ندوة حول ديوان الشّاعر

ريمون شبلي

أشدو... وأشتاق

 

 

الحركة الثقافيَّة ـأنطلياس .

 

 ندْوة حَوْلَ ديوان الشَّاعر

ريمون شبْلي :

أشدُو ... وأشتاق !

 

كلمَة مُدير الندْوة :

الأستاذ ايلي ريمون الحجل .

12 نيسان 2016

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

      

       أيُّها الأعِزَّاءُ ؛ يحارُ المرْءُ ، في عُجَالَةٍ ، كهَذهِ الَّتي أرْتكِبُها ، الآنَ وهُنا ، كيْفَ يَلِجُ مَدائنَ الشِّعْرِ المحصَّنةَ ، ومِنْ أيِّ الأبوابِ يدْخُلُ العَالَمَ الشِّعْريَّ لصاحِبِ الدِّيوانِ الَّذي دُعِينا ، اليوْمَ ، إلى وَليمَتِهِ ، في الحركةِ الثقافيَّةِ ـ أنطلياس ... فلا يخفَى علَى أحَـدٍ ، أنَّ العُجَالَةَ ، في هذا المقامِ ، مُغامَرةٌ ، قدْ لا يخفِّفُ مِنْ أهْوالِها سِوَى اسْتذْكارِ أنَّ الشِّعْرَ ، نفْسَهُ ، مُغامَرةٌ ، وأنَّ قراءتَهُ ، بدوْرِها ، أمُّ المغامَراتِ !     

 

       مِنَ الجليِّ ، لقارِئ الدِّيوانِ ، أنَّ الشَّاعِرَ يبْني لهُ ، علَى امْتِدادِ صفَحاتِهِ ، عالَمًا شِعْرِيًّـا ، قوامُهُ ثالُوثُ : الكلمَةِ ، والإنسانِ ، والقِيَمِ ... وفي رأيي أنَّنا نعْثُرُ ، في هذا الثالُوثِ ، علَى المفْتاح الأساسيِّ الَّذي يُعِينُنا علَى فَضِّ قواريرِ المعَاني الَّتي تسْتبْطنُها خلايا القصائدِ ... وقدْ لا أغالي ، في هذا السِّياقِ، إنْ ذهبْتُ إلى القوْلِ إنَّ الشَّاعِرَ يبْدُو مهْجُوسًا ، تمامًا ، بهذا المثلَّثِ المقدَّسِ ، بحيْثُ يسْتحِيلُ عليْنا أنْ نقَعَ علَى قصيدةٍ لهُ ، في هذا الدِّيوانِ ، تكونُ خارِجَ هذا المدارِ ، أوْ غيرَ مُحَمَّلَةٍ بأثْقالِ هذا الهاجِسِ!

 

       هكذا ، ومِنْ رَحِمِ هذهِ الدَّائرةِ الكبْرَى ، يسْتوْلِدُ الشَّاعِرُ دَوائرَ صُغْرَى ، أوْ منْظُومَاتٍ جُزْئيَّةً ، ليْسَتْ أقلَّ أهمِّيَّةً ، أذكُرُ مِنْها ثالُوثَ : الصَّلاةِ ، والأمَلِ ، والعَمَلِ ( ص. 48 ) ، وثالُوثَ : الحبِّ ، والرَّجاءِ ، والسَّلامِ ( ص. 60 ) ... ولَعَلَّ الرُّؤيةَ المثاليَّةَ هذهِ قدْ أفْضَتْ بالشَّاعرِ إلى هِجَاءِ العَصْرِ الموْبوءِ ، والتنْديدِ باخْتلالِ العَالَمِ ، وتبدُّدِ المثُلِ العُلْيـا ، وانقلابِ المقاييسِ ، في القصيدةِ الَّتي عُنْوانُها " كفيفُ البصِيرةِ " ، حيْثُ يُوغِلُ الشَّاعِرُ في مُعارَضةِ رَداءَةِ هذا الزَّمَنِ ، وفي ذَمِّ أحْوالِهِ ، وانحِلالاتِهِ !     

 

       بَيْدَ أنَّ الهاجِسَ الأعْظمَ الجاثِمَ ، بظِلالِهِ ، وأشباحِهِ ، علَى وَعْي الشَّاعِرِ ، ولاوَعْيِهِ ، كمَا تشي لنا بذلـكَ مجمُوعةٌ كبرَى مِنْ نصُوصِ الدِّيوانِ ، هُوَ الموتُ الَّذي يُكنِّيهِ الشَّاعِرُ مَرَّةً بالناقُوسِ ، ومَرَّةً بالسَّارِقِ ، ومَرَّةً بالخاطِفِ ( ص. 43 ) ، ومَرَّةً باللَّحْظةِ الصَّفْراءِ ( ص. 50 ) ، ومَرَّةً بالأعْمَى الَّذي خصْمُهُ التعَبُ ، يمشي وفي يَدِهِ المِمْحَـاةُ والغضبُ ( ص. 70 ) ، ومَرَّةً بالصَّمْتِ ( ص. 80 ) ...

 

       والجديرُ ذِكْرُهُ ، هُنا ، أنَّ الشَّاعِرَ لا يُواجِهُ الموْتَ مُواجَهَةَ العَدَميِّ ، أوِ الكائنِ العَبَثيِّ ، لما ليْسَ مِنْهُ بُدٌّ ، بلْ نراهُ يُقارِعُ سُلْطانَ الموْتِ ، وجبروتَ الفناءِ ، بعُدَّةِ المؤمِنِ باللهِ ، وبالمشيئةِ العُلْوِيَّةِ ( ص. 40 و 41 ) ... وهوَ يمتشِقُ ، لهذهِ المعْركةِ الوُجُوديَّةِ ، سِلاحَ الصَّلاةِ ، والرَّجـاءِ ، حِينَ يغدُو فِعْلُ الصَّلاةِ ، بذاتِهِ ، مَرْقاةً إلى الخلُودِ ، والقيامةِ الموْعُودةِ [ ونصلِّي / لا نخشى رِيحًا / لا نخشى لَيلاً أوْ كمَدا / نمشي دَرْبَ النُّورِ واللاَّانتِهاءْ / ونصلِّي ... نصلِّي / لا نخشى الناقُوسَ غدا !  ص. 45 ] ...           

      

       صَحِيحٌ أنَّ الشَّاعِرَ يبْدُو لنا في انتِظارٍ دائمٍ للْمَوْتِ ، يترقَّـبُـهُ ، ويتهيَّأُ لهُ ، غيرَ أنَّ زادَهُ ، في محْنةِ الانتِظارِ : صلاةٌ ، وخُشوعٌ ، وإيمانٌ ، ووَداعةٌ ( ص. 49 ) ... وهوَ يرَى في العبُورِ إلى السَّماءِ وِلادةً ثانيةً ، وحيـاةً جديدةً ( ص. 57 ) ، مُنْحازًا ، بذلكَ ، إلى الحيـاةِ ، ولوْ مِنْ قاعِ الموْتِ ...  

 

       واسْتِطْرادًا ، أشيرُ ، عَرَضًا ، إلى تعَارُضِ الأخْضرِ ، والأصْفرِ ، وتضادِّهما ، في أكْثرَ مِنْ حيِّزٍ ، فوْقَ صَفَحـاتِ الدِّيوانِ ، بحيْثُ لا يفُوتُ القارِئَ النبِيهَ أنَّ في رَمْزيَّـةِ اللَّوْنِ الأخْضرِ ، وإيحـاءاتِهِ ، دلالاتِ الحـيَـاةِ ، والخلاصِ ، والتجدُّدِ ، والاسْتنْهـاضِ ( ص. 20 و 37 و 41 و 47 و 83 و 101 و 131 و 139 و 140 ) ، وأنَّ في رَمْزيَّةِ اللَّوْنِ الأصْفَرِ ، وتضْمِيناتِهِ ، دلالاتِ الموْتِ ، والأفُولِ ، والعَجْزِ ( ص. 50 و 84 ) ... وبذلـكَ ، لا يعُودُ ، مِنْ بابِ الصُّدْفةِ ، رُبَّمَـا ، رُكُونُ الشَّـاعرِ إلى الأخْضرِ ، وارْتياحُهُ إليْهِ ، لوْنـاً يتَّشِحُ بهِ جسَدُ الغلافِ الخارِجيِّ لديوانِهِ الجديـدِ !!  

 

       وفي زعْمِنا أنَّ للشَّاعِرِ ، كمَا لكُلِّ شاعِرٍ آخرَ ، مجمُوعةً مِنَ " الآبـاءِ الطَّيفيِّينَ " ، يتَّخِذُونَ مِنَ الجزْءِ الأغلَى في وِجْدانِهِ الشِّعْريِّ ، مَسْكِنًا عزيزًا لهمْ ، يرْتعُونَ فيهِ ، ويشعُّونَ إلْهامًا ، وتأثيرًا ، ونفُوذًا، وفي طليعَتِهِمْ : خليل حاوي ، وسعيد عَقْل ، والياس أبو شبكة ، وجبران خليل جبران ، وأدُونيس ( لا سيَّما في مِهْيارِهِ الدِّمَشقيِّ ) ... ولنْ يتَّسِعَ لنا المجالُ ، هُنا ، للْكشْفِ عَنْ أثرِ هؤلاءِ الشُّعراءِ ، أوْ للْكلامِ علَى دائرةِ نفُوذِهِمْ ، أوْ لتوْثيقِ حرَكيَّةِ التَّنـاصِّ ، بالأمْثِلةِ ، وبالشَّواهِـدِ ... 

