مداخلة د. عصام خليفة في لقاء مع المعتصمين في البترون

2019/10/27

 

إزاء التحولات العميقة التي يشهدها مجتمعنا اللبناني بعد عامية أو انتفاضة 17 تشرين الأول، نجد من واجبنا ان نؤكد على جملة منطلقات مبدئية، وان نحلل خلفياتها، وان نطرح بعض الأفكار التي يمكن ان تشكل خريطة طريق في المرحلة القريبة القادمة.

أولاً: في المنطلقات:

 

1-  ان شمولية التحرك من عكار الى النبطية، مروراً بطرابلس والبترون وجبيل وجل الديب وساحتي الشهداء ورياض الصلح، مروراً بالشفروليه وعاليه وبعقلين وزحلة وبعلبك وبلدات البقاع الأوسط وصولاً الى صيدا والنبطية وكفررمان (42 موقعاً تقريباً)، ووحدة الشعارات المرفوعة تعني عدة أمور منها:

‌أ-     لا علم إلا العلم اللبناني وهذا يعني الالتزام بالهوية اللبنانية وبسيادة الدولة اللبنانية واستقلالها.

‌ب-أولوية المطالب الاقتصادية والاجتماعية: رفض الضرائب الظالمة، رفض الفساد، العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.

‌ج-  سيادة الشعب كمصدر لكل سلطة، واهمية المساءَلة في مواجهة المسؤولين الذين اثروا على حساب المصلحة العامة.

‌د-    المحاسبة وإعادة الأموال المنهوبة الى خزينة الدولة.

‌ه- اقالة الحكومة القائمة واستبدالها بحكومة من الوزراء الاكفياء والاصلاحيين، والانتقال الى انتخاب مجلس نواب جديد.

‌و-   التوجه نحو علمنة الدولة والمجتمع والتربية والثقافة بشكل تدريجي ومرحلي.

2-  بمناسبة الاحتفال بمئوية قيام دولة لبنان الكبير ثمة اخطار كبيرة تهدد وجود هذه الدولة.

‌أ-     ما يجري من هندسة شعوب في شرق المتوسط ونزوح أكثر من مليوني سوري و 500 الف فلسطيني الى لبنان وتلميح  بعض الجهات الدولية بتوطين اكثريتهم في بلادنا.

‌ب-المخططات الدولية الساعية الى حل المسألة الفلسطينية على أسس مغايرة لمقررات الشرعية الدولية (على الأقل السياسة الأميركية الحالية مع رئيس ترمب)

‌ج-  استمرار أطماع إسرائيل بالأرض والمياه والنفط والغاز في مياهنا الإقليمية.

‌د-    الصراع الأميركي الإيراني وتداعياته على مختلف الصعد وبخاصة ما يجري في العراق (سقوط أكثر من 300 ضحية و 6000 جريح منذ 18 تشرين الأول حتى تاريخه)!    

3-  ان مباركتنا للانتفاضة الشعبية (عاميتنا الجديدة) يجب ان لا يخفي عن انظارنا:

إمكانية استغلال هذه الانتفاضة للوصول الى الانهيار المالي الذي يكون مقدمة حتمية للفوضى الاجتماعية، والى انهيار المجتمع والاقتصاد والدولة.

4-  ليست المرحلة هي مرحلة تنافس او تناحر سياسي بين اشخاص وأحزاب وطوائف لمكاسب فئوية وقصيرة النظر. ان الأيام التي نعيشها هي أيام تاريخية ستحدد مصيرنا الى امد غير قصير. هذا يفترض التفاف الجميع حول المصالح العليا للدولة وللمجتمع في لبنان.

5-  لقد سبق للشعب اللبناني ان اختبر العنف في الحروب التي عانينا منها ما بين 1975 – 1990. والمطلوب رفض استعمال العنف بين كل الفرقاء فممنوع على السلطة ان تستعمل العنف لقمع المتظاهرين او المعتصمين. وممنوع على الأحزاب ان تستعمل العنف ضد بعضها البعض.

6-  على كل الفرقاء ان لا يكونوا أدوات في لعبة القوى الخارجية. وان تكون المصلحة العليا للشعب اللبناني هي البوصلة التي توجه كل المواقف والتحركات.

