كلمة ادمـون رزق

   فـي تكريم

  جورج شامي

محاكاةٌ ذاتيّةٌ... لا محاكمة !

 

لجورج شامي، عندي، كلامٌ كثير، يتجاوزُ الموضوعَ والمناسبة.

رفيقُ المدرسة، ابنُ "الحكمة"، مدرسةِ المطران، حيث بزغَ ولَمَعَ، في الندوةِ الأدبيّة، والمجلّة الطلاّبيّة.

 

قاصٌ بالدعوةِ، ولا ادّعاءَ، على تماسٍّ مع الواقعِ النافر، ذو خصوصيةٍ ومِزاجيّةٍ، في مقاربةِ الأشياءِ والنفاذِ الى عُمقِ الأشخاص.

 

منذ بداياتِه، وعلى امتدادِ تَــرْحالِه، فرضَ نفسَهُ واحتلَّ مرتبتَه، كاتباً وصِحافياً، يستلُّ مواضيعَه وأحداثَه من صميمِ الحياة، لوحاتِ معاناةٍ، بلا مجاملاتٍ أو تجميل، بل لقد يُمعِنُ في غرزِ السكّين إِيلاماً، كأنّما ليوقظَ نياماً !

إنّهُ في حالةِ اصرارٍ مستَدامَة، على ابرازِ البشاعاتِ والإعاقاتِ، للإيحاء ِبتَصوّرِ عالمٍ أفضل، كامل، مع يقينِه أنّهُ مستحيل!.. واقعيٌّ، يَقسو على نفسِه أولاً، قبلَ غيرِه، فيُخيّلُ أنه مُعَبّأٌ بالنقمةِ، لكن لا مكانَ في قلبِه إلاّ للمحبّة !

بعد "الحكمة"، احترفَ جورج شامي الصحافةَ مبكّراً، في يوميّاتٍ ودوريّاتٍ مرموقة، فأصابَ نجاحاتٍ، خَوّلَــتْــهُ تولّيَ رئاسةِ تحريرِ "الشراع"، احدى أرقى الأسبوعيّاتِ في زمانِها، يومَ امتيازُها لِمُصلحٍ اجتماعيٍّ ورائدٍ تربويّ: المونسنيور انطون القرطباوي، فجعل منها مِنبراً للكلمة السَواء، الخبرِ الدقيق، الرأيِ الصواب والأدبِ الأنيق، مقالاً وتحقيقاً.

ذروةُ تلاقينا، كانت في حلقة "الثريّا"، اواسِطَ خمسينات القرن الماضي، مع جورج غانم، شوقي ابي شقرا، ميشال نعمة، نور سلمان، وجوزف ابو جودة، ثم، ريمون عازار وانور سلمان. يومَها، أشرَكَنا جورج في تحريرِ "الشراع"، فَسَحَ لنا صفحاتِها، خصّنا باثنتينِ اسبوعياً، تُبحِرُ فيها أقلامُنا الفتيّة، شعراً ونثراً، فاذا هي، ومجلّةُ "الحكمة"، عهدَ فؤاد كنعان، تحتَ كَنَفِ الخوري خليل أبي نادر، مَطَلُّ البواكيرِ ومرتَــعُ الأقلام.

 

*                *               *

 

من علاماتِ تلك الأعوام، بعد مجموعتِه الأولى: "النمل الأسود"، صدورُ الثانية: "ألواح صفراء" في منشورات "الثريّا"، التي اقتُصرَتْ على أربعٍ غيرِها: دواوين "نداء البعيد" لجورج غانم، "معاً " لميشال نعمة، و"أكياس الفقراء" لشوقي أبي شقرا، ثم "رنين الفرح" كتابي الأوّل.

ولا نَعْـجَـبَـنَّ لاختيارِه لَونَيْنِ داكنَين، عنوانينِ على التوالي، لَفْتاً الى مراراتِ العيشِ وعذاباتِ الناس، يَنْهَجُ الصِدامِيَّةَ مُتَوَخّياً الصُدْقيّة !

