فـي اللقـاء مـع السيد الدكتور محمـد خاتمـي

رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية السابق

الجمعــة 2005/12/2

 

       

كلمـة أميـن عـام الحركـة الثقافيـة - انطليـاس

كلمـة أميـن عـام مجلس كنائس الشرق الأوسط

كلمة رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية السابق السيد الدكتور محمد خاتمي

ما كتبته جريدة النهار في 3 كانون الاول 2005

كلمـة أميـن عـام الحركـة الثقافيـة - انطليـاس

السيد جورج أبي صالح

                صاحـب الفخامـة

                أصحـاب السيـادة

                والسعـادة والسماحـة

                وأيهـا الحفـل الكـريم،

                في السادس من كانون الأول عام 1996، أي منذ تسع سنوات بالضبط، تشرَّفت
الحركة الثقافية - انطلياس والرهبانية الانطونيّة المارونيّة باستضافة السيد الدكتور محمد خاتمي، الذي كان آنذاك مستشاراً لرئيس الجمهورية الإسلامية ورئيس المكتبة الوطنية الإيرانية ووزيراً سابقاً للثقافة والإعلام في إيران.

        وكان ذلك اللقاء مناسبةً استمعت فيها نخبة من رجال الدين والمثقفين المسيحيين إلى بعض أفكار الضيف الكبير، الذي أصبح بعد أشهر قليلة رئيساً للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

        يومذاك قال السيد خاتمي إننا "حينما نعود إلى ذات الإسلام وذات المسيحية، نرى قواسم مشتركة كان لا بدّ من أن تجمعنا. وأنّ سبب الصراع الذي حصل بين المسيحية والإسلام لم ينجم من داخل الدين إنما من الخارج، وقد نتج عن سوء فهم للدين". وفي سياق الكلام عينه، دعا السيد خاتمي إلى "نسيان الماضي المرّ بذكرياته المؤلمة والإفادة من الخطوات البنّاءة التي باشرها الدينان المسيحي والإسلامي في مجال التلاقي والتعاون".

        وفي طرحٍ آخر للرئيس خاتمي في مجلة "المنطلق" اللبنانية (صيف 1996)، قال ما حرفيّته "إن الديمقراطية هي السبيل الوحيد إلى استقرار النظام السياسي، وهي لا تتنافى في رأيي مع الإسلام؛ إنّها إنتاج بشري، وهي الشكل الأقلّ ضرراً من النظم الأخرى... فالذين يرفضون الديمقراطية كسبيل يدعون إلى الدكتاتورية والقهر. وهذا ما ابتلت به المجتمعات الإسلامية على مدى اثني عشر قرناً".

        أيها السيدات والسادة،

        إن هذا الخطاب الذي يدعو إلى حوار دائم بين الأديان والحضارات والى اعتماد الديمقراطية نهجاً سياسياً، هو خطاب حضاري، خصوصاً وأنه صادر عن شخصية دينية ثقافية مميَّزة شغلت مركزاً بارزاً على رأس نظام سياسي ديني، حيث خاضت تجربة فذّة وفريدة من نوعها في العالم المعاصر، وشكَّلت موضع مراقبة دائمة واهتمام متواصل من قبل العديد من الأطراف والدول في هذه المنطقة كما في سائر أنحاء العالم.

        لقد كان وصول السيّد محمد خاتمي إلى الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ثمرة تكتّل عريض للإصلاح والتغيير يجوز تشبيهه بحركة تصحيحية لتجديد مسار التحالف بين النُخَب الثقافية وعلماء الدين وعامّة الناس. وسعى هذا الجيل الثاني للثورة إلى بلورة "ديمقراطية إسلامية راشدة" تأخذ في الاعتبار تطلّعات الشباب.