ثانياً: ملاحظات أولية حول أسباب العامية / الانتفاضة:

صحيح ان الضريبة على مكالمات الواتساب كانت السبب المباشر لانطلاق التحرك. لكن الصحيح ايضاً ان هناك أسباب غير مباشرة أدت الى هذا الانفجار الاجتماعي الكبير:

1- الفقر والخلل في توزع الدخل:

منذ العام 1994 كشفت الدراسة الأولى حول الفقر في لبنان ان 28% من الاسر اللبنانية هي أسر فقيرة. وفي العام 1997 كشفت دراسة أخرى ان 37% ممن تناولهم المسح دخلهم غير كافٍ. وعام 2000 أصبح 42% من السكان يعيشون تحت الخط الأعلى للفقر.

وان أكثر الدراسات في المرحلة الحالية تعتبر ان 45% من اللبنانيين هم تحت خط الفقر. في العام 1992 كان 2.4% من المودعين يملكون 40% من مجموع الودائع. وفي العام 2002 أصبحت النسبة 60%، وحالياً تبرز بعض الدراسات ان 194 بالغاً لديهم ثروة تفوق 50 مليون دولار، فيما 45.2% من البالغين أي نحو مليون و 900 ألف شخص يملكون ثروات تقل عن 10 آلاف دولار. ما يعني ان كل فرد في الشريحة الأولى يملكون أكثر من 50 مليون دولار، يمتلك ما يوازي ثروة 9 آلاف و 800 شخص في الشريحة الثانية (يملكون ثروة تقل عن 10 آلاف دولار. وبالمقارنة مع العام الماضي يتبين ان عدد الذين يملكون ثروة تزيد عن 50 مليون دولار انخفض من 211 شخصاً الى 194 شخصاً، وكذلك انخفض عدد من يملكون ثروات تزيد عن مليون دولار من 21.732 فرداً الى 21 الف فرد.

وهكذا يتضح ان السياسات المتبعة من قبل المسؤولين لم تولِ مسألة توزع الدخل ولا مسألة العدالة الاجتماعية المعالجة اللازمة.

2- الخدمات الصحية والاجتماعية:

لقد كان لانعدام الإرادة السياسية، وللمصاعب المالية، نتائجها على نظام العناية الصحية. فالواقع ان أكثر من 50% من الأسر لا يوجد تغطية صحية لها، وهي تنفق من جيبها الخاص. ووزارة الصحة لا تغطي سوى جزء من النفقات الاستشفائية. وحصل تراجع في خدمات ذوي الإعاقة وتزايدت امراض السرطان بسبب تلوث المياه والنفايات والهواء وكذلك لا يزال هناك جشع في أسعار الادوية!

وهناك مآسي كثيرة نشاهدها على أبواب المستشفيات.

3- التعليم:

يعاني نظام التعليم (على مستوى المدرسة والجامعة) من مشاكل تتطلب وحدها محاضرة كاملة. والاسئلة المطروحة في هذا المجال:

-       هل نسعى لكفاءات نصدرها الى الخارج؟ ان نسعى لكفاءات تبني اقتصاد المعرفة؟

-       هل نريد إعادة انتاج البنيات الطائفية؟ ام نعمل لبناء المواطن العلماني الحر والديمقراطي؟

-       اين هي الخطة الشاملة للاقتصاد وللمجتمع، بحيث تكون التربية جزءاً منها؟ الحقيقة اننا لا نستطيع ان نصلح التربية ونخطط لمستقبلها دون ان يكون هناك تخطيط شامل على مختلف الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها...

-       لماذا يتراجع التعليم الرسمي لحساب التعليم الخاص؟ وهل تستطيع أكثرية المواطنين تحمل اكلاف التعليم الخاص؟

-       ماذا نريد من التعليم: هل يجب ان يكون نظرياً؟ ام عملياً مع وجود مختبرات في المدارس؟ وهل نستطيع ان لا نعلّم شبيبتنا استعمال الحواسيب؟

-       هل يجب ان يكون هناك تكامل في التعليم بين المعرفة النظرية في المدرسة والمهارة التعليمية في المجتمع (الشركة- المصنع) alternance شأن ما هو حاصل في المانيا. من هنا تنبثق ضرورة اتخاذ إجراءات صارمة وجراحية في النظام التربوية الحالي ومنها الغاء نظام المدارس المجانية وتعزيز وزيادة المدارس الرسمية. والاهتمام بإعداد المعلم وتدريبه من خلال تعزيز دور كلية التربية في الجامعة اللبنانية ودور المعلمين. ووجوب تفرغ المعلم الرسمي في جميع المراحل وهذا يفترض تحسين وضعه المعيشي بما يتفع مع الشرع الدولية للاونسكو ذات الصلة.  