 

*                *               *

 

برزَ جورج شامي في الصِحافة والقصة، كاتباً وأديباً طلاّعاً، اقتحاميّاً، يتصدّى لمكامنِ الوجعِ، مباشرةً لا مداورة.

مستقلّ واستقلالي، يُـراعي ولا يُرائي، واضح وصريح، هَدّافٌ مُحكمُ الرَميِ، الى كونِه ذا قلبٍ كبير، أخا مَوَدّات وكرامات.

مؤلّفاتُه رسمٌ بيانيٌّ لخطوطِ حياتِه وخُطواتِ مَسارِه الواثق، التجدّديِّ الإِبداع، هو بطلُها، وهي مرآةُ كوابيسِه وأحلامِه !

*                *               *

... وأما هذا الكتاب، حيث يضعُ نفسَهُ في قَفصِ الاتّهام، فمحاكاةٌ ذاتيّةٌ لا محاكمة !.. مــرافــعــاتٌ أيــــنَ منها وَقَــــفاتُ قصورِ العدل، فــي مواجهةٍ استباقيةٍ، أدنى الى التحدّي منها الى التَبيان.

 

"قَفَصُ اتِّهامِه" واحدٌ من ضروب "التعرّي"، فالأسئلةُ، على حِدّتها ودِقّتِها، لا تشكّلُ إِحراجاً له ولا استدراجاً، فجورج شامي هو مَن يستدرجُ السائلَ الى السؤال، في تلاعُبٍ ذِهنيٍّ، ليتجاوزَ الردُّ أبعادَه، يُصبِحَ أقربَ الى البَواحِ، أو التبليغ. كأنّه السائلُ والمجيبُ، كليهما معاً، في بَــرْهَـــنَـــةٍ عكسيّةٍ مشاكسة.

 

*                *               *

 

زاخرُ المكنون، تَخالُه، للدقّةِ والشمول، يرتجلُ الإجابات، فــتَــــنْــضَــحُ صدقاً، وتكشِفُ ثقةً بالنفسِ، حتى الكبرياء.

لا تغطيةَ، لا تمويهَ، لا تهرّب، بل ملاءَةُ نفسٍ، عصيّةٍ على الطلب، لا تقايضُ اقتناعاً بترضية!..

 

جورج شامي رجلٌ لا يُساوِمُ على موقفٍ ولا يتواطأُ مع قادر. لا يخشى ولا ينحني. لا يسايرُ ولا يلتمس. عدائيٌّ للهوانِ، ولكلِّ خطأ ظاهرٍ أو مبطّن، وايِّ انحرافٍ يُخلُّ بتوازنِ العلاقةِ الإنسانيّة. مؤمنٌ بقِيـَمٍ مطلقة، متصالحٌ مع نفسِه، فلا غرابةَ أن يجدَ كثيرون أنفسَهم فيه !

 

*                *               *

       ظاهرة جورج شامي تؤكّد، مرّةً بعد، أنَّ الإِسمَ، مُجَرَّداً من أيِّ لقبٍ، هو خيرُ تعريفٍ بالشخص، فقد اكتــنـــزَ اختباراتِه، وشكّلَتْ كتاباتُه نسيجاً خاصاً منَ المشاعر والأحاسيس، آخذاً مداهُ الأرحب، ليقدّمَ قصّةً من صميمِ الأدبِ الانسانيّ، جسّدت حالاتِ مجتمعاتِنا، ومشاعرَ انسانِنا، في الزمانِ والمكان.

 

*                *               *

أيّها الإخوةُ والأصدقاء،

خلاصةُ شهادتي "المجروحة" فيه، أنّ ابن قيتولي، منجبةِ الأدباءِ والصحافيين، هو جاري، صديقي وأخي، منذ أواسطِ اربعينات القرن الماضي... وأنا أعتـــزُّ به عِصاميّاً، مبدِعاً، عريقاً، عادلت مؤلفَّاتُه أرفعَ الدرجاتِ العلميّة، فشغلَ بجدارةٍ مديريّةَ كليّةِ الاعلام، في الجامعة اللبنانية، واقــفـاً مواهبَه وخِبرتَه على قضيّةِ الحريّة. تولّى مسؤولياتٍ قياديّةً منذ فتوّتِه، وما برحَ في طليعةِ الذين يُجسّدون القِيَمَ القرويّةَ – المدينيّة، مشدوداً الى جذورِه الأصيلة، مستمداً ثــقــتَــه من ايمانِه، بدونِ طقسيّةٍ مَشهديّةٍ، أدنى الى الوثنيّةِ منها الى النِعمة !

