أقامت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس"ندوة لمناقشة كتاب المطران مارون ناصر الجميّل "بيبليوغرافيا المؤلّفين الموارنة، الجزء الثاني، مراسلات من رجالات النهضة العربية في القرن 19" الصّادر باللغة العربية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012، شارك فيها الدكتور أنطوان خاطر ومعالي الدكتور دميانوس قطّار والمحامي مارون الخوري، وأدارها الدكتور الياس كسّاب.

رحّب الدكتور الياس كسّاب بالمشاركين في الندوة وبالمطران مارون ناصر الجميّل الذي نُصّب مطرانًا على أبرشية سيدة لبنان في فرنسا وزائرًا رسوليًّا إلى القارة الأوروبيّة، وحاز شهادات في الفلسفة واللاهوت والموسيقى من جامعة القديس يوسف وجامعة الروح القدس، فضلاً عن دكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة من جامعة السوربون في باريس، وبحث في التاريخ الكنسي وأمضى واحدًا وثلاثين عامًا في العطاء منذ رسامته الكهنوتية في العام 1981 حتّى تنصيبه مطرانًا في العام 2012، إذ علّم في عدّة مدارس ويشرف حاليًّا على أطروحات الدكتوراه في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ممثّلاً كلية التربية، إلى جانب مسؤوليّاته الكهنوتيّة في الكنيسة المارونية ومؤلّفاته وبحوثه الكثيرة.

الدكتور أنطوان خاطر وصف المطران الجميّل بأنّه طالب ثقافة ومعرفة وفنّ وخوري رعيّة واعٍ ومرشد أخويّات وأستاذ وباحث عقلانيّ ومنقّب عن الحقيقة ومشرف على أطروحات. وتميّزت مسيرته بالنشاط الدائم في داخل لبنان وخارجه. وأشاد الدكتور خاطر بكتاب المطران الجميّل الذي يقدّم للباحث وثائق أصلية وافرة الدلالات في سياق لبنان الحديث، من أفكار ومواقف وشؤون طائفية مختلفة، ورأى أنّ الوثائق المتضمّنة في الكتاب متفاوتة في أهميتها بتفاوت مواضيعها، "إلاّ أنّها تشكّل حلقات تساعد على إكمال عقد النسيج في كتابة تاريخ حقبة هي القرن التاسع عشر" في لبنان.

اعتبر المحامي مارون الخوري أنّ الكتاب يندرج سلسلة " وثائق منسيّة " تتمحور حول مختلف المراسلات غير المنشورة حتى اليوم لشخصيّات مارونيّة صُنّفت في خانة رجالات النهضة العربيّة في القرن التاسع عشر، وأهمّها الشّيخ مرعي الدّحداح، لأنّها أدّت دورًا رائدًا في السياسة والأدب والفن والتربيّة والتبادل الثقافي بين الشرق والغرب، ويتضمّن ثلاثمئة وخمسين رسالة، ويتألّف من أربعة محاور. يتناول المحور الأول بعض المراسلات المتبادلة بين الرهبان الحلبيّين الموارنة، وكلاء البطريرك الماروني في القسطنطنيّة وغيرها من المدن وبين البطريرك. ويُعنى المحور الثاني بالتمثيل القانوني الذي كان منحصراً بعائلة الياس حوّا الإهدني وأولاده، وبالتالي مضمون المراسلات منهم وإليهم. ويرتبط المحور الثالث بمدينة بيروت ويتضمّن مراسلات أولاد أسرة نقّاش البيروتيّة العريقة وبخاصّة مارون نقّاش الذي امتهن المسرح والأوبرا. ويتعلّق المحور الرابع بالمراسلات المتبادلة بين آل الدحداح والبطاركة وبعض المسؤولين الكنسيين. وتوقّف الأستاذ الخوري عند بعض الرسائل الهامّة المتبادلة، قبل أي يعطي رأيه الخاصّ في الكتاب مشيدًا بخلوّه من أخطاء اللغة والقواعد والإملاء، وسهولة التعبير فيه، واحترامه المعايير الأكاديمية وقواعد علم التاريخ، وبخاصّة الموضوعيّة والدّقّة.

 

وتُرك المنبر لمعالي الدكتور دميانوس قطّار الذي أعرب عن تأثّره وارتباكه عندما تلقّى دعوة من المطران الجميّل للمشاركة في هذه الندوة، ذلك أنّه ليس رجل أدب ولا أستاذ تاريخ، بينما يرتكز الكتاب على نهج بحثيّ وعمق تاريخي ومضمون أدبي. ووصف الدكتور قطّار المطران الجميّل بأنّه مؤرّخ ومفكّر قدّم "لنا تاريخنا عبر سهره وعمله الدّؤوب" كي يظهر أنّ تاريخ المسيحية في الشرق هو تاريخ انفتاح وتواصل ومشاركة، واعتبر أنّه يقدّم نموذجًا حيًّا عن ثقافة الموارنة خصوصًا، وعن مسيحيّي الشّرق عمومًا.

وتُرك المنبر أخيرًا لسيادة المطران مارون ناصر الجميّل الّذي تكلّم على السنوات الطويلة التي قضاها في إعداد هذا الكتاب الذي يؤرّخ للثقافة كما حملها بعض الرّوّاد من الموارنة في القرن التّاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ومع تعيينه مسؤولاً عن أبرشية سيدة لبنان في فرنسا وحوالى خمس عشرة دولة أوروبية أخرى، لاحظ أنّ اللبنانيين عمومًا، وهم حوالى مئتا ألف، والموارنة منهم خصوصًا، وهم حوالى خمسة وثمانون ألفًا، لا يهتمّون بالثقافة أكثر من اهتمامهم بإدارة المطاعم والأعمال البارعة الأخرى. لذلك، يرى أنّ الهدف الأسمى الذي يمكن أن يقوم به في باريس هو جمع هذه الطاقات للتّحاور مع العقل الأوروبي عمومًا والفرنسي خصوصًا حول علاقة الشرق بالغرب كعلاقة صحية، وبخاصة علاقة المسلمين بالمسيحيّين. فاللبنانيون والموارنة هم الأكفأ للقيام بهذه الرسالة الكبرى.