 

       وبعْدُ ، فإنَّ الشَّاعِرَ مَهْمُومٌ ، أوَّلاً وأخيرًا ، بجمَاليَّاتِ الخِطابِ الشِّعْريِّ ، وهوَ يعْرِفُ ، مِنْ غيرِ شكٍّ ، أنَّ الشِّعْرَ ، في ماهيَّتِهِ الأولى ، صُورةٌ ، وإيقـاعٌ ... فلْنلْتفِتْ ، في هذا الإطـارِ ، إلى الشَّاهِدِ التالي ، لنرَى كيفَ أجـادَ الشَّاعرُ توْظيفَ المبالغـاتِ الشِّعْريَّةِ ، وتقْنيَّةِ التّكرارِ ، وإيقـاعِ التوازي والتوازُنِ، لإغْناءِ المعْنى الشِّعْريِّ [ وكلَّ لُحيْظةٍ قلَقٌ علَى قلَقٍ / وكلَّ لُحيْظةٍ وَجَعٌ علَى وَجَعٍ / وكلَّ لُحيْظةٍ سِكِّينْ/ علَى سِكِّينْ / ويكْبرُ في السِّنينِ الجرْحُ / يعْمُقُ في السِّنينِ الجرْحُ / ينْزِفُ في السِّنينِ الجرْحُ / يرْقُصُ مِثْلما المجنونْ ! / يُنادي مِثْلما المجنونْ !  ص. 14 ] ... أوْ إلى الشَّاهـدِ التالي الَّذي تجتمِعُ فيهِ ، إلى مَـا تقدَّمَ ، بلاغةُ الجناسِ الناقِصِ ، وتلكَ المشهَديَّةُ الملْحمِيَّةُ الَّتي تزْدحِمُ في فضائهـا الأفْعالُ المشدَّدةُ ، لتعْزيزِ ائْتلافِ الدَّالِّ والمدْلُولِ [ وبعْدُ المكانْ / رياحٌ تلفُّ رياحْ / وبعْدُ الزَّمـانْ / رِماحٌ تشكُّ رِماحْ / تفتِّحُ في كلِّ جيلٍ جِراحْ / ويهْدُرُ نهرٌ مِنَ القهْرْ / مِنَ الجمْرْ ...  ص. 18 ] ... 

 

       وعلَى العُمُومِ ، يسْتطيعُ القارِئُ ، في ارْتحالِهِ بَينَ حدائـقِ الدِّيوانِ ، أنْ يقْطفَ باقةً مميَّزةً ، مِنَ المجـازاتِ ، والانزياحاتِ ، والصُّوَرِ الفنِّيَّةِ ، ذاتِ المنسُوبِ الشَّاعِريِّ العَالي ، والفَرادَةِ التعْبيريَّةِ ... أذكرُ ، في مَا يلي ، بعْضَهـا : [ مَتى يشتاقُ وَجْهَ ربيعِهِ الزَّمنُـيحْفرُ ، في زمْهَريرِ الزَّمانِ ، زمانَهْ ـهُنالكَ الجنَّةُ الكبرَى قـدِ انفَتَحَتْ / لرُوحِكَ الحيِّ بَدْءًا يسْكُنُ الأبَدا ـعِنْدمـا تصْفعُ تلكَ اللَّحْظةُ الصَّفْراءُ دِفْءَ الجسَدِ / تنْحني كفُّ السَّما / وتعُودْ / تحْمِلُ الظِّلَّ وحِيدْ / يسْتعِيدْ / رُكنَهُ في الأبدِ ـمَفاتيحُ الرُّؤى تسْقطُ في كهْفِ الصَّقيعْ ـحفرُوا علَى وَجْهِ الزَّمانِ وُجُوهَهُمْـيتْلُو علَى الدُّنيا سَوادَ حُضُورِهِ / ويخِيطُ مِنْهُ مَسافـةً وسَدِيمـا ـأضلُعُهُ زنـابق ، وصَدَى أقدامِـهِ أمَـلُ ! ] ...

 

       كذلـكَ ، أرَى ، مِنْ منْظُورِيَ الشَّخْصِيِّ ، أنَّ القصيدةَ الأجْمَلَ ، في الدِّيوانِ ، هيَ تلْكَ الَّتي أعارَتِ الدِّيوانَ عُنوانَهـا ( أشدُو ... وأشتاق ! ص. 130 ) ، والَّتي اخْتارَ لها الشَّاعِرُ البَحْرَ الخليليَّ الأحَبَّ إليْهِ ، والأقْرَبَ إلى ذائقتِهِ العَرُوضيَّةِ ، والأكْثرَ اسْتئْثارًا بقصائدِ الدِّيوانِ العَمُودِيَّةِ ، عَنيْتُ بهِ البَحْرَ البسيطَ ... فهذهِ القصِيـدةُ هيَ ، في ظنِّي ، الأكْثرُ اكتِمَـالاً ، والأوْفَرُ نُضْجًـا ، مِنْ حيْثُ المكوِّناتُ اللُّغويَّةُ ، والعناصِرُ الإبْداعيَّةُ ، والرُّؤيـا الفلْسفيَّةُ والفِكْريَّةُ ، وأدواتُ الكتابةِ والتعْبيرِ ...

 

       أيُّها الأحِبَّاءُ ؛ لَعَلَّ في لقائنا ، اليوْمَ ، ألْفَ دَليلٍ علَى أنَّ الشِّعْرَ ، في دُنيانا ، بخيْرٍ ... أمَلي أنْ يكُونَ قُرَّاؤهُ كذلكَ ...

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حول ديوان "أشدو... وأشتاق!"

للشاعر ريمون شبلي

الأستاذ حكمت حنين.

      إذا كان المتنبي قد جعل "المجدَ في السيف والفتكة البكر"،

      وقد اعتبر أنّ "خيرَ جليس في الأنام كتابُ"،

      فإنّ ريمون شبلي قد اتخذ من القلم خير صديق أبدي. وقد اكتفى بهذه الصداقة التي لم ولن تتزعزع.

      هذا ما أعلنه ضمن أربعة أبيات مثبتة على الغلاف الأخير، مستلّة من قصيدة مثبتة في آخر الديوان بعنوان "قلم"، إذ قال في شطرين منها:

      "بيني وبينكَ شوق دافئ أبدًا

      كنا يدًا بيدٍ، نبقى معًا أبدًا"

      حمّل ريمون هذا القلم أشواقه وثورته وهدوءه وأحلامه وعواصفه وقلقه ورنين ذاته، وانتظاراته الخضراء، وبه جمع معظم وجدانيّاته التأمّلية التي دوّنها منذ العام 2000، وأصدرها في ديوان أطلق عليه عنوان "أشدو... وأشتاق!".

      يستوقفك، في هذا العنوان، علامتا وقف: علامة الحذف التي تفصل بين فعلين مضارعين أشدو وأشتاق، وعلامة التعجب التي تختِم العنوان.

      علامة الحذف تمسكك لتتساءل وتتأمّل: لمن ولمَ يشدو ريمون؟ وعلامة التعجب ترسم في خاطرك دهشة وانتظارًا لتعرف إلى من ولمَ يشتاق؟ والفعلان المضارعان يفيدان حالات مستمرّة بين الحاضر والآتي، تؤكد أبدية العلاقة بين ريمون وقلمه وشدوه واشتياقه. ويستوقفك من جديد حرف الشين المكرّر في "أشدو وأشتاق" لكأنّه يسحب من أعماق صاحبه نشيجه الصامت ليسكبه قصائد وجدانية تأملية معبّرة خير تعبير عمّا يريده الشاعر.

      وإذا حاولت الإجابة عن الأسئلة السابقة، وأن تتأكد من صوابية التأويل للعنوان، ما عليك إلا أن تركب زورقًا وتبحر في يم قصائد الديوان، لتغوص من ثمة على ما فيها من تأمل ووجدان ومعاناة كابدها الشاعر في مناسبات متعددة ومختلفة ومتباعدة، على مدى تجرِبته الشعرية.

      ونظرًا لتعدّد المناسبات والموضوعات التي تطالعك في الديوان، ونظرًا لضيق الوقت المتاح لي لعرض مداخلتي، اخترت أن أتوقف عند قضية واحدة لفتتني كثيرًا في الديوان، وهي "الموت والرجاء المسيحي" عند ريمون شبلي في هذا الديوان.

      ولكن، قبل الشروع في عرض هذه القضية، اسمحوا لي بأن أتوقف عند بادرة اتّخذها ريمون، وهي، ضمن ما طالعت، جديدةٌ عليّ، فودِدت أن ألفت النظر إليها. لأوّل مرّة أقرأ أن أديبًا حَفِظَ حقوق النشر لولديه، فكأنه – سلمت روحه – يورّثهما باكرًا إرثًا فكريًا معنويًا لا تقدّر قيمته بثروة مادية.

      والآن نعود إلى قضية "الموت والرجاء المسيحي".

      قصائد ريمون هذه عبارة عن مجموعة تمتدّ بين العامين 2000 و2016، وهي وقِفاتٌ عند محطات ومناسبات معيّنة، ينطلق منها ريمون إلى استعراض حالات وأوضاع عامّة، يسجّل موقفًا له منها.

      أبرز محطة لفتتني توقّف عندها ريمون هي قضية الموت. وقد توقّف عندها كثيرًا، وفي مناسبات عديدة، تبدأ بالتأمل انطلاقًا من موت الوالد، مرورًا بالتفجع الفرح على الزوجة، انتهاءً بتأبين بعض الأصدقاء والزملاء والزميلات والمقرّبين.

      ذكرى الأب تحتلّ مِساحة واسعة في ديوان ريمون، فأبوه، وإن غاب، يبقى اليد التي تدافع، والشعاع الذي ينير الدرب، والشراع الذي يوجّه إلى المرافئ الآمنة. يبقى القلب والساعد والحب والحارس والجدار في وجه الرياح، والطيب للجراح (ص 25).

      وربّ متسائل: كيف يبقى الأب كلّ هذا وقد مضى على رحيله ما يزيد على ربع قرن؟ الجواب في ما زرعه ورسّخه هذا الأب الراحل في شخصيّة ولده ريمون من مزايا وشمائل كريمة.

      موت والده قاده إلى التعبير عن ألمه وصدمته من الواقع المرير الذي يتخبط به لبنان واللبنانيون. فبعد عشرين سنة، مرّت على رحيل والده، تراكم القلق والوجع والتعب ونَزْفُ الجراح، وعظمت الأحزان، وهي مستمرة، بل إنها تزداد اتساعًا وعمقًا ونزفًا، فيما كان ريمون يأمل أن تسير الأمور نحو الأحسن.

      أمام هذه الصدمة، لم ييأس ريمون، بل ظلّ يأمل ويتساءل:

      "مضت عشرون..

      لماذا

      لم يبرعمْ بعدُ غصْنٌ

      لم يفتِّحْ بعدُ وردٌ

      لم يُضئ نجمٌ ولا قَمَرُ؟"

      ريمون ابن الرجاء المسيحي يزرع رجاءه في كلامه، فالأفعال المضارعة "يبرعم، يفتّح، يضئ" كلّها تفاؤليّة. وترقّب الأفضل توحيه "بعد" المكرّرة ثلاث مرّات. وأشياء الطبيعة "غصنٌ، وردٌ، قمر" كلها توحي بالأمل المنتظر.

      ويزداد الأمل حدّة عند ريمون حين يرى أنّ أشياءَ طبيعية أخرى ما تزال تفيض بالخير:

      "لماذا

      وهي ما زالتْ

      تقطرُ ماءها الأغصانُ والشجرُ؟"

      عنصر الحياة، الماء، متوافر، وهو ما يزال وفيرًا ومعطاءً، فلم لا تتجدّد الحياة في نفوس أبنائها، ولا سيما اللبنانيين.