أخي جورج،

شكراً للحركة الثقافية أن دَعَتْ الى تكريمِك، وهي السبّاقةُ الى المكرُمات، شاهدةُ لبنانَ الكلمة، ضامنةُ المستوى الحضاريّ وحاضِنةُ الوَحدةِ الوطنيّة، في زمنِ التمزّقِ والضَياع، وحَمْداً أن أُتيحَتْ لنا مناسبةٌ، لبعضِ وفاء !

------------------------------------------------

كلمة غالب غانم

"في قفص الاتهام" لجورج شامي

لم يَعتقلْ قلَمَهُ مُعتقِل

 

      صعبٌ  عليَّ، يا حامِلاً كلَّ هذا الجَنَى... أن أُشارك في يومٍ من أيّامك أو في الاحتفاء بثمرةٍ من ثمراتِ قلمك، دون أن أُطلق العنان للوجدان، وللذكرياتِ وما يهواه قلبي، ولتسجيلِ آيات الإعجاب بصمودك في ساحِ الكلمة سحابةَ عقودٍ ستّة، غير مُهادنٍ ولا مُنسحب، ولا مُكتفٍ ولا مُقلِّد. لقد وقعتْ عيناي، آن تقليبِ صفحاتِ كتابك، على هذه القولةِ ذاتِ الرّونق والسرِّ العجيب:

   "ليس من طبعي أن أحترقَ بجمرِ المباخر، وإنْ كانت رائحةُ البخور تُسكرُني وتُنقّيني، وتُعطيني عَبَقاً طهوراً".

   تُكبّلني هذه الكلمات فلا أجعلُ الجِمارَ تتأجّج والمباخرَ تتضوّع. وتحرّرني فلا أُحجمُ أو أُغالي في الترصّن والترصّد وفي نظرةٍ علميّة إلى الأثرِ الأدبي تسدُّ المنافذ على الشذا وعلى النسائم العليلة.

 

 وما بين مَغبّةِ الاحتراق وغِبطة التطهّر، أفهمُ أنّك تطمئنُّ الى من يكتشفُ كم في مسيرتك الأدبيّة من محطّاتٍ مغايرة، وتحدّياتٍ، ولُقيّات. يكتشف، ويقولها عالياً... وإلى من يقدّر عصاميتك "ونحتَ نفسك بأزاميل صعبة"... يقدّرُ، ويقولها عالياً. كما أفترض أنّ أطيب العبقات وأرقّ النفحات التي ترتاح اليها بعد طويل معاناة وعصيّ مواجهة وشَجِيّ أيّام وسخيّ عطاء، هي تلك الآتيةُ من جهات المحبّة. وأنا أحملها معي اليوم، وأرشُّ رذاذها وقمحها في بيادرك... وأقولها عالياً...

                                          ***

  وبعد! كيف تُراني أدخُلُ إلى أثِرك الجديد؟ 

   إنّه أسئلةٌ تنهمر انهماراً... ويتدفّقُ الماء. أضواء تحاول اختراق المطاوي والثنيّات وعتماتِ الذات... وتتجلّى الحقائق والدقائق والمخبّآت. أعوادُ طيبٍ تُحرّك الرّماد فيتململُ الجمر وتُنشَرُ أفواحُ الروح. زائرون من أصوابٍ شتّى وثقافاتٍ شتّى يستطلعون وأحياناً يتّحدّون ويتّهمون فتنفتحُ المغالق وتتكثّفُ البراهين. أشتاتُ سيرةٍ ذاتيّة بل حجارة أساس في بنائها. هذا بعضُ ما يوحي به "في قفص الاتّهام".