        الخاتمية، إذاً، هي "مشروع مصالحة بين الدين والحرية"، حسبما وصفها السيد محمد صادق الحسيني. فهل نجحت في إرساء أسسٍ لمصالحة تاريخية بين القراءة الدينية لنظرية السلطة لدى النخب الإيرانية المثقفة وبين مبدأ الحريّة واحترام التعددية على نَسَق الديمقراطية الغربية؟ أم أنها أخفقت في مواجهة النزعة التشدّدية المحافظة، مع ما ينطوي عليه ذلك من إحباط محتمل لدى أبناء الجيل الطالع؟

        والى أيّ حدّ أثبتت تجربة الرئيس خاتمي في الحكم قدرة المثقَّف على الجمع بين الطرح النظري والممارسة العملية، في خضّم التجاذبات السياسية ولعبة موازين القوى الداخلية والخارجية؟

        لعلّنا نحصل اليوم على عناصر إجابة عن هذين السؤالين في هذا اللقاء الحواري المتجدّد مع سيادة الرئيس الدكتور محمد خاتمي، الذي ما زال يسعى إلى ترجمة اقتناعاته الراسخة من خلال سعيه، مع أمثاله من كبار المفكّرين المتنوّرين، ولا سيّما عبر "مجموعة الأمم المتحدة لتحالف الحضارات"، إلى مكافحة الإرهاب والتطرّف من طريق رأب الصدع بين الإسلام والغرب.

        وإن الحركة الثقافيّة - انطلياس، التي تدرك أن الرئيس خاتمي يكنّ لها تقديراً خاصاً بل مودّة خاصة، تبادله بالتأكيد المشاعر ذاتها، وتحرص على تكرار الترحيب به صديقاً دائماً ومحاوراً آسراً على منبرها الذي يتطلّع إلى البقاء منبراً حوارياً بامتياز في هذا الوطن الملاذ، الذي احتضن على مرّ تاريخه أقليّات دينية وإتينية متعدّدة وجدت فيه ضماناً لحريّتها ضمن كيان سياسي موحّد، ودولة سيّدة، حرّة، مستقلّة، ذات نظام ديمقراطي توافقي.

        باسم الحركة الثقافيّة - انطلياس، أجدّد الترحيب الحارّ بفخامة الرئيس الدكتور محمد خاتمي وبسائر صحبه الإيرانيين وضيوفنا اللبنانيين، شاكرين لمجلس كنائس الشرق الأوسط، الذي لنا معه سوابق من التعاون الخيّر والبنّاء، مبادرتَه إلى التنسيق معنا لاستضافة هذا اللقاء الحواري المفتوح، الذي نأمل أن تتحقَّق، إضافةً إلى السعادة من حصوله، كلُّ الفوائد المرجوّة منَ انعقاده.

                                                                 والسـلام عليكم                   

                                                                 الأميـن العـام

                                              جـورج أبـي صالـح

*   *   *

      سوف يشاركني الأمين العام الأخ الأستاذ جرجس صالح التقديم للضيف الكبير باسم صاحب الدعوة، مجلس كنائس الشرق الأوسط، وإن شرف تعرّفي اليوم، شخصياً، إلى الأستاذ جرجس، قد أثار في نفسي غبطة وفي بالي تساؤلاً:

هو قبطي مصري يُدعى جرجس صالح،

وأنا ماروني لبناني، واسمي جورج أبي صالح،

      أفليس هذا أيضاً دليلاً إضافياً على صلة القرابة الأصلية بين أبناء مختلف الطوائف والأديان في هذه البقعة من العالم؟

      أخي جرجـس، أهـلاً وسهـلاً بـك. والكـلام لـك.

إلى أعلى

كلمـة أميـن عـام مجلس كنائس الشرق الأوسط

السيد جرجس صالح

فخامة الرئيس حجة الاسلام الدكتور محمد خاتمي

أصحاب السماحة والسيادة والنيافة

أصحاب المعالي الوزراء والنواب

أصحاب السعادة السادة السفراء

آصحاب النيافة والسيادة أعضاء اللجنة التنفيذية

                    لمجلس كنائس الشرق الاوسط

الأصدقاء في الحركة الثقافية،

الأخوة والاخوات الاحباء

نحن الليلة أمام قامة فكرية، ودينية وسياسية، كبرى.

أمام رئيس سابق للجمهورية، أمام مثقف انساني ذي حضور متوهج.