 

         

 

كلمة : د. الياس كسـّاب

نرحب بكم في الحركة الثقافية –أنطلياس في اطار المهرجان اللبناني للكتاب في دورته الثانية والثلاثين لمناقشة كتاب المطران مارون ناصر الجميّل ، الصادر حديثا" والذي هو بعنوان : " بيبليوغرافيا المؤلفين الموارنة ، الجزء الثاني : مراسلات من رجالات النهضة العربية في القرن التاسع عشر ".

أيها الحضور الكريم،

" الرسالة الأسقفية هي اعلان سر المسيح على حقيقته لأنسان اليوم ، الذي تغيرت ذهنيته ونظرته بسبب المتغيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي طرأت على عالمنا ".

هذا الكلام هو لأبينا غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في عظته ، بمناسبة تنصيب ناصر شاهين الجميل مطرانا" على أبرشية سيدة لبنان في فرنسا (أبرشية جديدة مستحدثة) وزائرا" رسوليا" على قارة أوروبا .

متخذا شعار أسقفيته : "أصالة ورسالة "

ولأنه يعتبر القدّيس مارون شخصا" قريبا" من الله ، وبقدر قربه من الله يستطيع جذب أشخاص حوله ، اتخذ أسم مارون ليرافقه في رسالته الأسقفية لما له من باع طويل في الشهادة والحفاظ على التراث الأنطاكي السرياني الآرامي

آمن بلبنان أرضا" مقدسة" ، فابن عين الخرّوبة الذي ولد عام 1951 ، سمع صوت الرب يناديه ، فعرفه وأجابه :"نعم سوف اتبعك " ، ولم يكن يدري في ذلك الوقت أنه سيكون هذا الأسقف الذي أحب وطنه ، ساهرا" على الكنيسة المارونية في القارة العتيقة ، ولكنها حاملة تراث كبير على حد قوله،سوف يعود اليها أسقفا" بعد أن قضى فيها ستة سنوات طالبا" (1977- 1983) في السوربون – باريس الأولى  حيث حاز على شهادة دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الأنسانية ، وقبلها في مدينة ليون بسنتين حيث تابع دراسة معمقة في فلسفة التربية ، وكان سبقها في لبنان في جامعة القديس يوسف وجامعة الروح القدس : ماجستير في الفلسفة واللاهوت والموسقى.

صمم أن يغوص في التاريخ الكنسي فغدا باحثا" في المبادلات الثقافية بين الشرق والغرب ، ليبرز اهمية هذه الارض : شعب ورسالة وبشارة مسيحية في العيش المشترك بين الأديان ، مسيرة حياة كاهن مليئة بالأيمان والعطاء والمحبة ، امتدت من 30 آب 1981 تاريخ رسامته الكهنوتية الى 30 آب 2012 تاريخ تنصيبه مطرانا" انطلاقة جديدة نحو الحياة الأسقفية .

31 عاما" من العطاء في كافة الميادين : الدينية والأجتماعية والتربوية والأكاديمية والثقافية

من التدريس في عدّة مدارس الى ادارتها ، وهو حاليا" بروفيسور في كلية التربية ، من1986 ، يشرف على أطروحات الدكتوراه في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ،ممثلا" كلية التربية .

تابع مسؤليات كهنوتية وثقافية ومجمعية في الابرشية وفي الكنيسة المارونية ، كما خدم في رعايا وكنائس عدة.

يتقن اللغات :العربية الفرنسية الأنكليزية الللآتينية والسريانية ويلم بالاسبانية والأيطالية والألمانية.

له عدة مؤلفات وأبحاث ومقالات في التاريخ والثقافة والأدب واللاهوت والمجامع المسكونية ، بالعربية والفرنسية.

باختصار وايجاز كبيرين حاولت أن أقدم المطران مارون ناصر الجميّل وهو حاضر معنا بابتسامته المعهودة التي لا تفارقه ووجهه المحبب الذي يشع سلاما" لكل من عرفه.

 

أما من سيتولّى مهمة مناقشة الكتاب موضوع لقاؤنا اليوم ، ثلاثة مثقفين ، كلّ من نظرته للكتاب وللكاتب في آن :

معالي الاستاذ دميانوس قطّار ، الدكتور أنطوان خاطر والمحامي مارون الخوري.

الكلمة الأولى لمعالي الأستاذ دميانوس قطّار

بيبليوغرافيـــا المؤلّفيــــن الموارنــة الجزء الثانـي:

إصـــــدار جديــــــد للمطــران مـــــــارون ناصــــــــر الجميّـــــــل

كلمة الاستاذ مارون الخوري

 

إنه باكورة مطران أبرشيّة سيدة لبنان في باريس والزائر الرسولي على أوروبا للرعايا المارونيّة المنتشرة على المقلب الآخر من البحر الأبيض المتوسط،  بعد ستة وثلاثين  كتاباً ألّفها يوم كان لا زال كاهناً وبروفسوراً في الجامعة اللبنانيّة.

 

الكتاب الجديد أبصر النور في تشرين الثاني 2012 يوم كان المطران مارون ناصر الجميّل في زيارة خاطفة الى لبنان، للإشراف على التصحيح الأخير والإصدار والتوزيع.