   ويومَ سألك سائل: "متى تخرج الى النور سيرتُك الذاتية"، أجبت: "لقد باشرتُ في كتابتها... وسأعتمد في تكوينها على نمطٍ غريب وسأنهج فيها النهج الإبداعي لا النّهج التقريري..." (ص163). وفي ظنّي أنّ الأثر الذي نحفو به هو باكورةُ السيرة الذاتيّة التي تنوي تدوينها. ذلك انّك بالفعل، وفي إيضاح اتّصلَ بعنوان الكتاب رأيتَ فيه أنّ ما تجمعُهُ هو "إضاءات على مطاوي الذات..." إنّك بالفعل رحتَ تعرض على الملأ نُثاراً من سيرتك الذاتيّة التي لوّنتَها، هُنا أيضاً، بألوان الإبداع رغمَ الطقوس التقريرية التي يفرضها حوارٌ صحافي أو لقاءٌ إعلامي.

 

    تشهد على ما أذهبُ اليه كوم وردٍ كثيرة في حدائقِ الكتاب. في واحدةٍ منها تقول:

    "شيء واحد لا أنساه. لم أستنجد بأحد. لم أستدرّ شفقة أحد.. لم أطلب عطاء من أحد. لم أقف سائلاً في باب أحد. كانت هناك عافية وقناعة صغيرة تدور في رأسي الصغير... وطموح منمنم يسيّرني ويدفعني الى الأمام. وحبوت مع الحياة تتعاطف معي ثم تقسو، وأتعاطف معها ثم أكبو. تشقى بي وأشقى معها. أنحت من صخرها، ولا أغرف من بحرها. ويكفيني أني نحتُّ نفسي بأزاميل صعبة." (ص33).

   في هذا الكلام أنفَةٌ عَلَتْ وعلَتْ حتى بلغتْ حَدَّ التواضع. وصلابةٌ شفّتْ وشفّتْ حتى بلغتْ أطرى مراتب الوجدان وأعمقَ طبقاتِ الرقّة.

***

    ومن المسلّمات القول، طالما أنّ طابع السيرة الذاتيّة يطغى على الكتاب، أنّك حاكيتَ فيه ذاتك لا سواها، ونتاجك لا سواه، ونهجك في القصّ وفي سائر ألوان الأدب لا سواه... فكنتَ، في آن، في منتهى الواقعيّة وفي منتهى الخيال. في منتهى اللياقة وفي منتهى الفظاظة. في منتهى الغبطة وفي منتهى الشقاء. في منتهى الخَفَر وفي منتهى الإباحة. في منتهى التعلّق بأرضِ الوطن وفي منتهى الكفر بدولته.

   كلُّ ذلك هو من طبائعك المتشابكة التي لا حلاوَةَ فيها إلّا إذا تلوّنتْ وتلاطَمَتْ وتعقّدتْ، ولا شرارةَ إبداع إلّا إذا احتكّ العاصفُ بالعاصف، وحجرُ الروح بحجر الروح.

   إنّه جورج شامي البالغ اللّيان والحنوّ مَنْ يقول:                 

   "المرأةُ فيَّ هي أمّ الله... المرأةُ في كتاباتي هي رحاب على أبواب أريحا... المرأةُ في سريري هي الأرض... المرأةُ الى جانبي هي الإنسان... المرأةُ في قلبي هي المحبّة." (ص40).

    وهو إيّاه، جورج شامي البالغ الضراوة مَنْ يُصرّح ردّاً على سؤال:

    "ويؤسفني هنا أن أقول، بحرقة، إن الذين يقيّمون القصّة، حتى الآن وبصفة خاصة في الصحف والمجلات هم إمّا "شويعرو" "الميري كريم" "والبوب كورن" "والتشيكلس" "والسوسات"، أو أولئك الذين يتنكرون لكل قلم لبناني، في حين ينقّبون عن عبيطٍ في زنجبار، أو بقية باقية من حطام "سد مأرب" ليقيموا منه كاتباً أو شاعراً أو قاصاً"(ص83).

***

 

    وكم يحسُنُ، في هذين السّاحةِ والسّاعة، -أي في لبنان أليوم- ألّا نمرَّ مرّاً عابراً على تجربة جورج شامي الوطنيّة.

