تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

تكريم الدكتور عدنان الأمين

إنطلياس في 2014/3/12

---------------

جورج أبي صالح

        يسرّ الحركة الثقافية – انطلياس أن تفتح الليلة صفحة جديدة مشرقة في سجلّ تكريم أعلام الثقافة، الذي درجت عليه منذ تسعة وعشرين عاماً، في إطار المهرجان اللبناني للكتاب، الذي يبلغ اليوم سنته الثالثة والثلاثين. ويسرّنا بخاصة، بل يشرّفنا أن يكون الدكتور عدنان الأمين في عداد المكرّمين هذه السنة.

 

الدكتور عدنان الأمين عصاميّ بامتياز. فإبن الجنوب هذا لم تحدّ من طموحاته محدوديّةُ إمكانات البيئة التي وُلد ونشأ فيها. فقد نهل العلم بمختلف مراحله من مؤسسات القطاع العام : المدرسة الرسميّة ثم الجامعة اللبنانية ، قبل أن يتسنّى له في مرحلة لاحقة ومتقدّمة الإنتقال الى فرنسا والولايات المتّحدة الأميركية سعياً وراء المزيد من التحصيل، بعد شهادة الكفاءة من كلية التربية. وهكذا، شكّل عدنان الأمين مثالاً آخر على عزم اللبنانيّ في طلب العلم والترقّي وعلى قدرته على النجاح  بل التفوّق، رغم كلّ الصعاب.

 

عدنان الأمين مربٍّ، مارس التعليم بمختلف مراحله الإبتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية. وبالتالي، فهو مُمارس للمهنة قبل أن يكون منظّراً لها وفيها. مهنةٌ شاءها رسالة حياة، إذ كرَّس حياته لعائلته ولها.

عدنان الأمين تربويّ، والتربية غدت عنده قضيّة، محورها الإنسان، وساحة نضالها الوطن الصغير لبنان ومحيطه العربي الواسع. ولبنانياً ، يحتلّ عنده التعليم العام ما قبل الجامعي، ووضع الجامعة اللبنانية، مركز الثقل في القضيّة التربوية.

 

عدنان الأمين باحث، أمضى قسماً كبيراً من حياته المهنيّة في القيام بأبحاث في شؤون التربية والتعليم، يقيناً منه بأن للبحث العلمي دوراً أساسيّاً في الحياة الأكاديميّة الجامعيّة وفي خدمة التقدّم والإنسانية. وهو كاتب غزير الإنتاج ، تناولت أعماله البحثيّة بنية النظام التربوي بمُدخَلاته ومُخرَجاته وبنيةَ العملية التعلّمية بمكوّناتها كافة : المعلّم والتلميذ والكتاب ووسائل التعليم والتقييم. وهو باحث متنوّع المهام والأدوار، راوحت مساهماته بين القيام بدراسات إفرادية والمشاركة في أبحاث جماعية والإضطلاع بمهمّة الإشراف والتنسيق.

 

عدنان الأمين مثقّف متنوّر، في كتاباته التزامٌ واضح بقضايا الإنسان والوطن والعالم العربي ، وحرصٌ جليّ على ديموقراطية التعليم بمختلف أبعادها الكميّة والنوعيّة ، وعلى تطوير القطاع التربوي اللبناني والعربي كسبيل أجدى لكسب رهان المستقبل، سواء في معركة الإنتقال من  التخلّف الفكري والتصحّر الذهني الى رحاب الانفتاح والحداثة أم في معركة التنمية الإجتماعية والإقتصادية الآيلة الى تأمين كرامة ورفاهية الفرد والمجتمع.

 

من هذا المنظور ، بات نتاج عدنان الأمين وإسمه مرجعاً من مراجع المكتبة التربوية اللبنانية والعربية ، وحضورُه ومساهمته من ثوابت نشاطات ومنشورات المنظّمات الإقليمية والدولية العاملة في الحقل التربوي ، لا سيّما في بلدنا ومنطقتنا العربية.

 

أيّها السيّدات والسادة،

 

في رأينا المتواضع أن التعليم الرسمي في لبنان مهدّد فعلاً بالسقوط التام نتيجة تقهقر نوعيّته ، وبخاصة تراجع مستوى أداء المعلّمين بعد تعطيل دور المعلّمين والمعلّمات لسنوات طويلة وتغيير نظام كليّة التربية كمؤسّسة مولجة بإعداد وتأهيل نُخَبٍ مختارة من أساتذة التعليم الثانوي. فإنقاذ التعليم العام في لبنان بات شبه متعذّر خارج إطار الجودة ، ولا سيّما جودة الكفايات البشرية.

أما الجامعة اللبنانية، فلا أمل بإصلاح أحوالها خارج إطار الإستقلاليّة التامة عن السلطة السياسيّة واعتماد المعايير الأكاديميّة وقواعد الإدارة الرشيدة في تولّي شؤونها.

 ومعلوم أن القطاع التعليمي العام في لبنان نال الحصة الكبرى من اهتمامات الدكتور عدنان الأمين وأعماله على مدى أربعة عقود.

 وهكذا، فإن هذه الشخصيّة العلميّة ، المجتهدة ، المنتجة والملتزمة استحقّت من الحركة الثقافية – إنطلياس إدراج اسمها على لائحة الرعيل التاسع والعشرين من أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي.

 وحركتنا ، إذ يسرّها اليوم تكريم الدكتور عدنان الأمين ، تدرك أن مزيّة الرجل لا تقتصر على عطاءاته الأكاديميّة والفكريّة، ولا على إسهاماته في تطوير القطاع التربوي اللبناني والعربي، بل تتعدّى ذلك الى مناقبيّته ، ودماثة خلقه، ورسوخ أصالته، وتواضع شخصه.

لأجل ذلك، حظيالدكتور عدنان الأمين طوال مسيرته المهنيّة والأكاديميّة باحترام وتقدير الوسط التربوي والجامعي في لبنان والعالم العربي.

فأهلاً بك، يا دكتور عدنان، علَماً مكرّماً من أعلام التربية والثقافة في لبنان والعالم العربي، تستضيفك الحركة الثقافة – إنطلياس للاحتفاء بك، وهي مفعمة، غبطةً واعتزازاً.

وشكراً لكم...

 

جورج أبي صالح

 

التمهيد  للدكتور منير بشّور

-------------

 

        جرت العادة على أن تطلب الحركة الثقافية- إنطلياس ، بعد التشاور والتنسيق مع المحتفى به في مثل هذه اللقاءات التكريمية من إحدى الشخصيّات الفكرية المتابعة  لمسار العلَم المكرَّم أن تقوم بمهمّة التعريف بأعمال المحتفى به والإحاطة الوافية ، قدر المستطاع ، بنتاجه ومساهماته في حقل اختصاصه.

 

        هذه المهمّة الدقيقة والشاقّة رست في جلستنا هذه العشيّة على أحد زملاء وأصدقاء المحتفى به ، صديق حركتنا التي سبق أن استضافته مراراً محاضراً على منبرها وتشرّفت بتكريمه ، هو أيضاً ، عام 2009 في عداد الرعيل الرابع والعشرين من أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي، والذي يُعدّ من أبرز وألمع التربويّين العرب وأكثرهم حضوراً وإشراقاً وإنتاجاً : البروفسور منير بشور.

 

        دكتور بشّور، مرّة أخرى ، نحن سعداء بتشريفك منبر حركتنا، شاكرين لك تلبية دعوتنا الى هذه المناسبة الحلوة وتجاوبك مع رغبتنا المشتركة ، نحن والدكتور عدنان الأمين ، في أن تتولّى تقديمه.

 

        عزيزَنا الدكتور بشّور، أهلاً بك ، والكلام لك.

 

------------------------------------

كلمة في تكريم عدنان الأمين

منير بشّور

الحركة الثقافية--انطلياس

يسعدني ويشرّفني ان أتولّى من على هذا المنبر المشعّ،  تقديم صديقي وزميلي ورفيق دربي في غياهب التربية والتعليم،  العزيز الدكتور عدنان الأمين، موضع التكريم والحفاوة في هذه الأمسية.  وقبل هذا وبعده، اتوجه بالشكر المجبول بالتقدير والمحبة،  لرئيس هذه الجلسة،  الصديق العزيز جورج أبي صالح لكلماته الطيبة، ومن خلاله الى الصديق العزيز عصام خليفة، الأمين العام لهذه الحركة المباركة في انطلياس، الحركة الثقافية في انطلياس، ومن خلالهما الى جميع أعضائها والعاملين فيها، والداعمين لها، لأنهم لا يكلّون عن تذكيرنا، عاماً بعد عام، وفي مطلع الربيع من كلّ عام، ان مشعل الثقافة والعلم والإبداع ما زال مشعّاً في لبنان، بالرغم من إشتداد الأنواء والعواصف والظلمات حولنا، وفي كلّ إتّجاه، وبالرغم من قساوة القلوب، وجلافة الكلام.  التحية والتقدير لهم جميعاً، والتحية والتقدير لكم أيها الكرام، لحضوركم ومشاركتكم في تكريم عدنان الأمين.