أمام مؤمن متعبد لله الأحد، سعى الى مصالحة بين الايمان والعصر، بين العقل والقلب، بين أصول الإسلام السمح والديموقراطية.

إنه المؤمن الذي جاهد ليبني جسور التواصل بين المسيحية والاسلام وليؤكد انتماء المؤمنين جميعًا الى اله واحد رحوم، عادل، محب، ملك السموات والأرض، متعال عن البشر "وأقرب اليهم من حبل الوريد" في آن معًا.

أليس هو القائل عن الله جلّ جلاله انه (إله جميل يعشقه الانسان، ويتوله في عشقه له) وعن الايمان "انه السبيل المطمئن لمعرفة الله عز وجل وهو طريق الوصول لا الفهم، وطريق القلب لا العقل" ويضيف "التدين تجربة وليست فكراً" (مطالعات في الدين والاسلام والعصر ص 32).

أليس هو من ميز بين "جوهر الدين كشأن مقدس متسام، وبين تصورات الناس، وهي أمر محدود ونسبي"؟

 أليس هو من اعتبر ان الديموقراطية لا تتنافى طريقا او سبيلا مع الإسلام كما يتضح من المأثور عن الرسول والصحابة والأئمة المعصومين".

أليس هو داعية الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان حتى صرف همه الكبير الى تأسيس مركز ينهض بالمهمة الجليلة؟

 نعرفه في لبنان جسر حوار. ويعرفه الايرانيون، وفي الطليعة منهم المسيحيون، جسر حوار، ويعرفه العرب والعالم جسر حوار.

 فاهلاًٍ به كبيراً في الايمان، كبيراً في الفكر وكبيراً في قلوب المؤمنين جميعًا.

صاحب الفخامة

يسعدني باسم مجلس كنائس الشرق الاوسط بأسم رؤساء المجلس وأعضاء اللجنة التنفيذية ان أرحب بفخامتكم في لبنان.

إلى أعلى

كلمة الرئيس محمد خاتمي

        هناك سؤال أساسي من الأجدر ان نعيده مرة أخرى في اجتماع المفكرين في حقل الدين:

"في أي عالم نعيش؟ وما هي رسالة الدين في هذا العالم؟"

        قيل ان الفلسفة الإغريقية كانت تدور على محور الكون. وان التفكير السائد في العصر الوسيط كان يدور على محور "الإله". كما ان التفكير السائد في عالم الفن والفلسفة في العصر الفكري الحديث يدور على محور الانسان. من المفيد ان نتأمل قليلاً في معنى الكون قديماً وحديثاً. فقديماً كانت الارض تشكل مركز الكون بمعناه الفلكي. كما كان الانسان المتعقل يشكل مركز الارض. فكان بالإمكان العقل الانساني المتصل بالعقل المتعالي المسيطر على العالم، ان يعرف الكون، ليجد طريقه في هذا الكون من خلال الاستعانة بهذا العقل نفسه - او العقل المستمد من الوحي الالهي.

        اما النظريات الفلكية الحديثة فانها لم تعد تعتبر الارض مركزاً وانما هي - أي الارض - تمثل ذرة ضئيلة في رحاب الطبيعة والكون اللامتناهي. كما ان الانسان يمثل كائناً قد رُمِي به في الكون. وبما انه كائن واع بالذات، فان هذا الشعور بالانقذاف والاجتثاث من الجذور يقلق باله ويجعله مضطرباً. ان هذا الشعور بالاجتثاث من الجذور يسفر عن آثار كلامية وفلسفية وفنية عديدة جرت دراستها على مختلف الاصعدة.

        في الماضي، شكى العرفاء الصوفيون معاناة الانفصال عن الاصل - او الطرد من الجنة حسب تعبير الأديان - الا انهم قد تغلبوا على هذا الاضطراب وهذه المعاناة من خلال امكانية الرجوع الى الاصل في ظل الجهد والعمل والتقشف وترويض النفس. وطالما ليس في عالمنا المعاصر شيء من "ما بعد الطبيعة" أو على اقل تقدير، تعجز عقلية هذا الانسان عن فهمها فكيف يمكن يا ترى ايجاد علاج لهذا الاضطراب؟

        وبغضّ النظر عن هذا التغيير النظري الذي طرأ على المفهوم الفلكي للكون وما ترتب عليه من آثار، اسمحوا لي ان اتطرق الى وجه آخر للكون، ألا وهو يتمثل في الصورة المتصورة عنه ليس بمعناها الفلكي، وانما بمعنى المجال المخصص للبشرية على وجه المعمورة.   