يندرج هذا الكتاب ضمن سلسلة " وثائق منسيّة " تتمحور حول مختلف المراسلات غير المنشورة حتى اليوم بين رجالات النهضة العربيّة على مراحل متعدّدة من التاريخ القديم والحديث. وكان الجزء الأول من هذه البيبليوغرافيا قد صدر سنة2011 باللغة الفرنسيّة محتوياً 633 شخصيّة ومراسلة.

أمّا الجزء الثاني، الذي نحن بصدده، فقد صدر باللغة العربيّة متناولاً المراسلات التي جرت في القرن التاسع عشر حاوياً في طيّاته 708 صفحات من القطع الكبير متضمناً 350 رسالة.

يتألف الكتاب من مقدمة عامة، وأربعة محاور، وفهرس بالوثائق، والمصادر.

 

في المقدّمة، يبّرر المطران مارون ناصر إختياره لبعض المراسلات النادرة لشخصيّات مارونيّة " نادرة " من سلالات عريقة في الطائفة تصّنف في خانة رجالات النهضة خلال القرن التاسع عشر، لدورها الرائد في السياسة والأدب والفن والتربيّة والتبادل الثقافي بين الشرق والغرب، بما يتناسب مع الموضوع العام المعالج: أي خدمة الكنيسة والبطريركيّة المارونيّة.

          وتركّز المقدمة على أهميّة المراسلة المتعدّدة الأوجه:

1 ـــــ إنها فنّ أدبي لافت غايته التواصل بين الناس.

2 ـــــ إنها تأسر التاريخ بخفاياه وحيثياته وجُزَيئيّاته، وكنوزه الأدبيّة والإنسانيّة والإجتماعيّة.

3 ـــــ إنها تطلّب من الباحث صبراً طويلاً وجميلاً نظراً لصعوبة قراءتها إمّا بسبب التلف والإهمال وإمّا بسبب نوع الحبر الذي يُفني الورق.

4 ـــــ إنها مدرسة ممنهجة تعلّم المنطق والحكمة والدراية والحنكة العقلانيّة والرزانة.

5 ـــــ تعكس الصيغ الأدبيّة التي كانت مستعملة في بداية عصر النهضة بأسلوب مشجّع وتشابيه وتعابير فيها الكثير من اللياقة واللباقة والخجل والخفر.

6 ـــــ إنها تُبرز العلائق الدبلوماسيّة المباشرة بين البطريرك الماروني والسلطان العثماني منذ نهاية القرن الثامن عشر وعلى إمتداد القرن التاسع عشر، بواسطة وكلائه لدى الباب العالي، وعبره ترسّخت معهم العلائق الدوليّة؛ مع التنويه برفض الموارنة للحكم العثماني الذي مارس عليهم البلص والسخرة والمضايقات كأهل " ذمّة ". وفرض عليهم نظام " الملّة ".

7 ـــــ إنها تبيّن دور سفير فرنسا لدى السلطنة في حماية مسيحيي المشرق وفق صلاحياته الواردة في نظام الإمتيازات الأجنبيّة المنفّذ منذ العام 1535 ـــــ وفي هذه الظروف، علا شأن البطريرك الماروني وتعاظم دوره. فهو يتقدّم على شعبه ويتكّلم عليه، بحسب التعبير الشهير للبطريرك المكرّم إسطفان الدويهي، وأصبح له تمثيل دبلوماسي لدى الحكّام والملوك والأمبراطوريّات.

8 ـــــ إنها تُحييي بهاء " الورقة " وجماليّة " الخطّ " وعطر " الحبر "، في عصر المراسلة الإلكترونيّة والتبادل " الأيمايلي " وأفول متعة الكلمة.

 

ـــــ أقسام الكتاب: أربعة محاور.

أولاً:يتناول المحور الأول بعض المراسلات المتبادلة بين الرهبان الحلبيّين الموارنة ( المريميين اليوم ) وكلاء البطريرك الماروني في القسطنطنيّة وغيرها من المدن وبين البطريرك. الرسالة الأولى في هذا المجال مؤرّخة في 10/1/1779 وهي كناية عن إعلام البطريرك يوسف إسطفان  ( 1766 ـــــــ 1793 ) بشأن إرسال الأب جرمانوس كونتي الحلبي وكيلاً عنه  في القسطنطنيّة. ثــّم يكلّفه برسالة 10 آيار 1779 بإستصدار فرمان جديد من أجل تعيين مطران أو وكيل في قبرس بإسم بطرك الموارنة. ويوصي فيه لدى  النائب الرسولي الذي يبدو بأنه لا يقبل بوجود ممثّل كاثوليكي للبطريرك في الآستانة مع أن " القسطنطنيّة واسعة تقضّي لكم ولغيركم".

 

أثار القسّ كونتي جدلاً بين مؤيّد لبقائه في إسطمبول ورافض لذلك، ودعوته للإلتحاق مجدّداً برهبنته وترك منصبه هناك والعودة إليها. فوجّه إليه الرئيس العام للرهبانيّة الحلبيّة المارونيّة الأب فرنسيس موسى بتاريخ الأول من تشرين الأول سنة 1795 رسالة يذكّره فيها بنذورات الطاعة طالباً منه أن يعلن إنتماءه الى الرهبنة وإرسال ورقة طاعته ورجوعه إليها " حتى نقبلك بمصاف جمهورنا ونخوّلك الإستحقاق الذي خسرته.... "  وكان البطريرك فيليبوس الجميّل قد وجّه إليه رسالة مماثلة قبل شهر واحد من رسالة الرئيس العام للرهبنة وبوحي منه.