      ومهما مرّ الزمن وتفاقمت الأزمات، لا يستسلم ريمون ولا ييأس:

      "مضت عشرون

      متى يتقهقرُ التّنينُ

      ويندثرُ؟

      متى يشتاقُ وجهَ ربيعِه الزمنُ؟"

      إنّه توقّعٌ وانتظارٌ لربيعٍ آتٍ يلُفّ الزمان ويعُمّ المكان، وأملٌ وتفاؤلٌ بدحرجة الحجر عن قبر لبنان، وعن صدور اللبنانيين، فيشهدُ ويشهدون قيامةً وصعودًا وخلاصًا من الفساد والفاسدين والمفسدين، وقد طالت وعمّت الشكوى منه ومنهم.

      ويتجلّى الرجاء المسيحي في شعر ريمون في قصيدته لزوجته التي عانت المرض والآلام المبرّحة، وقد شاركها ريمون آلامها لحظة بلحظة. في هذه القصيدة "إفرحي في رحلة الأبد"، يبرز الرجاء المسيحي المتجذّر في نفس ريمون بقوله في عنوان القصيدة "إفرحي"، فيما الرحيل أبدي. إنّه تعبير عن ترسّخ المسيحية في نفوس المتعبدين المؤمنين بأن الفرح، مهما بلغ في هذه الدنيا، فهو لا يساوي الفرح المنتظر في أحضان الرب. كيف لا وموت الزوجة خلاص لها من عذاب لا ينتهي مع مرض يتفاقم. إنّه يفرح لها لأنّها سترتاح من عذابها في أحضان الرب حيث لا وجع ولا ألم ولا بكاء. في هذه القصيدة يطغى حقل الفرح بعبارات كثيرة منها: "نور المسيح"، "دفء الرجاء"، "لك الصلاة"، "العالَم العُلْوي"، "نغنّي نغمة الخلد" (ص 37).

      وتترسخ عقيدة الرجاء المسيحية في شعر ريمون من خلال قصيدة "جبروت القلق" ص 46، فهو ينتصر على معاناة القلق بأن يواجهها بالصلاة والأمل الكفيلين بتحقيق الانتصار عليها.

      ويواجه لحظة الموت الصفراء التي يترقّبها، ولا يبدو أنه يخشاها، ببصيرته التي ترى الصمت الذي يعقبها صلاة وخشوعًا، والنورَ نورًا يضوع، وراحةً بين يدي الخالق وأحضانه، فيطمئن ريمون ويرى أنه قام برحلة طاب فيها السفر (ص 50).

      وبعد تأبين مجموعة من الأصدقاء والزملاء والزميلات والمقرّبين، لا يعفو ريمون عن نفسه، فيردف، مباشرة بعد قصيدة التفجّع على الزوجة ص 37، قصيدة "كَمَن" ص 39، وفيها استعراض موجز لسيرته واستشراف لعودته إلى خالقه حيث السعادة والغبطة والطُمأنينة والراحة الكبرى والمكافأة في حضن الآب الرحيم، إلى جانب الزوجة نورما.

      ولا يأبه ريمون للموت ولا يخافه، كيف يفعل وهو مرتاح لتخليده وواثق من ذلك عبر ما تركه من محبّرات، تؤكد إيمانه بخلود النفس وفناء الجسد بعد الموت. الجسم يفنى أما ما سطّره القلم، صديق ريمون الأبدي، فخالد مخلِّدٌ.

      ختامًا، نحمَد الله أن أخانا ريمون، المؤمن بالرجاء المسيحي إزاء حتمية الموت، أنقذ نفسه من تطير ابن الرومي وهلوسة ابراهيم بن خفاجه في آخر أيامه.

      أخي ريمون سَلِمْتَ مع عقلك وصفائك ووفائك ويراعك. ألا جد علينا بالمزيد من أدبك الرفيع. وشكرًا.

_______________________________________

ريمون شبلي يشدو ويشتاق !

الدكتور جهاد نعمان

يا للإنسان الذي قرأتُه قبل أن أقرأ له فصاغ منّي صديقًا له !

يعيش كزنبقة مرتعشة في غابة كبيرة. كُتبَ عليه جانب من المعاناة فأمسى صاحب رؤى في زمن كفيفي البصيرة وعادمي الضمير.

يشدو لأحبّاء مضوا، ويشتاق إلى تحقيق آمال وأحلام.

الشاعر المطبوع ريمون شبلي.

لم يبقَ شعره على ما كان عليه الشعر من مدح أو رثاء أو هجاء. فهل مات الأمل في صدره وباعدت العلل بين البصر والبصيرة واتجاه النور؟

خلقت المدنيّة المزيّفة المقلّدة شعره المتمرّد والتوّاق إلى أسباب العدالة والتحرّر من كلّ ظلم وقلق.

شعره الاجتماعيّ يعكس آلام شعبه. يدعو فيه إلى تربية الأطفال، ويزيح الستار عن مضار تصرفات رعناء، ويكثر من التحدّث بالوطنيّات والعطف على المظلومين والمنكوبين القابعين في الزوايا المظلمة.

يتعرّض شعره لأغراضٍ مستجدَّة كالتلوّث البيئي. يخشى حتى الريح والدموع ومهبط الليل الخبيث الرطب ينفذ إلى رؤيته ويحزّ في صدره ويحشرج  الصوت الكليل في حلقه الذي أرهقته مهنة المهن التعليم.

طريقه إلى التجديد القويم هو الأدب الأصيل وأساليبه وصفاء لغته والتأثّر المتعقّل بالفنّ الغربي والتعمّق في الثقافة الغربيّة تعمُّقًا حقيقيًّا لا يقف عند القشور ولا يكتفي بالتوقّف عند بعض العناوين والصور والمعاني.

لديه ملكة نادرة للغة الضاد، صقلها الـمِـران، لذا أتحفنا بأثر شعريّ خالد.

خياله يتجلّى في صور نابضة بالحياة على غير تصنّع أو ميوعة أو ركاكة أو نغولة أو رطانة.

أوزانه الشعريّة موسيقيّة في أكثرها، وقد خرجت في قسم منها على ما عهدناه عند العرب.

فنّه الشعريّ فنّ الطبيعة المتدفّقة لا تلمس فيه تأثّرًا بأسلوب معيّن. ليس من المتصنّعين الذين يتوفّرون على الصناعة اللفظيّة والمعنويّة كأتي تمام الذي حذا المتنبّي حذوَه في سواد شعر صباه، وليس من المتفلسفين الذين يلجأون في شعرهم إلى قوالب فلسفيّة خارجيّة جاهزة. أنامله المرمريّة الناعمة تعبث بالزهور تحت شمس الظهيرة. عيناه المرفرفتان يجثم فيهما الأبد. لا يخشى فيه الناس وأقاوليهم والله أحقّ أن يخشاه.

أهمل الأساليب السوقيّة أو المبتذلة التي يتهافت عليها بعض شعراء اليوم أو القوالب الجامدة التي يفرغ فيها البعض نتاج قرائحهم. أعرض، ما استطاع، عمّا اعتمدوه من طرائق الصناعة والتنميق، مبتكرًا لشعره قوالب شخصيّة حيّة تنسجم فيها معانيه وعواطفه وصوره. اصطبغ فنّه بألوان شخصيّته.

شعره في اشتياقه نابض بالثورة وثّاب إلى المعالي مدوّي الحماسة تشيع فيه الثقة الكاملة والكبر المنتصر. وشدوُه لا يحدّ من وثبته ألم الخيبة وحزن الفقدان والإخفاق. يقول في الشهيدة الحيّة مي شدياق (ص 81-82): "خاب الجناةُ!... تقولين: ابتدأتُ غدًا عمرًا جديدًا... وهُم في حِقدهم هُزِموا".

ويقول بُعَيْدَ اغتيال جبران "النهار" في ظلامنا الطويل:

"فجّرتُمُ الجسمَ؟ نِلتُمْ منه؟ لعنتُهُ

وراءَكم، واليراعُ السيفُ ينتقمُ".

وتراه يوجز فلسفته بقوله (ص 73):

"نكتبُ الأيامَ، بل تكتبنا في ورق الدنيا المقلّة"

أظهر معجزاتك يا ربّ، فأنتَ رحمة وحنان وأنت عدل وإنصاف، وأنت أمل وجمال وحبّ.

يشدُّك الكاتب إلى عالم آخر هو عالم الأفراح والأعراس، عالم سِفْرِ عبور يجتازه الصوت الصافي (ص 100) وصوت نور الهدى ألكسندرا بدران "خمرة تُسكِر الخمره" (ص 102). والعبور يتكرّر تحت قلمه: "أكسرِ البابَ الأسود، أخرجْ واغتسِلْ في ضوء الغدْ... إرمِ عينَ الماضي، لا تلتفتْ! أعبُرْ وانطلِقْ" (ص 76 وما بعدها). أجل، يا أخي في الروح والوجد سيفوز يومًا القتيل ويفرح بالأبد والقلم والخلود.

أمّا المسيح الطيّب الكريم الحيّ المنقذ، فلا يمكن أن تعرفه عموماً هذه المسيحيّة الحضاريّة المحتضرة. أين هي المسيحيّة الجامعة الشاملة المانعة؟ أين هي، في أوساطها، سياسة النفس التي يتحدّث بها الكاتب مقارنةً وبساطة الإنجيل وتواضع السيّد الإله؟ أين تلك الأجساد البلّوريّة الضابطة للهوى؟ أين هي المسيحيّة في نفوذ هنا وهناك ومؤسّسات لا تؤمن بفاعليّة المسيح الجامع حول نفسه بالحبّ والإبداع مَن يشاء؟ أين المسيحيّة الأسيرة الآسرة تكشف الآن، مع فرنسيس الأوّل، أزمة هويّتها وقلّما ينبري نبيّ أو يبرز مَن يكسر للأطفال خبـزًا ريثما ينال المستحقّون الغبطة الكبرى يجود بها نور المسيح فيفرحون في رحلة الأبد أمثال شريكة حياة المؤلّف؟

حارة المرجان (جبيل) في 12/4/2016                                          الدكتور جهاد نعمان

________________________________________

ريمون شبلي (*)

شاعرًا،

مَا بَيْنَ الإشَارة والعَلاَمةِ

والعِبَارة...