        فلو عدنا الى الماضي لرأينا ان العالم بالنسبة للبشر كان ذا طابعين: محليّ وتجريدي. والمقصود من الطابع المحلي للعالم هو ان العالم بالنسبة لكل قوم كان يشكل تعميماً (او صورة مكبرة) للمحل الذي يعيشون فيه - او بتعبير آخر، كان هناك عامل ثانٍ من نسيج أذهان الناس وعلى اساس المقارنة بمحل حياتهم وعالمه. وإذا كانت هناك فروق فهي تتمثل في امور ظاهرية مثل المناخ والطقس واساليب الزراعة والصناعة الخ...

        لكن العالم كان ذا طابع تجريدي في الوقت نفسه، اذ ان المعرفة بالآخر كانت ضئيلة وبالتالي كان الناس يخلقون هذا الآخر من خلال تعميم تجربتهم الخاصة بهم على غيرهم. اما العالم المعاصر فهو يشهد من هذا الحيث وضعاً مختلفاً.

        ان التطور الذي حصل في مجال الاتصالات وتسهيل الملاحة البحرية والجوية وفي حقل السياحة زاد من معرفة أبناء البشر - كمّاً ونوعاً- لسائر المجتمعات. الا ان زيادة المعرفة هذه لم تتسم دوماً بالطابع السلمي - الانساني مع الأسف. فقد سيطر الأوروبيون في العصور الجديدة على اراضي الآخرين. ولكن حاول الانسان الغربي السيطرة على روح الآخرين وثقافتهم - كما سيطر على اراضيهم - وذلك لحساب مصالحه وتطلعاته وأطماعه.

        لقد ظل "الانسان الغربي الأبيض" هو الانسان المعيار في العالم الجديد وذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر. وكأن العهد الاستعماري جعل الرقعة الإغريقية تكبر وتمتد الى الرقعة الاوروبية كلها. اذ ان المعروف عن الدولة الاغريقية انها كانت تعتبر كل انسان غير اغريقي من "البربر".

        لكن لا بد من ملاحظة حقيقة اخرى، وهي ان هذه النزعة الاثنية والمبنية على محورية اوروبا تبقي المسيحية بريئة منها على أي حال. وقد ظلم المسيحية من استند الى كلام او مكتوب لأحد المنظّرين المسيحيين ليربط بين محورية اوروبا والنزعة العنصرية من جهة وبين المسيحية من جهة أخرى.

        فإذا رجعنا الى التعاليم المسيحية الاصيلة الواردة في الكتاب المقدس وما ورد في كلمات القديسين المسيحيين بصورة متكررة وواضحة لرأينا ان المسيحية ليست هي السبب. فلا بد من البحث عن سبب آخر لتلك الظاهرة. اذ لا يمكن الصاق مثل هذه الامور بدين جعل حب الآخر على امتداد حب الله. فإله المسيحيين هو اله البشرية جمعاء شأنه اله المسلمين. وان المسيحية - كالإسلام - لا تخصّ زماناً دون زمان او مكاناً دون مكان او عرقاً دون عرق.

        إن عالم اليوم قد أصبح عالماً مصغّراً للغاية. وكان من المتوقع أن تزداد فيه معرفة ابناء البشر لبعضهم البعض عمقاً ودقة، وذلك بفضل التطور الهائل الذي شهدته وسائل الاعلام في هذا العالم الإنساني المصغّر جداً. وعلى ضوء التطور الحاصل في فروع وحقول كالاستشراف والدراسات الإسلامية، والهندية والتركية والإيرانية والمصرية والصينية واليابانية وفي مجالات الاثنولوجيا وعلم اللغات وما إلى ذلك... فإنه من المفروض أن نكون نحن ابناء البشر قد تعارفنا فيما بيننا بدرجة تجعل شجرة المحبة والسلام والتعايش والتضامن تؤتي أكلها الحلو بشكل أسهل وبتكلفة اقل. في حين أن الواقع ليس كذلك مع الأسف.

