حوار حول دراسات للدكتور ألبر داغر

" حول الإصلاح الاقتصادي والسياسي والإداري في لبنان"

 

مشاركة    :    الدكتور ألبر داغر -  الدكتور كرم كرم – الدكتورة هالة أبو حمدان 

إدارة        :   الأستاذة بريجيت كسّاب         

الزمان:        الجمعة 28 أيار 2021 ، الساعة السادسة مساءً

وسيلة الاجتماع: عبر تطبيق زوم على الرابط التالي :

https://www.youtube.com/watch?v=_Ha1z3uDR8s

Link youtube

 

"حوار حول الإصلاح الاقتصادي والسياسي والإداري في لبنان"

تقديم - الحركة الثقافية – انطلياس.

الدكتور ألبر داغر

الأخوة والأخوات الأعزاء،

شكراً جزيلاً لمجلس إدارة الحركة الثقافية الذي أقرّ إقامة هذه الندوة وشكراً للأخ الحبيب الدكتور عصام خليفة الذي هو قدوتي في النشاط والجديّة. وأرجو أن تكون هذه الندوة باكورة ندوات دورية تُطرح عبرها مشاكلنا بأعلى مستوى نظري ممكن لبناء رأي عام مدرِك. وهي الثانية لي بعد ندوة معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية أواخر آذار الماضي التي حضرها 130 شخصاً وكانت هي الأخرى تأسيسية ونجحت نجاحاً باهراً.

والملف الذي سيناقشه الأخوة المعقّبون مكوّن من خمسة نصوص، ثلاثة منها في توصيف الدولة القائمة في لبنان أو دولة الزبائنية السياسية، وإثنان للإصلاح الاقتصادي والسياسي والإداري المقترح. وأنا أرغب بشدة بالعودة في هذا التقديم إلى المفاهيم المستخدمة في هذه النصوص. وتكمن أهميتها في أنه لا يمكن من دونها قراءة الواقع القائم، ولا يمكن من دون الانطلاق منها تصوّر البديل.

وأرغب في البداية بالقول أن النصوص الخمسة استلهمت أدبيات تيارين فكريين معاصرين. الأول الذي اعتمد منذ 1973 إرث ماكس فيبر لتعيين طبيعة الدولة المتخلّفة بوصفها دولة نيو-باتريمونيالية، وتيار المؤسساتية المقارنة الذي عالج دور الدولة التاريخي في التنمية وجعل الدور الذي تلعبه الإدارة العامة محدّداً لنجاحها أو فشلها. أي أن ماكس فيبر حاضر في قلب كل من هذين التيارين.

I.الدولة النيو-باتريمونيالية

وهي التي يتعاطى معها الممسكون بالحكم وكأنها إرث لهم، أي يعمدون إلى استخدام الموارد العامة للمنفعة الخاصة. وقد تحققتم بأني أجريت نوعاً من انزياح من نص لآخر من مفهوم الدولة النيو-باتريمونيالية إلى مفهوم الزبائنية السياسية. والسبب هو أن الثاني بدا أقرب إلى الإدراك المباشر للقارئ.

ما أهمية الانطلاق من هذا المفهوم؟ إن بقاء النيو-باتريمونيالية أو الزبائنية السياسية هو صنو أو مرادف لبقاء التخلّف بشقيه الاقتصادي والسياسي. فالزبائنية السياسية تنتج تخلّفاً اقتصادياً لأنها تصادر الموارد للاستعمالات الخاصة للسياسيين وتمنع الاستثمار. وتنتج تخلّفاً سياسياً لأن الأفراد يحلّون محل المؤسسات ولأن المؤسسات تنحلّ على يد السياسيين وتنحلّ معها الدولة. ونحن الآن في دولة أصاب الإنحلال مؤسساتها بسبب تصرفات السياسيين. وسأقول الأمور بطريقة أخرى. فإذا وصّفنا الدولة اللبنانية فقط كدولة طائفية، ثم أزلنا طائفية الدولة وأبقينا على نظام الزبائنية السياسية، فسوف لن ننجز شيئاً وسنبقى دولة متخلّفة.

 

ولن أتطرّق في هذا التقديم إلى إسهامات مايكل جونسون في قراءة تجربتنا وهو أول من استخدم مفهوم الزبائنية السياسية في حالة لبنان. كما لن أتطرّق إلى تفصيل آخر ألا وهو "تقاسم السلطة" أو التوافقية أو المحاصصة الطائفية في حالة لبنان. ويمكن أن يثيرها الأخوة المعقّبون أو المشاركون.