 

رفض كونتي العودة في رسالته الى البطريرك فيليبوس الجميّل في 25 تموز 1796 المتضمّنة أيضاً تهنئة بإنتخابه بطريركاً من دون أي يصله خبر وفاته.

 

ولمّا إنتخب يوسف التيان بطريركاً، جدّد وكالة الأب كونتي في مهمّته في إسطمبول مبقياً إياه وكيلاً عن الكرسي الإنطاكي فيها بمنشوره الصادر في تشرين الثاني 1796 ـــ فإتّهم الأب العام فرنسيس موسى في رسالة مباشرة الى رئيس المجمع المقدّس في 25 أيلول سنة 1800، البطريرك التيان بالعمل ضدّ الرهبنة لثلاثة أسباب:

الأول : مواقف الرهبنة المؤيّدة لسلفه البطريرك الجميّل.

والثاني: لأن الأب يوسف السمعاني سجّل أرضاً في مصر بإسم الرهبانيّة.

والثالث: يُشجّع البطريرك الرهبان في إسطمبول على التمرّد والعصيان.

 

ينتهي المحور الأول بالمستند رقم 12 المتضمّن إعلان البطريرك يوسف حبيش في 12/10/1831 عن توجيه الخوري يوسف جعجع (مطران قبرس لاحقاً ) " لخدامة الشعب الماروني الروحيّة في القسطنطينيّة ".

ثانيـــاً:المحـور الثانـي يتعلّق بالتمثيل القانوني الذي كان منحصراً بعائلة الياس حوّا الإهدني وأولاده، وبالتالي مضمون المراسلات منهم وإليهم. ما هي ظروف تعيين الياس حوّا وكيلاً للبطريرك الماروني في الآستانة؟. " إعتبر السلطان العثماني مقاومة الموارنة ضدّ إبراهيم باشا إخلاصاً لعرشه، لا خلاصاً من المصريين وحفاظاً على حريتهم. فما كان منه إلاّ أن أهدى، بسعي " ريشارد وود " الإنكليزي، البطريرك يوسف حبيش النيشان العثماني المرصّع. وهنا خاف البطريرك، إن هو تقلّده، أن يُحسب عليه إعترافاً بالتبعيّة العثمانيّة. وبدلاً من أن يضعه على صدره، وضعه على الرفّ. لكنه طلب أن يعيّن الياس حوا، الوجيه الماروني الحلبي، وكيلاً له في الآستانة، كما طلب أيضاً تخفيف الضرائب عن اللبنانيين... فقبل السلطان هذين الطلبين ".

 

وحيث أن الياس حوّا البراءتلي الحلبي المعتبر بين تجّار أوروبا موثوق به لدى الدولة العليّة، فقد عيّنه السلطان قبوكتخدا ( وكيلاً ) إبتداءً من العام 1841. ثـــّم تابع أولاده المهمّة بعده وصولاً الى بولاكي حوّا. ولم تنقطع المراسلات بين البطريرك يوسف حبيش والياس حوّا حتى قبل تعيينه وكيلاً للبطريرك لدى السلطنة.

 

ـــــ تُلقي رسالة الياس حوّا الى البطريرك حبيش تاريخ 3 تشرين الأول 1838 الضوء على بعض الدسائس المستعملة بحق الموارنة، والهدف منها إخضاعهم لأحكام البراءة السلطانيّة؛ ويُخبره بالتدابير التي قام بها لدى الباب العالي ولدى الخوري نقولا مراد " لحفظ الطائفة المارونيّة من الأخطار ... "

 

ـــــ من المراسلات السياسيّة، تعليمات سريّة من البطريرك يوسف حبيش الى وكيله الخوري نقولا مراد ومنه الى وكيله الآخر الياس حوّا في الآستانة بشأن إستعادة الأمير بشير الشهابي الثاني حكم الجبل. تتضمّن رسالة البطريرك اربعة إرشادات لوكيليه:

 

1)    ـــــ تريّث البطريرك في طلب الأمير أمين للعمل على عودة والده الى الحكم، وسأل وكيليه إستخراج رأي السلطنة. فإذا كان الجواب سلبياً، يكون قد وقع في المحظورات وعرّض الشعب لمزيد من المضايقات.

2)    عودة الأمير بشير الى الحكم دونها عقبات لأن " النفور منه كبير ويُخشى من حصول ثورات، والأوفق أن تكون الكتابة لصالح إبنه الأمير أمين.

3)     كلام على قضيّة المعلّم بطرس كرامه " المكروه جداً "، وهو في أساس النفور الحاصل.

4)     إنتهت الأزمة بأن يدفع الجبل 1200 كيساً سنوياً للسلطنة. وأطلقت الحرّية للبلاد كما في سابق عهدها منذ أيام السلطان سليمان القانوني. وعلى الأمير أمين أن يحرّر تعهّداً بالتقيّد بهذا السلوك، ويطمّن الرعايا، وأن لا يحصل تغيير في المناصب.

وبعد وفاة البطريرك يوسف حبيش في 23 آيار 1845، إستمّرت المراسلات مع خلفه البطريرك يوسف راجي الخازن. كذلك مراسلات إبنه بولاكي حوّا مع البطريرك بولس مسعد.

يتضمّن المحور الثاني 49 وثيقة من المراسلات المتبادلة بين البطريركيّة، وممثلّيها في الآستانة.