 

 

 

(*) أُلقيت هذه الكَلمة

في ندوة

حول ديوان الشاعر ريمون شبلي

"أشدو ... وأشتاق"

شارك فيها الدكتور جهاد نعمان، الشاعرة نهاد الحايك، الأديب والشاعر ميشال سعاده والأستاذ حكمت حنين، أدارها الأستاذ إيلي الحجل.

الحركة الثقافية – انطلياس

الثلاثاء 12-4-2016

الساعة السادسة والنصف مساء


 

ريمون شبلي،

شاعرًا

Text Box: بقلم ميشال سعادةما بين الإشارة والعلامة والعبارة...

 

بقلم ميشال سعادة

I

 

بدايةً، ليسَ هناك أيُّ أدنى شكِّ في أنَّ العِلمَ يتجاوزُ ذاتَهُ باستمرار، كما أنَّ الأدبَ يُكثّفُ دلالاتِه من خلال لانهائيّةِ القراءةِ والمقاربات. ذلك، لأنَّنا نَحْلُمُ. والانسانُ يحيا أَبَدًا ما بين التَّفكير والحُلمِ، كأنَّه يعْملُ دائمًا، على إشباع وسدِّ الفراغ من خلال ثُنائياتٍ، مِنْها : الوجُود / العدم، الجَسَدُ / الرُّوحُ والموْتُ/الحياة. إنَّها جميعهَا ممكناتٌ لغويّةٌ. أَلموْتُ يصيرُ حياةً، والحَيَاة تَغْدو موتًا عند أَيّ فكرةٍ سوداويّة تَلُوح.

II

أَلحُلمُ فكرةٌ، والفكرُ حُلمٌ. نُفكِّرُ لأَنَّنا نَحلُمُ، ونحلُمُ لأننا نُفَكِّرُ. نحلمُ باللغة، ونفكِّرُ في وباللُّغَةِ. أمَّا العلاقةُ ما بين الحلم والفكر فهي علاقةٌ بديهيَّةٌ، إنطلاقًا مِنْ فَرَضَيَّة أنَّ الإنْسانَ كائنٌ لغويٌ بامتياز. هو الحُلمُ يكشفُ ويتجاوزُ، على أنَّ الحالِمَ ليس إنسانًا يُزْعجُ غَفْوةَ الوُجود. إنَّه بخيالِهِ، يُصالحُ ما بين الحُلُم والفكر. لذا استنبط باشلار G. Bachellard  الكوجيتو الحالم، في مقابل الكوجيتو المفكر

لـ ديكارت Descartes.

III

إنَّ الانسانَ الشاعرَ الحالمَ، بحُلمِهِ المُتَدَفِّق، يُعاينُ تَدَفُّقًا للقصيدة، من خلال تَلَهُّفِهِ للصُّوَرِ الشعريَّة. وقد يكونُ الحُلْمُ أَفْضَلَ علاجٍ لأوجاعِ الأرض. لذا يُطْرحُ السؤَال:

كيف عالج الشاعر ريمون شبلي هذه الهَوَاجسَ في ديوانه التَّاسع الجديد (إصدار 2016) الذي بعنوان " أَشْدُو ... وأشتاق" – وجدانيات تأملية ؟

وهل مِنْ إضافاتٍ  على صعيد اللُّغَةِ والصُّورةِ والكتابة ؟

IV

هكذا، وفيما انا على عتبة الدُّخُول الى عالمه الشعريِّ، أرى اليه قارئاً ، كاتبًا وشاعرًا، بنى عالمهُ المتخيَّل بما ملك من خزانةٍ ثقافيَّة، مُعتبرًا أنّ العالم ليس تمثّلاً، بقدْر ما هو رغبة. وأرى إليه يُؤَكِّدُ أوْليَّةَ الخيالِ، على كلّ ما عَدَاه، في عمليَّةِ الابداع.

آمن أنَّ القصيدةَ ليست مجرَّدَ اسْتراحةٍ منْ عناء الكتابة، إنّها مُمارسة مَشْروعَة، معرفيَّة وضروريّة لتأسيس رَوافِدِ الفكر الجديد الذي نَحْلُمُ به جميعًا. وقد رأى الى الكتابة مزيجًا من الوجدانيّات، والتَّأمُّل الصُّوفيّ والرَّصْد الاستكشافي لحياة العلامات.

ألكتابةُ، عند الشاعر ريمون شبلي، هي بمعنى ما، احتفاءٌ بالزَّمن ومحاولةٌ دؤوبٌ لاكتشاف الأشياء والذات، وسعيٌ متواصلٌ لبناء العالم بناءً جديدًا. كتابته تقدم الوجه المجسّد للحياة، تتجاوز اللحظة العرضيّة الزائلة كي تلج الكونيَّ والعام. اما الغاية فتكون في ما يقوله النص الذي هو أوسع واشمل من قصديّات المؤلف. وقد يكون ما يراه القارئ غير مُدرج، بالضرورة، في هذه القصديّات. هذا، لان التأويل  HERMENEUTIQUE  ليس من شأن المبدع، بقدر ما هو من شأن القارئ. والتأويل، أولاً وأخيراً، هو تأويلٌ للذات، والذات هي هذي المرآة الكاشفة للنص في عمليَّات القراءة والفهم والتَّأويل. على أنَّ تأويل الذَّات سابقٌ على تأويل الموضوع، نصًّا، علامةً وحدثًا. وكذا معرفةُ الذّات سابقةٌ على معرفة الغير. فمن لا يعرفُ ذاته غير قادر إطلاقًا، على معرفة غيره، وإذا كانت غايتُنا أن نفهم، فالفهمُ هو الانصاتُ، مكوّنُ الخطاب بعبارة هيدجر.

“Comprendre c’est toujours entendre. L’ouir et constitutif du discours”.

على هذا الأساس، يلجأ هيدجر الى الشعراء، بوصفهم حرّاسَالكلمة، وهم أقدر النَّاس على سماع نداء اللّغة / لغة الوجود. أليست اللّغة هي التي تحمل هموم الشاعر ريمون شبلي، وهي التي تعبِّر عن أحلامه وافراحه وأحزانه؟

 

V

صديقي الشاعر ريمون !

أواجه ديوانك الجديد، ولكنْ، ما عساني أقولُ، في هذي العُجالة، أنا الذي كان لي شرفُ البحث في شعرِكَ ونثركَ (دراسة قيد الطبع)؟

قرأت هذا الديوان " أشدو...وأشتاق" أكثر من مرَّة، وقد رأيتُ اليه فتحًا جديدا يُضاف الى دواوينك الثَّمانية. ولا أُخفي أَنِّي، في حضرته، وقفتُ متهيِّباً، لأنك زميلٌ وصديقٌ وشاعرٌ يلعبُ بالُّلغة شكلاً ومضمونًا، صورًا وإيقاعات وألواناً.

أنيقٌ هذا الدِّيوانُ إخراجًا، وأنيقٌ كما أنْتَ في الهندامِ واللِّسان. واللاَّفِتُ أنَّ عتبة العنوانِ " أشدُو...واشتياق" شكلها فِعْلا مضارع يؤكّدانِ ديمومة الزَّمانِ في حاضرٍ حاضرٍ أبدًا، ويبوحان بأنَّ رأيك في الشِّعر شدوٌ/ غناءٌ واشتياق، وأن الشعر رعْشةُ وارتعاشٌ، والشاعرُ هو من يَستَوي على عَرْشِ هذا الوجود وهذي الكائنات.

ولا أُخفي أنَّ العنوانَ مَدّني بزادٍ ثمينٍ في تفكيك النصِّ، وقدَّم لي معونَةً كُبرى في ضبط انسجام النصّ، وفهم ما غمضَ منه. أَحْسَنْتَ الاختيارَ، كما العادة، في عناوين دواوينِك. ذلك لأنّ العنوانَ هو المحور الذي يتوالَدُ ويتنامى، ويُعيدُ إنتاج نَفْسهِ. وهو الذي يُحدِّدُ هوية الديوان أو هَويَّة القصائد. إنَّهُ بمثابة الرأس للجسد.

قَرَأْتُ قصائدكَ الوجدانية التأملية فَبتُّ سَجينَ أقفاصها الذَّهبيّة، وتساءَلتُ: كيف للشّعر يسجننا ليحرِّرنا، وتذكَّرتُ حِينها قوْلَ هَارُولد بلوم "يُؤثّرُ الشعراءُ فينا لأنّنا نقع في غرام قصائدهم".

قصائدُك يا صديقي! خَمْسٌ واربعُون، تمَّيزَتْ بنبرة مختلفةٍ عمَّا تَعَوَّدْتُ أَنْ أقرأ شعرًا، نبرةٌ تنتمي الى روحٍ غيرِ سائدةٍ، قَدَحَتْ في صُلبِ إدراكي شراراتٍ ما زِلْتُ أعْملُ على التقاطها، وأُحاول القبْضَ على إشعاعاتها. ولاَ أُخفي أنَّها شراراتٌ بناتُ تجربةٍ أَيقظَتْ ما هو كامن أَصْلاً، فشكَّلتْ، بالنسبة لي، غذاءً روحيًّا وفكريًّا، وعلَّمتني كيف كَسرُ البنية الكلاسيكيَّة لمسار الجملة العربيّة، وتركيبتها البلاغية، وفتحت أمامي أُفقاً تنسيقيًّا جديدًا للكلمات، من حيث نظامُ تتابُعها النحويّ، كأن لغة الشاعر ريمون هي منْ يُحَدِّدُ موضوع القصيدة. هذا، وقد تخلَّصَتْ كلماته من المعنى المعطى لها قاموسيًا، فأحْدثت انزياحًا جديدًا في الحقْل الدَّلالي.

 

VII

إنَّ اللُّغةَ، في قصائده، تسيل كلامًا بعيدًا من المسارات المُفتعلة، فتتدفَّقُ على قارئه بما له من حُمُولةٍ إيحائيّة. هي كلمات فيها الكثير من الشفافية والامتلاء، بحيث إنَّ كُلَّ كلمة تُصبحُ عَدسةً تضْبطُ تركيز صُور الفكر على شبكة الكتابة التي صُدْقٌ هي وشفافية يُعيدان الى الكلام ألقه وصفاءَه وجمالية وضوحاً مُكثّفًا هو ضوءُ الفكر عَيْنُهُ. أمّا إيقاع الشاعر فهو ينبع من أعماقه وعُمق متنِه الشعريِّ حيثُ سَعْيٌ حثيثٌ الى سماءٍ وأرضٍ جديدتين، تتغيَّرُ فيهما اللغةُ مِنْ أداةٍ وسيلةٍ الى كائنٍ يتنفّسُ هواءَ عصره، لا غبارَ قُرونٍ مَضَتْ.