 

كيف لي أن أقدّم عدنان الأمين اليكم؟  من أين أبدأ، وكيف؟

لعلّني أبدأ بالأبسط والأسهل، وهو التعريف به، وبسيرته الشخصية.

سأتاغافل عن الإشارة الى عمرعدنان أو تاريخ ميلاده، فهو أصغر منّي في العمر بكثير.  وإذ ننظر في سيرته الشخصية،  نجد انه إلتحق بالمدرسة الإبتدائية متأخّراً، عندما كان في السابعة من العمر، وكان ذلك في النبطية، في المدرسة الرسمية، حيث أكمل دراسته الإبتدائية، ثم المتوسطة، إنتقل بعدها الى بيروت، والتحق بدار المعلمين الإبتدائية فيها، ثم بكلية التربية في الجامعة اللبنانية، حيث جمع، ككثيرين من المناضلين ذوي الأكتاف القوية، بين التدريس في المدارس الإبتدائية والمتوسطة، وبين متابعة الدراسة، فحصل على شهادة الإجازة، ثم الكفاءة في التعليم الثانوي، وكان ذلك في العام 1971،وهو في الرابعة والعشرين من عمره.  إلى هذا الحدّ، بامكاننا القول إن عدنان كان نتاجاً تربوياً صرفاً، يحمل طابع القطاع التربوي الرسمي في لبنان، مائة بالمائة،  إبتداء من النبطية ووصولاً الى بيروت.  ولكن بعد فترة قصيرة،  تقارب السنتين، نرى الرياح تحمل عدنان باتجاه الدراسة خارج لبنان، فسجّل في فرنسا، في السوربون، لمتابعة الدراسة،  وحصل في العام 1977، على شهادة الدكتوراة حلقة ثالثة في سوسيولوجيا التربية، عيّن على إثرها أستاذاً معيداً متفرّغاً في الجامعة اللبنانية.  وبعد عشر سنوات ثُبّت في ملاك الجامعة بينما كان،  في الوقت ذاته،  يتابع دراسته في السوربون.  وفي العام 1991 حصل على شهادة الدكتوراة دولة من السوربون.  وبعد عامين من ذلك نجد ان الرياح تحمله  مجدداً الى خارج لبنان، ولكن هذه المرّة  الى مسافات أبعد، الى الولايات المتحدة الأميركية،  حيث أمضى في العام 1993/1994 سنته الدراسية السابعة،  وأعاد الكرّة في العام 2005، أي بعد إثنتي عشرة سنة من ذلك، حين أمضى سنته الدراسية السابعة مرّة ثانية في الولايات المتحدة، عاد بعدها الى عمله في الجامعة اللبنانية، وفي الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية، وفي غيرها من المؤسسات والهيئات التي ساهم في إنشائها خلال هذه الفترة.  ثم بعد ثلاثة أعوام،  اي في العام 2008، نجد مفاجأة في انتظارنا،  إذ ان عدنان استقال من الجامعة اللبنانية ، وكان ذلك قبل بلوغه سن التقاعد، والتحق بالمكتب الإقليمي لليونسكو كمستشار للتعليم العالي، متابعاً أعماله الكثيرة، مشرفاً وموجهاً ومشاركاً في مشاريع كثيرة ومتعدّدة.

إنها سيرة حافلة وغنيّة، وهي أيضاً مستقيمة، بمعنى انها لم تحد، منذ إنطلاقتها، عن سياق التربية والتعليم، وهي سارت في هذا السياق، في شعابه وتعرّجاته ومنعطفاته، فوسّعت بعضها، وعمّقت بعضها الآخر، كما أنها شقّت مسارات او مداخل جديدة عليه، كانت كمثل النوافذ المشرعة تستجلب الضوء الى الأماكن والزوايا المغلقة.

 

ولعلّي أشرح هذه السيرة، وأعرضها عليكم من خلال تحقيبها أو مرحلتها، والنظر في المعالم الأساسية لمساهمات عدنان في كلّ منها، في الإنجازات والعطاءات التي قدّمها، كما في الأسئلة والتحدّيات التي طرحها، وفي المصاعب التي واجهها:

لقد ذكرت من قبلان عدنان كان،  حتى العام 1971 ، نتاجاً تربوياً صرفاً من معجن القطاع الرسمي للتعليم في لبنان.   ولعلّنا نضمّ السنوات الست التالية الى هذه المرحلة،  لنصل الى العام 1977، عام حصوله على الدكتوراة حلقة ثالثة من السوربون، ونعتبر ان هذه كانت المرحلة الأولى في حياته المهنية، مرحلة التأسيس، وإرساء القواعد، وتثبيت المواقع، والتعرّف على ملامح الآفاق البعيدة خارج لبنان، خاصة في السنوات الأخيرة من هذه المرحلة.  كانت هذه المرحلة كلها مشغولة بالدرس والتدريس، ولا نجد لعدنان خلالها إنتاجاً منشوراً أو مساهمات في التأليف والنشر.  لهذا نتركها بسرعة لندخل مرابع المرحلة الثانية، والتي امتدّت لما يقارب الخمس عشرة سنة،  من العام 1977 وحتى العام 1992.  كانت هذه مرحلة الإختصاص والتعمّق في الإختصاص، وفي القراءة والبحث والتنقيب، كما انها كانت مرحلة حشد العزائم، والتدرّب على التساؤل،  واستكشاف الآفاق، وقد جاء تتويجها بشهادة الدكتوراة دولة من السوربون شهادة على النجاح في كل ذلك.  ومن المهمّ ان نلاحظ،  ان هذه المرحلة تقاطعت زمنياً مع مرحلة امتداد الحرب الأهلية  في لبنان بين الأعوام 1975 و 1990،  مما أسبغ على التساؤلات والجهود العلمية فيها ملامح خاصّة من القلق.  تتلو هذه المرحلة، المرحلة الثالثة لمدة خمس عشرة سنة  أيضاً، بين 1993 و 2008،  تاريخ استقالة عدنان من الجامعة اللبنانية.  كانت هذه المرحلة الثالثة،  مرحلة التمدّد، وتوسيع الحدود، والتشبيك، وصياغة العلاقات والروابط العامة، والعمل الجماعي، والمؤتمرات، والتأليف، والنشر الفردي والجماعي. أما المرحلةالرابعة فهي المرحلة الراهنة ، والتي تبدأ باستقالته من الجامعة اللبنانية وما تزال مستمرة حتى اليوم. وفي هذه المرحلة الراهنة،  أرى عدنان الأمين في كلّ مكان، حيثما تجد نشاطاً تربوياً،  تقريباً في كلّ مكان،  في لبنان كما  في كثير من البلدان العربية، هنا في المشرق أو في المغرب.

 

إننا نحتفل اليوم،  ايها السيدات والسادة، بفيض تربوي غزيريعلوه  اسم عدنان الأمين،نحتفل بقطب تربوي  يتوهّج بالعطاء  في اتجاهات متعددة، كتابة وخطابة، وحواراً أو مناقشة: واحد على واحد، أو

كجزء من  مجموعة أو فريق، كل ذلك بقصد زيادة الفهم،  والتحسين والتطوير، والتحرّك الى الأمام.

 

وإليكم فكرة سريعة وموجزة عن حصيلة هذا الفيض من مؤلفات،  بين كتب او فصول في كتب أو مقالات، أوتقارير وأوراق غير منشورة في مؤتمرات  أو ندوات، أو بعثات:

أولاً: الكتب-  تسعة عشر كتاباً (19)، منها خمس من تأليفه المنفرد، وإثنان شارك في تأليفهما، وثلاثة أشرف عليها وشارك في تحريرها،  وأربعة  كان هو محرّرها المنفرد.  بعض هذه الكتب المحرّرة هي عبارة عن تجميع لكتابات أو بحوث كتّاب آخرين منتقين من بلدان عربية مختلفة،  كلفوا بالكتابة عن الموضوع المطروح في بلدانهم، ثم جمعت هذه الكتابات في مجلّد واحد تولّى عدنان تنقيحه وتوضيبه وتحريره.   وإلى أن يتمّ ذلك كانت تجري مراسلات ومراجعات ومفاوضات مضنية تكاد لا تنتهي،  بين عدنان والكتّاب المنفردين في مختلف البلدان العربية.  والكتاب الأخير من هذا النوع هو الصادر هذا العام 2014،  بعنوان  "قضايا النوعية في التعليم العالي في البلدان العربية" ب 904 صفحات.

ثانياً: المقالات  المنشورة في مجلات او فصولاً في كتب.  عدد هذه 36 مقالاًبعضها بحجم كتاب، كالمقال المنشور  في التقرير الأول لمؤسسة الفكر العربي بعنوان التنمية الثقافية، والصادر عام 2008 ،  وهو، أي المقال، ب 193 صفحة من تأليف عدنان.

ثالثاً: التقارير والأوراق غير المنشورة .  عدد هذه 28 ، من بينها التقرير بعنوان: "  التوجّهات  الإستراتيجية للتربية والتعليم في لبنان للعام 2015"، في 111 صفحة، وهو التقرير الذي اعتمدته وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان في عهد الوزير الدكتور حسن منيمنة،  كوثيقة رسمية يلخّص استراتيجيتها.