ثالثـــــــاً:المحور الثالث يتعلّق بمدينة بيروت ويحتوي على مراسلات أولاد نقّاش إخوان وبخاصة مارون نقّاش الذي إمتهن المسرح والأوبرا ( 1817 ـــــــ 1855 ). وآل نقّاش سلالة بيروتيّة عتيقة أسهمت في بناء مداميك النهضة خلال القرن التاسع عشر. عرف منها: نقولا، وخليل، وسليم، ونصري، والأشهر مارون بن الياس النقّاش. بالإضافة الى اللغة العربيّة، أتقنوا التركيّة والإيطاليّة لكونهم كانوا من التجار.  لقد إشتهر مارون بتمثيل الروايات التشخيصيّة التي طبع قسماً منها في كتابه: " أرزة لبنان "، الذي يحتوي على رواية " البخيل " لموليير التي عرضت للمرة الأولى في العام 1848 في منزله. ويشتمل المحور الثالث على 39 وثيقة أو رسائل متبادلة بين مارون نقاش ومطران حلب للموارنة بولس أروتين، وأولاد نقاش أخوان مع البطريرك الخازن ومسعد ولقد أرّخ مارون نقاش في كتابه " أرزة لبنان " بدء بطريركيّة بولس مسعد بهذه الأبيات:

 

" في أفق كرسّي أنطاكية عجبٌ                    بدرٌ توارى وبدرٌ فوق سدّتهِ

 إنْ غاب ذاك وأضنانا بغيبته                        فنـابَ هذا وأشفانا بنوبتـهِ

 دعا الإله لذاك المرتضي خلفاً                       أرّخــتُ بولــس مختارٌ لدعوته ".

( 21 تشرين الثاني 1845 ).

 

رابعـــــــاً:المحور الرابع، وهو الأطول والأغنى، يتناول المراسلات المتبادلة بين آل الدحداح والبطاركة وبعض المسؤولين الكنسيين، وهو يشتمل على 226 وثيقة ومستند.

 

يبدأ هذا المحور بالتعريف بأصول عائلة الدحداح على أنها " من عائلات قائمقاميّة النصارى التي تولّت، تحت سيطرة الأمراء اللمعيين، حكم منطقة الفتوح وبلاد جبيل، شأنها شأن سائر العائلات الإقطاعيّة: مشايخ آل الخازن في كسروان، وآل حبيش في غزير وتوابعها، وآل الضاهر في الزاوية وناحية عكار، وآل العازار في الكورة، وآل حماده الشيعة في الهرمل..." المصادر والمراجع بشأن آل الدحداح عديدة بالنظر الى الدور الذي لعبوه في المجال الديني والوطني والثقافي. ومن أبرز رجالات هذه العائلة:

أ ـــــــــ الشيخ مرعي ( 1782 ـــــــ 1868 ) الذي خاصم الأمير بشير الشهابي الذي حجز أملاكه، فإضطّر الى الهرب الى حلب وحمص  ثـّم الى مرسيليا حيث عمل في التجارة وتعرّف على  " مونتالمبر " ( Montalembert) وصادق " لامارتين " وقابل الملك لويس فيليب... " مراسلات مبتادلة بين الشيخ مرعي والبطاركة: يوحنا الحلو، يوسف حبيش، يوسف راجي الخازن، وبولس مسعد. من أهّم هذه الرئاسل:

1       ) رسالة 3 تموز 1832 يصف فيها للبطريرك حبيش الإستقبال الحاشد الذي لقيه الفونس دو لامارتين في مرسيليا، ويخبره عن قرب زيارته الى أسلامبول ومنها الى جبل لبنان. ويوصي بإستقباله كما ينبغي ويليق بالترحاب والإكرام.

2       ) رسالة ثانية في آب 1832 الى البطريرك نفسه يمتدح فيها لامارتين ويوصي به من جديد بوجوب إستقباله جيداً " ونؤكّد لنيافتكم أن هذه فرصة نادرة، ربّما في مايتين سنة لا تتصدّف. وفي إيابه، يطبع أخبار سفرته وما صادفه. وتنالوا غبطتكم الإفتخار والمجد. وتشرّفوا الطايفة المارونيّة لدى سلطان فرنسا ... "

3       ) رسالة 6 كانون الأول 1833 يشكر فيها البطريرك حبيش على الإهتمام بلامارتين، الأمر الذي جعله يفتخر أمام الفرنسيين بإنتمائه الى الطائفة المارونيّة، بإعتبار أن لامارتين بدأ يكيل المديح في كتاباته للبطريرك وللطائفة.

وبعد عودته الى فرنسا، أدرك لامارتين أهميّة نشر اللغة الفرنسيّة في لبنان. فطالبَ الحكومة الفرنسيّة في رسالته الى وزير الخارجيّة الفرنسيّة بتاريخ 11 حزيران 1837، بإعطاء معهد عينطورة للآباء اللعازاريين بعض المنح المدرسيّة التي توفّر تنشئة ضروريّة للمترجمين، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على التجارة.

4       )  رسائل متعدّدة الى البطريرك يوسف راجي الخازن تدور حول ضرورة إستقدام كاهن ماروني لخدمة أبناء الطائفة في مرسيليا، يتمتّع بالمواصفات اللازمة لأنه " من كون الكاهن الذي يوجد هنا لدى الأجنبيّة دليل على باقي إكليروس الطائفة ... " فما كان من البطريرك إلاّ أن طلب من الشيخ مرعي إختيار كاهن ماروني مناسب ليُصدر أمره بتعيينه. فإقترح الشيخ 3 أسماء: الآباء يوسف عطيّة الصوري، بطرس الدبيّة ( البستاني ) ويوسف المريض ( المطران لاحقاً ). فإعتذر الثلاثة، وأرسل البطريرك الخوري متى سابا، أول كاهن ماروني في مرسيليا.