حرَّر ريمون شبلي اللغة من دون الوُقوع في ألفاظٍ فارغة، وحرَّرها أيضاً، من شحناتٍ مذهبيةٍ، فغدَتْ وجدانيّةً إيمانيّةً خارجةً على المألوف العربيّ، وقد منحها فرصةَ التَّأمّل والصمتِ كي تعُود هذي اللغة أقوى في لحظة الكلام.

 

VIII

إنَّ له خطابه الشعري. وهو يجتهد ويسْعى ويشقى حتَّى يتمكَّنَ من تأليف خطابه، تعبيرًا عن ذاته وكينونته. ولا يخفى أنّ الخطوط والألوان تداخلتْ مع الصُّور والايقاعات، وأنَّ مُخيَّلتَهُ عملَتْ على نَقْلِ حرائقِ روحه، ما يسمح لنا القولَ إنَّ حياتَهُ في جوهَر نصوصه، ونُصوصَهُ هي جوهرُ حياته. وقد اختزل حياتَهُ كُلَّها في إبداعه، ولخَّص وجودَه فيه، واستعاض به عن فقداناته وخسائره وهزائمه كلها في الحياة، كأن حياته لم يَعُدْ ثمَّة وجودٌ لها خارجَ قصائده التي يُنتجُها. تَوَغَّل في المناطق المعتمة للذَّات، ليسْتَخْرجَ منها شكلاً جميلاً. وقد أَشْرَك الطاقة الفكريَّة للذاكرة مع الطاقة البَصَريَّة والطاقة التأمليَّة ذات القٌدرة الاستشرافيَّة، بهدف الوصول الى حالة مثالية.

 

IX

نقرأ قصائدهُ، فيتشابَكُ الحُلمُ بالواقع، المخيّلة بالمادة، نحاولُ القبضَ على الخَيالِ فيمُوجُ على شواطئِ الوَرَقِ. يغدو الشعر فكرًا، والفكرُ يصفو شعرًا، فنسأل : كيف لهذي اللُّغةِ لغتِه تتفجَّرُ طاقاتٍ حتَّى لَنَكادَ نغرَقُ في بحْر معانيها ؟

إنَّه شاعرٌ، خَلْقًا وخُلُقًا، تحوُّلاً وتواصلاً داخل ذاته. تَفوحُ أزاهرُ معانيه كما العِطرُ، وتصدحُ كما نغمٌ طالعٌ من القصبة الأولى. ولا زلنا نسأَلُ عن سِرِّ العِطْر وأَفْيونِ النَّغَم. نظنُّ نَصلُ، لكن، لا سرُّهُ يُكشَفُ، ولا عِطْرُهُ يَحْبسُه إناء.

إنَّه شاعرُ الحزْنِ والكآبة لكنَّه يعرفُ كيف يَمْسحُ المأساة بميرون المجد ونشيد الخُلُود ويغسلُ الحروف بمعموديّة الشعر.

 

X

سقط والده وغاب. أُصيب بطعنتين : طعنة في وطن معذب، وأُخرى في القلب فانكسر يَلْوي على جراحه الثّخينة، يستعيدُ يوم كان الوالدُ سندًا. ومَضتْ سُنُون على الرَّحيل، لكنَّ الذّكرى صامدةٌ والقلمُ لها بالمرصاد. كتب ثلاث قصائد تحترقُ حروفها وكلماتُها بخور قداسةٍ، "يشتاق الاشتياق"، وتسْقط ما بينه وبين أبيه " أحزانُ المسافات، فيدندن موسيقاه على وتر القلب، وهو المفطور على حاستيْ الذَّاكرة والتوقّع، يُنظّمُ حياته داخل شبكة نسيجها الماضي، الحاضر والمستقبل. ولا يخْفى على أحد صراعه مع الزَّمان " الزّمان الطاغية الملعون"، على حدّ تعبير شكسبير في سونيتاته.

يقول الشاعر :

"مَضَتْ عشرونْ

وكم وجهٍ حبيبٍ

غاب في الذكرى

ووجهُ أبي

ببالي،

باشتياقي،

بعْدُ لم يغبِ! (الديوان، ص 13)

ثم تكرُّ سُبحةُ الأحزان والتعبِ، القلق واللحظة / السكّين والوجع على الوجع. وتخطر "لماذا" الاستفهامية مرَّتين محمّلةً بمدلولاتٍ كثيرةٍ، تُرافقها في القصيدة نفْسها "متى" (3 مرات) تنقل الوجع والقهر والقلق. لكنَّ صوتَ أبيه صوْتُ خلاص.

يقول :

"مَضَتْ عشرونْ..

لماذا

لم يُبرعمْ بعدُ غُصْنٌ

لم يُفتِّح بعدُ وردٌ

لم يضئ " نجمٌ ولا قمرُ " ؟

لماذا

وهي مازالتْ

تُقطِّر ماءَها الأغصانُ والشَّجرُ ؟

مضَتْ عشرونْ

متى يتقهقرُ التنّينْ

ويندثرُ؟

متى يشتاقُ وجْهَ ربيعِهِ الزَّمنُ ؟

متى يسترجع الاتي الجميلَ

ويستعيدُ نشيدَه

وجبينَهُ

وحضورَه الوطنُ ؟..

 

سمعتُ أبي

يقول أبي :

غدًا يتدحرجُ الحجرُ

يُضيءُ الحُبُّ والقدَرُ.."

(الديوان ص 15-16)

 

XI

هكذا، وبَعْد ثمانٍ وعشرين سنة تبرعمُ الذكرى من جديد، تعود الدائرة الى نقطة البداية. كأنْ ما تغيَّرَ شيءٌ، لن يتغيَّرَ شيءٌ . نتسلَّى عن المأساةِ والدائراتُ دوائر.

يقول :

"ثمانٍ وعشرونْ

وبَعْد المكانْ

رياح تلفّ رياحْ،

وبعْد الزَّمانْ

رماحٌ تَشُكُّ رماحْ

تُفتِّحُ في كُلّ جبل جراحْ..

ويهدرُ نهرٌ من القهرْ،

من الجمْرْ..

ويكبرْ

يُكسِّرُ حُلْمَ الورودِ

بِرقْصِ الحمامْ،

وشوق الوجودِ

لدفءِ النَّهارْ

يُبعْثرُ غيمَ الظَّلامْ ! "

(الديوان ص 18)

إنَّ اللاَّفتَ، في هذا المقطع الشعري هو تكرارُ بعضِ الحُروفِ، مثل : النُّون (8 مرات)، الماء (8 مرات) ألراءُ (15 مرّة) وحرف الميم (9 مرات). ما يعني أنَّ دلالةَ النُّون تكوينٌ مستمرٌ لحركة مستقرة مكاناً وزماناً. دلالةُ الحاءِ نَماءٌ متعاظمٌ في داخل الحركة. دلالةُ الراء تكرارٌ للحركة بشكل مُنظّمٍ يستبطن المحاذير. أما دلالة الميم فهي توفير النواقص لإتمام العمل والحركة.

ولمّا كان الاهتداء الى جَدل الحرف يبدأ بقراءَةِ جدل الكون، وبقراءَة التّراكيب التي تقوم بها المادة الأوّليّة، فإنَّ الكمَّ والكيفَ يُظهرانِ الجَدَلَ بالحرف كما في الطبيعة. وعليه، فإنّ حبَّةَ زرْعٍ في التربة تبحثُ عن الكيف زمكانيًّا لكي تنمو كمّاً . وفي نموّها تتكيّفُ مع الطبيعة، حرارةً ورطوبةً وشُعاعًا.

في الكَمّ والكميَّة يَظْهرُ المكان، وفي الكيفِ والتكيُّفِ يُضْمرُ الزَّمان. وفي قراءة الحرف العربي، من خلال هذا المنظور، يتسنّى معرفة سلوك واتجاه مُسمَّى الحرف بين الكيف والكمِّ، وبين السَّالب والموجب، لتدلّنا حركاتُ الحروفِ على آلية الاشتقاق في مطابقة لحركة الوجود في سيرورتها. لذا، فانّ مسمِّيات حروف الابجدية العربيّة، ونسيجَ كلماتها مبنىٌّ على جدل التناقض، ولا يُقرأ كلام العرب الا بقراءة جدليّة.

 

XII

كان كل هذا لأقول إِن حالة الشاعر هنا، فكرًا وشعورًا، هي تكوينٌ مستمرٌّ لحركة مستقرة زمكانيّا. وهي لا تزال في نماء متعاظم، يتكرّرُ بشكلٍ مُنظَّم يستبطنُ المحاذير. أمَّا الهَدَفُ/الغاية فهو توفيرٌ بحرف "الميم" للنَّواقِص، وذلك لإتمام العمل والحركة. وبهذا يكون للشَّاعر ان يتحرَّكَ في مكانه، علّ الجراح تتبلسمُ، وعلَّ النّهر يعودُ الى مُكوِّنه الأساسي/الماء، ويُطفأ الجمرُ، فيرجع للورود حُلمُها وللنهار دفئُه فـ "يبعثرُ غيمَ الظلام".

"أبي،

ثمانٍ وعشرونْ

ونحن انتظارْ :

متى يستفيق الوطنْ

يُحطِّمُ وَحشَ المحنْ

يُخضِّرُ وجه الزَّمنْ

ونعْبُرْ

الى الضّفّة الواعدهْ؟

                        (الديوان،ص20)

هكذا، ينتشر الحُبُّ والسلام في المخيلة، وعلى الورق، يطفو حروفًا / أصواتًا/ رموزًا / إيقاعات. تنامُ الكلمات على معانيها، وتستفيق حين أوّلِ احتكاكٍ بفتنة العين / النَّظر او البصر/البصيرة.

مظهرُ الشعرِ قبل جوهرِه، نُؤخَذُ به شكلاً ما يَلْبَثُ أنْ يغيبَ حتَّى نُسافِرَ على مراكبِ المعاني، شُغْلُنَا الشَّاغِلُ هذا المَعني المائيّ، بوصفَهِ دَفْقًا زئبقيًّا يَسْتَحيلُ بالخيال صُورًا كأنَّها الواقِعُ أو حُلُمٌ ينفَلِتُ من ثِقْلِ هذا الواقع، ومِنْ قَبْضَتِهِ. ونسأَلُ شاعرنَا ريمون كيف لهذا الواقعِ العَيْنيِّ يصيرُ أثيريًّا حِيْنَ الغَوْصِ في الجوهر؟ أَنَّى لِمَاءِ المعاني يسيلُ في حركيّة الموجِ وأحضان الزَّبد؟ كيف لهذي اللُّغةِ الرِّيمو – شبليَّة يصْطَفُّ كلامُها مُمَوْسقًا، فلا انقباضٌ ولا تَعَثُّـرٌ، ولا تَرَدُّدٌ؟

 

XIII

حُرَّةٌ مثلُهُ لُغَتُهُ تَأْبَى القيودَ أوِ السَّلاسل. وكُلَّما أَمعَنّا النَّظَرَ في مُكَوِّنَاتها، وبالعقلِ حاولنا عَقْلَهَا، أَفلتَتْ مِنَّا على غُنجٍ وَدَلٍّ، تُوقظُنَا مِنْ سُبَاتٍ عميق.