وفي النص الأول من الملف توقّفت عند مساهمة جان-فرنسوا ميدار لعام 1995. وشكّل ذلك لي إحراجاً. وفي النص الذي تلاه أجريت عرضاً للأدبيات أتاح تتبّع هذا النقاش حتى 2013. ولم يتغيّر الشيء الكثير منذ ذلك التاريخ.

وهذا لم يمنعني في النص الثالث من اعتماد مفهومين آخرين أقرب إلى وصف الواقع القائم، وهما "تحول الدولة إلى ميدان للممارسات الإجرامية" (criminalisation de l’Etat) و"الاقتصاد القائم على النهب" (économie de pillage). وقد اعتمدهما بايار وأليس وهيبو في توصيف مآل الدولة الأفريقية والمتخلّفة بوجه عام. وقد اعتمدت هذين المفهومين في قراءة تجربة لبنان خلال العقدين الأخيرين.

 

أشير أيضاً أن اعتماد مفهوم "الأنظمة السياسية ذات المؤسسات الضعيفة" (weakly-institutionalized polities) في توصيف حالة لبنان والذي اعتمده مؤسّساتيّو هارفرد، أساموغلو وفردييه وروبنسون، لا ينطوي على قطيعة مع تيار الدولة النيو-باتريمونيالية، كما جاء على لسان الباحثين أنفسهم (أساموغلو وفردييه وروبنسون، 2004: 168). وأهمية هذه المقاربة هي في أنها تقول لنا أن المشكلة هي في ضعف المؤسسات.

لكنها لا تقول لنا كيف نخرج من هذا الضعف. وهو ما يقوله لنا أودونيل من خلال التذكير بأساسيات الدولة الحديثة، أي جعل السياسيين تحت القانون وتفعيل أشكال المحاسبة الثلاثة، العامودية والأفقية والمجتمعية.

ولكي أختم هذه الفقرة أقول أن هذه التعريفات كلّها لا تَظهر أهميتها وجدواها إلا حين نذهب إلى تعيين طبيعة الإصلاح المطلوب. وهذا ما سأعالجه في هذه الفقرة الثانية والأخيرة.

II. الإصلاح الاقتصادي والسياسي والإداري:

بالنسبة للشق الاقتصادي: بدا لي الانطلاق من تعريف لبنان كاقتصاد شبه-ريعي بالمعنى الذي أعطاه عبد القادر سيد أحمد لهذا التعبير، أي بمعنى الاعتماد المفرط على التدفقات المالية الخارجية هو الأفضل كنقطة انطلاق في التشخيص. وتجربتنا تقول أن التعويل على التدفقات المالية ذات المنشأ الخارجي ينشئ مشكلة وليس حلاً. وقد انتمينا إلى فئة البلدان التي أساءت استخدام هذه التدفقات، أي ذهبت إلى استخدامها للاستهلاك والاستيراد، ولم تستفد منها بأي شكل لبناء الاقتصاد المنتج. ولذلك كانت الأزمة المالية بانتظارنا في نهاية الطريق.[1] وهذا ما نحن الآن فيه.

وهنا أشير إلى نص جاك قبانجي الأخير الذي عيّن المشكلة في كوننا "اقتصاداً ريعياً ممثلاً بالقطاعين المصرفي والعقاري بالأخص، اللذين شكّلا عموده الفقري (...)"[2] وأنا أوافقه على هذا التوصيف، لأنه يوحي بأن ما نحتاجه هو نقيض هذا الاقتصاد ممثلاً بالاقتصاد المنتج. لكني أميل إلى أن التعريف الأول له جدوى برنامجية أكبر لأن التبعية للتدفقات المالية الخارجية تجعل أي بلد تحت رحمة الخارج وتجعل الخارج قادراً على افتعال الأزمة فيه وتدميره في أي وقت.