ويوضح الياس مرعي الدحداح في رسالة مؤرّخة 23 تموز 1850 الى البطريرك يوسف راجي الخازن أهميّة حسن إختيار كاهن للخدمة في مرسيليا، " فنحن بدنا كاهن يعجبنا موافق لشأن غبطته بهذا الديار، ونقدر نرفع   روسنا به. فما نحن مفتقرين لكاهن غشيم أو عالم ومبلبل ـــ " ! ويشتكي الياس مرعي من أحد الكهنة الذي لا يعطي إنطباعاً إيجابياً عن الشرقيين بتعاطيهم مع المال، وبخاصة لناحية جمع الإحسانات وعدم إيصالها الى مستحقيها، عدا عن التزوير والغش.

 

ب ــــــــ الكونت رشيد بن غالب الدحداح المولود في بلدة عرمون الكسروانيّة سنة 1813. تعاطى التجارة بين إنكلترا وفرنسا وبيروت، كما  تعاطى العلوم والآداب. في العام 1849 نشر قاموس المطران جرمانوس فرحات، وطبع ديوان إبن الفارض سنة 1855. أنشأ مع الأب بورغاد الفرنسي جريدة " برجيس باريس وأنيس الجليس " سياسيّة نصف شهريّة بالعربي والفرنسي، في 2 حزيران 1858، وهي باكورة الصحف العربيّة، إثر علاقة نشأت بينه وبين الأمبراطور نابوليون الثالث.

له مؤلفات عديدة أهمّها" السيّار المُشرِق في بوار الَمشرِق "الذي يتضمّن أموراً تاريخيّة نادرة عن أحوال النصارى العرب. وهناك مراسلات بينه وبين مشاهير زمانه أمثال الأمير عبد القادر الجزائري. تقّرب من بايتونس الذي عيّنه ترجماناً له. إستقبل في قصره في باريس البطريرك بولس مسعد سنة 1867، يوم إلتمس له لقب كونت من الحبر الأعظم... إشترى على شاطىء بحر المانش قريّة صغيرة تدعى " دينار " ( Dinard) أوصل إليها سكّة الحديد، وهجر باريس وأقام في قصره هناك المعروف " بقصر الضفّتين ". توفّي في 5 أيار سنة 1889، في السنة نفسها التي توفّي فيها يوسف بك كرم.

يُحصي الكتاب 142 مراسلة بين الكونت رشيد والبطريرك بولس مسعد مذ كان لا يزال كاهناً ومع الخوري يوحنا الحبيب ( المطران لاحقاً ) وشقيقه نعمة الله الدحداح الذي أصبح فيما بعد مطراناً على أبرشيّة الشام في 23 شباط 1872. تلقي مراسلات الكونت رشيد الضوء على خبرة عائلة لبنانيّة نمت وترعرعت في فرنسا. لكنها في الجيل الأول ( مع مرعي ورشيد ) عاشت خبرة " الغرباء والأجانب، إلاّ مع نخبة المجتمع الفرنسي. أمـّا الجيل الثاني والثالث الذي تنشأ في المدارس الفرنسيّة وتشرّب عاداتها وتقاليدها وقوانينها، حتى أن إبنة الكونت رشيد ترهبّت عند " الترابيست "، فكاد يحصل " الذوبان " معها لو لم تستدرك البطريركيّة الأمر التي تمثلّت بنائب بطريركي لدى الحكومة الفرنسيّة، وذلك قبل نشوء التمثيل الدبلوماسي بين لبنان وفرنسا بزمن طويل.

ويُعبّر الكونت رشيد في رسائله عن إنزعاجه من الجو الفرنسي العام " الفوقي " آنذاك. ومع كونه " مسيحياً كاثوليكياً " أحسّ أنه غير مرغوب فيه لأنه " غريب ". هذا ما حدا به الى طلب " شهادة حسن سلوك " رفيعة، من أعلى مرجعيّة مسيحيّة، بابا روما، يوم عمل على الحصول على لقب " كونت بابوي "... وظلّ وضع اللبنانيين عموماً، والموارنة خصوصاً، مضطّرباً وقلقاً في الإغتراب، ومن دون حيثيّة قانونيّة، الى أن نشأ البيت اللبناني ـــــــــ الفرنسي في كلّ من باريس ومرسيليا، وإستطراداً أكثر من إنشاء أبرشيّة سيدة لبنان في باريس وإنتخاب أول مطران عليها مقيم فيها وزائراً رسولياً في أوروبا وهو مؤلّف الكتابالحاضر: مارون ناصر الجميّل.

 

يجدر التوّقف عند بعض الرسائل المتبادلة للكونت رشيد نظراً لأهميّتها:

 

1 ـــــ يعطي الخوري يوحنا الحبيب ( المطران ) في 25 كانون الأول 1855 شهادة إيجابيّة بالكونت رشيد، زميله في الدراسة في عين ورقة، ويعرّف عنه بأنه " تعلّم التركيّة في دير بزمار، والإيطاليّة في عين ورقة، وإتقن اللغة العربيّة، ودرس علم السياسة على أبيه. وكان لفترة كاتم أسرار كل من الأميرين أمين وبشير قاسم الشهابيين" ...

 

2 ـــــ ويقول عنه غريغوريوس، بطريرك الأرمن الكاثوليك، إثر سفر الكونت الى أوروبا: " من يكن مثله تفتقده البلاد ".

 

3 ـــــ في 3 آب 1860، وجّه الكونت رشيد الى البطريرك بولس مسعد رسالة تتعلّق بأحداث 1860 وتداعياتها، ويُعلمه بإنطلاق حملة نابوليون الثالث الى لبنان... " ويطلب منه التشدّد في مواقفه ويطالب بمحاكمة الوزراء المتسببّين بما حصل ... ".