يقول في قصيدة "تلك أمي":

"تُذَكِّرُني...

وتعبُرُني الطريقُ

وَذَاكرتي تنامُ وتَسْتَفيقُ

عَلَى شَمٍّ وَضَمٍّ

على تلكَ التي دُنيايَ كانتْ

ودِفءَ طُفُولتي ورضايَ كانتْ

وكانَتْ...

تلكَ أُمِّي".                               (الديوان، ص 27)

XIV

صديقي!

قرأتُ ديوانك،

راقصتُ ماءً زادني عطشًا وإنتشاءً. وكُلَّما ظَهَّرتُ صورةً، في غرفتي السوداءَ، تَناسلَتْ صُورٌ، ولم يبقَ لي غيرُ تيهٍ جميلٍ في بَحرِ كلماتِكَ والأشياء. أرَى إلى قصائدكَ ساحةَ عناقٍ بين ما يجري ويمضي، كأنَّهُ الأليفُ/الغريبُ أَو الغائبُ/الحاضرُ، كأنَّ مَاءَ معانيكَ إيقاعاتٌ وصُوَرٌ تأخُذُ دَلَالَاتِها حين تقترنُ بمَرَايا العناصِرِ، ماءً/نارًا/ترابًا وهواء. كأَنّ هذي الصُّوَرَ تمُوتُ وتحيا دَلَالاتٍ في ذاكرةٍ حيّة، كأَنَّ لُغَتَهُ الشعريَّة هي هذه الـ "هِيْدْرَا" العَصيَّةُ التي، بسَبْعة رؤوسٍ، تمارسُ سُلطَتَها الأسطوريَّة، مَا أنْ يُقطَعَ رأسٌ منها حتّى ينبُتَ آخرُ جديد. فأَنَّى لي قُدرةُ هرقلَ قطعُ الرُّؤوسِ جَمِيعِها بضربةٍ واحدة؟

يقول لِزَوجته (أم فاليري وأنطونيو) نورما مجدلاني بعيد رحيلها في 26/6/2013:

"أَغْمَضْتِ عينيكِ؛ جفَّ النبضُ في الجَسَدِ

                        وسَافرَتْ رُوحُكِ الخضراءُ في الأَمَدِ

هنالكَ الغبطةُ الكبرى يجودُ بها

                        نورُ المسيح... إفرحي في رحلةِ الأبَدِ

أَبكيكِ؟ بل فَرَحًا أَبكيكِ ذَوَّبَهُ

                        دِفءُ الرّجاءِ... ودمعي بسمةُ الولدِ

غدًا أَجيئُكِ مشتاقًا ومُنتظرًا

                        ذاكَ اللِّقاءَ ... نُغنِّي نغمةَ الخُلُدِ"

(الديوان، ص 38)


 

XV

يُنعشُ هذا الشاعِرُ خيالَ قارئِه، حتَّى لكأنَّ ربيعًا يفترشُ حدائقَ الورق، فيَظُنُّ يسيرُ في مواكب عِطْرِ المعاني. إنَّهُ شاعرٌ جَمْعُ داخلِهِ وخارجِهِ، مَشْحُونٌ بالإيْنَاسِ. يَرَى أنّ الشعرَ ناتِجَ مَلَكَةِ الاندهاش، ويرتبطُ بالإيقاظ، ونحنُ قرَّاءَهُ محكُومونَ بالإنصات L’écouteحيث شِعْرُهُ يستحيلُ إغراءً وإغراقاً مِنْ شدَّة الإغواء، كما يستحيلُ أَناشيدَ فَرَحٍ مجروحةً، وهتافاتٍ داخليةً مَصْرُوخَةً. إنَّهُ إنسانٌ مُفرِطٌ في إنسانيَّتِهِ، لكنَّهُ يجمع، في ذاته وَجَعَ العاشق، وعاشقَ الوَجَع. ينتقِلُ مِنْ مشهدٍ شعريٍّ لآخرَ بعينٍ تَعِي علاماتِ الأشياء، ويستجلِي رومانسيَّةً جمالية. وهو إلى ذلك كُلِّهِ، يستقبلُ حلاوةَ ومرارةَ الوُجود بوَسامةِ التناسُبِ والتوازنِ. يلتقطُ حركاتِ الأشياءِ والطبيعةَ وأنفاسَ العُشبِ السّارية في كوامِنِ الموجودات. مرهفٌ، شفّافٌ، يَغوصُ في لُغَةِ الكائناتِ السَّوَاكتِ بما لَهُ من مجاهدةٍ عبرَ الخَطَرَاتِ والتأَمُّلِ. وقد وَسَمَ قصائدَهُ بالغرابة، والإثارة والانزياحّية ما جعلها تتميَّزُ بالسُّرعة Céléritéوالطابع الحَدَثيّ المدهش Prodigieuxوالإلماع Allusion، كونها جميعًا مصطلحاتٍ تتلبَّسُ بالإشارة والإيحاء. ولا يَخْفَى أنَّه شاءَ شعرَهُ في خدمةِ القلق الوجودي، وفي خدمة أنْ يكون، لأنَّ الكينونةَ همُّ الانسانِ الأوحدُ.

يقول:

"خُطوةً خُطوةً يتتبَّعُ أَقدامي

ويُرافقني مثلَ ظلّي وأَيّامي،

ينشُرُ الليلَ في عينيَّ وأَحلامي!

                         *

أُفٍّ يا مُغتصِبُ،

تتغلغلُ في الذاتِ خضرَاءَ

تتركها تَعبَى تختنِقْ

أُفٍّ يا مغتصِبُ،

يا قَلَقْ!"                                      

(الديوان ص 46-47)

 

XVI

غِنَائِيَّتُهُ مكثَّفَةٌ تعادلُ بين الواقع والإيقاعِ الغنائيِّ الحَالِمِ والمبدع، حيثُ التَّرنيماتُ ذاتيَّةٌ، وذاتُ تكثيفٍ دلاليٍّ. وغنيّةٌ قصائدُهُ بالحركة، بالقلق، بالصّراعِ، والتَّوتُّرِ، لكنّه مُفْرِطٌ بالمحبَّةِ والحنَانِ، وغنيّةٌ هي بالإيقاعاتِ التي حلَّتْ عَفوَ الخاطر، كونُهُ يُؤمِنُ أنَّ الإنسانَ كائنٌ إيقاعيٌّ يندمجُ في المنظومة الإيقاعيّة الكونيّة. نسمعُهُ يقول بُعَيْدَ اغتيال جبران تويني:

"فَجَّرْتُمُ الجِسمَ؟ نِلْتُمْ مِنهُ؟ لَعنتُهُ

وراءَكُم، واليَرَاعُ السّيفُ ينتقمُ

ذَواتُكُمْ عَفَنٌ، أَحقادُكُمْ وَهَنٌ،

                        إرهابكُمْ جُبُنٌ، شيطانُكُمُ لَكُمُ"                 

(الديوان، ص 85)

 

XVII

خبيرٌ هذا الشاعرُ بملءِ الحُروف والكلمات بشَهْوَةِ النَّقَاء. ويعرِفُ، حَقَّ المعرفة، كيف يشتاقُ، وأنَّ غايةَ الشوقِ كشفُ الحُجُبِ، ومُنْتَهَى الوِصَالِ ذَوَبَانٌ وتَلَاشٍ. مأخوذٌ بسحر اللفظة والإيقاع والصورة، وسحْرِ الشكلِ الذي أَعطاهُ بُعدًا هندسيّاً لجهةِ رَصْفِ الألفاظ الذي قَدَّم للصَّفحة بُعْداً جماليًا، ما يَسمَحُ القولَ إنّه كما يَتَزَيَّا، يرتدي نَصُّهُ حُلَّتَهُ.

وعليه، فقد شيَّدَ عمارتَهُ الشعريَّةَ مصحوبةً بالتَّوَهُّج والانفعال، بالصَّفاءِ والحَفْرِ، بالتوتُّر والقلق والأصالة، فغدا شعرُهُ مُتَوَقِّدًا، مَمْهُورًا بحساسيةٍ ووجدانيَّة تأملية صافية. أَمَّا صياغتُهُ فمميَّزَةٌ في استخدام اللغة، وقد انطوَتْ على أُفقٍ دلاليٍّ يكشف عن رصانةٍ شعريَّةٍ، ويشهدُ على حَيويَّةِ اللُّغة.

يقول:

"كانَ ما كانْ...

آهِ من بيتِ أَبي

لَمْ يَزَلْ بَعْدُ هَوَاهُ في حنيني،

في أَخاديد جبيني

وجفوني...

لَمْ يَزَلْ بَعْدُ يُناديني

وأُمِّي لم تَزَلْ تَخْبِزُ في القَبْوِ رغيفًا

فَوْقَ "صاجِ الحَطَبِ"

لم تَزَلْ تَحنُو على "الكُبَّةِ"

في الجُرْنِ المُسِنِّ المُتْعَبِ

آهِ يا "كُبَّتَها"

لم تزل تحت لساني !

آه يا نكهتها

يا لتلك الاطيبِ !

(الديوان ص 107-108)

 

XVIII

إن قصائده جميعها جميلة، لكنَّ أجملَ الأجمل ثلاثُ حلَّت في آخر الديوان. وهي

-"أَشدُو... وأَشتاق" (ص 130-133)

-يفي نذْرَهُ اليَرَاعُ" (ص 134-137)

-"القلم" (ص 138-140)

 

رأيتُ الى هذه الثلاثيّة تتّسمُ بطابع السّيرِةِ الذاتيَّة، وتَحملُ، في طيّاتها، بُعدًا تطهيريًّا قِوامُه الاغتسالُ بالماء، في قصيدة " أَشدُو وأشتاق" التي حمل الديوان عنوانَها، منْ باب تسْميّة الكلّ باسم الجزء. وقد رأيتُ الى هذي البداية المائيَّة تزيدُ شعرَهُ تَدَفُّقاً. فالماءُ، على سطح الأرض وفي جوْفها، يعْرفُ وحده، كيف يَشُقُّ طريقهُ من دون دليلٍ أو إشارة بإذن دخول. وحدَهُ هذا الماءُ قادرٌ أنْ يتفجَّرَ، وينبجسَ ينابيعَ حياةٍ ونماء.