ونحن بحاجة إلى إصلاح اقتصادي يمنع شعبنا من الإندثار بالهجرة ويعطينا كرامة في تفاوضنا مع الخارج ويعطينا حصانة في مواجهة التدمير الآتي من الخارج الذي نتعرّض له. ولا يكون ذلك إلا ببناء الاقتصاد المنتج. ويكون ذلك ببرنامج من ثلاث نقاط:

    تثبيت سعر صرف الليرة

ونحن بحاجة لقراءة للإنهيار الحاصل في سعر صرف الليرة تبدّي البعد السياسي (politics) لما يحصل على التفاصيل الاقتصادية (economics). والتصدي للإنهيار يكون بالإصرار على تثبيت سعر صرف الليرة، وحشد دعم خارجي أوروبي وفرنسي بالتحديد لهذه الغاية، خصوصاً وأن الفرنسيين هم الذين آل إليهم استخراج الغاز في لبنان. وإذا كان المطلوب من انهيار سعر صرف الليرة أن يفتعل هجرة جماعية لدى اللبنانيين من بلادهم بحيث تصبح الأرض فارغة، فإن تثبيت سعر الصرف هو الممر لكي يستعيدوا ثقتهم ببلادهم.

   إعداد وتنفيذ موازنة حكومية للإستثمار بشقين

وينبغي أن نأخذ العبرة من تجارب البلدان التي نجحت في الخروج من التخلّف والتحوّل إلى بلدان صناعية. وهي تعكس استحالة التحويل الصناعي من دون "تأميم الإستثمار" كما قال كينز أي أن تتولى الدولة مسؤولية هذا الأخير.

ونحن أحد أسوء بلدان العالم لجهة كفاءة البنى التحتية. وذلك بعد أن أوكلنا المهمة لـ"مجلس الإنماء والإعمار" وجعلنا الإنفاق الإستثماري لا يتجاوز 8 % من إنفاق الموازنة طوال 30 عاماً. ويمكن أن نَشرع فوراً في توسيع وصلة جونيه – طبرجا من الأتوستراد ونبدأ فوراً ببناء ثلاث مناطق صناعية عملاقة في نطاق بيروت الكبرى.

وبناء الاقتصاد المنتج يعني أن نتعلّم (learning) تفكيك وإعادة تركيب السلع التكنولوجية التي نستوردها من أسواق العالم مقدمة لإنتاجها بأنفسنا وتصديرها إلى الخارج. ويسمّى هذا "التصنيع المتأخّر" في القرن العشرين.

   بناء جهاز إداري جديد

وكل تجارب التصنيع التي تحققت على مدى قرنين يمكن اختصار دور الدولة فيها بعبارة هيرشمان حيث هذا الدور هو "تعظيم قدرة النخب الإستثمارية على اتخاذ القرار الإستثماري".[3] وهذا يقتضي وجود إدارة حكومية كفؤة، تجد ترجمتها في خلق مؤسسات جديدة مثل "جهاز وطني للتخطيط المركزي" يتولى إدارة السياسة الصناعية.

في الشق السياسي:

أقرّ بأني استغرقت أكثر من اللازم في النقاش حول "تقاسم السلطة" (power-sharing). هذا مهمّ ويجب العمل على إعادة تثبيت التقاسم. وهل يكون ذلك باعتماد مقاربة الباحثَين صلوخ وفرهيج في اعتماد حل وسط (hybrid consociation) بين التوافقية على الطريقة اللبنانية وبين التوافقية الليبرالية، من خلال نظام انتخابي على قاعدة النسبية مع اعتماد اللامركزية. وأنا أوافق على النسبية لكني لا أوافق على اللامركزية. لذلك أوردت ما قالاه من دون أن أقول شيئاً حول الموضوع.

بالمقابل إن ما يكتسب أهمية كبرى في إعادة تثبيت نظام التوافق هو إيجاد آليات تمنع السياسيين من استغلال مؤسسات التوافق من مثل مجلس الوزراء، لممارسة شد الحبال والفيتو المتبادل والإغراق في تناتش الصلاحيات.

والأهم من إعادة تثبيت التوافق هو أمران: 1) جعل السياسيين "تحت القانون". فمشكلة لبنان الكبرى هي في كونهم "فوق القانون". 2) كفّ يد السياسيين عن التدخّل في الإدارة العامة.

في الشق الإداري:

وينقسم الإصلاح هنا إلى شقين: 1) كيف تكون الإدارة العامة تدخّلية (interventionniste) وليس فقط "معنيّة بالتأكّد من الإلتزام بالقانون" (regulatory) كما هي الآن. وهذا يحيلنا إلى أهمية معالجة مشكلة المشاكل أي "الفراغ الإداري" أو الشغور في الإدارة العامة. ويحيلنا إلى أهمية إقامة مؤسسات إدارية جديدة لم يعرفها لبنان في تجربته أو تاريخه.