وكذلك الغاء التعاقد نهائياً لانه المزراب الأساسي للانحطاط، وحصر التوظيف بخريجي مؤسسات اعداد المعلم، ورفض مبدأ المباريات المحصورة بالمتعاقدين الحاليين فقط لانها تناقض الدستور اللبناني (المادة 12). ومنع التلاعب بالانصبة التعليمية (التعاقد لغايات سياسية). وكذلك يجب تدريس جميع المعلمين الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وإعادة النظر بفلسفة الامتحانات (أسئلة ترتكز على الاطلاع الواسع وليس الحفظ فقط).

وما هو خطير الإهمال المتمادي لمادة التاريخ وانعكاس ذلك على الهوية الوطنية لشبيبتنا. (استمرار ازمة مناهج هذه المادة وغياب الكتب المدرسية الملائمة وتخصيص ساعة أسبوعية فقط لتعليمه بدل ساعتين؟!)

على صعيد الجامعة اللبنانية ان جوهر الإصلاح ينطلق من الحفاظ على استقلالية الجامعة وابعادها عن كل اشكال الهيمنة السياسية او الطائية او الحزبية، والحرص ان يكون المسؤولون فيها مختارون على قاعدتين: الكفاءَة والانتماء الوطني والتوازن. ومرجعية الإصلاح في هذا المجال الشرعة العالمية للتعليم العالي وتوصية هيئات التدريس الصادرتين عن الاونسكو والموقع عليهما من قبل الحكومة اللبنانية.  

ويبدو ان ورقة الإصلاح الحكومية، ومؤتمر باريس، تجاهلا الجامعة اللبنانية وضرورة انشاء شبكة مدن جامعية في كل المناطق (تطبيقاً لمرسوم مجلس الوزراء في 5/5/2008)، وضرورة استحداث عدة جامعات لبنانية رسمية يجمعها مجلس أعلى للتعليم العالي.

وكذلك يجب إعادة النظر بمعاهد الدكتورا (معهد الآداب والعلوم الإنسانية تسجل فيه 2227 متدكتراً)، واستحداث قانون جديد للتعليم العالي الرسمي (كان عدد طلاب الجامعة اللبنانية عام 1992، 65% من طلاب التعليم العالي في لبنان، بينما هم حالياً ما يقارب 30%).

وعلى صعيد الهيئة التعليمية فصل كل أستاذ يتم التأكد من وجود تزوير في ملفه، وإدخال الأساتذة الاكفياء، والمتفوقين للتفرغ، وتعزيز الأبحاث، واعادة النظر في آلية تقويمها، وإيجاد تفرغ جزئي، والتأهيل والتدريب المستمر للهيئة التعليمية والاستمرار في تأمين خدمات صندوق التعاضد وتحسينها مع غيرها من المطالب المعروفة لرابطة الأساتذة.

من جهة أخرى يجب تحسين وضع الهيئة الإدارية في الجامعة (لجهة الضمانات الاجتماعية والرواتب)، وإيجاد متخصصين في إدارة الجامعات، وعدم ادخال أي اداري الا بعد الامتحان.

وبالنسبة للطلاب تأمين مساكن ومطاعم لهم ومنح وطنية وتعزيز المختبرات والتجهيزات وتأمين العمل للخريجين.

على صعيد آخر يجب الحد من فلتان التعليم العالي الخاص والحيلولة دون تحوله الى تجارة رابحة (قضايا الأقساط وغيرها).

4- البطالة:

اظهر المسح الاسري للعام 1997 ان معدل البطالة كان ما بين 8-9% وفي العام 2000 زادت فأصبحت 12.5% وتشير بعض الدراسات الحالية ان نسبة البطالة لا تقل عن 36%.

ولا يمكن استرار نزيف هجرة الشباب اللبنانية بسبب ضيق فرص العمل (35 الف سنوياً). السؤال الذي يطرحه الباحثون لماذا لا يتوسع الاقتصاد الوطني وينمو بحيث يمكن استيعاب العدد المتزايد من الخريجين والمهارات؟

5- مشاكل النفايات والبيئة:

ثمة تراجع في مساحة الاحراج، ونمو عشوائي في السكن، وسوء حال الشبكات المائية والصحية (تلوث الليطاني وبقية الأنهر) والاستثمار غير القانوني للمرامل والمقالع والكسارات او عدم الالتزام بشروط الترخيص.