 

4 ـــــــ في 16 آب 1860، رسالة منه الى مطران صيدا بطرس البستاني، يُحثّه على لعب دور سياسي في هذه الظروف الصعبة هو والمطران طوبّيا عون، مطران بيروت. " فالموارنة أسهلقوداً من غيرهم، ولكّن فحول الرجال قليلة فيهم ... ".

 

5 ــــــ مجموعة كبيرة  من الرسائل السياسيّة وما يدور في أروقة الدبلوماسيّة الأوروبيّة بخصوص مستقبل المنطقة بعد حوادث 1860 الى البطريرك بولس مسعد مسديّاً إليه النصح في التصرّفالواجب ومشيراً عليه بالمواقف المستحسن إعتمادها ـــــ وفي كل مرّة كان الكونت يتلّقى رسائل جوابيّة من البطريرك مسعد.

 

6ــــــ رسائل  عن الحياة الإجتماعيّة في تونس ( 20 شباط 1863 ) فيها وصف للمرأة التونسيّة: " فالبلاد باقية متل بلادنا قبل مائتين سنة. حتى النسوان بعدهم بعقايص، ومحرمة مروّسة لقدّام عوض الطنطور. والإصابة بالعين أمر هائل عام يهدم العماير ويكرسح الجمال والحمير... "

 

7 ــــــ بفضل عمله لدى باي تونس وعلاقته الوطيدة به، يخبر في رسالته الى يوحنا الحبيب ( 27 آذار 1867 ) بأن " معيشتنا مرّتبة متمتّعين برغدة هذه البلاد العامرة. وعندنا كاخية وكاتب وإثني عشر خادم وخادمة. ومن جملة الثروة صار عندي مكتبة عربيّة نادرة الوجود بجميع الفنون، وسأضع لك طيّه نشرة كتب الفقه الحنفي الموجودة عندي ".

 

8 ـــــ يخبر الخوري يوحنا الحبيب في رسالته المؤرّخة 6 شباط 1875 أنه بصدد تحضير كتاب ثمين حول تاريخ النصرانيّة في الحجاز واليمن، ويشتمل على أسماء الملوك النصارى والقبائل ومشاهير الرجال النصارى من تبع وحمير ولخم والأزد وطيّ وغسان وغيرهم، وعلى ذكر الأديرة الكثيرة العدد في الحجاز واليمن والحيرة وحوران... وعلى إثبات وجود ملوك نصارى في أقصى اليمن بنحو خمسين سنة بعد المسيح. فهذا لا يعلمه العرب ولا الأفرنج ".

 

          المهّــــــم في كل ذلك أن الكونت رشيد كان " للقلم ليلاً وللمعول نهاراً " في قريته في دينار، حيث أنشأ مطبعة خاصة به لطباعة مؤلّفاته، وما أكثرها! كما بنى فيها كنيسة أستوجبت ردّة فعل سلبيّة من خوري الرعيّة اللاتيني ومطران المحلّة، بإعتبار أن الكونت رشيد " غريباً ". ويقول في رسالته الى شقيقه المطران نعمة الله: " على الرؤساء إستجلاب الضالّين وليس تكفير المؤمنين، وأني لو لم أكن ماروني قّح لَهدمت الشابيل وهجرت الكنيسة ".

 

في السنة الأخيرة من عمره، العام 1888، وبعد إنتقادات الأب كورنيلّي للمجمع المقدّس حول فصل المجوس المستّل من كتاب الكونت " تاريخ البلاد العربيّة " بقوله للمجمع بأن " أمر المجوس يخرج عن التاريخ البسيط ويمّس الأمور الدينيّة"، بناءً على مراسلة سابقة للكونت رشيد الى " مجمع نشر الإيمان " لإستخراج الرأي حول المجوس فيما إذا كان يخالف عقيدة الكنيسة بالسؤال إذا كان المجوس عرباً أو فرساً أم كلدان؟ وماذا يقول آباء الكنيسة؟ ويُعيب الأب كورنيلّي على الكونت أن العرب ما كانوا ينتظرون مجيء المسيح. فيجيب الكونت رشيد بأن " تعليم الكنيسة ثابت بأن كلّ البشر كانوا منتظرينه. وأنا بناءً على هذا الإعتقاد الذي صرّحه يوسف شمعون السمعاني تصريحاً تاماً، والمسلّم به عامةً، قلتُ إن العرب كانوا أقرب الناس مسافةً وإتصّالاً مع قبائل الأنبياء الذين وعدونا بمجيء الفادي ". ويوضح بأن المسيحيّة إنتشرت في بلاد العرب بكثرة ودفعت ضريبة الشهادة في نجران. وإن " العرب، قبل محمّد، كانت تعتقد بالحبل بمريم بلا دنس، ويبالغون في تكريمها، حتى نسبهم الوثنيّون الى عبادتها ".

 

          في 9 آيار سنة 1889، وجهّت الكونتيس مرتا مرعي الدحداح، أرملة الكونت رشيد، كتاب نعيه الى كل من البطريرك بولس مسعد والمطران يوحنا الحبيب، تعلمهما بوفاته عن 76 عاماً وإحتفل بدفنه في كنسية المجدليّة في باريس، حيث ووري في التراب وتابعت أرملته وأولاده منها: الفونس، بولي وجوزف المراسلة باللغة الفرنسيّة.

 

تكمن أهميّة مراسلات الكونت رشيد على أنّها تصّنف في خانة علم " الإستغراب " مقارنة مع علم " الإستشراق "، إذ نتعرّف على الحياة اليوميّة الفرنسيّة من وجهة نظر مشرقيّة، مارونيّة،  لبنانيّة، مثقّفة ومؤمنة. كما تكمن أهميّتها في جانبها اللغوي من بلاغة، وبيان، وأدب رفيع، وتنميق، ونحت ألفاظ، " حفر وتنزيل ".