وأرغب بإيضاح هذه النقطة من خلال تعليق واحد: هل هناك أفشل من حكومة الرئيس دياب. يقولون أن هناك الكثير من اللجان التي "تنشط" في السراي. لا نعرف ماذا تفعل هذه اللجان وما هو المشروع الذي تقدمه. هناك عدم شعور بالمسؤولية عند الرئيس دياب. لكنه يترافق مع فراغ كامل حوله على صعيد الإدارة. الإدارة لا تنجده في شيء لأنها غير موجودة.

2) الشق الثاني من الجواب حول الإصلاح الإداري هو كيف تكون الإدارة تمثيلية بالمعنى الذي أعطاه رالف كرو لهذا التعبير. وهو التعريف نفسه الذي أعتمده ميلتون إيسمان. أي كيف ندمج بين شرطي الاستحقاق في التنسيب إلى الإدارة العامة بواسطة المباريات الوطنية، مع الإلتزام بالحصص المسبقة للمكوّنات الطائفية والمذهبية في لبنان.

وأختم بكلمتين:

لقد عالجت مسؤولية الداخل ممثلاً بنخبة دولة الزبائنية السياسية النهّابة. وحاولت رسم معالم الإصلاح الذي ينبغي أن يطال الاقتصاد والسياسة والإدارة. وأية مقاربة ينبغي أن يكون الهدف منها اختصار معاناة الشعب اللبناني وإيقاف الأزمة. لكن هناك الخارج. وخفض سعر صرف العملة سلاح تلجأ إليه القوى العظمى خصوصاً حين يتعلّق الأمر بدول صغيرة راكمت أسباب ضعف كثيرة. وهذا موضوع آخر. وربما يكون انهيار سعر صرف الليرة موضوع لقاء آخر في الشهرين المقبلين إذا ارتأت إدارة الحركة الثقافية ذلك.

 

 


[1] - ألبر داغر، "البرنامج الحكومي للاصلاح"، الأخبار، 17/ 6/ 2020.

[2] - جاك قبانجي، "ضعف اليسار والحركة الشعبية وأزمة النظام ... "التحالف الاجتماعي" هو المخرج ؟"، الأخبار، 16/ 4/ 2021.

[3] - Evans Peter, "A comparative Institutional Approach", in P. Evans, Embedded Autonomy: States and Industrial Transformation, Princeton Univ. Press, 1995, pp. 21-42.


 

 

------------

كلمة هالة ابو حمدان

    في المقالات التي نشرها في جريدة الأخبار، قام د. ألبير داغر بعرض المشاكل التي يعاني منها النظام اللبناني على الصعد السياسية والإدارية والاقتصادية محاولاً طرح بعض الحلول التي استقاها من تجارب دول أخرى مرّت بأزمات مشابهة واستطاعت إيجاد حلول لها. الحالة اللبنانية هي حالة خاصة تجتمع فيها كل عيوب الدول الفاشلة ويقف حيالها "الشعب اللبناني متفرجاً كأن هذه الأرض بلا شعب" على حد تعبير الدكتور داغر. وهو تعبير دقيق يصف برأيي لبّ المشكلة. فلا عجب في أن يطغى الحكام ويفسدوا، طالما الشعب يتفرج، وطالما لم تعد النخب بمعظمها إلا مجموعة من الطامحين والمنتفعين.لماذا وصل لبنان واللبنانيون إلى هذه الحالة؟

    يصف د. داغر حالة لبنان معتبراً أن «الاستزلام هو الظاهرة المركزية في الاقتصاد والمجتمع والسياسة اللبنانيين". ويجري استخدام المواقع العامة من أجل المنفعة الشخصية، وتسود المحسوبية والتنفيعات والمحاباة. وفي حين أن المصلحة العامة هي التي يجب أن تكون الغاية وراء كل عمل سياسي وإداري، فإن خدمة المصالح الخاصة، ومراكمة الثروات، واستخدام الموارد العامة والتعيينات الإدارية للمنفعة الخاصة هو السائد في لبنان ويتمّ على حساب الاستحقاق والإنتاجية. وقد أدّت خدمة المصالح الخاصة إلى إعاقة النمو الاقتصادي وإلى إخفاق تنموي.

