تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

الدكتور خير الدين حسيب (العراق)

قدّم المكرّم: الدكتور عصام نعمان

أدار اللّقاء: الدكتور أنطوان سيف

 

كرّمت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس" الباحث العراقي القومي في الاقتصاد والتنمية خير الدين حسيب على أعماله وإنجازاته كافة. عرّف به الدكتور أنطوان سيف وقدّم نبذة عن سيرته الذاتية. استهلّ كلمته ذاكرًا المناصب التي شغلها الدكتور خير الدين حسيب منذ وصوله إلى لبنان في العام 1974، منها ترؤسه لـِ "قسم الموارد الطبيعية والعلوم والتكنولوجيا" في اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا التابعة لمنظمة الأمم المتحدة. حمل خير الدين حسيب في نفسه تراثًا عراقيًا غنيًا بالقهر والخيبات. وتجلّت معاناته بإصراره على تأسيس "مركز دراسات الوحدة العربية" الهادف إلى نشر الوعي العربي لآفاق الوحدة العربية المفتوحة من خلال الديمقراطية. وأراد خير الدين وزملاؤه تأسيس سلطة سياسية تطال كافة الطاقات الإنسانية العربية بدون انكماش على العصبيات الموروثة المعيقة. وأدخل قيمًا جديدة على العروبة والنضال القومي العربي كالديمقراطية، والعدالة، والتنمية، والاستقلال، والحوار... وساهم بإنماء جمعيات مدنية ثقافية تؤمن بثقافة عربية جديدة تتميّز بالنقد العقلاني وبالخبرات العملية الحرّة وبالحوار الديمقراطي.

 

قدّم الدكتور عصام نعمان المحتفى به واستهلّ كلمته متحدّثًا عن الانطباعات التي تركها في نفسه وعقله  شخص الدكتور خير الدين حسيب. فقال إنّه رجلًا يتميّز بالجديّة والمنطق المتماسك والإلتزام القومي. وذكر أنّه يسترجع اللقاءات والأنشطة والعمل المشترك والتماسّ الفكري والسياسي والشخصي مع "خيري" – لقبه المحبّب. وأشار إلى أنّه يمثّل في تفكيره المثال المنشود للعربي المعاصر في زمن التحوّلات الكبرى. وأشار أيضًا إلى مشاركته في تأسيس "مركز دراسات الوحدة العربية" مع زملاء وأصدقاء من مختلف الأقطار العربية، هذا المركز المعروف بالمؤسسة العربية القومية الوحيدة. وعرّف بالمحتفى به على أنّه الإنسان اللطيف العنيف. وأشار إلى المناصب التي شغلها قبل مجيئه إلى لبنان: أستاذ محاضر في قسم الإقتصاد في جامعة بغداد، ومدير عام إتحاد الصناعات العراقية، ومحافظ البنك المركزي بدرجة وزير على الرغم من إعتقاله ظلمًا في إحدى المراحل. ثمّ تابع مسلّطًا الضوء على استقلاليته الراسخة واعتماده على نفسه، فهو حريص على عدم الالتحاق بأية زعامة أو مركز نفوذ. وتحدّث عن شخصه المفكّر المدبّر فهو لا يتبنى فكرة إلاّ إذا كانت قابلة للتنفيذ. وأشار إلى أنّ الدكتور خير الدين حسيب أثرى مركز الفكرَ والثقافة والمكتبة العربية بنحو 840 مجلّد تتناول مواضيع مختلفة منها تاريخية وثقافية وعلمية وفنية واقتصادية وسياسية وإنمائية. وأشار أيضًا إلى أنّ "خيري" يدير "مركز دراسات الوحدة العربية" المعروف باستقلاليّته. وعدّد المؤسسات الثلاث التي أنشأها: المؤسسة الثقافية العربية، والصندوق القومي العربي، ووقيفة جمال عبد الناصر. ويترأس المحتفى به حاليًا إدارة تحرير مجلة "المستقبل العربي" التي تتضمّن مئات الأبحاث والدراسات والمقالات والتعليقات. ثمّ تحدّث الدكتور نعمان عن شخص "خيري" الرائد المجاهد. فهو يرود دائمًا عوالم وحقولاً وموضوعات لم يسبقه إليها أحد كريادته في إطلاق حركة تجديدية في داخل الحركة القومية، وتأسيسه لـ "المؤتمر القومي العربي". وأشار إلى أنّه انضمّ إلى التنظيم الطليعي والعمل على مقربة من جمال عبد الناصر، ذلك عقب هزيمة مصر الناصرية في حرب 1967. وذكر أنّ رئيس الجمهورية اللبنانية العماد إميل لحود منحه وسام الأرز من رتبة كومندور تقديراً لعطائه الفكري كما منحه الرئيس العماد ميشال سليمان الجنسية اللبنانية. وأنهى كلمته مشيرًا إلى الأهداف الستة لتجديد الحركة القومية العربية: الوحدة العربية، والديمقراطية، والاستقلال الوطني والقومي، والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستقلة، والتجدد الحضاري.

وألقى المكرّم كلمة شكر فيها الدكتور أنطوان سيف والدكتور عصام نعمان على كلمتيهما. وتوقّف عند بعض المحطّات التي اعترضت طريقه منذ مغادرته العراق خصوصًا في ما يتعلّق بإنشاء "مركز دراسات الوحدة العربية". واعترف بفضل لبنان في تحقيق نجاح هذا المركز الذي يعيش مبادئه ويُعرف باستقلاليته الفكرية والسياسية والمادية. فهذا البلد لم يُعق أبدًا مسيرة المركز طوال هذه السنوات. وشدّد المحتفى به على ضرورة توفّر الإرادة لبلوغ أي هدف كان. وأنهى كلمته بشكر الحركة الثقافية على تكريمه.

 

وكانت ستّ شهادات بالمكرّم على التوالي، من: الأب الدكتور أنطوان ضو، والعميد الدكتور أحمد حطيط، والدكتور أحمد ملّا، والدكتور ناصيف نصّار، والدكتور عبد الملك المخلافي، الأمين العام للمؤتمر القومي العربي، والأستاذ بشاره مرهج.

 

وفي الختام قدّم أمين عام الحركة، الدكتور عصام خليفة درع الحركة إلى المحتفى به ونسخة عن النصّ الأصليّ لعاميّة أنطلياس الشهيرة، عاميّة 1840.