رابعاً: المؤتمرات والندوات والبعثات، وعدد هذه 44. وهذه مؤتمرات حضرها عدنان وشارك في أعمالها، محاضراً ومناقشا، وفي أحيان كثيرة مشرفاً ومنسقاً وموجّهاً، في عدد كبير من البلدان العربية،  شرقاً وغرباً،  وغير العربية،  من باريز الى واشنطن الى برلين وغيرها. 

وإلى جانب هذا السيل الضخم من الكتابات والمؤلفات، عمل عدنان خبيراً أو مستشاراً لجهات ومؤسسات متنوعة، ولوزارات تربية وغيرها، في مجال تقديم الخبرة والمشورة، وعدد هذه كثير لايسعني حصره.   ولقد عاد منذ أيام قليلة من عُمان في واحدة من آخر رحلاته الإستشارية، كان الله بعونه.

أشير الى هذا السيل الضخم فقط لإعطاء فكرة عن حجم الإنتاج، وهو حجم هائل، لمناضل فكريّ ما زالت أمامه السنوات الطوال بانتظار المزيد.   ولكنّ هذه المراجعة لا تعطي فكرة عن نوع هذا الإنتاج، ولا تقتفي مسار الحركة  والتغيّرفي النوع، مادة ومنهجاً، خلال السنين او المراحل الثلاث او الأربع التي عرضتها من قبل.  ولهذا سأصرف بعض الوقت لأستعرض هذه أمامكم، وأعلّق على هوامشها ببعض الأفكار والملاحظات.

سأعبر المرحلة الأولى، والتي أسميتها من قبل، مرحلة التأسيس،  كما ذكرت، وأبدأ بالمرحلة الثانية  والتي تمتدّ لخمسة عشر عاماً، من العام 1977 وحتى 1992، أي من تاريخ حصوله على الدكتوراة حلقة ثالثة وحتى حصوله على الدكتوراة دولة.  كانت هذه، كما ذكرت، مرحلة الإختصاص والتعمّق  وتثبيت الأقدام، والجمع بين الحصاد اللبناني والعربي والحصاد الأوروبي، والفرنسي على وجه الخصوص.  صدر لعدنان في هذه الفترة كتاب بالفرنسية، في العام 1980 بالإشتراك مع نخلة وهبة،  أغلب الظن أنه حمل كثيراً من المعلومات والأفكار التي تضمنتها أطروحتاهما للدكتوراة، ولكنني لم أقرأ هذا الكتاب.  الكتاب الذي قرأته كان بالعربية، وهو الصادر في العام الذي تلا ذلك، أي العام 1981، وهو بعنوان  "التعليم والتفاوت الإجتماعي في مدينة صيدا"، من تأليف عدنان لوحده.  كان هذا الكتاب المحطة الفكرية الأولى التي جمعتني بعدنان.  لم أكن أعرفه من قبل، وعندما قرأت الكتاب شعرت كمن وجد ضالّته في المجال الذي أعمل فيه، لأتناقش معه، وأتجادل معه، وأتفق وأختلف معه، وخلال كلّ هذا لأتعلّم منه أيضاً.  وجدت أن المنحى او المنهجية التي اعتمدها عدنان في كتابه عن التعليم في صيدا كانت هي المنهجية التي أحبّ، والتي اعتقدت أننا نفتقر اليها في لبنان، وفي عالمنا العربيّ بشكل عام، في حديثنا عن التعليم، كما في حديثنا عن مختلف القضايا الإجتماعية - منهجية التعرّف على الواقع بدقّة وبالتفصيل وذلك قبل الحكم عليه.   وهذا هو بالضبط ما بدا لي انه دفع عدنان لكتابة كتابه، إذ يقول في مقدّمته:  "إن المعرفة التربوية والطرح السياسي لقضايا التربية في لبنان، لا يستندان الى معرفة دقيقة لطبيعة المشكلات التعليمية المعاشة، لذلك تصبح مهمة هذه الدراسة مزدوجة: جمع معطيات كافية توظّف من أجل مراكمة معرفة عينية من (ناحية التعليم في صيدا) ومعرفة عامة من ناحية أخرى (علاقة المدرسة بالمجتمع المحليّ، ضمن الحدود الماديّة والمنهجية المتوفرة..." (ص 10).  بدا لي تواً أن هذه هي منهجية العالم او الإختصاصي في التشريح، يضع المريض تحت عينيه، ويشتغل بيديه ساعياً الى التعرّف على معالم الجسد، وعلى نبضه وحركته بكلّ دقّة وتفصيل، محاولاً إستكشاف إحتمالات العطب، أو مكامن الخلل قبل وصف الدواء.  إنها المنهجية التي يمكن ربطها بعلم الإجتماع الوضعي أو التشريحي، وهي المنهجية التي لا بدّ أن عدنان قد اكتسبها من خلال دراسته لكتابات المدرسة الوضعية في فرنسا  إبتداءً من إميل دوركهايم، وامتداداً الى بورديو وباسيرون وغيرهما: التعرّف على الواقع قبل العلاج، أو قبل الحكم عليه.  وقد فعل عدنان ذلك في كتابه عن صيدا، فتفحّص كلّ مدارسها ال 39 ما خلا ثلاث رفضت المشاركة، وجَمَع معلومات مفصّلة عن 1191 معلّماً ومعلّمة ، وعن حوالي عشرين ألف تلميذ في مدارسها، ثمّ أضاف،  الى كلّ هؤلاء،  تفصيلَ الحياة الدراسية والمهنية لمجموعة من 550 شخصاً كانوا من قبل تلاميذ في مدارس صيدا، وخرجوا الى الحياة العامّة يمارسون مختلف الأعمال، محاولاً الربط بين ما تعلّموه في المدارس،  وبين ما يقومون به من أعمال،  أو ما يفكّرون به،  بعدما دخلوا الحياة العامة، وأصبحوا كباراً يمثّلون العمود الفقريّ للحياة في المدينة.

ويستخلص عدنان من كلّ  هذا خلاصات هامّة جداً عن علاقة المدرسة بالمجتمع، وعن الفارق بين المدارس الخاصّة والمدارس الرسمية،   ويسمّي هذا الفارق فارقاً بنيوياً،  بمعنى أن تحسين هذه التقديمات  في المدارس الرسمية لن يضعها  في مصاف المدارس الخاصة، لأن الفارق بين النوعين  هو فارق بنيوي وليس فارقاً في التقديمات التربوية، ويخرج من هذا  ليتحدّث عن الفعل التربوي،  ويشدد في هذا المجال على ما يمكن للمعلم أن يقوم به "لدفع التلاميذ للتعبير عن أنفسهم...لإقامة علاقات إنفعالية- ثقافية مع التلاميذ...وكسر الحلقات المتدرّجة (الموروثة من خارج المدرسة) الخ..."  وذلك بقصد تضييق هذا الفارق بين النوعين من المدارس، إن لم تمكن إزالته بالكامل.

 

يتكشّف هذا المنهج النقديّ الصارم في كتابات أخرى لعدنان ظهرت لهفي مجلات ودوريات  متنوعة خلال هذه المرحلة، منها: " الفرص الدراسية-المهنية في لبنان: بين الرصيد المعرفيّ والمساندة العصبية" (1981)،  " الأصطفاء المدرسي: إعادة الإنتاج والحركيّة الإجتماعية" (1983), و " المصطفي والمصطفى" (1984)، وغيرها،  تحمل هذه كلّهاالطابع التحليلي الصارم،  الملتزم بالمنهجية العلمية التي تمرّس عليها خلال دراساته للدكتوراة في فرنسا.

 

المرحلةالثالثة، والتي  تبدأ طلائعها في العام 1993 ، وتمتدّ حتى تاريخ استقالته من الجامعة اللبنانية عام 2008،  هي أيضاً لخمس عشرة سنة،  ولكنها صاخبة أكثر، إقتحاميّة أكثر، جماهرية أكثر.  عدّة أمور حدثت لعدنان في هذه الفترة، كما انه أحدث هو بدوره، أو  أثار، أو قاد،  أو أسّس،  عدّة أمور أخرى.  ثلاثة من هذه بارزة، كان لها تأثير كبير عليه: أولها،  سفره الى الولايات المتحدة الأميركية بمنحة دراسية من قبل مؤسسة فولبرايت، مرّتين، الأولى في العام 1993، والثانية في العام 2005،  وما نتج عن هذا من إطّلاعه على الثقافة الأنكلوسكسونية وانخراطه بالتدريج فيها،  وتعلّمه اللغة الانكليزية ،  نطقاً وقراءة، ثم كتابة فيما بعد.  والأمر الثاني هو تمدّد علاقاته وارتباطاته واتّساعها الى الدوائر والمؤسسات العربية والدولية، وأهمّها اليونسكو،  على الصعيدين الإقليمي والدولي، وكذلك برنامج الأمم المتحدة للتنمية، ومؤسسة فورد الأميركية،  والجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية في النطاق العربي،  ثم مؤسسة الفكر العربي فيما بعد.  أما الأمر الثالث فكان إقدامه في العام 1995، وبالتعاون مع شلّة من الزملاء والرفاق، على تأسيس جمعية للعلوم والأبحاث التربوية باسم الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية،  كان هو رئيسها الأول،  وهو الآن رئيسها السادس بعد ان تمّ انتخابه مجدداً منذ فترة قصيرة.