أليس الماءُ هو الجوابُ الغريزيُّ والعُضويُّ عنِ العطش ؟

مَنْ يشربْ مِن ماء شعركَ يا صديقي لنْ يعطش

يقول :

خَلَعْتُ ثوبي...عبرتُ النَّهر أَغْتَسلُ

                                        مداويًا أضلعي التَّعْبى...وأنتقلُ

مِنْ ضفّةٍ لَمَستْها الشَّمسُ واهيةً

                                لِضِفَّةٍ تحتويها الشَّمسُ والقُبَلُ

أُطْفي منَ العمْر أوراقًا مُخلَّلةً

                                أشفي خُطًى فيهِ خَرْقاءً ...وأرتحلُ

                                                        (الديوان ص 130-131)

إنَّ الماءَ بطبيعته ورمزيته، هو المكان الحيويُّ في ذاكرة الحياة. وعليه، فإنَّ العلاقة الجدليّة بين الماءِ والعطش، هي علاقةٌ متموّجَةٌ ولولبيّةٌ، قِوامُها الحُلْمُ، ومسارها هذا التَّحوُلُ بُغاءً للكمال.

"أَشدُو واشتاق دنيا كم حلُمْتُ بها

                        قصيدة "قامةً" خضراءَ، تشتَعلُ

وكم حَلَمْتُ بها تقوى به رجلاً

                                عالي الجبيِن، وسيعَ الرأسِ يكتملُ

نقيَّةً يدُهُ البيضاءُ، تكتُبُهُ

                                مُواطناً ناصعاً إيمانُهُ جبَلُ".

                                                                (الديوان ص 131-132)

شعرهُ مُحصَّلَةُ كاميرا الحواس والعين تحديدًا. إنه روايةٌ بصريَّةٌ بامتياز وحاجةٌ نفسيّةٌ، روحيّةٌ. يرسم صورهُ ويؤلّفُ معانيه بنات ذاكرةٍ مهمومةٍ، قلقةٍ وباحثة عن أَجوبةٍ شافية، وعن وصُولٍ يصِلُ.

"كَمْ، وكمْ ..! ويظلُّ النَّهرُ نعبُرُهُ،

                        نصبو الى ظلّ فردوسٍ... فَهَلْ نصلُ ؟

                                                                (الديوان ص 133)

وهكذا، نرى الى الصورة تَنْهَضُ مِنْ مادَّيتها الى فيضٍ مُشرقٍ، مُتحرّكٍ، وثّاب، لأنَّ طبيعة الحياة لا تقبلُ الكبت والجمود، فضلاً عن أنَّ الصورة هذه، تتخذُ في شعره، بعْدًا متحركًا، ما يُساعدُ على تولُّد النَّبض والاندفاع.

يقول في قصيدة "يفي نذْرَه اليَراعُ"

"يعتلي بعضُ الليل جوف السّراجِ

                        يُسْتفزُّ اليراعُ...يا للَدّياجي

تَتَدلَّى، في الذات، ريشةَ قنديلٍ

                        تخطُّ الرُّؤى مرايا انبلاجِ

كم تعتَّقْنَ واختمْرنَ، تَوَهَّجْن،

                        تفجَّرْنَ.. يا عُلى الأبراجِ"              (الديوان ص 134-135)

        يميلُ هذا الشَّاعرُ الى الأظلال والألوان لما لها من حركة فاعلةٍ في النَّفس. فالأبيض إشارة الى الطُّهر، والأزرق الى الرَّحْبة والسَّعة والبكارة، والأخْضر لما فيه من جدّة ولينٍ وطلاوةٍ وعذوبة ملْمس.

كسَّر ريمون شبلي بالقلم زمن الصَّمت، واندمج في عالم الكتابة، شعرًا ونثرًا ونقدًا.

فجَّر المطمور في الذاكرة وبإبداع مُتميزٍ إحتضن سياقاتٍ فنيّة جديدة.

يقول :

"بعض أقلامٍ يتعب الحبرَ والأوراقَ...

ما همَّه مسيرُ اعوْجاجِ

بعضُ أقلام يحملُ النَّهر يُغريه

نداءُ الجبال والأمواجِ

...................................

....................................

يحملُ الشوق، يلْمُس الجمْرَ، يصغي

لرنين الآهات، صمْتِ الهِياجِ !

يختفي ذيلُ اللّيل في نجمة الفجْرِ

يفي نذْرَهُ اليراعُ السَّاجي"

                                (الديوان ص 135-137)

 

ومنْ حكايته مع الشعر، الى مناجاته القَلَمَ، رأيتني أُصغي الى تفاصيل نصوصه، فاذا بي أرى اليها مُؤثّرةً، مُتمكنِّةً من استنطاق المكبوت، وتحريك السّاكن، واللَّعبِ على الفضاء اللَّغوي.

بالحب يكتبُ... وللْجسد قَلَمٌ وأقلامٌ هي الأصابع. ويرى الى الكتابة فِعْلَ امتلاءٍ او هي الافراغُ يصير امتلاءً. كلُّ امتلاءٍ حركةٌ، كلُّ حركةٍ حياةٌ. لا حياةَ حين تكون الحركةُ معدومة. الحركةُ وحدها تعدُمُ العدم لصالح الحياة.

 

يقول في قصيدة "القلم":

"بيني وبينك شوقٌ دافئٌ أبدا،

                        آنًا تثور لظىً... آنًا تذوبُ ندى!

لا تستريحُ ... كأنّ الرّيحَ تَسْكُنُها

                        كأنَّك الحُلْمُ ينأى يَسْتشفُّ غَدَا !

...................................................

                        ...............................................

يا مُقْلقي، ورنينَ الذَّات، يا قَلَمي

                        بيني وبينك وَعْدٌ أخضرُ وَعَدَا

كُنَّا يدا بيدٍ، نَبقْى معًا أبدا

                                        (الديوان، ص 138و140)

 

كتابتُك صديقي الشاعر !

فيضٌ من الانفعال، وسِربٌ من الأفكار والمشاعر وإنَّ، في هذا، ما فعَّل تكوينك الفكري والأدبي وحسَّك الفنيّ، فتميَّزْتَ ببعدٍ إنسانيّ أونطولوجيّ. كتابتُك مغامرةٌ في الرُّوح والجَسدِ والنصّ.

صديقي الشاعر ريمون !

تُراني كتبتُ عنكَ أم أنْتَ من كتَّبني ؟

سماحَك إن امتَزَج كلامي بكلامكَ، وسرى فيَّ حنينُك، حتىَّ لكأنَّك أَقْربُ منيّ إليّ.

كَلاَمُكَ شعرُك خبزٌ لنا وقربانٌ في مجاعة هذا العالم.

شعركُ فعل رجاءٍ وصلاةٍ

في عصْر مُنكسرٍ ممزّق...

أدونيس في 12-4-2016

ميشال سعادة

michel.saade@live.com
 

______________________________________

كلمة نهاد الحايك

الندوة حول ديوان "أشدو... وأشتاق"

للشاعر ريمون شبلي

(الحركة الثقافية، أنطلياس، الثلاثاء 12 نيسان 2016)

المبدعون لا يكتفون بالخلود الذي وعدَتْنا به الأديان، فهم إما لا يَضمَنون جنَّةَ الما بعد، أو يطمعون بالجنتين.

والكاتب ريمون شبلي حتماً من الفئة الثانية. جنةُ الأرض يعمل على كسبها منذ ستة عشر كتاباً. وجنةُ الله هو معقودٌ عليها برابط الإيمان يتجلى في كتابته عن الموت، الموضوعِ الذي يستأثر بوجدانياته في "أشدو... وأشتاق". فقد كتب في إحدى قصائده: "هنالك الجنةُ الكبرى قدِ انفتَحَتْ/لروحِكَ الحيِّ بدءًا يَسكنُ الأبَدا/هنالك الغبطةُ الكبرى تغوصُ بها/وتطمئنُّ .. تَرى اللهَ يمدُّ يدا".

الموت والحياة، شغلا البشر منذ فجر الإنسانية، حاول الفلاسفة فكفكةَ ألغازِهما وعقلنةَ سببِهما وهدفِهما في كينونة الكون، وجاء الأنبياء بأجوبة لهما. ولكنهما يظلان شاغلين الإنسانَ أبداً.

لا ينفصل استحضارُ الراحلين عن النظر إلى الموت وجهاً لوجه. فعندما يُقرعُ ناقوس الكنيسة بطنّاته الـمُنبئة بأن الموت زار القرية، تجتاح الرهبةُ القلوبَ ولكنها تُبدَّدُ بالصلاة:

"قُرِعَ الناقوسُ بطيئاً/مَن لا يخشاهُ/أو يحذَرُهُ/أو يأباهُ!/ونُصلّي/لا نخشى ريحاً/لا نخشى ليلاً أو كمَدا .../ونصلّي .. نصلّي/لا نخشى الناقوسَ غدا!"

وكاتبنا متصالح مع الموت، يتوقع المصير بوداعة وينتظره بشموخ:

"هوذا يدنو!/أرى وقْعَ خُطاهُ يكبُرُ/ويزيدْ/وأنا أنتظرُ!/لا أبالي:

دافئٌ صدري، وإيماني وسيعْ/مطمئنٌّ خاطري، قلبي وديعْ...

قلتُ: طابَ السفرُ!"

لن أزن ديوان ريمون شبلي بميزان ولن أقارنه بمعيار. لن أتحدث عن دلالاتٍ ومذاهب، ولن أحلل بياناً ورموزاً، ولن أفكك ألغازَ بلاغة. سأسبِر بَواطنَ المعاني وأكتفي بقراءة تفاعلية على خلفيةٍ فلسفية.

نحن هنا أمام مياه صافية، بلورٍ شفيف، مناخٍ صادق وفضاءٍ نقي لا التباسَ فيه ولا حيرة. وليست سطوره بحاجة إلى تعرية أو تقشير. هي باب مفتوح يدعونا إلى الدخول، تستقبلنا صورٌ التقطها حسٌ مرهف من واقع الحياة بمرِّها وحُلوها، سَجَّلها قلمٌ فنان يستمد حبره من ينابيع الوجود وسطوعِ القيَم وبهاءِ الجمال، على لغةٍ ثريةٍ مِطواع تقطَّرت تقطيراً في مصفاة يراعه، وراحت تنزل على الوجدان كحبّاتِ مطرٍ على الرخام، وتَعْبُره.