    إنّ صاحب "أبعاد بلا وطن" و "وطن بلا جاذبيّة" جاهرَ، في هاتين المجموعتين القصصيتين وفي كتابه محور هذه الندوّة، بمشاركته الذهنيّة والقلميّة "والأثيريّة" في حرب اللبنانيين ضدّ الغرباء الطمّاعين، يومَ كانت في بداياتها النقيّة. وآلمه أن يقرأ ما جاء في نشيد الأناشيد وسائر الأسفار حول الحبيب لبنان، وأن يشهد، بموازاة ذلك، تفكّكَ أوصالِ وطن، وانحلالَ دولة. ولكنّه، على أيّ حال، وعلى تعدّد الأسفار والغربات، ظلّ يقول:

   "إنني لم أنفصل عن وطني ولم أقتلعْ جذوري ولم أنسف جسوري مع الوطن. باقٍ أنا فيه وهو باقٍ فيَّ."

 

   أجل! نحن باقون فيه وهو باقٍ فينا. ولكنّنا، ولا مرّة، لن نساوم أو نراوغ أو نستسلم أو نتلطّى أو نتمطّى أمام الأخطار أو نسلّم بالأخطاء الكبرى التي تُرتكب بحقّه، ولن نترك شعبهُ الطيّب والمعاند رهينة الفسادِ والضياع والإهمال وقتلِ الأحلام في مهودها وإحباطِ الشباب وشللِ المسؤوليّات والتفرّج على الفشل ومكافأة صانعيه. لا، ما قبلنا، بذلك ولا مرّة، ولن نقبلَ به الآن.

***

    ومَنْ أنتم؟ يسألُ سائل، مَن أنتُمْ؟ صحيح! مَن نحن؟ نحن أصحاب الأقلام والأحلام التي لا يستطيع مُعتقِلٌ أن يعتقلها.

   وَلْيسلَمْ قلمك الذي لم يتمكّن أحدٌ من اعتقاله، أيّها الكبير، جورج شامي.

 

                                                 غالب غانم

-------------------------------------

يوم الاحتفاء بكتاب جورج شامي "في قفص الاتّهام"

الحركة الثقافيّة – أنطلياس

الأربعاء 13 كانون الثاني 2016

 

قلم من قوس قزح

 

بقلم الدكتور منيف موسى

 

   "قديشات آلوهو" أُرنِّمُ مَعَكَ في صومعةِ الأدب. وقصَّتُكَ الأولى الفائزةُ المجهولة، ترفلُ سعيدةً فوق مذبحِ الكلمة. ويقيني أنَّك سلخْتَها من عروقِكَ، وسلَلْتَ خيوطَها من أعصابِك، فصبغتَها  بألوانِ قوسِ قزح. ولم تكنُ مرآتُكَ، بعدُ، قد عكستْ، شعاعاتِ شمسِك، إلاَّ أنَّك قد تناولتَ الفجرَ من زاويةِ الهزيعِ الأخيرِ من طفولتِك، فأَيْقظتَهُ قُبَيْلَ ولادتِه، وسوَّيتَهُ نهارًا سويًّا، فيه صفاءُ الإشراقة. وبَسَطتَ عليه زرقةً وسيعةً ملساء، ذاتَ طلعةٍ غيناء. فكانتْ نجمةً غيداء، فوق ذاك الشفيفِ من أنيقِ الكتابة. وأنتَ بين اليراعةِ والقرطاس، فتًى، يتفرَّسُ دَهِشًا بتلك الكلماتِ المتراقصةِ على أصابعِه، وقد هبطتْ عليه كحوريَّاتٍ آتياتٍ من غابةٍ عذراء، تعلَّقتْ بناتِ أفكارِه، ليستْ مِثْليًّاتٍ هُنَّ. بل عرائسُ سِحْرٍ، في خَلْقةِ الأُنوثةِ العاريةِ الشَّهَّاء، لم يَمْسَسْها عَيْب، ولا خَدَّشَ عُذْرتَها شَنَار. عذارى ما لَبِثْنَ، وهُنَّ مُتْئِمات. فكانتْ: "ذكرياتُكَ عاريات"، وأنتَ في التماعِ الفِكْرِ، تدرجُ صَنَّاعَ إبداع. لكأنَّ فتيقَ الأدبِ عندكَ، طبعٌ وصَنعة. وأنتَ فيَّاض. وإلى التحبير نهَّاض. ما عَييْتَ عن ديباجة، وفي الكلامِ لم تتعثَّر. بين الحرفِ والصَّوْت. نغَّامٌ أنتَ ورسَّام .. والحركةُ عندكَ إيقاعٌ واتّزان. يصحُّ فيها قولُ الشَّاعر:

"تناهى سكونُ الحُسْنِ في حركاتها"

 

   سردُكَ رَهِيْفُ البثِّ. لا ثرثرةٌ هو ولا هَزْر .. وأنتَ هَزَار! أَلِفْتَ الأوراقَ والأقلام، مُذْ خَطَوْتَ في طريقِ الكُتَّاب. وبالكتابِ أُخِذْتَ، يومَ تَنسَّمْتَ عِطْرَ الحبر، ذاك الضَّوْءُ الأسود الذي يُشيعُ في العيونِ والعقولِ، نورَ المعرفةِ في ديجور الجَهْلِ وغياهب النَّفْس.

   توسَّدْتَ الكتاب. فكانتْ أحلامُكَ صفحات أقاصيص، ونثرَ شِعْرٍ، ورشَّ خواطر. وأنتَ بين السِّلْمِ والحرب، ثائرٌ غضوب، في يدِكَ نبُّوتٌ تقرِّعُ اللِّئامَ الطَّغَام. و"في قفصِ الاتّهام" لا عليك، قبضتَ على الحديدِ والنار، لانَتْ بين يَدَيْكَ القضبان، بَرَيْتَها أقلامًا تردُّ الطُّغيان، ودروعَ حريَّةٍ سَوَّرْتَها وحِصْنًا للكلمة، كان صدرُكَ مرمى سهام، وما سَقَطْتَ، جَلَوْتَ للأدبِ عدالةً، وشِرْعةَ حقٍّ في أرضِ البشر، فكانتْ جمالَ خلاَّق. واللهُ يُكرِّس الشعراءَ والأدباءَ، خيرَ الرِّجال! فيا لكَ من نقَّادٍ عروف. تَزِنُ الرَّأيَ بمثقال الذهب، والقَوْلُ منكَ كيَّال.

 

   صبغَتْكَ "الحكمةُ" بلَوْنٍ فَخْم، وأَزَّرَتْكَ بُرْدةً قشيبة، جبَلتْكَ بالبخور، وبالميرونِ مَسَحَتْكَ، فكُنْتَ القَنْدَلَفْتَ في هيكلِها.

   تَلَوْتَ "المزامير"، وزِيَّاحَ الكلمةِ أَقَمْتَ، رفعَتْكَ إلى رتبةِ الأُسْقفيّة، فَصِرْتَ بَطْركًا في دولةِ الأدب.

   منذُ ستٍّ وخمسينَ سنةً قرأتُكَ، ولا أزال، ويومَذاك، شِمْتُكَ بَرْقًا، رَعَدَ سحابُكَ، غيثُكَ كان مدرارًا، فأَمْرع. تلألأتْ نجومُ "ثُريَّاك" كُتُبًا في سماءِ العرب، ولبنانُ قمرُها والشَّمس. وفي "زمنِ الحداثة" ضَفَرْتَ للحريَّة إكليلَ رقيٍّ وانفتاح، وعقَدْتَ لميدانِكَ لواءَ النجاح.

 

   أرى إلى مسافةِ عمرِكَ – مدَّ اللهُ به رضيًّا – توقيعَكَ فوق خاتمِ الزمان، وقد مَهَرْتَ به أحلامَكَ العِتاق، فوسَمْتَ مسيرتَك بمِيسَمٍ بَدَّاع، علامةً لزمانِكَ الأصيل .. فاجْلِسِ اليومَ، أخي جورج، سعيدًا، على عرشِكَ المهيب!