وكما في كلّ قضايا الحياة الكبيرة،  يصعب الفصل بين السبب والنتيجة، كذلك في هذه الحالة التي نتحدّث عنها، خصوصاً في هذه المرحلة الثالثة، وخصوصاً بما يتعلّق بتأسيس الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية ، إذ ليس من الدقّة او الحصافة  وضع هذه في خانة الأسباب التي حفزت بعدنان الى نشاط جديد، ولعلّها كانت أقرب الى النتائج منها الى الأسباب.  وفي الحالاتين،  فلقد اندمجت حياة عدنان العلمية والمهنية بالهيئة منذ تأسيسها،  أخذاً وعطاءً الى حدّ كبير،  حتى لأصبح  صعبا الفصل بينهما.

ولعل أهمّ من هذه وتلك ان هذه الأمور الثلاثة، بما فيها سفره الى الولايات المتحدة، واتّساع دوائر اتّصالاته وعلاقاته،  ما كان لها ان تغيّر من جوهر المنطلقات والأهداف العلمية الأولى لعدنان، فهذه بقيت كم بدأت،  وكما ترعرعت خلال دراسته الجامعية، منغرسة في التوق الى المعرفة والإستكشاف، حريصة على كشف الحقائق والتعرّف على واقع الحال قبل الحكم عليها.  أمّا ما تغيّر فكان جلّه في إطار توسيع الحركة والنشاط، وفي التشبيك مع هيئات وأشخاص كثيرين جدد، وأيضاً في إطار تزخيم الإقتراحات والتوصيات والرفع من حرارتها باتجاه الإصلاح.  لهذا نجد ان كلمات مفتاحية جديدة  مثل إصلاح، أو تطوير، أو تحسين ترد في عناوين مؤلفاته  في هذه المرحلة  أكثر بكثير مما كانت ترد فيهامن قبل، مثل  ما ظهر له في مؤلفاته بالعناوين التالية: "التخطيط لتحسين نوعية التعليم الأساسي في الدول العربية" (1995)، "قضايا الجامعة اللبنانية وإصلاحها"  (1999 )،" إصلاح التعليم العام في الدول العربية" (2005)،  وغير هذه.  كما نجد ان اسم الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية أصبح يتوّج عدداً كبيراً من مؤلفاته كالجهة المشرفة عليها وحدها او بالإشتراك مع غيرها.

 

وأود ان اتوقف قليلاً عند الكتاب الصادر عام 1999 عن الهيئة بالإشتراك مع  دار النهار للنشر بعنوان"قضايا الجامعة اللبنانية واصلاحها"،  والذي يجسّد بأفضل وجه على ما أعتقد ما أصفه هنا بالتزخيم،  وارتفاع حرارة الدعوة الى الإصلاح، والحضّ عليه، كما يعبّر  أيضاً عن الإتّجاه نحو العمل الجماعي، والعمل كفريق، والتشبيك، وهي الصفات التي تطغو على انتاج عدنان في هذه المرحلة الثالثة.

تظهر على غلاف هذا الكتاب  قائمة بخمسة أسماء شاركوا في وضعه،  هي بالترتيب: عدنان الأمين، أحمد بيضون، أنطوان حداد، ملحم شاوول، وخليل نور الدين.  لكن عدنان الأمين هو من كتب الصفحات الأولى في الكتاب  بعنوان "سيرة الدراسة"،  بما يزيد عن الصفحات العشر وهي مزيلة بتوقيعه، تلي هذه السيرة مقدمة للكتاب بعنوان  "الحاجة الى وثيقة حول الجامعة اللبنانية".  في "سيرة الدراسة" المزيلة بتوقيع عدنان ملحمة او مأساة، أو هي مأساة بصيغة ملحمة، تلخّص الإنفصام الرهيب في لبنان بين الأفكار والتطبيق، بين الرؤيا والواقع، بين السعي للإصلاح ومحاولات تعطيله  والجمود والتخلّف عنه.  السيرة من عشر صفحات تروي الحكاية من أوّلها الى آخرها، وأتمنّى لو يسمح الوقت لأقرأها  كلّها على مسامعكم، لكن الوقت بالطبع لا يسمح.   ثم إن الكتاب كّله كان ثمرة عمل جماعي، بأفضل المعاني التي يمكن ان تحملها هذه الكلمات.  وفي يقيني ان هذا الكتاب لو نشر في بلد يقدّر العلم ويقدّر العمل الجماعي،  لحاز شهادة تقدير من أرفع المقامات، ولكنّه في لبنان خُنق في مهده، وطُمر بسرعة تحت أكوام التفاهات، والإشاعات، والمصالح الشخصية، لا من قبَل أصحاب السلطة السياسية وحسب، بل من قبل أصحاب السلطة والمصلحة في الجامعة أيضاً.

في مقدمة الكتاب، بعنوان " الحاجة الى وثيقة حول الجامعة اللبنانية"،  بعد نصّ السيرة،  ثلاثة عشر سبباً لوضع  الكتاب، وأقرأ عليكم السبب قبل الأخير، اي برقم إثني عشر.  يقول هذا النص: " إن القيام بهذه الدراسة كان له مسار، وإن للمتابعة وإحداث الإصلاح المطلوب في الجامعة فعلاً مساراً آخر.  وإذا كان حسن الدراسة من حسن التشخيص والتأمّل، فان حسن الإصلاح من قوة المشاركة في صنعه ومن حسن التخطيط له وإطلاق الديناميكية المناسبة له.  لذا يعتبر وضع الكتاب ضرورباً ولكنه غير كاف.  والخشية ان يوضع على الرف هي خشية قائمة،  والأقسى منها أن يجري "إصلاح" الجامعة من دون أي دراسة أصلاً، إستكمالاً  لما جرت عليه العادة..." (ص 26).

لقد وضع كاتب هذه المقدمة،  والأغلب انه عدنان نفسه كاتب السيرة، كلمة "إصلاح" في العبارة الأخيرة في هذا النص  بين مزدوجين،  إعتباراً ان ما يمكن ان يجري تباعاً لا يمكن ان يكون إصلاحاً إذا لم تسبقه مثل هذه الدراسة للتعرّف على واقع الحال، والتعرّف على آراء وأفكار أهل الجامعة، ثم حشد الطاقات بعدها من أجل الإصلاح.  لكن ما حدث كما نعرف جميعاُ، ان إصلاحاً  حقيقياً لم يحدث في الجامعة حتى هذه الساعة، لا بين مزدوجين ولا بدونهما.

بعد هذه المقدمة،  يستعرض الكتاب في أحد عشر فصلاً، أوضاع الجامعة، بدءاً بمهمّتها، وانتقالاً الى إستقلاليتها، وثم الى تفريعها وتجميعها، والى شؤونها المالية، وهذا الأخير هو الفصل الحادي عشر، قبل ان ينتقل الى القسم الثاني في الكتاب بعنوان "عناوين اصلاح  الجامعة"، وهو بفصلين يتناول في الأول : المباديء، ويقدم في الثاني التوصيات والإقتراحات.

 

لم يكن كتاب " قضايا الجامعة اللبنانية " الكتاب الوحيد الذي نحا باتجاه الإصلاح في هذه المرحلة، وحمل اندفاع عدنان الى الإصلاح والتغيير، بدون التخلي عن إستكشاف الواقع  والتأسيس عليه.  الى جانب هذا الكتاب  كانت هناك كتب وأبحاث أخرى كثيرة حملت هذا التوجه نحو الإصلاح، كما أن معظمها كان نتاج عمل جماعي صادر عن مشاركين  وزملاء،  أكثرهمأعضاء في الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية.  من هذه، الكتاب الأول الصادر عن الهيئة عام 1997 بعنوان: "التعليم العالي في لبنان" ، والكتاب السنوي الخامس بعنوان:  "ضمان الجودة  في الجامعات العربية" الصادر عام 2008 وكلا الكتابين صدرا بإشراف عدنان او رئاستة التحرير.

 

أما في المرحلة الرابعة والأخيرة، والتي بدأت  بعد استقالة عدنان من الجامعة اللبنانية عام 2008، وما تزال مستمرّة ، فقد استمرّمعها هذا المسار في الإندفاع وفي التوسّع .  أشير هنا الى الكتاب الصادر عام 2009 بعنوان: "نحو فضاء عربي للتعليم العالي: التحدياتالعالمية والمسؤوليات المجتمعية"  الصادر ب 896عن مكتب اليونسكو الإقليمي،  والذي قام عدنان بتحريره، وهو مجموعة أعمال وأبحاث معظمها ميداني، تتعلق باوضاع التعليم العالي في عدد من البلدان العربية، نوقشت على مستويات مختلفة في اجتماعات وندوات كان آخرها في القاهرة قبل عام من نشر الكتاب.  والكتاب الثاني هو الصادر هذا العام 2014 بعنوان: " قضايا النوعية في التعليم العالي في البلدان العربية"، وهو الكتاب السنوي الثامن الصادر عن الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية ، من تحرير عدنان ب 904 صفحة، وهو العدد الأكبر من الصفحات لأيّ من الكتب  الصادرة له من قبل.  ورجائي، قبل ان أختتم،  أن لا تزداد أعداد الصفحات للكتب التي لا بدّ ان تصدر عن عدنان في المستقبل،  تأليفاً او تحريراً، عن نصف هذا العدد.