        ان القرية الكونية المعاصرة تختلف عن القرية القديمة اختلافاً رئيسياً من نواحٍ عدة. ففي القرية القديمة كان الاهالي يعرفون بعضهم البعض. حتى في حالة نشوب خلافات او نزاعات لم يكن الناس عاجزين عن فهم اسبابها. بينما ان في القرية الكونية يعجز - مع الأسف - كثير من اهاليها عن فهم بعضهم ولا يسود السلام والمحبة أجواء حياتهم. وقلما تتوفر لهم امكانية الاستماع الى بعضهم البعض على الرغم من وجود الإمكانيات الهائلة المتاحة للتواصل والاتصال.

        ان الطامة الكبرى التي يعاني منها عصرنا تتمثل في ما عبّر عن القرآن الكريم: "نسوا الله فأنساهم انفسهم". لقد نسي الله في عالمنا المعاصر. وبالتالي فقد جعل الله الذين نسوا ذكره غرباء على انفسهم.

        ان هذه "الغربة عن الذات" قد أدت الى العمى والصمم الثقافيين والسياسيين، وانها قد جعلت الحياة ضيقة ومُرّة لجميع الناس في مشارق الارض ومغاربها، رغم انهم يعيشون في خضمّ الانجازات المبهرة في مجال التقدم العلمي والتقني والاتصالاتي المعاصر.

        ان طريق علاج هذا العجز هو العودة الى الله واحياء ذكره واكتساب الاهلية للتواجد في عالم لا تشكل له الطبيعة إلا غطاءً مظلماً. فان الانسان يعيش في عالم هو اكبر من عالم الطبيعة بكثير. فاذا استذكر ذلك العالم الكبير، سيكون الحياة في عالم الطبيعة حياة منشودة مفعمة بالهدوء والسكينة لأي انسان يظل بعيداً عن النزعات العرقية والأثنية واللغوية والمذهبية. والبحث عن هذا العلاج يشكل المسؤولية الكبرى الملقاة على عواتق المتدينين في هذا العصر.

        ان مستقبل التدين، مرهون بالبصيرة والمعرفة بالظرف الزمني والابتعاد عن العصبيات القومية والطائفية والاستعداد لتغيير العادات الذهنية. في تلك الحالة سيبقى جوهر الدين مصوناً محفوظاً، كما ان النفس الانسانية المخيّرة التي هي متعلقة بالدين في تلافيف ضميرها، لن تفرّ في تلك الحالة من الدين.

        اننا من خلال التفاهم والتسامح وبعد النظر بامكاننا ان نعيد الى الاديان طابعها الفوق زمني- الفوق مكاني، رغم وجود الخلافات الظاهرية فيها. وانه لمن حسن الحظ اننا نشهد خطوات واعدة تبعث علي الامل في هذا الاتجاه من قبل المفكرين الواعين سواء من العالم الاسلامي او من العالم المسيحي او من سائر الاديان.

        ففي هذا الاتجاه، فان الحوار بين الحضارات - وفي مقدمته الحوار بين الاديان وعلى وجه خاص بين الاسلام والمسيحية - يبقى امراً حيوياً لا مفر منه. وان كثيراً من الامور التي تشكل واقع عالمنا المعاصر يزيد من ضرورة هذا الحوار وطابعه الفوري الملح.  

        وانني اسردها بعض هذه الامور باختصار:

1-     لقد أصبح الاتجاه المعارض للدين يهدد، بشدة، القيم الروحية والحياة الانسانية اللطيفة. وان الحوار بين علماء الدين من شأنه ان يعزز في نفوسنا الامل في انقاذ الحياة الروحية للإنسان

2-     في الوقت الذي صار فيه اصحاب القدرة في العالم يعملون على زيادة سوء الفهم بدلاً من العمل على تقليصه ومن ثم ازالته في النهاية؛ فان الحوار الديني من شأنه ان يتغلب على حالات سوء الفهم الموجودة وان ينقذ الانسان من البَكَم والصمَمَ.