يقف ريمون شبلي ثابتاً بين نهرين: أصالةٍ خائفة من الجمود وحداثةٍ حائرة من الجنون. شقَّ دربه ومشى معتزاً بأصالته المطلة على الحداثة، كتلك التي شقَّها صديقُه الشاعر جورج غانم:

"أجيئُك يا صديقي،/أُصلّي.. أنحني وأحطُّ زهرهْ/وأفتحُ بعضَ كُتْبٍ/وأقرأ في حداثتِك الأصيلهْ/

قصائدَ قلبك الرائي."

في شعره، لا تَوغُّلَ في اللاوعي وغموضِه بل وعيٌ يُشرِع نوافذَه للهواء والشمس. فهو يفكك الحياة المعقدة، يطلقُ عليها ثورتَه الهادئة، ثم يعيد بناءها بطين الحكمةِ وماء المحبةِ وضَوءِ القصيدة. قلقُه الوجودي لا يوتِّرنا بل ينفخ نسَماتٍ مبرِّدات على جراحنا. ذلك لأنه على موعدٍ مع العبورِ إلى النور.

كَتبَ عن الراحلين من منطلق الاشتياق وليس من منطلق الحزن العدمي أو رفض الموت. وهذا ما أعلنه في العنوان. يشدو ذكراهم ويشتاق إليهم، إلى الأب والأم والزوجة والأصدقاء.

"أيا والدُ،/أيا سنديانهْ/بجذعٍ هو القلبُ والساعدُ،/هو الحبُ والحارسُ الماردُ...

بجذعٍ ولو جفَّ لا يقعُ/يظلُّ جداراً بوجه الرياحْ،/وطيباً يداوي الجراحْ"

والغربة التي تصيب النفس من رحيل الأحبة ليست هي جرحَه، لأنه مؤمن بأنه سيلتقيهم يوماً. جُرحُه الغربةُ عن وطن يشتاقه وهو فيه لأن هذا الوطن لم يتحقق بعد. هذا الوطن أشدُّ غياباً من الغائبين. فيربط شوقه الى أبيه بشوقه إلى نهوض الوطن الذي يعبث به تِنّينٌ غامض "متى يتقهقر التِنّين ويندثر؟" ولطول انتظار الكاتب للحظة تحطُّمِ وحشِ الـمِحَن كي يعبُرَ إلى الضفة الواعدة، لم يعد انتظاره فعلاً قد يتوقف. أصبح صِفةً ملازمة: "أبي، ثمان وعشرون ونحن انتظارْ"!

واقع المجتمع الذي يعيشه، والأصح الواقع الذي يموت منه كل يوم، هو أيضاً جرح لا يندمل. وحنينُه إلى الوالد الغائب/الحاضر ينسابُ نهراً يكاد يكون صافياً لو لم تتداخل معه مرارةٌ من مساوئ المجتمع. وتطفو خلاصات حياة:

"أبي، أيا سنديانه.../لَكَمْ تتجنّى أيادي الحياهْ/على مَن يخافُ الإلهْ،/على الآدميِّ الأبيّْ..!/وكم تفتحُ الحظَّ للمُستغِلِّ الـمُسيءْ،/لكلِّ رديءْ،/فلا الظلمَ تستوقفُ،/ولا تُنصِفُ!"

 

هذه الدرب السالكة أبداً للجميع، لا يَهابُـها ريمون شبلي. كيف لا وهو الذي أصابه الموت في الأغلى والأقربِ والأعز، عندما "بكَّر طائر الموت في التحليق فوق هامة عُمرِها"، وهذه هي الكلمات التي قدم بها لكتابه عن زوجته الراحلة "بَخور وسُبحة نور" عام 2013. وفي "أشدو... وأشتاق" يقول لها بقلبٍ جريح وروحٍ واثبة إلى الخلود: "أغمضتِ عينيكِ؛ جَفَّ النبضُ في الجسدِ/وسافرَتْ روحُكِ الخضراءُ في الأمَدِ/غداً أجيئُكِ مشتاقاً ومنتظراً ذاكَ اللقاءَ... نُغَنّي نغمةَ الـخُلُدِ."

ويستجلب الحديثُ عن الموت تقليبَ الحياة بأزمنتها العديدة، فيسترجع الطفولة ويُسائلُ العمرَ ويحاكي ما تبقّى منه. فتتجاورُ قصائدُ الشوق إلى الراحلين مع قصائدِ الحنين إلى الطفولة وقصائدِ الإبحار في مجرى العمر. يرى تناقُصَ العمر في تراقُصِ شمعةِ عيد ميلاده: "مَن يُطفئُ الآخرَ؟ احْكِ الحقَّ يا عيدُ،/أنا؟ شموعُكَ؟ أَمْ زَفْراتُها السودُ؟"

في سطورٍ قليلة يتعامل مع الزمن من منظارين. فحيناً زمنٌ دائري وإيحاءٌ بالعَود الأبدي: "قصيرةٌ هذي الطريقُ المستديرهْ/مهما تَطُلْ قصيرهْ!". وحيناً زمنٌ خطّي: "يا للبقاء! طويلةٌ طريقُهُ بلا انتهاءْ".

كما ينازلُ الزمنَ الخارجي بزمنه الداخلي:

"بيننا معركةٌ قد تطولُ؛/تـتحدّى؟.. سيفوزُ القتيلُ."

وللزمن عنده معنىً ثالثٌ أيضاً. فعندما يقول إن هذا الزمنَ كفيفٌ، إنما يقصد به مجتمعَ اليوم والواقعَ الراهن. فيقول إنّ هذا الزمنَ الكفيفَ يرى:

"في المستبِدِّ عظيماً قوياً،/ وفي مَن يُغَنّي السلامَ ضعيفَا

وفي حاضِنِ الحقِ وجهاً غبياً،/ وفي ناشر البُطْلِ صوتاً عفيفَا

وفي القلمِ النجمِ حبراً شحيحاً،/ وفي سارق الحرفِ حبراً مُضيفَا

ويا لكَ من زمنٍ فاقدٍ/بصيرتَه .. يستعيدُ الكهوفا!"

ومع ذلك، لا انفصام بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي بل تداخُلٌ رغم التنافر واتحاٌد رغم التناقض. وربما هذا دأبُ مَن حَـمَل رسالة التربية وزرْعِ القيم: "احمِلِ الآتي بعينيكَ، بزِنديكَ، برؤياكَ/شموساً ونجوماً وقمرْ/وبُروقاً ورعوداً ومطرْ ../واحمِلِ العمرَ اشتياقاً يستمرْ."

وكلما اشتد الوجع عظمت العزيمة. قلبه يضيء النار، لأنه نار أقوى من النار. يقول قلبُه: "أَمضي كما الطائرُ الموجوعُ، يَنفضُ عن/جناحِهِ الجمرَ، يعلو يضرِبُ الصَعبا/ويستردُّ مسافاتٍ وأجنحةً؛/يروحُ، بَعدُ، يضيءُ النارَ والشُهْبا."

وبين المجيء والرحيل ومضةٌ تبدو لنا شعاعَ يقينٍ حيناً وطيفَ خرافةٍ أحياناً: "بينهما مسافةٌ قصيرهْ!/يدخلُ من بابٍ ويَعبرُ المسافهْ.../في آخر السبيلْ/يَخرجُ من بابٍ يقولْ:/كأنها خرافَهْ!"

والخيبةُ أختُ الخرافة في حياتنا الزئبقية: "كم غدا لونُ الحياةْ/بارداً،/شارداً،/ومراياها تَحوَّلْنَ خُرافاتِ مرايا/وأمانيها شظايا!"

ويسعى إلى ترسيخ حضوره في الدنيا وتبديد الشعور بأن سفرنا فيها كالخرافة: "...خُذْها وسَطِّرْ بصمةً ساطعةً/تدومْ،/سَطِّرْ حضوراً عَطِراً يُنيرْ،/يقوى على الظلامْ."

في القصيدة التي أخذ عنوانَها "أشدو... وأشتاق"، عنواناً للديوان، يصف الدنيا التي يحلم بها "قصيدةً تشتعلُ.. وحريةً حدُّها الـمُثلُ.. وأُماً تعي.. وأباً يُجدي ويَهدي.. وجيلَ غدٍ طُموحُه قَفَزاتٌ في العُلى تَبني حداثتُه الآتي على حجرٍ من الأصالة."

هذه مدرستُه وهذا نهجُه في الشعر: حداثةٌ على حجرٍ من الأصالة. حريةٌ ملتزمة. مرونةُ بحورٍ وصقلُ قَوافٍ من غير افتعال. ويصبُّ في هذا النهج مفهومُه للحقيقيّ والمزيَّف. فيقول عن السائد من الكتابة: "بعضُ أقلامٍ يُتعِبُ الحبرَ والأوراقَ ما همَّه مسيرُ اعوِجاجْ، وبعضُ أقلامٍ يحملُ النهرَ يُغريهِ نداءُ الجبالِ والأمواجْ."

لم تُثبط يراعَه خيباتُ الزمن وزيفُه الـمُهَيْمِن على قليلِ صِدْقِه. بَلْسَمُه القلم وعقيدتُه الكتابة.

"يا مُقلقي، ورنينَ الذات، يا قلمي،/بيني وبينكَ وعدٌ أخضرٌ وعَدا/كنا يداً بيدٍ، نبقى معاً أبدا."

هذا الرجل الذي وصفَ نفسَه بـــ "المنفيّ في قَدَرٍ من المحابر والأحلام"، ابنُ ساقية المسك، يسيل حبرُ شاعريته رقراقاً في ساقية الزمن ويرتحل مِسْكُها هادئاً كسحابات بيضاء في فضاء خيالنا.

أشعاره قُبَلٌ على ثغر الحياة، ورودٌ على ممر الممات، وعشبٌ لا ينفكُّ يفاجئ بخضرته هذا الخريف الـمُسلَط على دنيانا.

وأختم بما بدأتُ به، أن كاتبنا هو من الفئة التي تطمع بالجنتين. ولكن أضيف تصحيحاً ليس ببسيط: ريمون شبلي لم يطمع بالجنتين بل عمل لهما بجدارة واستحقاق. فقد كتب في إحدى قصائده أنه سمع الدنيا تقول له:

"لكَ الخلودُ بلِ اثنانِ امتَلكْتَهُما

بما كَتَبْتَ وما إيمانُك اعتقدا:

خلودُ روحِكَ واسْمٍ باسِمٍ حَفَرَتْ

حروفَهُ كُتُبٌ تستغرقُ الأمَدا."