 

إنه الفيض أيها السيدات والسادة، ما نحتفل به اليوم، أو بالأحرى إنه النبع،  نحتفل بالنبع، بمصدر هذا الفيض وبأصوله وبالقوة النابضة فيه والدافعة له ليصبح ملكنا جميعاً، نحتفل بعدنان، ونكرّمه، ونرجو له استمرارالتدفق والحماس، ونرجو له طول العمر والصحة والعافية.   ولعله يثاقل الخطى قليلاً،  في المستقبل، وينظر في هذا الفيض الذي تركه وراءه، ويعود اليه، ويقرأه هو بنفسه قراءة الناقد، ليخلص منه الى مزيد من التأني في النوع وفي الصياغة في مقبل الأيام.

 

وفي النهاية،  أرجو ان تسمحوا لي بأن أرفض قولاً شائعاً منذ زمن بعيد في ثقافتنا اللبنانية والعربية، وهو أن وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة.  فهذا ليس صحيحاً، والصحيح هو انه الى جانب كل رجل عظيم امرأة عظيمة ... ويصحّ العكس أيضاً.  التحية لفادية حطيط، التي تقف الى جانب عدنان الأمين ، بدون أن تأخذ منه اسمه الأمين.  والتحية الى الدكتورة لبنى الأمين، ابنتيهما، أو عساني أقول لبنى الأمين حطيط، أو لبنى حطيط الأمين، الإختصاصية الأولى في لبنان، على ما أعلم، في الفلسفة والعلوم الصينية، خاصة في فلسفة  كونفوشيوس ، المعلم  الكبير. والتحية لمهدي ورمزي أخوي لبنى الذين يشقان طريقيهما الى آفاق العلوم الجديدة بمهارة وتفوق ....  إنها باقة من المناضلين المبدعين  تصفق لها الأيدي وتقرع الأجراس.

------------------------------------

هذا أنا الذي كان هو

عدنان الأمين

الحركة الثقافية في إنطلياس 2014/3/12

 

1.     المشهد الأول: في النبطية

قال أبي: من الأحسن أن يدخل عدنان إلى دار المعلمين الابتدائية، متوجها بالحديث إلى الجميع دون أن ينظر في عيني أحد تحديدا. كان ذلك في مثل هذه الأيام من العام 1963، في بيتنا المستأجر في النبطية.

فوجئت بالأمر. كنت أظن أن أبي يعمل على توفير منحة لي لدراسة الطب في الاتحاد السوفياتي، هكذا قال أمامي، وبالأسلوب نفسه، في زيارته السابقة إلى لبنان.

أخبرني إبراهيم الأمين، رئيس تحرير جريدة الأخبار، أن أبي انشأ مع والده، أبو خالد، خلية للحزب الشيوعي في الكويت في الخمسينات. نعم في الكويت. كنت أعرف أن والدي ظل شيوعيا حتى بداية السبعينات عندما عاد نهائيا من الكويت. لكنني لم أعلم أنه كان ناشطا سياسيا. لم يحك يوما لي أيا من أخباره، لا في الكويت، ولا في فلسطين قبلها، ولا في السعودية بعدها.

والدي كان يميل إلى الصمت، بخلاف أبو خالد، وان تكلم فحازما. لم يرو لي يوما شيئا عن تلك الخلية، لا في حينه، ولا عندما أصبح في مرحلة تخل عن شيوعيته. وهو لم يرو يوما لي أيََ حكايات عن عمله كنجار أو كمقاول نجارة في الكويت. ولا عماّ كان يشتغل في فلسطين. أمي، التي تحب السرد، هي التي أخبرتني مؤخرا انه بدأ سمكريا في فلسطين، قبل أن يتعلم النجارة على يد خاله. 

بعد أن قال أبي ما قاله، أصبح الأمر كأنه صار واقعا. صرت أسير في شوارع النبطية كأني أودعها.

في الشارع الرئيسي كنت أسير قبل أربع سنوات في مسيرة عاشوراء الليلية كل عام على امتداد تسعة أيام. أما في اليوم العاشر فقد كنت اكتفي بالتفرج على سيلان الدم من الرؤوس وعلى تمثيلية مقتل الحسين. كنا نلطم صدورنا العارية ونردد وراء الكروشت "يا حسين ابن علي يا ابن بنت المصطفى" أو "قوم شيل العلم وانهض يا حبيب يا ابن مظاهر". كنا نلفظها باللهجة العراقية. كان الكروشت لقب الرجل قصير القامة، يكاد يكون قزما، أي هو بطولنا في حينه، لكنه يتميز عنا برجولته وصوته. كنتفي مجموعة الأطفال، وأمامنا مجموعة الشباب وفي الطليعة مجموعة البالغين. عندما انضممت إلى مجموعة الشباب لاحقا كنت أتسلل إلى مجموعة البالغين أحيانا.كان الأمر مفخرة، على غرار ما حدثنا به أهل الانتروبولوجيا عن طقوس البلوغ في القبائل. وكان من أمتع لحظات اللطم تلك التي تتم داخل الحسينية. فيها يصدح صوت حسن كحيل العذب في مواله الحسيني، وهو أستاذ مدرسة، ولا تسمع معه إلا اللطم المنتظم لعشرات الشباب والرجال على صدورهم، لطم  موقع زمنيا في قاعة ليس فيها أثاث، فيصلك الصوت نقيا تماما كأنه عرض صورة وصوت كما نقول هذه الأيام.كان اللطم يتم على الطريقة العراقية، بإيقاع1-2 السريع بخلاف اللطم اليوم الذي يتم على الطريقة الإيرانية على إيقاع 1-2-3-4 البطيء. بعدها نخرج من الحسينية لنتنقٌل بين الصبايا في الباحة الخارجية حيث باعة الترمس والبزورات والسوس... فيما القراء يقرؤون السيرة الحسينية ويبكون ويُبكون.

في السنة الأخيرة من إقامتنا في النبطية انضممت في عاشوراء إلى مجموعة رابعة، كانت تسير وراء مجموعة الأطفال. كانت مجموعة شبابية لا تخلع قمصانها كما المجموعات الثلاث الأخرى، ولا تلطم، ولا حتى تصدح بالهتافات الحسينية، بل تحمل يافطات كتبت عليها شعارات تتكلم عن العدالة والحق والمساواة.في تلك الآونة سمعت لأول مرة كلمة إصلاح. وقد علمت في خضم النقاش في الموضوع أن السيد محسن الأمين كان قد دعا في الأربعينات إلى تحريم الضرب بالسيوف والسلاسل يوم عاشوراء، وأن إمام النبطية، وهو من آل صادق، كان يود لو يكف الناس عن اللطم وضرب السيف والسلاسل لكنه يخشى التجار الذين حولوا المناسبة إلى مهرجان سنوي، يكسبون منه.

هوجم محسن الأمين سابقا من قبل عدد من رجال الدين ولقبه احدهم بالمتزندق. أمام ظاهرتنا المدنية فقد مرت بسلام في تلك السنة. لكنها هوجمت في السنة الثانية بالهراوات، وانكفأت.

عندما غادرنا بيتنا في حي الاميركان، مساء يوم صيفي من العام 1963، ركبت أمي وأخواتي السيارة وأنا، نائب رب البيت، ركبت الشاحنة التي تحمل أغراضنا، إلى جانب السائق.

لم يكن هناك ما أتحدث به مع السائق، كنا صامتين طوال الساعتين إلى بيروت. آخر ما مررت به في النبطية قبل الخروج منها كانت المدرسة الرسمية المتوسطة للصبيان. وكانت تدعى أيضا باسم مديرها سميح دخيللما له من سمعة جيدة. كان المدير مسيحيا، وكذلك عدد من الأساتذة، نعرف ذلك من أسمائهم وإلا فلن نعرفهم لان الجميع لهجته نبطانية، نكسر الألف، فنقول غسين وعدنين، إلا الفصحاء. أما الطلاب فنعرفهم بسهولة اكبر لأنهم يغادرون الصف في حصة الدين. علما أن بعضهم كان يبقى أحيانا لما في حصة الدين من متعة الحديث عن الاحتلام والعادة السرية والجماع وما إلى ذلك مما نتحدث به عادة همسا. كان هناك تلميذ من آل عاصي اكبر منا سنا يتجرأ في هذه الأسئلة وأستاذ الدين يتسامح في صراحة الجواب دون أي تأثيم. لكن لم تكن في المدرسة مكتبة. لا أعرف من منا اكتشف مكتبة القسيس في النبطية، كنا نذهب إليها يوميا أنا وخطاب بدر الدين وعلي حرب، ونتسابق على استعارة الروايات المصرية والبوليسية، وما زلت اذكر منها مجلدات روكامبول الخمسة، التي كنت أنهي الواحد منها في ثلاثة أيام.