3-     ان الحوار بين الاديان - خاصة بين الاسلام والمسيحية - من اجل تحقيق هدف هامّ هو ايجاد حلول للمشاكل العالقة في العالم وفي المنطقة؛ من شأنه ان يفتح الباب للآخرين من الباحثين والكتّاب في الحقلين الاجتماعي والفلسفي، والصحافيين والاعلاميين، وان يقود الاجواء الذهنية والاعلامية الى التفاهم والى العمل على توفير آليات للتواصل وايجاد لغة مشتركة بين مختلف الاجناس والشعوب، وذلك بدلاً من الاتجاه نحو المضامين الباعثة على النزاع والصراع والتعسف الاناني.

    عندئذ، سنواجه باحثين متواضعين امام الحقيقة حريصين عليها، بدل ان نواجه دوماً كتابات وبرامج تتحدث عن التعارض بين الاسلام والغرب او بين الاسلام والمسيحية او بين الدين وحقوق الانسان وانظمتها. وان هؤلاء الباحثين بدل ان يعتمدوا الرؤى السطحية واصدار الاحكام المتسرعة سوف يتعلمون ان الوصول الى رحاب واعماق ديانات كالاسلام والمسيحية لا يتيسر من خلال الاستناد الى بعض الاحداث او قراءة صفحات من الكتب والمقالات فقط.

    ان امكانية العيش في العالم المعاصر من خلال الحوار والتفاهم والتبادل التجاري ستكون اوفر وأكثر. كما انه يمكن تذليل عقبات العيش في عالمنا المعاصر من خلال نشر المبادئ الاخلاقية - الدينية ودعمها. ولا شك ان ذلك لن يتيسر الا اذا قدمنا الدين بوجهه الذي يدعو الانسان الى السلام والتعايش والعدالة والكرامة والحرية وليس الى الحرب والحيف والرجعية والهيمنة.

    لنجعل عالمنا المرهق من الظلم والهيمنة والحرب، عالماً يصلح للبشرية جمعاء، وذلك من خلال العمل من اجل السلام والعدالة والحرية.

إلى أعلى

"النهار" السبت 3 كانون الاول 2005

دعا الى نبذ العصبيات القومية والطائفية

خاتمي: تطوير رؤية عصرية للدين يغني عن العلمانية

كتبت زينب عساف

انها المرة الثانية التي يطل فيها الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي من منبر الحركة الثقافية في انطلياس. وبين المرتين تسع سنين شكلت منعطفاً في تاريخ ايران السياسي. يومذاك من عام 1996 تحدث خاتمي الذي كان مستشاراً لرئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية عن العودة الى القواسم المشتركة بين الاسلام والمسيحية، وأمس أعاد الرئيس السابق خاتمي التذكير بكلامه، ربما ابتعادا عن الكلام السياسي الشائك. اذا لم يطل خاتمي أمس بصفته سياسياً عقد الشعب الايراني عليه آماله الاصلاحية العريضة قبل ان يرتدّ هذا الشعب الى غلاة المحافظين، بل بصفته محمد خاتمي: رجل الدين والمفكر الاسلامي الذي يرى ان تطوير رؤية عصرية للدين يغني عن تطبيق العلمانية.

مجلس الكنائس

بداية القى الامين العام لمجلس كنائس الشرق الاوسط جرجس صالح كلمة رحب فيها بالضيف، وقال: "نحن الليلة امام قامة فكرية ودينية وسياسية كبرى. امام رئيس سابق للجمهورية، ومثقف انساني ذي حضور متوهج. انه المؤمن الذي جاهد ليبني جذور التواصل بين المسيحية والاسلام. أليس هو من اعتبر ان الديموقراطية لا تتنافى طريقاْ او سبيلاً مع الاسلام كما يتضح من المأثور عن الرسول والصحابة والائمة المعصومين؟ باسم مجلس كنائس الشرق الاوسط، باسم رؤسائه واعضاء اللجنة التنفيذية، ارحب بفخامتكم في لبنان".