-------------------------------------------------

خير الدين حسيب:

الوحدة العربية على طريق ثقافة الانفتاح والتجدُّد

بقلم أنطوان سيف

        في العام 1974، أي منذ أربعين سنة بالتمام، نزل خير الدين حسيب في بيروت بمركز عمله الجديد في "اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا" التابعة لمنظمة الأمم المتحدة كرئيس "لوحدة البرامج والتنسيق" فيها أولاً، ولفترة وجيزة، ومن ثمّ كرئيس "لقسم الموارد الطبيعية والعلوم والتكنولوجيا" لمدّة عشر سنوات كانت من أقسى ما شهده لبنان عموماً، وعاصمته على الخصوص، على مرّ التاريخ. عشر سنوات كانت كافية لأن ترسخ فيه "الداء البيروتي" في الوقوع في شرك هذه المدينة الصاخبة دوماً، والواعدة ابداً، كمصغّر رمزي للعالم العربي وما يكتنزه، خلف المظاهر المحبطة، من إمكانات للتجاوز وصوغ مستقبل أكثر بهاءً ومنعةً وعطاءً انسانياً واسعاً.

السيرة الذاتية باتت نوعاً من الواجبات المدرسية تفرضها حضارتنا المعاصرة على الأفراد لتتثبت من انتمائهم اليها، وتكرههم على محاكاة دور المؤرخ في الاحترام الدقيق للقبل والبعد، على ايقاع ان اللاحق هو الذي يستدعي السابق ويضيئه ويبرزه وربّما ينأسر فيه رغماً عنه.

حمل خير الدين حسيب من العراق ليس النصف الأول من حياته فحسب، بل تراثاً شخصياً يزداد ثراؤه مع آثار القهر والخيبات التي هي في المطاف الأخير دلائل غنىً لا بديل تأسيسياً عنه، وأوسمة صامتة تزرع في حديقة الحياة الهادرة الى الامام بإرادتها وتفاؤلها الذي لا يُحبط لأنّه يراود سماء واسعة لا تُرى منها كل الصغائر وأهلها.

في عُرف البعض، وخير الدين نموذج نافر من هؤلاء، يصعب وضع العروق والحدود والتخوم بين المعرفة والخبرة. فالاكتساب الناعت كليهما هو افتراض نقطةٍ تحوّلها الحياة فوراً الى تاريخ ماضٍ يهيّئ لما يخلفه باستمرار. عشر سنوات، وأقلّ منها على الأرجح، حسمت المعرفة والخبرة المتراكمتين معاناةً وأملاً بمشروع قد يكون من أبرز المنائر تألّقاً في الثقافة العربية الراهنة، هو: "مركز دراسات الوحدة العربية"، يزيد تألقه على خلفية حالكة من الهزائم والتراجع في سجل نهضة عربية ظلت ناقصة. الوعي العربي لآفاق الوحدة العربية المفتوحة، إنما بأدوات المعرفة الحديثة وسلطاتها التي "يصنعها"، ويحرّض على صنعها بالعدوى وبالتنافس، بل بالديمقراطية "مركز الدراسات".

كان يمكن للمركز ان يكون حلماً في ليلة صيف لولا خير الدين حسيب، وصلابة إدارته وتنسُّكه العمليّ وقصر  المسافة في رؤاه بين ما يُفعل وما ينبغي فعله كأنه بذلك يؤسس لتقاليد لا تاريخ عربياً لها. ها هو المجتمع المدني، بأحد مفاخره، يأخذ المبادرة الحرّة، من هامش الحريات العامة الثرّة التي يؤمّنها لبنان المتعدد التي لا قِبَل لسلطته السياسية على مراودة غوى الاستئثار بها بل بأعبائها، (المبادرة) باقتحام ما اعتادت السلطات السياسية العربية على احتكاره مع اخفاقات حصرية هي نظيرة التسلّطات الحصرية.

لم يكن خير الدين وزملاؤه الذين تكاثروا، على قلّتهم، للتكاثف معه، يؤسسون لسلطة نقيضة، بل لسلطة صريحة رديفة تؤسس التكامل لا على التواطؤ مع السلطة السياسية ومحاكاتها البائسة، بل على التحدي والمنافسة بسلاح الجودة والمعاصرة والتوسُّع الى كل الطاقات الانسانية العربية من غير تزمت وتقوقع وانكماش على العصبيات الموروثة المعيقة.

لقد تم كسب الرهان على ان أموراً كبرى يمكن ان تحدث، بالمعنى التاريخي للعبارة، خارج سلطة الدولة، وان تطوّع انماط الدولة المترهّلة وان ترشدها بالثقافة الديمقراطية التي هي حصيلة أوسع حوار حرّ. فالقيم الجديدة، وهي عربية بامتياز على العكس مما يشيع المتزمتون والمتخلفون المتسلطون، وحلفاؤهم في أوساط دولية معادية، هي قيم الديمقراطية، والعدالة، والتنمية، والحوار، والمعرفة المتفتحة التي تؤول وحدها الى الوحدة العربية الحقيقية التي يطول طريقها ليسقط على جوانبه تباعاً، ومن غير توقّف، المكابرون لكل انفتاح على المعارف المحررة والثقافة القائدة، وبها يكون التحرير الموعود وكل انتصار.

لك أيضاً وخصوصاً، مفهوم جديد للعروبة يتأكد وينجح لا بالسجال والعنف ما دون الحضاري، بل بالنموذج الحيّ للانجازات الرائدة ومؤسساتها القدوة. حول "مركز الدراسات" نمت، بفضل خير الدين، جمعيات مدنية ثقافية مميزة بفعاليتها الواسعة تجعل المعرفة والعلوم المعاصرة بمتناول الطاقات الشبابية، يمتحنها الفكر الجدلي باستمرار، لا كمادة تأمل، بل كمؤشر فعل جماعي متراكم ومتعاظم يرى تلازماً لا ينفصم في مسيرته بين التغيير بالثقافة والتغيير في الثقافة، ثقافتنا العربية الجديدة المتجددة بالنقد العقلاني وبالخبرات العملية الحرّة وبالحوار الديمقراطي الذي يربأ بالقيود والحدود. وهكذا لن يكون للديمقراطية إلا طريق هذا الحوار التي تحضنه مؤسسات عربية حديثة فاعلة في أمّتها وثقافتها وعلى مستوى العالم أجمع تالياً.

من أجل كل ذلك اختارت الحركة الثقافية – انطلياس تكريم علم الثقافة العربية القائدة والواعدة: خير الدين حسيب، وتتشرّف بتكريمه.