    ولتأمين ديمومتهم في السلطة يعمد السياسيون إلى بناء شبكة محاسيب من خلال التنفيعات مما حوّل لبنان إلى "نظام للزعماء" وإلى دولة زبائنية سياسية اكتسبت قوتها من المحاصصة الطائفية. وأصبحت الدولة نيو-باتريمونيالية الطابع، أي يتعاطى السياسيون معها وكأنها إرث لهم. وهم يتمكنون من البقاء في مناصبهم رغم فشلهم في تحقيق البناء الوطني، لأنهم يطرحون أنفسهم مدافعين عن طوائفهم. يتيح لهم افتعال الصراعات على قاعدة طائفية ومذهبية، أن يفرضوا أنفسهم على جماعاتهم.

    لم تعد الأزمة في لبنان تقتصر على الفساد وتقاسم المغانم والقضاء على فرص بناء دولة سليمة. لقد وصل النظام إلى حائط مسدود بل إلى عدة حيطان وقف أمامها مشلولاً فلم يتبق لدينا دولة ولا حتى شعب. الشعب في لبنان شعوب تقف بوجه بعضها البعض وتتنازع مكاسب السلطة. لقد لعب السياسيون لعبة شديدة الخطورة حين افتعلوا الصراعات على قاعدة طائفية ومذهبية، وطرحوا أنفسهم مدافعين عن طوائفهم ليتمكنوا من البقاء في مناصبهم رغم فشلهم الذريع في بناء الدولة والحفاظ على الوطن. هذه اللعبة أدّت إلى تقسيم عمودي للمجتمع، وبدل أن تكون الدولة الأداة الأولى لبناء أمة داخل كيان اصطنعته صدفة تاريخية وسياسية بعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت (أي الدولة) هي الوسيلة التي يستخدمها السياسيون لبناء نظام المحاسيب والزبائنية، وما وصفه د. داغر "بنظام الزعماء" والمحاصصة الطائفية. نجح السياسيون في تخدير الشعب عبر جعل الولاء للطائفة لا للوطن، وفي جعل أنفسهم حماة للطوائف، واحتموا خلف ما سمّي بحقوق الطوائف لمراكمة الثروات على حساب الفعالية التنموية، ولتعطيل نظام المحاسبة حيث أن أية محاسبة لأي مرتكب يجري التسويق لها على أنها محاسبة للطائفة التي ينتمي إليها.

     لقد بني الكيان اللبناني على أساس خاطئ وهي التوافقية. فمنذ أيام القائمقاميتين والمتصرفية ظهر نظام المحاصصةأو ما سمي بالنظام التوافقي، "أي الأخذ بالنسبية لتحديد حصص الطوائف في البرلمان وفي الإدارة" (هذا التعريف من إحدى مقالات د. داغر)، مع وجود أطراف خارجية تشرف على هذا النظام وتحرص على الاستقرار السياسي. واستمر هذا الأمر مع دستور 1926 وحتى بعد الاستقلال مع ميثاق 1943 ومع التسويات التي كانت تنهي الحروب والنزاعات وتجد حلاًّ للأزمات كما في اتفاق الطائف واتفاق الدوحة. وقد كان هذا التقاسم وصفة ناجحة لجهة تأمين الاستقرار السياسي طالما بقيت الدولة قادرة على حفظ حصص ممثلي الطوائف في المناصب السياسية وفي المناصب الإدارية وفي الموارد العامة. لكن الاستقرار لم يكن ليدوم طويلاً، وهذا دليل على فشل نظام المحاصصة. يتفق اللبنانيون جميعاً على توصيف فشل النظام ومظاهر هذا الفشل. لكن هل من حلول ممكنة؟

    يؤكد د. داغر أن الباحثين قد أظهروا أن النظام التوافقي في الدول المتعددة "ليس الأفضل في ميدان تحقيق الديمقراطية، بل وأكثر من ذلك بكثير، أنه المدخل بامتياز لانفراط الدول وتجدّد الحرب الأهلية فيها". والتوافقية تقيم فرزاً بين السكان يؤدي إلى عزل مكونات المجتمع عمودياً وإلى استحالة اندماجها بالتالي إلى تعزيز فكرة الانفصال عن بعضها البعض. وإن إعطاء الفيتو المتبادل لمكونات الدولة يوصلها إلى الفشل وإلى أزمات متلاحقة. وهذا تماماً ما يحصل في لبنان، حيث تعلو أصوات تطالب بالفدرالية والتقسيم، وحيث تتجدّد الحروب الداخلية باستمرار.