النبطية بلدة تجارية تقع في وسط الجنوب بين صيدا السنية ومرجعيون الأرثوذكسية، وبين صور الشيعية وجزين الكاثوليكية.كانت دائما منفتحة، تجارية ومدنية، أكثر بكثير مما كان عليه الحال في صيدا وصور.وبيع الخمر كان متاحا للعامة، وكذلك شرب الخمر في المطاعم. وبعض أبناء القرى المسيحية كانوا يدرسون في النبطية. في صف البريفيه كنا أربعة طلاب نحضر للامتحانات الرسمية سوية، أنا وخطاب بدر الدين وطالبتين شقيقتين من ديرميماس، لعدة أشهر.

ابتعدت بنا الشاحنة عن النبطية، وابتعدت في ذهني نحو سنوات ما بعد التخلي عن عاشوراء. إلى فتاة كنت قد أحببتها أثناء صف البريفيه، ولم أصرح لها يوما بحبي. كانت شقيقة صديقة شقيقتي. كنا نسهر عندهم أحيانا، وأحيانا عند أصدقاء آخرين، في مجوعة واسعة من شباب وصبايا من آل محي الدين والصباح والحاج علي وجميل. في تلك السهرات كانت تدار اسطوانات غربية نرقص على أنغامها. تعلمت التانغو والتشاتشاوالباسا دوبل وغيرها على طريقتنا التي كانت طبعا بدائية. أغرمتفي النبطية بالموسيقى الغربية من مجموعة أخرى أيضا كانت تزورنا آتية من بيروت مرة أو مرتين في السنة. إنها مجموعة شباب وصبايا من آل مروة. وهم أنسباء عن طريق جدتي لأمي. الأستاذ في المجموعة كان نزار مروة، ابن حسين مروة، الحاذق بالموسيقى الغربية والمثقف فيها. في كل مرة نجتمع كان يضيف آخر الأغاني وأجملها. وهل أنسى مثلا أغنية (T’amo e T’amero) لـلمغني الإيطالي (PappinoGagliardi)؟ أو مقطوعة (Petite fleur) لعازف الساكسوفون الأميركي سيدني بيكيت (Sidney Bechet)؟ أو أغنية (Histoire d’amour)لداليدا ؟

2.     المشهد الثاني: فيدار المعلمين

كانت دار المعلمين أكبر من النبطية. فيها سنة وفيها دروز، فضلا عن الشيعة والمسيحيين. فيها فتيات من جميع الطبقات الاجتماعية، وصبيان من الفئات الدنيا. جاؤوا من كل مناطق لبنان إلى هذه الدار الصغيرة التي كانت تضم مئات قليلة من الطلاب والطالبات. الأمر كان في غاية الاختلاط.  من بينهم كانت أختي الكبرى أنيسة في السنة الثالثة وأنا في السنة الأولى. وفي السنة التالية كانت أختي الثانية رجاء في السنة الأولى وأنا في السنة الثانية. لاحقا التحقت أختاي الصغريان بالدار، يسرى وفوز، فوصل عدد الذين ساروا هذا المسار من عائلتي خمسة من ثمانية. ليس لدي إحصاءات عن نسبة الأسر اللبنانية التي ضخت مثلنا خمسة معلمين في الجسم التعليمي الرسمي. وليس لدي إحصاءات أيضا عن عدد التلاميذ الذين علمناهم. يمكن القول فقط أننا أبناء هذا القطاع التربوي الحكومي الخلص. بل إن أختي أنيسة تزوجت رئيس دائرة التعليم الرسمي في لبنان.

كانت الدار، ومازالت، بشكل حرف (U) بالأجنبية، الذكور في الجناح الشمالي والإناث في الجناح الجنوبي، والجنسان معا أثناء الفرص في الوسط وفي المساحات الشاسعة حول المبنى.

في هذه المساحة كنا نحضر معنا في فرصة الظهر راديو ترانزيستور، نأكل الساندويشات التي تعدها لنا أمهاتنا ونستمع إلى إذاعة لبنان، التي كانت تبث بين الساعة الثانية عشرة والساعة الواحدة منوعات من الموسيقى الغربية عموما والفرنسية خصوصا. ونستمع الى ادامو (tombe la neige) في عز الشمس، وغيره.في السنة الأولى كنت أحب الاستماع إلى اغنية انريكومسياس (J’ai quitté mon pays). انحل معها الحب السابق غنائيا.

لم يأت احد معي من النبطية، جميع أفراد شلة المرحلة المتوسطة في النبطية كانوا يريدون متابعة الدراسة الثانوية. وانقطعت علاقتي بهم بعد سنة أو سنتين. باستثناء خطاب بدر الدين الذي بقيت على اتصال متقطع معه، وعلي حرب الذي التقيت به بعد ثلاثين سنة فإذا به عميد في الجيش اللبناني ومديرللتوجيه فيه. واحد فقط من شلة المراهقة دخل معي إلى دار المعلمين هو حسان قبيسي.

ترك حسان قبيسي النبطية قبلي بسنة أو سنتين إلى بيروت، وكنت زرته في منزله في البسطة، وعلمني كيف نصعد الترامواي وننزل منه وهو سائر. دخلنا سوية إلى دار المعلمين. وقتها لم نكن نختلف إلا في السياسة، كان حسان يحمل أهواء بعثية من شقيقه حسن، وأنا احمل أهواء شيوعية من جو البيت والأصدقاء.ما عدا ذلك انخرطنا في هذا العالم المصغر وأصبحت مشاريعنا تضم شبابا من انتماءات جغرافية ودينية متنوعة. لكن زمرنا كانت أشبه بزمر المراهقة الأولى، صبيان بصبيان. ومن هناك نحكي عن البنات ونلاحقهن، في الدار وخارج الدار. وقد اكتشفت بعد قليل أنني اختلف عن حسان في أمرثان. فقد دهشت مرة اذ قال لي أنه أبصر في منامه أنه يسير مع خديجة على كورنيش الروشة، ويجران طفلهما بالعربة أمامهما. كيف يمكن للمرء أن يحلم بأنه تزوج؟وان ينجب طفلا أيضا؟ كانت أفكار الزواج خارج الموضوع بالنسبة لي، وهي ظلت كذلك في الجامعة اللبنانية وفي فرنسا. ربما يعزى ذلك إلى رفضي بداية أن أكون مثل أبي، ألقي العبء على أبنائي، وربما إلى النزعة اليسارية التي استحكمت بي لاحقا طوال سنوات لبنان وفرنسا. بقيت على هذه الحال من المدافعة حتى وقعت في سحر فادية. وقاومت الأبوة أيضا لمدة ثلاث سنوات حتى جاء مهدي وشعرت وأنا أتطلع إليه بنور يبزغ في رأسي. فطلبت المزيد من متعة الأبوة مع لبنى ورمزي.  

كانت دار المعلمين أكبر من النبطية. واكبر من بيروت. لبنان كله هنا. وكل المعارف هنا، يقدمها لك أساتذة مرموقون. الأخوان فليفل يعلمان الموسيقى، الأخوان غير الشقيقين ميشال عاصي وعلي شلق يعلمان الأدب العربي، مي المر تعلم الجغرافيا، محمود جمول يعلم علم النفس، طانيوس الحاج يعلم العلوم الطبيعية، أستاذ من آل شلهوب يعلم الزراعة، منير نجم يعلم الرسم، وغيرهم يعلم البيداغوجيا بالعربية وبالفرنسية. كان منهج دار المعلمين أوسع أفقيا بكثير من منهج التعليم الثانوي.لكن الشهادة التعليمية التي تحصل عليها في النهاية لم تكن معادلة لشهادة البكالوريا. لذلك تسجلت في مدرسة ليلية لمتابعة البكالوريا القسم الأول، ونلتها بموازاة السنة الثانية في الدار، وتسجلت في مدرسة ليلية أيضا لمتابعة البكالوريا القسم الثاني ونلتها بموازاة السنة الثالثة في الدار.

ثلاث سنوات من العشرة والتعلم الأكاديمي أكسبتنا هوية الدار، ومن خلفها الهوية العامة اللصيقة بالدولة، نحن الطلاب الذين كنا نتقاضى منحة شهرية قيمتها مائة ليرة في الشهر.حقيقة الأمر أنهويتي النبطانية التي جاءت مقبلة على الاختلاط أصلا أحاطت بها هوية الانتماء إلى دار المعلمين-بيروت، وهي هوية مدنية لبنانية.

عند التخرج تفرقنا في مدارس الدولة الرسمية كل في قرية أوحي على امتداد مساحة لبنان.