في هذا السياق يمكن ان نشير الى انتشار المشاريع السياحية، على طول الشاطئ اللبناني وعلى شواطئ الأنهار، وعلى الأراضي العامة التي هي ملك الدولة ومساحاتها هي بملايين الأمتار المربعة!!

وهناك مشكلة النفايات وتلوث الهواء الذي تسببه مع الرصاص وأول أوكسيد الكربون من السيارات. وكذلك هناك التلوث من المعامل الحرارية ومصانع الاسمنت ومولدات الكهرباء.

ان استمرار استغلال مشكلة النفايات من قبل حيتان السياسة واذلال المواطنين في بيوتهم واحيائهم كان ولا يزال من عوامل الانفجار الشعبي.

6- مشكلة السكن:

ان قانون الإيجارات الذي اقر في مجلس النواب كان بمثابة تنظيم للحرب الاهلية بين المالكين والمستأجرين.

والحكومات المتلاحقة لم تتوصل الى وضع سياسة اسكانية للشباب الساعي الى بناء عائلة. في هذا السياق اسمحوا لي ان أحيي القاضية غادة عون التي تحملت المسؤولية القضائية في ملف القروض السكنية وحددت بشجاعة مسؤوليات مختلف الأسماء (سياسيين، قضاة، بنوك وغيرهم) ممن استفادوا دون وجه حق من قروض المصرف المركزي.

السؤال المحيّر لماذا لا تبادر الدولة الى تبني سياسة اسكانية يمكن تسميتها (الايجار التملكي)؟ كما تفعل دول كثيرة في العالم؟

ولماذا لا تستغل الأراضي الاميرية التي هي ملك الدولة او مشاعات البلديات لكي يتم تأمين الشقق السكنية فيها للشباب بقروض ميسّرة؟ وماذا يمنع ان تبادر السلطات الدينية (المسيحية والإسلامية والدرزية) الى استعمال أراضي الأوقاف للمساهمة في حل ازمة الإسكان والانماء الشامل بما يوفق بين استمرار ملكية الطوائف لهذه الأوقاف وحسن استعمالها لمصلحة المجتمع.

7- انهيار إدارة الدولة؟

كل مجتمع ينتظم ضمن اطر تسمى السلطة السياسية. ولا يستطيع المجتمع ان يدوم الا اذا كان خاضعاً لسلطة خاصة به. وهذه السلطة تدير المجتمع بحسب القوانين. وهذا المجتمع يتخذ شكل الدولة. وهذه الدولة لها سيادتها ويرى أحد علماء القانون الدستوري ان كل دولة تتشكل من فريقين:

الحكام وعددهم قليل

وفريق آخر أكثر عدداً من المحكومين

ويستدرك العالم دوكي: "ان الحكام هم افراد كسائر الافراد، وهم بالتالي اسوة بغيرهم من المجتمع المعني، خاضعون لقانون هذا المجتمع الموضوعي"1.

والدولة العصرية بمفهوم دوكي تجسيد للخدمة او المصلحة العالم service public تتوزع اداراتها المتفرعة عنها الى مصالح عامة، فتستمد حق وجودها، بل مبرر هذا الوجود، من الخدمات التي تؤديها الى جمهور المحكومين2؟

ويعتبر البعض ان الإدارة هي الاطار التجسيدي الكياني لمفهوم تجريدي اسمه الدولة. واذا انهارت الادارة أصبحت الدولة صيغة في المطلق لا وجود لها على ارض الواقع.

لقد لاحظ الأستاذ إبراهيم شويري الرئيس السابق لمجلس الخدمة المدنية، ان الإدارة الحكومية أصيبت في مقتلها منذ العام 1975، وذلك لأسباب عددها على الشكل التالي:

1-  فقدان القيادة المركزية الموحدة للخدمة المدنية. وهذا يعني سيطرة السياسيين على الإدارة.

2-  التعطيل النهائي لدور هيئات المراقبة.

3-  تحول وظائف الفئة الأولى الى مراكز قوى ومحاصصات طائفية. تؤمن مصالح الزعيم الطائفي ومجموعته الفئوية لاحقاً.

4-  انعدام أي سياسة وطنية عليا للوظيفة العامة: شيوع التوظيف الكيفي وتضخم المنتفعين بالرواتب والمخصصات الدورية.