   معظم دول العالم تتصف بتعددية معينة، كالتعددية الإثنية أو اللغوية أو الدينية أو غيرها. لكن الدول الديمقراطية الناجحة استطاعت دمج شعوبها عن طريق حفظ حقوق مواطنيها وحرياتهم وخاصة الحقوق والحريات السياسية، وليس عن طريق تقاسم السلطة وتوزيع المنافع كما يحصل في لبنان حيث تغدو الحياة السياسية تصارعاً على المكاسب وسعياً متواصلاً لزيادة حصص كل طائفة. في الدول المتعددة تطالب الأقليات بحقوقها للتعبير عن خصوصيتها عندما لا تستطيع الاندماج مع المجتمع ككل، وعندما يكون هناك تمييز بين المواطنين فلا يتساوى الجميع بالفرص وأمام القانون. وتذهب إلى خيار الاندماج حين تكون المساواة كاملة بين الأفراد في الحقوق.  

   الثغرة الثانية في الممارسة السياسية في لبنان هي نظام الحمايات الخارجية. إن ضعف الشعور الوطني والخوف من الآخر يجعل اللبنانيين يطلبون الحماية من خارج حدودهم. هذه الدول إقليمية كانت أو دولية لن تراعي بطبيعة الحال سوى مصالحها، وأولى مصالحها هو استمرار الحاجة إليها بسبب الانقسامات والخلافات. منذ القائمقاميتين والمتصرفية كانت الدول الكبرى ترعى الاتفاقات والبروتوكولات التي يجري الاتفاق عليها، وكل منها يدعي حماية إحدى الطوائف. منها أم حنون وأخرى أب عطوف(أو غير عطوف)، وفي كل الأحوال ليست سوى تدخلات لتذكية الخلافات وتبرير التدخل. إن دمج مكونات المجتمع اللبناني، كما سوف يزيل الحاجة للتوافقية، سيكون الباب لعدم طلب الحمايات الخارجية.

    لا شك أن في النصوص الدستورية والقانونية بعض الثغرات التي أظهرتها الممارسة العملية والتي ينبغي العمل على ردمها. لكن العلة الأساسية لا تكمن فيها. العلة هيفيقراءة الدستور والقوانين وتفسيرها وتطبيقها واحترامها. ما نفع النص إذا كان تفسيره يتبدّل حسب الهوى السياسي، وتطبيقه يتغيّر حسب الأشخاص الحاكمين؟ لقد جرى النص في اتفاق الطائف على إعطاء حق تفسير الدستور للمجلس الدستوري. لكن التعديل الدستوري الذي جرى عام 1990 لم يعطه هذا الحق. وهذا دليل على نوايا مبيّتة للتلاعب بتفسير القواعد الدستورية. وضروري إعطاء المجلس الدستوري هذا الحق لكن بعد إصلاحه عبر تعديل قواعد تعيين أعضائه وقواعد عمله. كذلك لا بدّ من إصلاح القوانين المتعلقة بالقضاء ككل لتفعيل المحاسبة وهي الخطوة الأولى لإصلاح الدولة.

   هناك سؤال يتردد دائماً: هل الدولة المدنية هي الحلّ؟ يقول د. داغر، وأوافقه الرأي، "إن الدولة في لبنانحالياًهي دولة مدنية. ولا ينزع عنها مدنيتها وجود أحكام قانونية خاصة بالطوائف". (انتهى الاقتباس) لكن ما نطمح إليه هو دولة مدنية مع أحكام دستورية متساوية للجميع، دون تمييز على أساس طائفي ودون تخصيص وظائف وامتيازات لفئات معينة، فتكون الإدارة الحكومية قائمة على الكفاءة والاستحقاق. وحتى لو جرى العمل بمبدأ المباريات واختيار الأكثر كفاءة، لن يمكن القضاء على المحاصصة وعيوبها إذا كان هناك اتفاق مسبق على التقاسم الذي يحفظ حصص الطوائف. إذ سوف يظل توزيع المواقع والموارد لمصلحة المحاسيب على حساب الفعالية والإنتاجية.