خطاب حضاري

الامين العام للحركة الثقافية جورج ابي صالح ذكر باستضافة السيد خاتمي قبل تسع سنين، وكان آنذاك مستشاراً لرئيس الجمهورية الاسلامية ورئيس المكتبة الوطنية الايرانية ووزيراً سابقاً للثقافة والاعلام. وقال: "يومذاك الى نسيان الماضي المر بذكرياته المؤلمة والافادة من الخطوات البناءة التي باشرها الدينان المسيحي والاسلامي في مجال التلاقي والتعاون. هذا الخطاب الذي يدعو الى حوار دائم بين الاديان والحضارات واعتماد الديموقراطية نهجاً سياسياً، هو خطاب حضاري، وخصوصاً انه صادر عن شخصية دينية ثقافية مميزة شغلت مركزاً بارزاً على رأس النظام الديني". ثم رحب به باسم الحركة.

رسالة الدين

ودارت محاضرة خاتمي حول سؤال أساسي في اجتماع المفكرين في حقل الدين: "في أي عالم نعيش؟ وما هي رسالة الدين في هذا العالم؟". وكي يجيب خاتمي عن هذا السؤال رأى ان "من المفيد التأمل قليلاً في معنى الكون قديماً وحديثاً. فقديما كانت الارض تشكل مركز الكون في معناه الفلكي. كما كان الانسان المتعقل يشكل مركز الارض. فكان في امكان العقل الانساني المتصل بالعقل المتعالي المسيطر على العالم، ان يعرف الكون، ليجد طريقه فيه من خلال الاستعانة بهذا العقل نفسه، او العقل المستمدّ من الوحي الالهي". واضاف ان "النظريات الفلكية الحديثة لم تعد تعتبر الارض مركزاً للكون، وانما ذرة ضئيلة فيه، كما ان الانسان صار أشبه بكائن رمي به في هذا الكون. وبما انه واع بالذات، فان هذا الشعور بالانقذاف والاجتثاث من الجذور يقلقه، ويسفر عن آثار كلامية وفلسفية وفنية عدة جرت دراستها".

وتطرق الى العرفاء الصوفيين "الذين عانوا الانفصال عن الأصل، او الطرد من الجنة، بحسب تعبير الأديان، لكنهم تغلبوا على هذا الاضطراب من خلال امكان الرجوع الى الاصل في ظل الجهد والعمل والتقشف وترويض النفس". وهنا سأل خاتمي: "ما دام ليس في عالمنا المعاصر شيء من "ما بعد الطبيعة" فكيف يمكننا ايجاد علاج لهذا الاضطراب؟".

ولفت الى "وجه آخر للكون يتمثل في الصورة المتصورة عنه. ليس في معناها الفلكي، بل في معنى المجال المخصص للبشرية على وجه المعمورة"، وقال: "لو عدنا الى الماضي لرأينا ان العالم بالنسبة الى البشر كان ذا طابعين: محلي وتجريدي. والمقصود بالطابع المحلي للعالم هو أن هذا العالم بالنسبة الى كل جماعة كان يشكل تعميماً  -- او صورة مكبّرة - للمحل الذي يعيشون فيه. واذا كانت هناك فروق، فتتمثل في أمور ظاهرية كالمناخ والطقس وأساليب الزراعة والصناعة... الخ. لكن العالم كان ذا طابع تجريدي في الوقت نفسه، اذ ان "المعرفة بالآخر كانت ضئيلة، وبالتالي كان الناس يخلقون هذا الآخر من خلال تعميم تجربتهم الخاصة على سواهم. أما العالم المعاصر، فهو يشهد من هذا الحيث وضعا مختلفاْ (...) واذا رجعنا الى التعاليم المسيحية الاصيلة الواردة في الكتاب المقدس، وما ورد في كلمات القديسين المسيحيين في صورة متكررة واضحة، لرأينا ان المسيحية ليست السبب. فلا بدّ من البحث عن سبب آخر لتلك الظاهرة. اذ لا يمكن الصاق مثل هذه الامور بدين جعل حبّ الآخر على امتداد حبّ الله". وفي هذا السياق أكد خاتمي أن "المسيحية كالاسلام، لا تخصّ زماناً دون زمان، او مكاناً دون آخر. ان عالم اليوم اصبح عالما مصغراً جداً وذلك بفضل التطور الهائل الذي شهدته وسائل الاعلام. وعلى ضوء التطور الحاصل في فروع وحقول كالاستشراق، والدراسات الاسلامية والهندية والتركية والايرانية والمصرية والصينية واليابانية، وفي مجالات علم اللغات... فان من المفترض ان نكون نحن ابناء البشر قد تعارفنا في ما بيننا الى درجة تجعل شجرة المحبة والسلام والتعايش والتضامن تؤتي اكلها الطيّب بشكل أسهل وبتكلفة أقل، بينما الواقع ليس كذلك ويا للاسف".