تلك هي مفارقة دار المعلمين. لكنها مفارقة فردية. من منظار عام كانت الدولة تبث أبناءها، نحن المئات الذين نتخرج سنويا من دور المعلمين الابتدائية، في أنحاء لبنان، نحمل معارف مشتركة، وقيما مشتركة، وفنونا مهنية مشتركة. كانت الستينات والنصف الأول من السبعينات العصر الذهبي للتعليم الرسمي،  بفضل هذه السياسة التي أرساها العهد الشهابي في تخريج أساتذة ابتدائيين وثانويين، في عمر الشباب وحماسه، جرى اصطفاؤهم مسبقا، ويحملون مع تخرجهم هوية مدنية عامة وإعدادا مهنيا لائقا. هذه السياسة سوف يتم الإطاحة بها لاحقا، وسوف يكبس على زر الإطاحة بالدولة الشهابية سليمان فرنجية في سنة 1970، وسوف يكبس على زر الإطاحة بالتعليم الرسمي عبد الرحيم مراد في سنة 2001. وسيتكاثر الكابسون على أزرار إطفاء محركات الدولة والتعليم الرسمي إلى يومنا هذا.

3.     المشهد الثالث: في كلية التربية

التحقت بمدرسة حاريص الرسمية بعد تخرجي من الدار، بتاريخ 15/10/1966، وهي تبعد حوالي مائة كلم عن بيروت.

وفي يوم من الأيام مر بي في حاريص صهري الجديد الياس مرعي، بصحبة مفتش تربوي لا أعرفه يدعى جوزف أنطون. جوزف أنطون هذا، بادره الخوري وهو يلقي عظته في السبعينات عندما رآه يدخل إلى الكنيسة في قريته المتين بقوله: جاء الكافر. وسبب كفره انه والياس مرعي وآخرين كثرا من جيل العهد الشهابي في الإدارات الحكومية كانوا يكرسون جهدهم لتأمين المدارس الرسمية ودعمها بالتعاون مع الأهالي، وبلغ التطور في مدرسة المتين الرسمية شأوا أن مدرسة الخوري فيها شارفت على الإقفال.

وعند الحديث عن اختياراتي الجامعية أخبرني جوزيف أن هناك إجازة في التربية مفتوحة في كلية للتربية للانتساب الحر، ونصحني بقوة بها.

وهكذا كان.تسجلت في الكلية كمنتسب حر، أحضر الدروس مع الطلاب الممنوحين، عندما آتي إلى بيروت. لم تطل إقامتي في حاريص فقد انتقلت إلى عرمون بعد ثلاثة أشهر، ثم إلى المريجة بعد سنة. هكذا صار حضوري إلى الكلية أعلى وتيرة، إنما لم يكن ممكنا أن أقيم في الكلية، كما كان حال زملائي الممنوحين.

كنت في السنة الأولى على ما أظن عندما اقترب مني عصام خليفة وعرفني بنفسه، وبأنه مرشح للانتخابات.  ما زلت أذكر لطفه في الحديث وابتسامته التي لا تغادر وجهه المحبب. لم يكن يحق لنا نحن المنتسبون الانتخاب لذلك لم يحصل تطور في التواصل مع عصام ولا مع الزملاء الآخرين في موضوع الانتخابات. لكن حركة الوعي التي ينتمي إليها عصام كانت تثير فضولي. وكنت أقرأ البيانات التي تصدر عنها بسبب اهتماماتي السياسية التي كانت تزيد حرارتها ما بين العامين 1967 و1970 أي ما بين نكسة حزيران وأيلولالأسود. لا ادري إن كانت هناك في تاريخ لبنان مرحلة تعج بالآمال والأحلاموالأفكار والتحركات والانفتاح أكثر من تلك الفترة امتدادا حتى العام 1973 عندما غلب العامل الفلسطيني على الأحداث، وأصبحت السماء ملبدة بغيوم الحرب الأهلية.

الفرق بين كلية التربية ودار المعلمين الابتدائية، مع أنهما يتشابهان في الاختلاط والعشرة، أن الكلية كانت موئلا للخيار الحر والإبداع والمبادرات والتيارات الشعرية والفنية والحركات الفكرية والسياسية ومنها حركة الوعي. فالطالب الجامعي أكثر استقلالا ونضجا وانفتاحا على العالم، والكلية أكثر اختلاطا بين الجنسين، والحركات الفكرية والسياسية في النصف الثاني من الستينات ومطلع السبعينات كانت مفتوحة على النزاعات السياسية المحلية، وثورة الطلاب في فرنسا، وارتفاع مد الحركات اليسارية عبر العالم، وظهور نزعات فلسفية جديدة. كان الاختلاط والتفرغ للدراسة لمدة خمس سنوات عنصران حاسمان في تلك الحقبة الثرية من تاريخ لبنان وتاريخ الجامعة اللبنانية. لا أدري كيف ندافع اليوم عن الفروع. لا معنى للحرية والإبداع إلا في ذلك الجو المتمثل بالاختلاط بين مختلفين. إن حرية الفروع هي مثل حرية الطوائف واستقلالها، الأفراد مسجونون في الحالتين، وسجانوهم من لحمهم ودمهم، من ذواتهم السياسية.

كان جواد نظام ومنا فمنصور وسامي سويدان وغيرهم قد انتقلوا معي من دار المعلمين إلى كلية التربية.وهم جميعهم نظاميون. ولكن الكافتيريا وقاعة المحاضرات لم تكن لتترك لأي منا مجالا ليبقى مع أصحابه السابقين فقط أوأبناء قريته أو منطقته أو ملته. كانت المنحة 200 ليرة شهريا للطالب، و250 ليرة للطالب الذي وضع نفسه خارج ملاك التعليم والتحق بالكلية. وهي منحة تكفي كي لا يذهب الطالب إلى بيت أهله إلا للنوم وأن يقضي نهاره كاملا في الكلية. وفي ظل حرارة الأدب والفن والسياسة والمطالب والنزعات تكسرت كل الأطر المسبقة واندرج الطلاب في شبكات علاقات وأفكار لا عهد لهم بها من قبل. بل أصبحت كلية التربية عصب الحياة الطلابية في لبنان. ومع أنني كنت أقرب إلى أن أكون ضيفا على الكلية فقد غمرني هذا المحيط، وأصبحت جزءا منه.

في صف التربية كان الطلاب النظاميون حوالي تسع فتيات وثلاثة شبان. أحدهم نخلة وهبة، من كفريا شرقي صيدا.كانوهبه نجم الصف،تحيط به مجموعة الفتيات، وهو الذي كان ينال أعلى العلامات، الأمر الذي أهله لحيازة منحة لمتابعة الدكتوراه في فرنسا. لكن رجاء حمود نافسته ونالت منحة أيضا وذهبت إلى كندا وما زالت هناك. أما أنا فلم أكن من الأوائل أصلا. كان اختصاص التربية يضجرني، كنت احضر القليل من الصفوف، حتى عندما احضر إلى الكلية كنت اقضي نصف الوقت في الكافتيريا. في الامتحانات اكتب ما تيسر في رأسي وانجح. كنت اشعر أن التربية اختصاص مائع. استثني من ذلك ما كان يعلمهأستاذ واحد هو نعيم عطية.

4.     المشهد الرابع: في  لبنان الاشتراكي

جاءني حسين قبيسي في أواخر العام 1967 بورقة مطبوعة من حوالي عشرين صفحة تحمل توقيع تنظيم سياسي جديد اسمه لبنان الاشتراكي، وجدت نفسي شغوفا بقراءتها.

لم أكن حزبيا في ذلك الوقت، ولكن أهوائي ما زالت متجهة نحو الشيوعيين، بسبب المربى والعشرة. وقد تعززت هذه الأهواء مع أستاذ أدهشني في دار المعلمين هو ميشال عاصي. كان يقضي نصف حصة الأدب العربي في الكلام عن الأدب والنصف الثاني في السياسة. وكان يتفنن في مقارعة الطلاب البعثيين والقوميين العرب في الصف. بل بلغت به السخرية مرة أنه قال لطالب بعثي انظر يا فلان كيف تفكر، ونزل إلى الأرض وصار يسير إلى الوراء على يديه وقدميه.

مع نكسة حزيران، أصبح كل ما قبله موضع شك. لمتعد الشكوك تساورني حول الناصرية والبعث والحركات القومية فقط بل حول الشيوعيين أيضا المتحالفين مع عبد الناصر. أطاحت النكسة بجميع المسلمات السياسية. كناإثرها ندور حول أنفسنا في البيوت والشوارع بحثا عن أفكار أو أعمال نستقر عليها ولكن عبثا.

الفكرة في ورقة لبنان الاشتراكي كانت بسيطة وحادة في الوقت نفسه ولو كان عرضها معقدا: نقد للأنظمة العربية ونقد للحزب الشيوعي اللبناني المتهم بنزعته الإصلاحية ومراهناته الفاشلة على الشهابية والناصرية، وتبعيته للاتحاد السوفيتي وعدم فهمه لطبيعة الصراع بين الطبقات، ووراثته للإرث الستاليني وإهماله لجوهر الماركسية-اللينينية، والنقد موصول لهؤلاء الحلفاء جميعا ومنهم كمال جنبلاط والحزب التقدمي الاشتراكي.

سارعت إلى الانضمام للتنظيم في مطلع العام 1968. وانصرفت إلى العمل السياسي اليساري بحماس منقطع النظير. الأمر الذي جعل اختصاص التربية في الجامعة أمرا ثانويا بالنسبة لي.