   "قديشات آلوهو".

 

الميَّة وميَّة (صيدا – لبنان)

------------------------------------

كلمة المحامي جورج بارود في إدارته

لندوة حول كتاب جورج شامي ... في قفص الاتهام...

الحركة الثقافية – أنطلياس

الاربعاء في 13 / 1 / 2016.

 

          أديب طليق في تعبيره، متحرر من حكم الكلمة والقيد اللفظي الباهت، للادب عنده مفهوم خاص، وللصحافة مفهوم آخر. يعتبر الخلط بينهما نتيجة جهل تام بالمفهوم الصحافي؛ ذلك لان الادب يعيش على الواقع والخيال والصياغة وأناقة اللفظة والتحليل والوهم، أما الصحافة فتعيش على الواقع والحقيقة والالتزام ينوعيه: الطوعي والجبري.

          هذا ما ورد على لسان الاستاذ جورج شامي في حوار معه نشر في جريدة الجريدة في شهر تموز من العام 1960.

 

          أما لقاؤنا الليلة فحول كتاب له بعنوان "في قفص الاتهام" صادر حديثًا عن دار نلسون في طبعة انيقة كلاسيكية من 332 صفحة تتضمن إلى جانب التمهيد، حوارات له نشرت في صحف محلية وإقليمية، ومقابلات إذاعية، تسلط جميعها الضوء على شخصه وفكره وأدبه. وقد اعتبر الاسئلة الموجهة إليه "تهمًا ليس فيها أي فعل شائن يُخجل المرء أو يشوه بياض صفحاته، لان سجل حياته لا يتضمن أي جنحة أو جريمة موصوفة تستلزم عقوبة قصوى إلى حد الاعدام... والدفوع التي يتمسك بها ويعتمدها كخشبة خلاص ليست الغاية منها السعي إلى تبرئته بفعل الاثباتات والحجج بالادلة والقرائن، بقدر ما هي تطهير لصورته الحقيقية الناصعة، وتوضيح ما التبس على الفهم والادراك".

          هذا ما يلخص مضمون الكتاب موضوع هذه الندوة، أتى على لسان صاحبه الاستاذ جورج شامي، وقد اعتبره إضاءات على مطاوي ذاته دفاعًا عن براءته والحقيقة.

          أما صاحب الكتاب، فهو أستاذ جامعي وصحافي وروائي وأديب مبدع، يعتبر نفسه "كاتبًا يتقبل اللقاحات من مختلف أنحاء الكون؛ فعطاءات وإبداعات كثيرة كان لها دور النّوار في تكوينه، تمامًا كما في النبات والشجر وفي تكوين الثمر، مع الندى والنسائم، مع المطر والبرد، مع الشمس والنار، مع السخونة والحرارة، مع الثلج والجليد، مع المجرات والكواكب، مع غزو القمر والمريخ والفضائيات، مع الرسم والنحت والموسيقى وكل الفنون المعمارية التي جمّلت هذا الكون وتجملت به".

          هذا ما قاله في جريدة السياسة الكويتية في المقابلة التي أجرتها معه ليندا عثمان.

          إنه مؤمن بأن حياته الكتابية تلتقي مع جينات كبار المفكرين والفلاسفة ابتداء من جان بول سارتر وصولاً إلى مخايل نعيمه وأمين الريحاني مرورًا بألبير كامو وستاندال ومون باسان، وهمنغواي ودوستويفسكي وتولستوي ومحمود تيمور وطه حسين ونجيب محفوظ... على ما قاله في جريدة الخليج الاماراتية، بحيث يصبح التصنيف ضربًا من العبث وتأويلاً مدروسًا لا حدود له ولا قرار؛ معتبرًا واقعيتهُ لا الوجود هي سر استمراره وجوهر عالمه القصصي والحياتي.

          آملين أن تلقى هذه الندوة حول الكتاب الغائص في أعماق شخصية جورج شامي، الصدى الحسن مع المنتدين الاساتذة الكبار المفكرين والادباء: معالي الاستاذ إدمون رزق، والرئيس د. غالب غانم، ود. منيف موسى.