 

الحركة الثقافية – انطلياس                                      أنطوان سيف

2 آذار 2014

---------------------------------------------------------------------

خير الدين حسيب في تفكيره وتدبيره

د. عصام نعمان

          ليس ما اعبّر عنه في هذه السطور أحكام بل إنطباعات . ليس دراسة بل شهادة .

الدراسة تعبير عن أحكام . لكن ، هل يمكن تلخيص إنسانٍ في حكم ، أي بما هو تقويم لظاهرة متعددة الأبعاد ؟ الحقيقة أن الإنسان ظاهرة كونية معقدة ومتحوّلة ولا سبيل إلى الإحاطة بكل أعماقها وأبعادها .

الشهادة تعبير عن إنطباعات . الإنطباع بما هو ومضة أو فكرة أو صورة أو حس منعكس في النفس والعقل. إذا كان الإنسان ظاهرة كونية معقدة ومتحوّلة فإن الشهادة عنه أو فيه تكون ، غالباً ، مجموعة إنطباعات حرة ، صادقة وشفافة .

ما أسعى اليه ، إذاً ، ليس دراسة خير الدين حسيب وتقويمه بل تذكّره والتعبيـر عمّا تركه شخصه وأداؤه من إنطباعات في النفس والعقل.

معرفتي به تعود إلى أواخر السبعينات من القرن الماضي . حدثني عنه بشير الداعوق وجوزف مغيزل . الأول أبدى إعجابه به كباحث قومي في الإقتصاد والتنمية . الثاني أشاد بشخصه الواعد وكفاءته المتعددة الجوانب . الإثنان راهنا بثقة على مؤسسةٍ بحثية كانا قد فرغا معه ، بمشاركة زملاء وأصدقاء من مختلف الأقطار العربية ، من تأسيسها : مركز دراسات الوحدة العربية .

أول لقاء مع خيري – هذا لقبه المحبب - تمّ في مناسبةٍ إجتماعية، أواخر سبعينات القرن الماضي ، في منزل بشير الداعوق . قدمني المضيف إليه كأحد مسؤولي " الحركة الوطنية اللبنانية " ، وقدمه إليّ كرئيس لقسم الموارد الطبيعية والعلوم والتقانة في اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا التابعة للأمـم المتحدة ، وأضــاف بزهوّ : " أما نشاطه القومي فقد حدثتك عنه ولا حاجة لمزيد ".

إنطباعي الأول كان إيجابيا : وجهٌ صبوح يبدو ، للوهلة الأولى ، انه لرجلٍ من السويد او فنلندا ، حتى إذا نطق أدركت ، بسرور ، انه لعربي أصيل ذو لهجة عراقية لافتة مطعّمة بعبارات المجاملة اللطيفة . هذا الإنطباع الأول سرعان ما إنحسر أمام إنطباع آخر ، أشد حضوراً . ذلك ان تطور الأحاديث المتبادلة كشف في الرجل ثلاث مزايا بارزة : الجدّية والمنطق المتماسك والإلتزام القومي .

من أواخر السبعينات حتى منتصف الثمانيات كان التعاطي مع خيري محدوداً . لكن بعد تسلّمه مسؤولية إدارة مركز دراسات الوحدة العربية والتفرغ له ، إزداد التلاقي والتعاطي . في تلك الآونة نظّم خيري ، في إطار أنشطة المركز ، ندوة " الاصالة والمعاصرة " في  القاهرة . كانت الندوة ، بموضوعها والمشاركين فيها وتنظيمها ، حدثاً لافتاً . فيها أمكنني التعرّف أكثر إلى قدرات خيري ، وحضوره الفاعل ، وصلاته الواسعة والمتشعبة بأهل النخبة الفكرية على امتداد القارة العربية . الحقيقة انني ، من خلال أنشطة المركز المتعددة  الموضوعات ، والمؤسسات التي ولِدت في إطاره أو تفرّعت عنه ، وفي غمرة العمل القومي ، الفكري والسياسي ، الذي إكتنف أنشطته جميعاً في الوطن العربي وفي خارجه ، عِشتُ مع خيري وعايشته ، عملت معه وعاونته ، أيّدته في مواقف وعارضته في أخرى ، وحفظت له دائما المودة والتقدير والإحترام .

إذ أسترجعُ على شاشة الذهن صور وإنطباعات تلك المراحل من اللقاءات والأنشطة والعمل المشترك والتماسّ الفكري والسياسي والشخصي مع خيري ، اخرج بإستنتاج ساطع  ان هذا الرجل القادم من الموصل إلى بغداد والمنتشر ، من ثم ،  بفكره وفعله في شتى أنحاء القارة العربية وغيرها من مسارح العمل والحضور ، مثّل في تفكيره وتدبيره المثل والمثال المنشود للعربي المعاصر في زمن العولمة والتحوّلات الكبرى.

يبدو خير الدين حسيب ، من خارج ، شخصا فردانيا، وحدانيا ، مركّزاً ومتماسكا. غير انه يتكشّف في تماس العمل وتفاعلات الزمالة والرفقة والصداقة عن شخصيات ثلاث في إهاب رجل واحد. إنه ، في آن ، الإنسان اللطيف العنيف ، والمفكّر المدبّر ، والرائد المجاهد .

 

I  الإنسان اللطيف العنيف

لاحظ كمال جنبلاط ، بعد جولة في العراق مطلع السبعينات ، ان الإنسان العراقي يجمع في مزيجٍ عجيب بين اللطف والعنف . عزا ذلك الى أمرين : مناخ قاسٍ يتميز بحرٍّ شديد في النهار وبردٍ صحراوي قارس في الليل ، وتقليد راسخ في التغذية قوامه الإفراط في تناول اللحوم أثناء الفطور والغداء والعشاء . خير الدين حسيب إنسان عراقي بإمتياز ، مزيج عجيب من اللطف والعنف في آن ، إنما من دون حرص على تناول اللحوم في الوجبات الثلاث ! لطفه غالب على عنفه دائما ، لكن عنفه مفاجئ، نفساني وغيـر جسدي . إنه مجرد تبدّل في قسمات الوجه يتسم بجدّية ظاهرة دونما تجهم ، وإرتفاع في نبرة الكلام تعبّر عن تشدد مقصود ، وحزم وحسم في إتخاذ المواقف وإطلاق الأحكام . الحقيقة ان عنف خيري يتبدّى لتوّه مفاجئاً وصارما بالمقارنة مع لطفه السائد غالباً . من الممكن الإستعاضة ، في التوصيف ، عن كلمة عنف بتعبير الحزم الصارم لولا ان حزمه الصارم يخالطه  احياناً غضبٌ ملحوظ . لعل أطرف ما قيـل فيه ، على هذا الصعيد ، مقارنة عقدها منح الصلح بينه وبين محمد فائق ، احد الضباط المصريين الأحرار من رفاق جمال عبد الناصر الذي أضحى لاحقاً وزيراً للإعلام ورئيساً للمنظمة العربية لحقوق الإنسان . ففي رأي منح بك – وهذا لقبه المحبب لدى أصدقائه – ان محمد فائق عسكري يتصرف كمدني ، في حين ان خير الدين حسيب مدني يتصرف كعسكري !