    إن شعور الأفراد بالمساواة في الفرص وأمام القانون سيعزّز الشعور بالمواطنة ويزيل الفرز على أساس طائفي ومذهبي. ويكون هذا بداية بإلغاء كل نص فيه تمييز من هذا النوع إن كان بصورة مؤقتة أو دائمة. المادة 95 من الدستور لا تحلّ المشكلة إلا بهدنة بين حربين حيث سوف يسعى كل فريق لزيادة مكتسبات طائفته بناء لتغير موازين القوى الداخلية والخارجية وهذا يؤسس لنزاعات متجددة كل فترة من الزمن. مجلس الشيوخ هو فكرة سيئة جدا لأن وجوده لن يقوم سوى بنقل المشكلة من مجلس إلى آخر. سيحمّل خزينة الدولة مصاريف هائلة إضافية وسوف يزيد ترسيخ التقاسم الطائفي وتكريسه بصورة دستورية ومؤسساتية ونهائية في حين أن المطلوب هو السير في الطريق المعاكس.

    إن حجة الخلل الديموغرافي وسيطرة طوائف على أخرى عددياً لن تكون مشكلة أساساً إذا كان معيار التوزيع هو الكفاءة وليس العدد. تعزيز الشعور بالمواطنة وبناء دولة سليمة سيخفف كثيراً من الهجرة وبالتالي سيحدّ من تناقص العدد المشكو منه.

   أبحاث د. داغر وضعت الإصبع على الجرح ووصفت بدقة الأمراض التي فتكت ومازالت تفتك بالدولة اللبنانية وبشعبها. ما زال الإصلاح بعيد المنال طالما النخبة الواعية الصادقة ما زالت قليلة العدد وطالما لا يستطيع اللبناني الخروج من الدائرة المفرغة التي يدور فيها: يقضي السياسيون على الدولة العادلة فيزيد خوف المواطنين من بعضهم البعض ويزدادون تمسكاً بزعمائهم لحمايتهم من الآخرين ويزداد انهيار الدولة والوطن.

 

كلمة بريجيت كساب

"ونظر موسى إلى الشمال، نحو جبل لبنان، وقال: وهذا الجبل؟ أجاب الله وقال: «أخفض عينَيك، هذا الجبل هو وقفٌ لي. لن تطأه قدماك لا أنت ولا الذي سيأتي من بعدك"    

هكذا اراد لله ان يحمي لبنان ولكن ليس رغما عن ارادة ابنائه فالحرية عنده مقدسة ومحترمة.

نجا لبنان منذ بدء وجوده حتى تاريخنا المعاصر من كل انواع الحروب والاستعمار والجوع ولكنها كلها كانت تنتهي بارادة شعبه على النهوض. ناضل اجدادنا من اجل هذا الوطن الصغير للمحافظة على كيانه، حيث وحده من كل بلدان العالم في التارخ القديم والحديث الذي سمي من قبل الله تعالى منذ بدء الخليقة مما يعني ان عليه ان يلعب دورا مهما في تاريخه وجغرافيته ونضال شعبه والعيش المشترك ليكون اكثر من بلد انه رسالة حسبما قال الباب القديس يوحنا بولس الثاني في زيارته الى لبنان عام 97. 

لم يهب اجدادنا المخلصين لوطنهم ولاستقلالهم ولعيشهم المشترك.المشانق ولا الاعدام بالرصاص ولا النفي او السجن وكان كل هذا يرخص في سبيل الوطن، ولكن تمت خيانةهم من احفادهم . نعم ان من استلم الحكم في لبنان قد خان اسلافه، لم يعد ينتمي الى هذا البلد ولم يعد يعنيه سوى انه كنز يمكن الافادة منه للامور الشخصية. اليسوا هم انفسهم ورثة الاجداد الذين ناضلوا في سبيل بقاء الوطن؟ ماذا فعلوا بهذا الارث العظيم سوى اقتسام هذا البلد في ما بينهم حيث انهم لا يتمتعون باي حث وطني او اي انتماء جسدي وروحي الى ارضه المقدسة حيث استزلموا الى الخارج كي يحافظوا على مكتسباتهم المالية وباعوا الشعب والوطن. كم منهم عمل لنيل جنسية اجنبية غير اللبنانية فصار الانتماء الى الخارج افضل، لانه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك.

نهش الفساد جسد وروح هذا البلد الصغير فاصبح ضحية المحاصصة والزبائنية وهنا نتساءل: هل ان النظام الذي قام سابقا هو السبب في فتح شهية الحكام والمسؤولين على اقتناص موارده لصالحهم ولصالح عائلاتهم فقط دون سواهم من الشعب اللبناني؟ ام ان السبب هو في عقولهم وشخصيتهم في الاعتماد والاستقواء بالخارج على ابناء وطنه من اجل منصب ما او حفنة من المال؟ الم يفلح اسلافهم في تربيتهم على حب الوطن والانتماء اليه؟ هؤلاء هم احفاد رجالات  الاستقلال والمثقفين الذين حملوا لبنان الى جميع المنابر العالمية على مثال شارل مالك ابو شريعة حقوق الانسان لنصل الى حكام وقد جردوا من الانسانية وصرنا نرى الشعب يرزح تحت  ثقل الجوع والعوز، فيرى الشباب منهم الهجرة ملاذا لهم وسعيا لبلد يحترم حقوقهم ويمنحهم الامان والعيش الكريم.