5-  تداعي المفاهيم والمقاييس الخلقية: انتشار الرشوة والسرقة، والتحزب والفساد، واللامبالاة والاستهتار، هذه أصبحت القاعدة المألوفة، وبات الشذوذ ان يكون الموظف عفيفاً منزهاً نظيف اليد دؤوباً على القيام بعمله مؤمناً بقدسية الواجب وشرف المسؤولية.

6-  انتشار الهزيمة المعنوية في الأطر الإدارية العليا والسفلى.

ما هي التدابير الجذرية المقترحة قبل المباشرة بالتشريع والتنظيم الجديدين؟

يطرح الأستاذ شويري، وهو محق في طرحه، رفع الحصانة عن جميع موظفي القطاع العام واجراء مراجعة شاملة لملفاتهم الشخصية من قمة الهرم الى قاعدته، بحيث يحتفظ بالعناصر الجيدة، على قلتها، ويستغني فوراً عن العناصر الفاسدة المفسدة في داخل الملاك، على ان يتزامن ذلك مع فتح باب الاستقالة امام الذين تجاوزوا الخمسين ولا بد من ترغيب هؤلاء في الاستقالة بتعويضات مالية مغرية. اللهم الا من كان منهم على درجة عالية من المهارة والاختصاص. وتالياً ملء الشواغر، من قبل الهيئات الإصلاحية، بعناصر من الشباب الاكفياء ذوي الخلق الرفيع. ثم حل قضية المتعاقدين من خلال اخضاعهم للمباريات الصارمة. ومن ثم اجراء عملية مسح للوظائف واختصاصاتها على قاعدة إدارة صغيرة الحجم كبيرة الفعل.

ان وضع الرجل المناسب في المكان المناسب والارتكاز على العلم والاختصاص وتأمين الكفاية المادية للموظف مع تطبيق مبدأ الثواب والعقاب، وتبسيط المعاملات وتسهيلها، واعتماد المكننة لزيادة الإنتاج. كل ذلك من الأسس التي تساعد على احداث تغيير جذري في الوصول الى إدارة حكومية عصرية في خدمة المواطن. وبخاصة الفصل بين السياسة والإدارة. قال الأستاذ شويري: "ان التدخل من قبل السياسة والسياسيين... في شؤون الإدارة، والضغوط اللامشروعة التي مارستها الطبقة السياسية على قطاع الوظيفة العامة، كانت في اساس البلاء الذي نحن فيه، والانهيار الذي وصلنا اليه..."1

ثالثاً: متى يتم إيقاف نهب الشعب؟

        منذ العام 1990 يتعرض الاقتصاد اللبناني لعمليات نهب منظم أوصل الدولة الى مئة مليار دولار دين تقريباً والى تراجع القوة الشرائية للمجتمع.

        الأطراف التي شاركت بالنهب داخلية وخارجية وأصبحت كلها معروفة من خلال وسائل التواصل (بالاسماء والأرقام والوقائع). وكل من شارك في الحكم هو مسؤول.

        في هذا السياق أحيي مبادرة نادي القضاة الذي أرسل مذكرة بالغة الأهمية الى حاكم مصرف لبنان بتجميد أموال كل السياسيين والاداريين والقضاة والموظفين ممن زادت ثروتهم عن 750 مليون ليرة، والعمل على اخضاعهم للمساءَلة.

        كما أحيي القاضية غادة عون على مطالعتها الجريئة والتي تشكل نموذجاً يحتذى من قبل باقي القضاة. الفساد والرشوة وانعدام الكفاءَة لدى القطاع العام، واستغلال الموارد الطبيعية بصورة غير قانونية، وتدهور الوضع البيئي، وعيوب التخطيط المديني والريفي، وانعدام الرؤية الشمولية الرسمية، وغياب الإرادة الرسمية للتصدي للمسائل الاجتماعية – الاقتصادية. كل ذلك كان نتيجة سلوك التحالفات الحاكمة المحتمية بالطائفية. ثمة تقاسم مغانم بين كبار الساسة الذين يزعمون انهم يحمون مصالح طوائفهم. وهكذا فتركيبة الحكم تشكلت من كوكتيل غريب يتصارع ويتعاون فيه زعماء الميليشيات والاثرياء الجدد من رجال الاعمال.