 

أستاذ إدمون رزق.

 

        في تكريم الحركة الثقافية – أنطلياس له في المهرجان اللبناني للكتاب، الدورة الثالثة والثلاثين عام 2014، قلت فيه:

        "إدمون رزق: إسم يختصر كل الالقاب، فإن ناديته بصاحب المعالي أو بالنائب السابق، أو بأي لقب آخر، تشعر وكأنك تحجّم قامته؛ فهو أستاذ في القانون، مثقف مترامي الآفاق، كاتب وخطيب بليغ، وهو أولاً وأخيرًا محام ٍ كبير، وهذا اللقب هو الاحبّ إلى قلبه".

        وبعد تعمقي في شخصه ومعرفتي له من خلال عضويتي في لجنة الثقافة والتراث التي يرأسها في نقابة المحامين في بيروت، وبعد حوالي سنتين على التكريم أضيف: إنه إنسان عظيم، زاهد بالمراكز، متفان ٍ في سبيل المصلحة العامة، مدافع شرس عن القيم، ولِهٌ في حبّ وطنه، محاور مثقف ومطواع، يؤمن بالتعددية ويعترف بحق الآخر بالاختلاف ويقبله على علاّته، فكره ومسلكه يتخطيان حدود الوطن إلى الانسانية بمفهومها الاممي.

        يوم منحته جامعة سيدة اللويزة مؤخرًا درع قدموس بمناسبة الاحتفاء بذكرى السنة على رحيل الشاعر الكبير سعيد عقل، أحسست، ولم أكن أرغب في البوح بما شعرت به، كم هو متواضع هذا الرجل، وكم تصغر الدروع والجوائز أمام كبره وعظمته. إن لبنان يفتخر بهؤلاء الرجال، ونحن نعتزّ بإننا تعاوّنا معهم يومًا، ونشعر بالفخر لاننا عرفناهم وعشنا في زمنهم.

        الكلمة لمعالي الاستاذ إدمون رزق.

 

الدكتور غالب غانم.

 

        سليل عائلة أدبية وابن الشاعر الكبير عبد الله غانم، وشقيق الشاعر المرهف جورج، والزميل العزيز رفيق.

        ربيب بسكنتا، يكتنز الانفة من سفوحها والتواضع من نفوس أدبائها ومفكريها وشعرائها، والكبرياء من شموخ صنين والنقاوة من بياض قممه.

        جمع بين القانون والادب وتجلّى في كليهما، وكانت له مؤلفات مميّزة في هذا وذاك.

        قيادي مذ كان على مقاعد الدراسة وقيادي استمر في حياته العامة والمهنية. مارس المحاماة ومنها انتقل إلى القضاء إلى أن بلغ سن التقاعد؛ وقد ترك فيه بصمات خاصة إن في تعديله لاصول المحاكمات أمام مجلس شورى الدولة يوم كان رئيسًا لهذا المجلس أو في مشاركته في وضع كتاب أصول التنفيذ بأجزائه الثلاثة مع الرئيس غبريال سرياني، أو في إدارته للسلطة القضائية يوم كان رئيسًا لمجلس القضاء الاعلى.

        محب للخدمة العامة، عاشق للثقافة والادب، له عدة مؤلفات ووقفات.

        إنه الرئيس الدكتور غالب غانم.

 

الدكتور منيف موسى.

 

        من بلدة المية ومية،قضاء صيدا.

        ناقد وباحث مهتم بالدراسات الادبية والنقدية.

        تولى منصب أستاذ كرسي بكلية الآداب – الجامعة اللبنانية.

        يحمل إلى جانب الاجازة في اللغة العربية وآدابها، ماجستيرًا في الادب المعاصر ودكتوراه في الادب الحديث ودكتوراه دولة في النقد الادبي المقارن.

        له عدة دوواين شعرية ومؤلفات تتعلق بالشعر العربي الحديث والادباء جبران والريحاني وسليمان البستاني وسواهم. وردت مقالات عنه في عدة صحف ومجلات لبنانية وعربية.

        إنه الدكتور منيف موسى.