كلنا اصبح يعلم كم ان الفساد قد استشرى في البلد ونخر عظمه وها هو في حالة نزاع شديد قبل الموت ليس الغازي من الخارج هو الذي يريد قتله انما ابناءه بانفسهم من يغرزون السيف في قلبه لينزف حتى الموت.

الفساد اينما كان وفي ابهى حلله وصورته يمشي متبخترا ومتعاليا في الشوارع والازقة ساخرا من شعب يناضل في سبيل عيشه الكريم والذي يابى ان يترك وطنه تنهشه اللصوص. كلما سمينا قطاعا فاسدا نجد قطاعا اخر افسد منه، او وزارة لا مبالية حتى نجد وزارة اخرى تضاهيها فسادا ولا مبالاة. قالوا ان سبب الانهيار الاقتصادي هو الاقتصاد الريعي وهم يريدون اقتصادا انتاجيا. ايها القوم الا يتطلب هذا الاقتصاد تحفيزا ومساعدة من الدولة لناحية التسهيلات ا لضريبية والطاقة وغيرها من الامور التشغيلية للانتاج مع اصدار قوانين خاصة للنهوض بهذا النوع من الاقتصاد.

قالوا ان اللبنانيينن استسهلوا ايداع اموالهم في البنوك وقد غرتهم  الفوائد المصرفية العالية التي عرضت عليهم وهذا من جنى عمرهم ودخراتهم وتعويض نهاية خدمتهم، فحكموا على هذه الاموال بالاعدام.

قالوا نريد تدقيقا في كل شيء، وهل غاب عن بالهم ان فسادهم مقونن في جميع تفاصيله لتأتي نتيجة التدقيق وبحسب القوانين اللبنانية، ان لا احد فاسد. لا مجال هنا لذكر ارقام فسادهم وهدرهم لكل موارد الدولة التي صبت في جيوبهم محاصصة واقتساما. استفاد الموظفون الصغار من الاستزلام فكانوا ياكلون الفتات التي تسقط عن موائد الكبار والمتسلطين فسكتوا وحملوهم على اكتافهم كانهم اولياء نعمتهم ومن دونهم لا عيش لهم. موظفون لصالح الحكام والسياسيين اما رواتبهم فمن الدولة اللبنانية القطاع العام. اصبح الشعب يستجدي حقوقه من كهرباء وماء وهاتف ودواء وتعليم واستشفاء وطرقات صالحة للسير وكاننا نعيش في زمن الاقتطاعية تحت ستار الديموقراطية. مختلفون في الظاهر ولكنهم متفقون على الحصص في الحقيقة مع انعدام الثقة في ما بينهم، فاختبؤوا تحت ستار الطائفية وجعلوا الشعب اسيرها يخافون من بعضهم البعض.

برع اللبنانيون في الخارج وعددهم ليس بقليل فلماذا يعجزون عن اعادة بناء وطنهم على اساس متين حضاري؟ ليس هناك من مواطن في العالم الا ويحلم بالمستقبل الا في لبنان فنحن نتغنى بما انجزناه في ماض لن يعود.

في ظل هذا الوضع المتشائم الاسود هل هناك اية بادرة خير او نور يأتي؟ وكيف؟

هل الحل بتغيير النظام ام باعادة تثقيف من يريد ا ن ينخرط في الشأن العام والعمل السياسي؟

ما هي الحلول الاقتصادية الممكن تفعيلها لانقاذ هذا الوطن؟

كل هذه الاسئلة وسواها سوف نحا ول الاجابة عنها من خلال هذا الحوار بعنوان  نصوص حول الاصلاح الاقتصادي والسياسي والاداري للدكتور البر داغر بمشاركة الدكتورة هالة ابو حمدان والدكتور كرم كرم.

 

في النهاية نحن نثق كما انتم تثقون ان لبنان سوف ينهض من هذه المحنة القاسية والليل الطويل ويحلق عاليا كي يجعل السماء حدوده.