        منذ 1990 دخل الى لبنان 300 مليار دولار أي ما يوازي مشروع مارشال الذي وضعته أوروبا لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. أي ادخل لكل فرد ما يوازي 10500$. لكن النتيجة انه اصبح على كل فرد ديناً لا يقل عن 25 الف$. وبعد مخاض عسير طرحت الحكومة ورقة إصلاحية، وباستمرار تذكرنا بتنفيذ مقررات سيدر. وتمننا بانها أصدرت موازنة 2020؟ في هذا المجال يهمنا ان نشير الى الملاحظات التالية:

1- لماذا لم تتخذ الحكومة بعض الخطوات الإصلاحية السريعة:

-       تحويل انتاج الكهرباء من الفيول الى الغاز: يوفر 400- 500 مليون دولار.

-       استيراد الفيول من دولة الى دولة: توفر 500 مليون دولار. وبدل دفع ثمن المحروقات فوراً يمكن للدولة ان تدفع بعد 6 أشهر. بذلك توفر 150 مليون دولار.

-       سيمنز طرحت استحداث معمل او معامل خلال 9 أشهر بـ 900 مليون دولار؟ والصين طرحت إمكانية استحداث كهرباء من الطاقة الشمسية خلال 6 أشهر. مع قروض ميسرة، بمبالغ قليلة.

-       لماذا لزمنا معمل دير عمار من سنتين ولم يتم إنجازه حتى الآن؟ وكل يوم تأخير تخسر الدولة 5 مليون دولار وقد خسرنا حتى الآن مليار دولار؟

-       لماذا لم يعين فوراً الهيئة الناظمة؟

-       لقد دفعوا حتى الآن، حسب بعض المراجع، 36 مليار دولار

-       هل المطلوب خصخصة هذا القطاع وبيعه بأسعار بخسة؟

2- طرح خصخصة الخليوي؟

-       يحاول الوزير شقير ان يسوّق خصخصة الخليوي ب 6 مليار دولار.

-       علماً ان هذا القطاع كان يدر 2 مليار دولار سنوياً وتراجع الى 1.7 مليار فإلى 1.4 مليار مع العلم ان قيمة المنشآت 20 مليار دولار.

-       في هذا السياق نسأل ما هو مصير ملفات اللجنة البرلمانية المخصصة للبت ببعض فضائح هذا القطاع!!

3- البريد:

-       تمت خصخصته منذ 20 سنة، فما هي الموارد التي يعطيها للدولة؟

4- لماذا لا تلغي الحكومة المرسوم الذي اعطى أحدهم ميناء في خلدة (صدر أواخر 2018) قيمة الأراضي 200 مليون دولار ويجب ان تأخذ الدولة 80 مليون دولار وليس فقط 800 الف دولار. وكذلك الامر مع الميناء الآخر في ذوق مصبح الذي نص عليه المرسوم تبعاً لمبدأ 6 و 6 مكرر.

5- لماذا لا يتم فوراً إعادة تقييم الأملاك البحرية والنهرية المعتدى عليها. وفي هذا السياق يمكن ان تستفيد الخزينة بمبلغ يزيد عن مليار ونصف دولار سنوياً. فالمساحة المعتدى عليها تزيد عن 8 ملايين م2 قيمتها ما يزيد عن 80 مليار دولار. واذا اعتبرنا الاستثمار 4% سنوياً ربما يصل المبلغ الى 3 مليار دولار. للخزينة.

هذا المرسوم الموقع من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بالرسوم البخسة يمكن تعيدله فوراً. فلماذا لا يتم تعديل المرسوم؟

6- تخفيض الفوائد على سندات الخزينة للمصارف نقطتين ونصف يوفر ملياري دولار على الخزينة. وهذا الامر يستمر وليس كالمساهمة المقدمة من المصارف ب 3 مليار لسنة واحدة، كما طرح في الموازنة الجديدة.

7- لماذا احياء مشروعي لينور واليسار بدلاً من فرض ضرائب عل سوليدر، وليس اعطاءَها المنطقة البحرية التي كانت مخصصة كمناطق خضراء. وما هي الجدوى من المشروعين المطروحين للتنفيذ؟

8- ضبط المعابر والمرفأ والمطار: ذكر تقرير ماكنزي – الذي كلف 1.5 مليون دولار - ان التهرب الضريبي في المعابر والمرافئ والمطار لا يقل عن 5 مليار دولار ونأمل ان تركب آلات سكانر دقيقة بحيث لا تتخرب بعد قليل!؟ وكذلك نأمل ان تضبط المعابر وترفع المافيات المتعددة الانتماء وصايتها واستغلالها للمرفأ والمطار وسائر المعابر!

