأَيام، بمظهرها العقائديّ البِدئيّ، الذي اتّسمت بهِ في أزمنة انقساماتها المذهبيّة الأولى، وذلك نتيجة للتّضعضع الحالي الذي وقعت فيهِ المجتمعات المعاصرة، بعد أن ضعفَت من ضمنها السياسات الإِجتماعيّة الضامنة للعدالة والمساواة، فعاد الناس، في معظمها، إلى أَجواء التأمينات التي توفّرها لهم جماعاتهم الإِنتمائيّة العائليّة، أو تلك المرتكزة على القواعد العرقيّة و/أو المذهبيّة و/أو الحزبيّة...إلخ...الخ...داخل المجتمع الواحد.

 

لقد تطرّق هذان الكتابان، أَي:

في ما بعد الدين: الأَديان، في سببيّة الرؤيا،

في سلطة الكلمة، في تاريخ تواريخ تواريخنا وأَحداثنا،

إلى التّضعضع المجتمعيّ الحاصل في المجتمعات المعاصرة، والمتكشّف للعيان، خاصّة على صعيد أَجهزة المواصلات، التي أُدرجت من خلالها كافة أَنواع أوأشكال الصلات الإِجتماعيّة. وقد تمّ التركيز في هذين الكتابين على أنّ هذا التضعضع المجتمعيّ ليس سوى انعكاساً لإِخفاق الإِنسان في عيش البعد الدينيّ لطبيعته الإِنسانيّة الراقيّة، ولعودة الأَديان بابعادها العقائديّة المتصلّبة، مع ما ترتّب، نتيجة لذلك، على مستوى ممارسة سلطة الكلمة من تقلّبات في الإنتماءات المختلفة التي استعملت فيها، أَكانت سياسيّة أم إِجتماعيّة أو تربويّة، إلخ... 

وهذا ما أردت أن أكشف عنهُ في هذين الكتابين انطلاقاً من صورة الرؤيا التي أتت في نسيح مخيّلة الرسول يوحنا الحبيب، وهو الوحيد، من رسل المسيح، الذي رافق معلّمه على طريق الجلجلة، وهو الوحيد، أَيضاً، الذي كان بمقدوره أن يشهد لكلمة المسيح، وهو ينتقل كروح، من مضايق جسده الفاني إلى رحاب الحياة الأَزليّة بالرّب الإله، أيّ هذا المكان-الزمان الأَزليّ لسُكنى الروح.

وإِنّي، إذ شدّدت على رؤيا يوحنا، فذلك لأنّ الرؤيا لم تُؤتى ليوحنّا إلاّ وقد رأى يوحنّا نفسه وحيداً، بعد أن سلّمه المسيح مريم أُمّهُ، فبانت له صورةُ خرابِ الخليقة مرتبطة بنزاع الأمم، وبمشهديّة العلاقات القاتمة التي تربط بين هذا النزاع وبين تضارب المصالح التي تفصل في ما بين الأُمم، في كل زمان ومكان إلى أن يأتي زمن المواجهة الشاملة بين الأُمم، في ما يشبه معارك تنازع البقاء بين القبائل التي قد تتكرّر بين أَزمنة الماضي و أَزمنة الحاضر.

هذان الكتابان، هما دعوة، للإغتراب في عوالم الفكر الروح، من أَجل أن يتمكّن الإنسان، من جديد، فرداً وجماعة، من إعادة اكتشاف أمكنة حياته، بين المدينة الإنسانيّة التي يطلب منهُ إعادة بنائها، والفضاء الرّوحي الذي هو مدعو لتفقُّده، بصورة دائمة، لتلمُّس منابعِ الرّوح، حيث تكمن الليونة الإلهيّة الأَزليّة التي تجعل منهُ رسول خير وسلامٍ على الأَرض.

 

من هنا، سيكون علينا، في السنوات المقبلة القيام بتحدياتٍ كبرى، اختصرها بست:

-تحدّي المعتقد، كانتماء يلتصق يالأُصول والجذور وصولاً لبناء الهويّة كذاتيّة متحرّكة تتعرّف إلى ذاتها عبر احتكاكها مع عمقها التاريخيّ وانفتاحها على الثقافات المختلفة.

-تحدّي التّقليد والحداثة معاً، في عمليّة نقد شاملة، تطال النقد أَيضاً، لاستبقاء النهضة الإنسانيّة في حالة حضور دائمة على طرق المعرفة كلّها: العقل والوجدان، الضمير والروح.

-تحدّي الإلتزام، كانخراط في ما هو، للتمكّن من الإندفاع نحو ما قد يكون، في عمليّة إِعطاء الإنسان لذاتهِ.

-تحدّي التربية، كتنشئة على الكلمات المصاغة، للتمكّن من التنشّؤ على القول في الذات وفي الآخرين.

تحدّي القراءة النقديّة لكتب العقائد، كتنقيب في مقلع الكلمات المرصوفة بحثاً عن نوايا الأَقوال المتضمّنة فيها ونحن متوخّون تقريب الكلمة، كلّ كلمة، من ديناميّة فعل الخلق الذي يُحرّرها.

تحدّي قراءة الكتب التي تدعونا إلى الإيمان، كاختبارٍ متواصلٍ للإصغاء إلى الأقوال الرّوحيّة (الإِلهيّة) التي تنضح بها الكلمات، من أَجل اكتشاف الهندسة الحياتيّة لتحريرها الخّاص على أَشلاء نوايا العداء التي تحمّلها إِياها إسقاطات مآسينا وأَحقادنا فيها.

 

أين نحن اليوم من هذه التحدِّيات

وكان ما كان

في قديم الزّمان،

كان في البلد الزّمان،

البلد الألف مرّةٍ

ومرّة

أَقصى بعداً

من البلدان

التي بانت

علامات رموزها

على صفحات

مساحات الإيمان،

الإِيمان المنتظم فينا،

الإِيمان الذي

 أَخذ على ذاتهِ

أَن يضع

قوانين الإِنتظام،

كل إنتظام،

الإِنتظام المتمركز

في ذاكرة التقاليد،

والإِنتظام المتشكّل

في الذاكرة الرقميّة،

ذاكرة الزّمان

وذاكرة المكان،

وذاكرة كل زمان

ومكان،

إنّ هذه الذاكرة

وهي الأَقدر

من بين مثيلاتها

قد قرّرت أَن لا يكون

مسلكنا إلى التحرّر

إلآّ عبر تعابيرنا

وأن لا تكون

تعابيرنا

ترجمة لنوايانا

 

إلاّ إذا تدفّقت

من عمق غرائزنا

لتلامس

 بِدئيّات

 أَحاسيسنا

 ومشاعرنا

ورغباتنا

الأَنانيّة،

 

كان يا مكان،

في ذلك البلد الزّمان

حضارة عريقة،

ولكن،

ولكنّ الحريّة

غدت فجأة

ألف مرّة

ومرّة

أكثر ثقلاً

من الإيمان،

بعد أن أَُطلِق

لها عنانها

فسُرِّحت

للتعبير

من دون أَيّ إِيمان.