لعلني ومنح الصلح وكثيرين من أصدقاء خيري لم تتح لنا فرصة معايشته قبل مجيئه الى لبنان منتصف السبعينات . لم نرافق ونعايش صعوده القياسي في عهدي الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف من أستاذ محاضر في قسم الإقتصاد في جامعة بغداد الى مدير عام إتحاد الصناعات العراقية ، فإلى محافظ البنك المركزي بدرجة وزير . في منصبه الأخير كان خيري احد ابرز مهندسي سياسات الحكومة بل ابرز صنّاع قرارها السياسي المتجه دائما وجهة التعاون مع مصر الناصرية . هذا الصعود اللافت في معارج صنع القرار أوقفه بغير رفق وثوبُ حزب البعث الى السلطة منتصف تموز/يوليو 1968، وإعتقاله بغير وجه حق . قليل من أصدقائه يعرف ما عاناه الرجل في معتقل " قصر النهاية " ، وما تركه ذلك في نفسه وسلوكيته من آثار. مع ذلك، لم يتصرف خيري حيال سجّانيه ، رؤساء ومرؤوسين ، تصرف الحاقد او الراغب في الإنتقام . بالعكس ، أظهر بعد خروجه  من السجن ومجيئه الى لبنان وإستئنافه العمل القومي فيه ومنه ، تسامحا غير مألوف بل غيرة وطنية على كل ما يتصل بحقوق العراق ومصالحه ، تعالت على جراحات تجربته المضنية في السجن . كان دائما مترفعاً في الآمه وآماله . أشهد انه ما من مرة كان خصمٌ او منافس او محاور يتهمه في حضوري بالتعاون مع حزب البعث ، حتى يكتفي بالإبتسام دونما تعليق ، فينبري أحياناً احد الحاضرين العارفين للتذكير بما عاناه من الحـزب  في السجن . أجل ، لم يكن شخصانيا في العمل الوطني ، ولم يترك لعواطفه فرصة لتطغي على الأهداف العليا في تفكيره وتدبيره .

لعل ميزة أخرى في شخصية خير الدين حسيب وسلوكيته جديرة بالتنويه . إنها استقلاليته الراسخة وإعتماده على نفسه . فهو حريص على عدم الإلتحاق بأية زعامة او مركـز قوة ونفوذ ، ولم يؤثر عنه توسطه لدى أي فرد أو جماعة في حياته المهنية والسياسية . ترسمل دائما على كفاءته العالية وعلى قوة شخصيته ومثابرته المرهقة على العمل وحسن الإنجاز ، فنال ما إبتغى بعرق جبينه ولم يرتهن لأحد. ولعل أبلغ تعبير عن شخصيته وقيمه وأخلاقه ونهجه في الحياة مضمون تلك اللوحة التي علّقها فوق مكتبه : الخبز مع الكرامة .

في سلوكه العائلي والإجتماعي أوحى خيري لي دائما انه ليبرالي معتدل. فهو خلوق وحريص على التمسك بالقيم العليا ، تفكيراً وممارسة ، إلاّ انه لم يكن متديناً ولا متزمتا.

هواية خيري هي مهنته ، والعكس صحيح . يمارس العمل في منزله و" العيش " في مكتبه ، لا فرق كبيراً بينهما . لا اذكر إنني إلتقيته مرةً في غير حالة عمل . يعيش ليعمل ويعمل ليعيش. لا وقت للراحة . الراحة الحقيقة عنده في العمل . يعطي نفسه سنوياً إجازة قسرية خلال شهر آب/اغسطس ليصرفها ، غالباً ، في إتصالات يجريها إنطلاقاً من منزله – مكتبه في لندن مع أصدقاء أو معاونين أو متعاونين ، ويكون مدارها عملاً مهنياً أو مهمةً قومية .

يكرّم خيري وزوجته شيرين الأصدقاء في منزلهما في بيروت ، وأحيانا في مطعم راقٍ غير بعيد منه . خيري كريم دونما تبذير ، وشيرين بارعة في تقديم المأكولات العراقية كتعبير وتعويض عن شوق عميق لموطن الطفولة والشباب .

في المنزل يفيض لطف خيري مع ضيوفه بسخاء عفوي أصيل . لكن في إدارة المؤتمرات والاجتماعات يتكشف " عنف " خيري غير المتأصل وغير المقصود. ذلك ان حرصه المفرط على النظام في ضبط الجلسات يجعل من مخالفة الحاضرين له مشكلةً شخصية مستعصية الحل . غير ان جرعة اللطف في مزيج شخصيته النادرة تذيب غالباً شطحة العنف الطارئ ، فلا يجد خيري غضاضـة في الإعتــــذار من " غريمه " عاجلاً أو آجلاً .

 

                                                II  المفكّر المدبّر

قال ديكارت : " أنا أفكّر، إذاً أنا موجود" . يخيّل اليّ أن خير الدين حسيب أضاف : " انا أفكّر وأدبّر ، اذاً أنا موجود" . التفكير مقرون دائما عنده بالتدبير. لا يُطلق فكرة إلاّ مقرونةً بمنهجية أو آلية لتنفيذها . لا يتبنى فكرة إلاّ إذا كانت قابلة للتنفيذ أو قادر هو على تنفيذها بشكل أو بآخر.

قلتُ له يوما إني اعتبر نفسي رجل أفكار idea manاو مولّد أفكار خام ، فأرجو ان تصغي إليّ لترى ما يمكن أن تتبناه منها ، فتبلوره وتضع له آلية للتنفيذ. وافق بسرور . كنتُ أداهمه أحيانا في مكتبه القريب من منزلي ، أو يهتف لي لألتقيه ، فأسرّ إليه بفكرةٍ أو برأي أو نجري مناقشة سريعة ، يُغني خلالها الفكرة الأصلية بجوانب وأبعاد ، ويجعلها مشروعاً قابل للتنفيذ للتوّ أو في يوم من الأيام .