9- مؤتمر سيدر سيعطي لبنان 10.5 مليار دولار قروض ب 1.5% فائدة (وهي أعلى فائدة في أوروبا) وهبة مليار دولار. لقد قرأنا المشاريع المقدمة لصرف هذه الأموال ومنها على سبيل المثال لا الحصر مليار و 700 مليون دولار لشراء 3 محارق؟! ولم نلحظ لا في ورقة سيدر ولا في ورقة الحكومة أي مبلغ لابنية الجامعة اللبنانية!!! اليس ذلك له الأولية في الانماء على الجسور والطرق؟

وفي مواجهة البطالة والهجرة وزعم المسؤولين انهم مع الاقتصاد المنتج وليس مع الاقتصاد الريعي. فطرح الاسئلة التالية:

-       لماذا لا يعطى – من مبالغ سيدر – مليار ونصف كقروض للصناعيين بفوائد 2%

-       وكذلك لماذا لا يعطى مليار دولار للمزارعين بفائدة 2%

-       ولماذا لا يعطى مليارين ونصف كقروض لقطاع البناء بفائدة 2% أيضاً

ان ضخ 5 مليار دولار في الاقتصاد اللبناني يخلق 100 الف فرصة عمل للبنانيين (باعتبار ان كل 50 الف دولار يتم توظيفها تخلق فرصة عمل واحدة).

ان بقاء الفوائد عالية 15% (من البنوك) لا تسمح بالاستثمار.

ان الوقائع هي عكس الشعارات فالمطلوب إضافة سرقة جديدة من ديون خارجية لمنظومة الفساد نفسها!!

10-                    ماذا عن موازنة 2020؟

لقد صرح المسؤولين انهم انجزوا موازنة تقشفية للعام 2020 انزلت العجر من 7.5 الى صفر% ما هي الملاحظات التي يمكننا تسجيلها؟

-       في مقدمة الموازنة لا يعرف المسؤولون اعداد الموظفين في الدولة! اذن لا يعرفون مبلغ الأجور والتقديمات!

-       ولا يعرف المسؤولون قيمة استثمارات الدولة.

-       ثمة 33.8 مليار فواتير اتصالات على الوزارات والإدارات العامة

-       ارتفاع نفقات التنظيفات في الادارات العامة من 4.8 مليار عام 2006 الى 12.46 مليار عام 2018.

-       لا تملك الدولة صورة واضحة عن عدد الأساتذة وعدد المدارس.

-       ولا تعرف عدد السيارات المملوكة من الإدارة العامة.

-       تكاليف الوفود والمؤتمرات الى الخارج ارتفعت من 9.13 مليار عام 2006 الى 21.4 مليار عام 2018.

-       تخفيض 2600 مليار نفقات في موازنة 2020 دون ذكر: هل بالنسبة لموازنة 2018 ام 2019.

-       مجموع نفقات الموازنة 24100.04 مليار. منها 9194.6 تسديد فوائد على سندات الخزينة وتسمى في ص 19 خدمة الدين!؟

-       مجموع الإيرادات او الواردات 19009.9 مليار الى هذا العجز سلفة خزينة لكهرباء لبنان 1500 مليار ليصبح العجز 65901 مليار (7.38% من الناتج المحلي).

-       الرواتب والأجور وملحقاتها والتقديمات الاجتماعية والفوائد على الدين العام 77.45% من موازنة 2019.

-       تخفيض الرواتب والأجور بحوالي 71 مليار في موازنة 2020.

-       ارتفعت الفوائد على الدين من 6687 مليار عام 2016 الى 8214 مليار عام 2018 أي بمعدل 10.8 سنوياً.

-       خدمة الدين العام 38.05% من مصاريف الموازنة.

-       نفقات الاستشفاء في القطاعين العام والخاص 485 مليار. والأدوية 178.025 مليار

-       15 مليار لتشغيل وصيانة المدينة الجامعية في الحدث. لا شيء للفروع الأخرى.

-       هيئة إدارة قطاع البترول 9.65 مليار

-       هيئة إدارة السير 33.88

-       هيئة اوجيرو 298.426 مليار

-       مجموع نفقات الموازنة 26263.6 مليار (جدول رقم 1) و 24200.04.

-       تخفيض 2600 مليار نفقات في موازنة 2020 دون ذكر بالنسبة لأي موازنة 2018 ام 2019.

-       72 مؤسسة عامة يمكن ان تستغني عنها الدولة (تكلف 400 – 500 مليار)

-       مواد وخدمات استهلاكية 930.120 مليار، هذه تؤمن مادة دسمة للمناقصات.