ووجد خاتمي ان علاج هذه "الغربة عن الذات". يكمن في "العودة الى الله واحياء ذكره، واكتساب الاهلية للوجود في

عالم لا تشكل له الطبيعة الا غطاء مظلماً".

وفي ختام المحاضرة دعا خاتمي الى نبذ العصبيات القومية والطائفية، والى تغيير العادات الذهنية، "لانه في تلك الحالة سيبقى جوهر الدين مصوناً محفوظاً".

الثقافة الايرانية دينية

وفي الحوار الذي تلا الكلمات، ناقش الحاضرون الضيف الايراني، وبينهم جمع من رجال الدين المسيحيين والمسلمين، والسفير الايراني مسعود ادريسي، والسيدة رباب الصدر، والنائبان غسان مخيبر وحسن يعقوب، والوزيرة نايلة معوض، وممثل البطريرك صفير المطران شكرالله حرب، والوزير السابق يوسف سلامة، وممثل العماد ميشال عون ميشال دي شادار فيان - ناقشوا مسائل كالعرفان في الفكر الشيعي، وشرعة حقوق الانسان الاسلامية، وامكان تطوير الخطاب الديني وغيرها. وابتعدت الاسئلة مرة اخرى عن الحديث السياسي المباشر.

وقال خاتمي ان "العرفان لا يقتصر على الشيعة، لان اهم عارف هو محيي الدين ابن عربي، وهو ليس شيعياً، وهناك آخرون مسيحيون ومسلمون، لأن روح الاديان الالهية تنتمي الى العرفان، ولكن مع مرور الزمن تبدلت الظواهر". واضاف: "الامام الخميني كان من العلماء الكبار، ونظريته العرفانية كانت مؤسسة في وضع الثورة الاسلامية في ايران التي اتت نتيجة لـ150 سنة من ارادة تاريخية لدى الشعب الايراني بقيم الحرية والاستقلال والتطور بعد معاناة من القمع والارتهان للاجنبي. قبل الاسلام وبعده عانى الشعب الحرمان والتخلف، وهو اول شعب شرقي وضع دستوراً للحكومة الديموقراطية".

واذ أكد ان الثقافة الايرانية دينية قبل الاسلام وبعده، قال "ان التيار الاصلاحي كان اصلاحا في الثورة، منسقا مع الهوية التاريخية للشعب الايراني، وان الدين لا يتبدل، ولكن انطباعاتنا عنه تتغير، وفي عالمنا المعاصر الذي نرى فيه ارتفاعاً لصوتي الحرية والديموقراطية، على الدين ان يتناغم وينسجم مع القيم العصرية كي لا يصبح في خطر. لذا علينا كمسيحيين ومسلمين ان نبيّن رؤيتنا للحرية".

وخلص الى انه "لا يمكن التمييز بين اسلام تقليدي وآخر معاصر، لان هذا التقسيم يجعل الدين المافوق التاريخ تاريخياً وزمنياً وهذا خطأ. واذا فهمنا ان الدين مع الحرية وحقوق الانسان". والديموقراطية، فيجب الا ننادي اذذاك بالعلمانية الغربية".