لم اقصد أبداً القول أو الإيحاء بأنني مصدر لأفكاره . بالعكس ، كان مولد أفكار أكثر مني ، ومتقبّلاً لها من زملاء وأصدقاء غيري كثر ، وبعضها أو جُلّها يكون قد فكّر بها قبلي وقبلهم ، ومع ذلك يصغي بأناة ثم يدلي برأيه فيكتشف واحدنا انه سبقنا في التفكير بدليل ما يكون قد وفّر للفكرة المعروضة من منهج أو آلية للتنفيذ .

رافقتُ في حياتي وعايشت وشاركت كثيرين في شتى الحقول المهنية والثقافية والاجتماعية والسياسية ، فما وقعتُ على واحدٍ في وطننا العربي يجمع بعفويةٍ وإتقان في آن بين التفكير والتدبير مثل خير الدين حسيب . انه في هذا المجال فريد ونادر . عرفتُ وتعاطيت مع قادة كثر في ميادين السياسة والقانون والثقافة ، فوجدتُ بعضهم مفرطاً في التفكير النظري المجرّد ، وبعضهم الآخر موغلاً في الشؤون الإجرائية اليومية الضيقة ، وقلّما تسنّى لي أن أقع على واحدٍ من هؤلاء يرعى في شخصه كخيري توازنا فاعلاً بين التفكير والتدبير.

          لعل فرادة خير الدين حسيب تتجلى بل تسطع عندما يتجول واحدنا ويتوغل في أرجاء عالمه الخاص، المميز والنادر : مركز دراسات الوحدة العربية . انه ، في آن ، صرح للثقافة العربية شامخ ، ومؤسسة للإبحاث والدراسات متمرسة وثرّة ، ودار للنشر غزيرة الإنتاج ، ومولّد أفكار وأراء ومبادرات ومواقف وأنشطة ومؤسسات تتناول مختلف حقول الحياة العربية . أثرى المركز الفكرَ والثقافة والمكتبة العربية منذ إنطلاقه على يدي الأب المؤسس لثلاثين سنة خلت ، بنحو 840 مجلّد تتناول مختلف أفرع المعرفة لاسيما منها التاريخية والثقافية والعلمية والفنية والاقتصادية والسياسية والإنمائية .

          لعل ابرز ميزات مركز دراسات الوحدة العربية انه المؤسسة العربية القومية الوحيدة ، ربما ، التي حافظت على إستقلاليتها الصارمة إزاء النظم العربية المتناحرة طيلة السنين الثلاثين الماضية . اذا كانت مؤسسات اخرى في وطننا العربي تضاهيها في هذا المجال فإن عددها لا يزيد قطعا عن أصابع  اليد الواحدة . ذلك كله أصبح ممكنا بفضل إصرار  خيري على التمسك بإستقلاليته كما باستقلالية المركز الذي يدير. فهو رفض دائما أي دعم أو مساعدة أو هبة مشروطة من أية جهة كانت . لهذا السبب الرئيس اكتسب خيري كما مركز دراسات الوحدة العربية صدقية ساطعة في طول الوطن العربي وعرضه ، بين أهل الفكر والثقافة والسياسة وقادة العمل الشعبي والنقابي . والجدير بالذكر ، هنا ، ان لخيري براعة لافتة في إستدرار التبرعات للقضايا والمشاريع القومية . ولعل ابرز إنجازاته على هذا الصعيد قيامه شخصياً بإنشاء  ثلاث مؤسسات رافدة للثقافة العربية ، والعمل القومي ، وتكريم ذكرى جمال عبد الناصر :

المؤسسة الثقافية العربية  رفدت وترفد بعض الأنشطة الثقافية العربية بدعم مالي يربو على 250,000دولار اميركي سنويا.

الصندوق القومي العربيدعم ويدعم بعض الأنشطة القومية بمساعدات مالية تربو على  300,000دولار اميركي سنويا .

وقفية جمال عبد الناصر رعت وترعى كرسيا للفكر القومي وجائزة مقدارها 50,000دولار اميركي لصاحب أثر فكري أو أدبي او ثقافي او سياسي مميّز له صلة بفكر عبـدالناصر ونضاله ، وكان أول من نالها الصحافي والكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ، ومن ثم الرئيس الدكتور سليم الحص . كما ترعى وقفية جمال عبد الناصر أنشطةً ثقافية متنوعة في إطار أهداف ثورة 23يوليو / تموز .

لخيـر الدين حسيب في إطار مركز دراسات الوحدة العربية إنجازات كبرى أخرى . ذلك ان من رحم مركز دراسات الوحدة العربية ولدت منظمات علمية وأكاديمية وثقافية عدة ، كان لخيري دور رئيس في إنشائها وتطويرها ، منها : الجمعية العربية لعلم الاجتماع ، ومركزها تونس ؛ الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية ، ومركزها القاهرة ؛ الجمعية الفلسفية العربية ، ومركزها عمان ؛ والجمعية العربية للعلوم السياسية ، ومركزها القاهرة . كما اضطلع خيري بدور رئيس في إنشاء عدد من المنظمات غير الحكومية ، منها : المؤتمر القومي العربي ، ومركزه بيروت ؛ المؤتمر القومي – الإسلامي ، ومركزه بيروت ؛ المنظمة العربية لحقوق الإنسان ، ومركزها القاهرة ؛ والمنظمة العربية للترجمة ، ومركزها بيروت ؛ والمنظمة العربية لمكافحة الفساد ، ومركزها بيروت .

خير الدين حسيب في تفكيره تجلّى في العديد من الأعمال المطبوعة باللغتين العربية والإنكليزية ، منها : " الدخل القومي العراقي ، 1961-1953؛ و " إشتراك العمال في إدارة المشاريع في البلدان العربية  " ،1971  ؛ " ومصادر الفكر العربي الاقتصادي في العـراق ، 1971-1900" ، 1972  ؛ و " مستقبل العراق " الصادر مؤخرا بالعربية والإنكليزية . غير ان أهم إنجازات خير الدين حسيب ، في رأيي ، تصميمه وإدارته وإخراجه للموسوعة الفكرية – السياسية الاستراتيجية " مستقبل الأمة العربية : التحديات والخيارات " ، وإسهامه الفكري فيها .