-       المستشارون 2588 مليار ؟

-       تعويضات عن اعمال إضافية 18.518 مليار

-       مكافآت 7.152 مليار

-       مساهمات لهيئات لا تتوخى الربح 304.098 مليار ؟

-       عطاءات لجهات خاصة 40.041 مليار

-       مدفوعات للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي: صفر ؟

-       نفقات سرية 40.834 مليار

-       وفود ومؤتمرات 10.362 مليار

-       نفقات استشفاء 448.180 مليار

-       نفقات دروس واستشارات ومراقبة للانشآت 11.000 مليار

-       التنظيم والامن العام 1514.304 مليار+ 2.116 مليار

-       المكاتب السياحية والاعلانات 6.050 مليار

-       التعليم الجامعي 398.382 مليار

-       إذاعة وتلفزيون ونشر 44.138 مليار

-       الناجين (من شو ؟) 12.372 مليار

-       مواد زراعية لرئاسة الجمهورية 147.967.000

ان تحليلاً سريعاً لبعض ارقام هذه الموازنة يؤكد غياب التقشف والاهتمام بالإنماء المستدام للمجتمع والاقتصاد!!

رابعاً: ماذا عن التحرك؟

يتحرك الشعب اللبناني في 42 منطقة يومياً إضافة الى التحرك امام سفارات لبنان في الخارج.

وثمة أرادة ثابتة لدى المعتصمين بعدم التراجع لذلك"

1-  يجب استقالة الحكومة فوراً وتشكيل حكومة جديدة من شخصيات مشهود لها بالوطنية ونظافة الكف والكفاءة والخبرة في مدة قصيرة جداً.

2-  مبادرة القضاء لمحاكمة كل الفاسدين في الدولة وفي المجتمع واجبارهم على رد كل ما سرقوه من أموال الخزينة.

3-  التهيئة لانتخابات نيابية جديدة في مهلة قريبة.

4-  مطالبة أبناء الاغتراب بمساعدة اللبنانيين المقيمين مادياً ومعنوياً لتخطي الازمة.

5-  رفض كل شكل من اشكال العنف:

‌أ-     بين مختلف الأحزاب

‌ب-او بين اللبنانيين والسلطة

6-  رفض تحويل لبنان، بسبب هذا الحراك الى ساحة للعبة الأمم في المنطقة.

7-  التمني على المعتصمين تسهيل مرور المواطنين لقضاء حاجاتهم وتأمين القوت لعيالهم.

8-  اتخاذ كل الإجراءات للحيلولة دون تصاعد سعر الدولار بمقابل العملة الوطنية.

9-  التحذير من استغلال حراك الشعب اللبناني من كل القوى الإقليمية والدولية والتأكيد على الوحدة الوطنية.

ان القهر والتجويع والاذلال من قبل السلطة للناس أدى الى تراكم غضبها والى الزلزال الحاصل.

10-                     تحية الى قيادة الجيش اللبناني الذي مارس مهامه – كما المؤسس الرئيس اللواء فؤاد شهاب – الى جانب الشعب ولم يكن أداة قمع لأهله. والمطلوب ان يستمر في هذه السياسة بعيداً عن اعمال العنف.

ان الجيل الشاب (تحت 30 سنة) هو الأكثرية الساحقة في ساحات الوطن. انه جيل مختلف عن جيل ابائه واجداده ويحسن وسائل التواصل. ويبدو انه قرر ان يكتب، من جديد، تاريخاً مشرقاً للوطن.

وعليه فان كل مسؤول يتصدى لمطالب المليون ونصف متظاهر يكون فاقداً للشرعية الشعبية. وكل مراهن على اندلاع العنف والفوضى يكون خائناً للوطن ولن يكرر اللبنانيون أخطاء جيرانهم العرب او أخطاء ابائهم في الحروب اللبنانية.

وان صفحة جديدة وعامية جديدة تكتب تاريخ الوطن من جديد.

                                                                الدكتور عصام خليفة

                                                        الأمين العام للحركة الثقافية – انطلياس

                                                        الرئيس السابق لرابطة الأساتذة المتفرغين

                                                                في الجامعة اللبنانية

28/10/2019

 

 

 

 

 

 

       



1  د. ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري العام، دار العلم للملايين، بيروت، 1968، ص 181.

2  المرجع السابق، ص 181 – 182.

1  إبراهيم شويري، شهادة للحقيقة في زمن التردي، 1986، ص 33.