خامســاً: رأي في الكتاب:

 

          أ ـــــ فـــي الشـــكـــل:

 

1 ـــ غلاف أنيق ومتين. أوراق متقنة التركيب على صلابة في الحضور.

2 ـــ عنوان بكلمات ذهبيّة ومضامين ماسيّة بحروف منيرة على سوادها.

3 ـــ خالٍ من أيّ  أخطاء في اللغة والقواعد والإملاء على سلاسة في الصياغة وسهولة في التعبير ونحت للكلمة.

4 ـــ تسلسل زمني دقيق وسليم للثلاثمائة وخمسين رسالة، مع تحديد مكان وجودها وحفظها.

 

ب ـــــ فـــي الأســــاس:

 

1 ـــ إحترام المعايير الأكاديميّة من حيث المعرفة، والموسوعة، والتواضع، والأمانة، والموضوعيّة، والدقّة والنباهة وسواها.

2 ـــ ملّخص بسيط في مطلع كل وثيقة حول ظروفها ومضمونها، مشرّع على الإستزادة في الدراسة وحبّ الإطلاع على التفاصيل.

3 ـــ إحترام قواعد علم التاريخ وبخاصة الموضوعيّة والدقّة. فالتاريخ ليس سرد أحداث فقط، كما يقول إبن خلدون ولا وجهة نظر، إنمّا البحث عن الحقيقة بتجرّد العالم والجهر بها للإفادة منها وإتخاذ العبر.

4 ـــ شموليّة الكتاب وموسوعيّة الموضوعات التي تتناول مختلف نواحي النشاط  الإنساني، من إجتماعيّة وسياسيّة وإنسانيّة شخصيّة وعامة، وأدب وفن وعلوم ولاهوت وخلافه.

5 ـــ حركيّة التاريخ من خلال عيش الأحداث المواكبة للشخصيات بما لها من فاعليّة وتأثير في مجرى الأيام.

6       ـــ إفساح المجال للمخيّلة البشريّة في إكتشاف الظروف المحيطة بكل وثيقة عملاً بقاعدة الإستدلال والإستنتاج وفقاً لعلم المنطق.

7       ـــ دعوة المؤرّخين والمهتمين والباحثين الى التبحّر بالوثائق المفتوحة على الماضي ودراستها بعمق وإتقان وتجرّد من دون أحكام مسبقة وآراء جاهزة ومعدّة سلفاً على خلفيّة ذاتيّة بمنظور معلّب، وإنزالها في " التزمكن " الصحيح.

8        ـــ مجهود فائق في فك بعض الوثائق الصعبة القراءة الى حدّ الإستحالة بسبب التلف الذي فتك بها بفعل الأعوام والإهمال، بطول أناة وعناية فائقة ومبضع ناعم وهدوء العالِم.

9       ــ كتاب ناطق يصدم العقل لناحية العلم الصرف ويذهل الإحساس لناحية الصدق الخالص والذوق الرفيع في الإختيار الحرّ بتواضع العارف.

10 ـــ يمثّل منحىً جديداً للبحث العلمي لم يألفه المشرق العربي حتى تاريخه.

 

فـي الخلاصة، المطران مارون ناصر الجميّل غنّي عن التعريف في المجالين الأكاديمي والديني إذ أنه غزير الإنتاج الفكري في الفضاءين الإنساني والروحي. على الصعيد الأكاديمي، أضحت مؤلفاته مرجعاً رصيناً وعلمياً يركن إليه في أيّ بحث تاريخي وحضاري ومصدراً أساسياً لكلّ باحث وطالب عالم. وهو، بحكم كونه أستاذاً جامعياً على مدى ربع قرن، يتمتّع بالرصانة في التأليف و " النهمويّة " في البحث عن كل جديد غير منشور في كبريات المكتبات العالميّة ويقدم بجرأة على كشف المستور في سالف العصور، بأسلوب شيّق وتبويب متسلسل بمنطق علمي بحت، كيفلا؟ وهو المشرف حتى اليوم على أطروحات الدكتوراه في الجامعات اللبنانيّة في كل ما يتعلّق بالعلوم الإنسانيّة حتى صحّ فيه القول المأثور الرائج في الغرب آنذاك: " عالم كماروني "." Doctussicutmaronita"

 

كتابه الجديد "أَكسيوس،  مستحّق ومستاهل "في الإستواء على عرش المكتبة العربيّة نظير زملائه ملوك الكلمة وكنوز الفكر الحرّ في سبيل سطوع الحقيقة التاريخيّة المتألقّة، وإستخلاص الدروس والعبر وسلوك السبيل القويم مستقبلاً. وبعد، منْ كان في ظَعنٍ علمي دائم لا عالم له سوى الكتاب، كنزُه مزدوج: " قربانة " ومخطوطة، يحافظ عليه بحدقة العين، مثل المطران مارون ناصر الجميّل،أفلا يستحّق هذا المطران المشرقي ـــــ الإنطاكي ـــــ السرياني ـــــ الماروني ـــــ اللبنانيـــــ " الأوروبي " أن يُدرج في عداد الموارنة العظام الذين أسهموا في المبادلات الحضاريّة بين الشرق والغرب أمثال الصهيوني والحصروني  والسمعاني والحاقلاني والغزيري والبجّاني  والكفرصغابي وسواهم ؟!

 

 

كـــور فـي: 9/3/2013

                                                                   المحامـي مـارون الخـوري