الى جانب هذه الأعمال الشامخة ، تزخر مجلة " المستقبل العربي " الشهرية التي اضطلع خير الدين حسيب برئاسة تحريرها ، بمئات الابحاث والدراسات والمقالات والتعليقات التي كتبها او شكّلت إسهاما منه في ندوات وحلقات نقاشية إنعقدت في شتى العواصم العربية وتناولت شتى قضايا الحياة العربية وهمومها.

الى "المستقبل العربي" ، تصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية بإشراف الدكتور حسيب مجلة "بحوث اقتصادية". (فصلية) ، ومجلة "إضافات" (فصلية) ، و"المجلة العربية للعلوم السياسية" (فصلية)، ومجلة"Contemporary Arab Affairs”(فصلية) بالإتفاق مع دار النشر Routledge.

بكل هذه المبادرات والإسهامات والإنجازات أسس وبنى وشارك هذا المفكر  المدبر في إطلاق حركة قومية عربية متجددة ، وزودها بقيم ومضامين فكرية وسياسية ونضالية ، وجهزها بآليات ومؤسسات وأدوات معرفية ومنهجية وعملية وكفاحية ، ورعى مسارها وأداءها ، وحرص على نقدها وتطويرها .

 

IIIالإنسان الرائد المجاهد

في شخصية خير الدين حسيب وإهابه إنسان ثالث يتمازج ويتعايش ويتنافس مع إنسانه اللطيف العنيف وإنسانه المفكر المدبّر. إنه الإنسان الرائد المجاهد . خير الدين حسيب رائد في تفكيره وتدبيره ، بمعنى انه يرود دائما عوالم وحقولاً وموضوعات لم يسبقه إليها احد . غير ان ريادته كانت وتكون دائما مقرونة بجهاده. انه رائد ومجاهد في آن. إذ يطرح كإنسان مفكر مدبّر فكرةً أو مشروعاً ، تراه في ما طرح رائداً يتقدم أسلافه وأقرانه ويجاهد بالتفكير والتدبير ، بالعمل والأمل ، بالمال أحياناً وحسن المقال دائما من اجل تحقيق فكرته الرائدة أو مشروعه الرائد .

خير الدين حسيب كان رائداً في إطلاق حركة تجديدية في داخل الحركة القومية منطلقاً من مؤسسة بحثية. غير أن ريادته في تجديد الفكر القومي العربي إقترن دائما بمناهج ومبادرات وجمعيات ومنظمات  ولدت من رحم مركز دراسات الوحدة العربية او تفرّغت عنه ، على نحو ما سبق بيانه.

لم أشاركه ، تفكيراً وتدبيراً ، في كل ما صدر عنه شخصياً أو في إطار مركز دراسات الوحدة العربية  من مبادرات وجمعيات ومنظمات رائدة في مضمونها أو في منهجية متابعتها وتحقيقها ، وإن كنتُ وغيري كثيرون شاطرته جهاده الرائد من اجل إنجازها .

أذكر إنني جئته في احد الأيام بفكرة جديدة مفادها ان الحركة القومية هي أكثر وأوسع من الأحزاب التي ترفع راية الوحدة العربية بصرف النظر عن مدى جديتها في هذا المجال . إنها في الواقع إئتلاف عريض يضم أحزابا ومنظمات وجمعيات ونوادٍ وجمهوراً واسعاً من الملتزمين بها إنما من موقع الإستقلال. الملتزمون المستقلون عن الأحزاب ، لأسباب معظمها مشروع ، هم الجسم الحقيقي والأكبر للفكرة العربية ولحركة الوحدة ، وانه يقتضي إيجاد إطار فكري – سياسي لتعبئتهم من اجل ضمان مشاركتهم في المجهود الرامي لتجديد الحركة القومية العربية . ذلك يتمّ بتزويجها بالعمل الديمقراطي وتحريرها من اسر السياسيين المحترفين والوصوليين ، ووضعها في عهدة القوى الحية في الأمة التي تعيش هموم شعبها وتشاطره الآمه وآماله.

راقت الفكرة لخير الدين حسيب ، ولعلها كانت خطرت في باله، فطلب مني التوسع في طرح حيثياتها ومنهج تحقيقها في مقال. بادرتُ فورا إلى وضع دراسة بعنوان " من التعدد إلى التوحد : نحو مرجعية عربية اتحادية" . فكرنا سويةً في كيفية طرحها على أهل الرأي والقوى الحية . كانت الحرب العراقية – الإيرانية ، منتصف الثمانيـات ، قد بلغت أوج عبثيتها المدمرة الأمر الذي إستنفر بعض قادة الرأي إلى المبادرة لإطلاق نداء إلى القوى الحية في الأمة في يوم الوحدة العربية (1986/2/22) من حرم ضريح الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة . توخى النداء ،الذي تلوته بطلب من أصحاب المبادرة ، وبإسم أكثر من خمسين كاتبا وقائداً نقابيا وسياسيا مناضلا من شتى الأقطار العربية ، أن نشهد للوحدة العربية في زمن تفاقم أخطار التجزئة والتشرذم والهيمنة والتبعية وإستفحال مأساة "حرب إيرانية – عراقية تشد أنظار العرب والمسلمين بعيدا عن فلسطين ويتهدد فيها التراب القومي ويجري إستغلالها لإستنزاف القوى المعادية للاستعمار والتبعية على ضفتي الخليج وللإيقاع بين العروبة والإسلام وفصم ترابطهما الحضاري " .

رافق مناسبة إطلاق النداء وأعقبها إجتماع موسع ، نظّمه خير الدين حسيب ، للمبادرين إليها والمشاركين فيها ، طرحتُ خلاله الأفكار الواردة في دراستي حول المرجعية العربية الاتحادية. انتهى الإجتماع والمناقشة الثرّة التي جَرَت فيه إلى تأليف لجنة متابعة من اجل العمل على تحقيق الفكرة المطروحة ، كما طلبوا إليّ تنقيح الدراسة ونشرها ، فكان ان ظهرت في صحيفة " السفير" في جزئين بتاريخ 25و26تموز/يوليو1986، وفي مجلة " الشراع" بتاريخ 28تموز 1986.

إذ شـارك خير الدين حسيب منذ البداية في إطلاق فكرة " المؤتمر القومي العربي" ، فقد إنصرف إلى  تحقيقها بالتعاون مع " فريق عمل " غير معلن ضمّني والإخوة احمد صدقي الدجاني ومحمد فائق ومعن بشور وآخرين . وقاد خيري، إلى جانب إلتزاماته الأخرى الكثيرة في مركز دراسات الوحدة العربية وغيره ، جهوداً وإتصالات واسعة لتظهير فكرة المؤتمر وتحقيقها إلى ان تكللت بالنجاح بعقد المؤتمر القومي العربي الأول في تونس خلال شهر آذار/ مارس1990. ومنذ إجتماعه الأول ، عقد " المؤتمر القومي العربي " اربعة وعشرين إجتماعاً سنويـا ناقش خلالها تقارير عــن " حال الأمة " وقضايا رئيسة تتناول حاضرها ومستقبلها وإتخذ في شأنها القرارات  والتوصيات اللازمة.

كان خير الدين حسيب ، إذاً ،  الأب المؤسس لـِ  " المؤتمر القومي العربي" الذي أنتخبه أمينا عاما له في إجتماعه الأول وجدد إنتخابه لسنوات عدة ، وهو الى ذلك عضو في أمانته العامة منذ تأسيسه ، وموجّه ومشارك فاعل في جميع أنشطته .

فكرة " المؤتمر القومي العربي " كانت رائدة . كذلك كانت مقاربة خير الدين حسيب لعملية تأسيسه وإدارته ونقده وتطويره. نهج الريادة لم يتجلَ في فكرة المؤتمر فحسب بل في اختيار المؤسسين أيضاً من بين شخصيات قومية نقية السيرة ، عالية الكفاءة والخبرة ، ملتزمة قضايا الأمة ومعاينة هموم شعبها ، وموزعة على أقطارها جميعا. كما تجلت الريادة في منهج العمل إذ كان خير الدين حسيب حريصا على تأليف لجنة من كبار الأساتذة الجامعيين والخبراء والعاملين في الحقل العام ، مهمتها مناقشة حال الأمة والخروج بتقرير وافٍ عنها ليكون بمثابة ورقة عمل مرشدة للمناقشات في اجتماعات " المؤتمر القومي العربي".

هذه الريادة في التأسيس والنقد والتطوير إلتزمها خير الدين حسيب في المنظمات والجمعيات والمبادرات الأخرى التي أطلقها أو شارك في تأسيسها أو تفرعت عن أنشطة مركز دراسات الوحدة العربية .

في موازاة دوره رائدا في تفكيره وتدبيره ، كان خير الدين حسيب مجاهدا أيضا في العمـل والكفاح لتحقيق أفكاره وأهدافه ، بمعنى انه كان رائداً في المبادرة ومجاهداً في التنفيذ والمتابعة . غير ان جهاده لم يقتصر على عمله في ميادين المنظمات والجمعيات والأنشطة التي أطلقها بل تجلّى أيضا في المواقف الوطنيةوالقومية التي إتخذها والمبادرات والسياسيات التي أطلقها ومارسها حيال قضايا كبرى واجهت الأمة في مختلف مراحل تاريخها المعاصر.

هذا الجانب من ريادته وجهاده يتجلى، أكثر ما يكون ، خلال الأزمات الكبرى التي عانت منها الأمة ، وما زالت ، في فلسطين ولبنان والعراق .

هزته بعنف هزيمة مصر الناصرية في حرب 1967. بادر على رأس مجموعة من أهل الرأي في العراق إلى مواجهتها ، فكرياً وسياسياً وتنظيمياً . قيل انه كان صاحب الإقتراح القاضي بإنشاء التنظيم الطليعي ( السري) في داخل الإتحاد الإشتراكي العربي ليكون ، في آن ، نواة نضالية صلبة لتفعيله مصريا ، ومنطلقاً تنظيمياً لحركة تحرير عربية . حتى لو كان غيره صاحب ذلك الإقتراح ، فالثابت أن خير الدين حسيب كان من أوائل المنخرطين في ذلك التنظيم والمناضلين في صفوفه . مبادئه وحميته وتطلعاته القومية التجديدية حملته على تخطي صفته البيروقراطية كمحافظ للبنك المركزي العراقي بدرجة وزير ، وزجّته في معركة مواجهة العدو الاميركي – الصهيوني بلا هوادة .

لست ادري حصيلة قراره الرائد بالإنتماء إلى التنظيم الطليعي والعمل على مقربة من جمال عبد الناصر . غير إنني اعلم ان خير الدين حسيب إتخذ قراره هذا في إطار قومي يتخطى ظروفه الشخصية والعراقية . اجل ، قرر ان يعمل بل ان يجاهد لخدمة قضايا الأمة بمقاربة جديدة فكرية وتنظيمية . في هذا القرار نعثر على بذور مركز دراسات الوحدة العربية والمنظمات القومية والديمقراطية والعلمية التي ولدت في رحمه أو تفرعت عنه . فما ان خرج من السجن حتى جاء إلى لبنان في منتصف السبعينات ومراده الاستفادة من مناخ الحريات في ربوعه لمباشرة ريادته المنهجية والفكرية وجهاده السياسي.

ريادته المنهجية تلك تجلّت في مواضيع منشورات مركز دراسات الوحدة وفي محتويات مجلة " المستقبل العربي " ، ولاسيمــا في النـدوات الفكريـة الموسعــة ( اكثر من 55 ندوة و76 حلقة نقاشية) ... التي عالجت قضايا الأمة بمشاركة نوعية من مفكريها وباحثيها وسياسييها وأصحاب الكفاءات النوعية فيها . فلا غرابة إزاء هذه الجهود والإنجازات العظيمة ان يمنحه رئيس الجمهورية اللبنانية العماد اميل لحود وسام الارز من رتبة كومندور "تقديراً لعطائه الفكري القيّم وتثميناً لجهوده ودوره المميز في إنشاء المركز المذكور وتحويله الى احد اهم مراكز البحث والنشر في لبنان والعالم العربي" ، وان يمنحه الرئيس العماد ميشال سليمان الجنسية اللبنانية.

في موازاة عمله العلمي والبحثي ، كان لخير الدين حسيب ، وما زال ، دور لافت ومؤثر في الحقل العام دفاعاً عن قضايا العرب في المحافل القطرية والقومية والدوليـة . لعل ابرز ما لفتني ، في هذا المجال ، دوره أثناء الحرب العراقية – الإيرانية . لم يجد للحرب أية جدوى بل ، بعكس ذلك ، إعتبرها مؤذية ومضرّة بشعبي الدولتين الجارتين ومصالحهما ، ولا تخدم إلاّ الأغراض والمصالح الإستراتيجية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل . حاول مع آخرين من رأيه وعلى سويته وبوسائل متعددة وقف الحرب ، متحاشياً لوم أيٍّ من الطرفين إنما دونما طائل . لكنه في منتصف الثمانيات وقّع نداء يدعو الى وقف الحرب يتضمن موقفاً من طرفيها بلومهما معا : العراق لمباشرته الحرب دونما مسوّغ شرعي ، وإيران لإمتناعها عن وقفها رغم قرار مجلس الأمن الدولي وإجماع الرأي العام الإسلامي على ذلك .

لعل هذا الموقف من الحرب وغيره من المواقف والدوافع والأغراض حمل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر وسوريا ، العام 1986، على إجراء مفاوضات سرّية من اجل وضع حدّ لها . وقد إنتهت المفاوضات إلى وضع سيناريو لوقفها على النحو الآتي :

·        تعلن كِلا الدولتين وقف إطلاق النار إستجابةً لقرار مجلس الأمن الدولي .

·        يصار الى الإطاحة برئيس النظام العراقي ( صدام حسين ) على ان يبقى نظام البعث حاكما لتفادي قيام نظام إسلامي موالٍ لإيران .

·        يكون لسوريا دور فاعل في توجيه النظام العراقي بعد إطاحة صدام.

·        يجري إختيار محمد حديد أو خير الدين حسيب رئيسا للعراق بديلا من صدام.

·        تباشر الدولتان مفاوضات برعاية الأمم المتحدة لتسوية النزاع بينهما .

جرى التخلي لاحقاً عن خيار محمد حديد ليكون خير الدين حسيب هو خيار الدول الخمس جميعاً. لكن حسيب رفض العرض بإباء لأسباب عدّة ليس اقلها إصراره على حق الشعب العراقي في اختيار رئسيه وحكومته بحرية وديمقراطية ومن دون أي تدخل من أية جهة خارجية .

يبدو ان صدام حسين اكّبرَ في خير الدين حسيب وطنيته وشهامته وترفعه عن الإنتقام رغم كل من ألحقه به من أذى إبّان إعتقاله في " قصر النهاية " ، فكان حريصا بعد إجلاء قواته عن الكويت العام 1991، وقيام القوات الاميركية بتعقبها في عمق الجنوب العراقي بعض الوقت ، على إستشارته في ما يجب عمله لضمان وحدة العراق وحريته واستقلاله . إرتفع خير الدين حسيب على جراحه مرة أخرى ووافق ، بناء على رجاء خاص وحارّ من صديقه الدكتور سعدون حمادي ، رئيس الحكومة آنذاك ، على الاجتماع الى صدام وإبداء رأيه بصراحة . بعد الاجتماع ترَدَدَ أن صدام عرض عليه ان يكون نائبا لرئيس الجمهورية او رئيسا للحكومة ، لكن خير الدين حسيب رفض بلا تردد .

رفض خير الدين حسيب حكم العراق ، لكنه لم يرفض بطبيعة الحال العمل من أجل تحرير العراق وإعادة بنائه . لذلك تراه في السنوات العشر التي تلت زيارته الخاطفة لبغداد العام1991قد باشر حملةً سياسية إعلامية بكل الوسائل المتاحة لديه لفضح مؤامرة الحصار والعقوبات المفروضة على العراق والتي جاوزت ضحاياها المليون ونصف المليون عراقي .

 لا أغالي اذا قلت إن حملته الجهادية ضد الحصار والعقوبات على امتداد تلك السنوات كانت أقوى وافعل وأفضل بمراحل من الحملة التي شنتها الحكومة العراقية في هذا المجال . في اطار هذه الحملة ، قام  بتجميع المعلومات ، وإجراء المسوحات والإحصائيات ، وتنظيم الاجتماعات  والندوات والمحاضرات ، وتأليف الكتب ، وكتابة التعليقات والمقالات ، والقيام بإتصالات واسعة ومتشعبة شملت مئات الشخصيات والأحزاب ووسائل  الإعلام ، ومراكز الأبحاث ، والسفارات في مختلف العواصم والبلدان .

هذه الأنشطة جميعا وأكثر منها قام بها خير الدين حسيب بلا كلل أو ملل ، مرة أخرى ، بعدما كشّر جورج دبليو بوش عن أنيابه لاحقاً ليشن الحرب على العراق بدعوى حيازته أسلحةً للدمار الشامل وإتصاله بمنظمة " القاعدة " قبل أحداث 2001/11/9وبعدها . وقد بلغت تحركات خير الدين حسيب على الصعيد الشعبي ذروتها بعقد المؤتمر القومي العربي الحادي عشر في بغداد خلال شهر ايار / مايو 2002.

بعد إحتلال العراق في آذار/ مارس 2003كثّف خير الدين حسيب جهـاده بتفعيل الأنشطة المار ذكرها على نطاق أوسع بعد ان أضاف إليها نشاطاً جديداً ، تولاّه شخصياً ، بأن نظّم عملية رصد وتوثيق شاملة لكل الواقعات والمعلومات والحوادث والأحداث والمقالات والدراسات والتحقيقات والندوات والاجتماعات والمفاوضات والملاحقات والعمليات التي تقوم بها المقاومة العراقية ، والمؤتمرات والإحصائيات وحصاد المعارك والإغتيالات وقرارات الأمم المتحدة ووكالتها وبيانات القوى السياسية والدول والهيئات الدولية المتعقلة بالإحتلال الاميركي للعراق ومقاومة العراقيين الضارية له ليل نهار. واخذ يوزع حصيلة هذه الأنشطة جميعاً يوميا ، نعم يوميا ، في ملفٍ جامع على مختلف الشخصيات والقوى السياسية والصحف والمجلات والفضائيات التلفزيونية في الوطن العربي والعالم الإسلامي ودول العالم الأوسع بقدر ما يطيق ويستطيع . هذا فضلاً عمّا كان يقوم به من مقابلات تلفزيونية في شتى الفضائيات العربية والأجنبية والمحاضرات التي ألقاها وما زال في شتى عواصم القرار ، وكان آخرها في واشنطن خلال شهر نيسان / ابريل 2006.

رائد مجاهد هو هذا الإنسان اللطيف العنيف ، المفكر المدبّر ، المترع بالوطنية الصادقة والإلتزام القومي الإنساني ، والمشارك  بفكره ونضاله وقيادته وتعاونه الحميم مع نخبة من أبناء جيله وعارفيه وقادريه في تجديد الحركة القومية العربية الديمقراطية وبلورة مشروعها الحضاري العربي المتمثل في أهدافه الستة : الوحدة العربية ، الديمقراطية ، الاستقلال الوطني والقومي ، العدالة الاجتماعية ، التنمية المستقلة، والتجدد الحضاري.