كان التنظيم أشبه بالمعهد الجامعي، فيه أساتذة يكتبون، مثل وضاح شرارة واحمد بيضون وفواز طرابلسي وحسن قبيسي. وفيه أعضاء جدد يتعلمون الماركسية بطعم يساري راديكالي، مثلي.وفيه أعضاء كانوا قد سبقوهم في التنظيم، وصاروا أعلى كعبا ومؤهلين لاستلام الأعضاء الجدد وتقديم الشروح والمجادلة معهم، مثلي أيضا في مرحلة لاحقة.

كانت النصوص نقدية جدلية، مع بعض المضامين والاستعارات الفلسفية والنفسية والسوسيولوجية، وحتى الكاريكاتور اللفظي. وكانت في الوقت نفسه ذات هدف تثقيفي باعتبار أن القراء وعموم الآخرين، يجهلون، أو لم يصلوا بعد إلى وعي ما يدور حولهم ومغازيه. وهذا أنشأ رسالة أساسية للأعضاء: نشر الوعي السياسي عن طريق المقارعة الفكرية، على الطريقة السفسطائية. وما إن يستسلم الهدف حتى ندعوه للانضمام، ثم لتعلم المزيد ثم للعب دور المقارع بدوره. 

في هذه الوضعية وجدت نفسي يوما وقد قررت أن أتبحر في الماركسية لكي لا أبدو قاصرا في الفهم. قررت أن أدرس على نفسي. فجمعت بعض الكتب عن طريق الاستعارة والشراء. وكمن يحضر للامتحان ركزت على كتب ما العمل، والدولة والثورة وخطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء للينين، والبيان الشيوعي لانجلز وماركس، وبؤس الفلسفة لماركس ردا على فلسفة البؤس لبرودون. هذا فضلا عن بعض الدراسات اليسارية حول المنطقة العربية وبخاصة مصر. حملت هذه الكتب وذهبت إلى بيت جدتي في النبطية الفوقا حيث انعزلت لأقرأها.

كان اسمي الرفيق بهزاد. فالتنظيم الذي كان معهدا تربويا سياسيا كانسريا أيضا. اخترت هذا الاسم لغرابته وقتها، وهو اسم لزميل لي على مقاعد الدراسة في النبطية. لم أكن تابعا للخلايا الطلابية في الجامعة. مرة واحدة مارست نشاطا في شقراء قريتي، حيث أقنعت عددا من الأصدقاء بتوزيع بيان في الليل، بعد أن ينام الناس، ظنا مني أن الناس عندما يستيقظون سوف يهرعون لقراءة هذا البيان. ومرة واحدة طلب مني أن اشرح نشرة جديدة في النبطية لأعضاء جدد. تركز نشاطي على كسب أعضاء جدد، وعلى تنشيط اللجان الشعبية في الشياح حيث إقامتي.

وبعد سنتين، وبعد طول شرح، غداة أيلول الأسود الأردني في العام 1970 الذي أفضى إلى هجرة عشرات آلاف الفلسطينيين إلى لبنان، وجدت نفسي في سيارة رانج مكشوفة، مع رفيق من آل البواب، نجول في الغبيري وبرج البراجنة، نحمل المذياع، ونرتل هتافات وننادي الناس نحثهم على تقديم الدعم والمساندة للاجئين الفلسطينيين، مالا أو ثيابا.

كان وضعا سورياليا بالنسبة لي: مزيج من عاشوراء وجمعية خيرية وبائع سمك متجول.

في مساء ذلك اليوم راودني شعور قوي أن هناك شيئا دراميتيكيا يحدث من حولي، في لبنان والمنطقة عموما، أقوى من التنظيم وأفكاره المدرسية في السياسة، وان ما قمنا به ذلك اليوم كشف هامشية التنظيم.  أظن الآن أن هناك سببا شخصيا وراء امتعاضي مما جرى في ذلك اليوم أنه لا يتسق مع مزاجي الذي انكشف في لبنان الاشتراكي، وهو مزاج العمل الذهني والميل إلى الخيال.

بعد أسبوع تقريبا كتبت كتاب استقالتي. كان ذلك في أيلول العام 1970. وبذلك خرجت من تنظيم لبنان الاشتراكي، بعد سنتين من دخولي إليه. أما التنظيم نفسه فقد اندمج مع تنظيم آخر بعد فترة قصيرة، وكأنه،  كما يقول احمد بيضون "أقدم على الانتحار". بعض مننسبتهم إلى التنظيم غادر لاحقا أيضا وبعضهم بقي في المنظمة التي تكونت من الاندماج، منظمة العمل الشيوعي. وما زلت عندما التقي بأصدقائي هؤلاء أمازحهم بالاعتذار عن الورطة التاريخية التي وضعتهم فيها.

لم نرقص أبدا في هاتين السنتين. كانت طقوسنا ثورية، نرتل باستمرار أشعار احمد فؤاد نجم وننشد أغاني الشيخ إمام.

5.     المشهد الخامس: في فرنسا

في يوم من العام 1976 فاجأتني أستاذتي فيفيان ايزامبير جاماتي، وأنا في مكتبها في زيارة روتينية بخصوص أطروحة الدكتوراه  بان وضعت أمامي مخطوطة كتاب الطبقات الاجتماعية لكلود دوبار وسليم نصر. وقالت: طلب مني المؤلفان أن أضع مقدمة للكتاب، وقد كتبتها، وأرجو منك أن تقرأ هذه المقدمة وتعلمني بما لديك من ملاحظات حولها.

كانت جاماتي أستاذة نخلة وهبة قبلي وصارت أستاذة عدد من الطلاب اللبنانيين. هي عالمة اجتماع فرنسية ولدت في العام 1924 من أب لبناني اسمه فانسان جاماتي، وهو ابن رئيس بلدية الذوق، وأم فرنسية تدعى جيرمينيلغوبلو (GermainelGoblot) وهي ابنة ضابط فرنسي، وقد حملت بطاقة الإعلان عن الزواج تاريخ 3 أيار 1888.

أخبرني نخلة وهبة عنها قبل سفري إلى باريس واخبرني عن أطروحته حول تعليم التاريخ في لبنان، وأخبرني عن كتابها بعنوان أزمات المجتمع أزمات التعليم، وعن كتاب بيار بورديو الجديد بعنوان "معاودة الإنتاج". كنت في ذلك الوقت، قبل سفري إلى فرنسا، أجول في الفضاء الجامعي في بيروت. ذهبت إلى مدرسة الآداب العليا، فوجدت حلقة دراسية يديرها منير شمعون. لكني شعرت أنني وصلت متأخرا ولم أتمكن من رصد الاتجاه الذي يسير فيه قطار السيمينار. حضرت جلستين ثم انسحبت. لكني تعرفت على زملاء جدد في المدرسة تلك واستعرت الكثير من كتب المكتبة.

لذلك عندما سافرت إلى باريس للمرة الأولى في تشرين الأول من العام 1973، كنت احمل استعدادات ذهنية مسبقة ماركسية الأطلال وسوسيولوجية التوجه. بنيت موضوع أطروحتي الأولى على كتاب إميل فالان حول التعدد المدرسي، وعلى أطروحة نخلة وهبة التي كانت قيد الإنجاز. لكن جوهر مشروع أطروحتي يقوم على تخيل المقارعة مع أطروحة بورديو حول دور المدرسة في إعادة إنتاج القيم السائدة في المجتمع، افتراضا مني أن مجتمعا كالمجتمع اللبناني الذي عجنت التفكير في أمره  في لبنان الاشتراكي، تختلف تركيبته الطبقية عن التركيب الطبقي للمجتمع الفرنسي أو غيره من المجتمعات الصناعية.

عندما قرأت مخطوطة دوبار ونصر شعرت وكأنني وجدت ضالتي.  قرأتها ومقدمتها في ثلاثة أيام، وبدلا من أن تشكرني أستاذتي شكرتها بقوة على إتاحة هذه الفرصة لي لقراءة تحليل رائع عن الطبقات الاجتماعية في لبنان، بعيدا عن القوالب السياسية اليسارية التي اعتدت عليها في كتابات الحزب الشيوعي ثم في كتابات لبنان الاشتراكي. كانت تلك المرة الأولى التي اقرأ فيها نصا عن الطبقات الاجتماعية في لبنان من موقع المراقب السوسيولوجي وليس من موقع الفاعل الاجتماعي الحزبي. سارعت بعدها إلى التعرف على سليم نصر، وكانت تلك من أجمل الهدايا التي حصلت عليها في فرنسا. وقد استمرت علاقاتنا الوثيقة، ومعه مارلين، حتى آخر دقيقة من حياته.

مع الدكتوراه، تركت البيداغوجيا، ورحت بشغف نحو سوسيولوجيا التربية. ومن حسن حظي أنني أجريت الاستقصاء الميداني قبل شهر من اندلاع الحرب الأهلية، وأن هذه الحرب قدمت أدلة مبكرة وعينية على ما سأصل إليه من أفكار في أطروحتي في العام 1977. وأهمها قوة الطوائف في تشكيل الأفكار السياسية وأفكار الهوية لدى الطلبة، وان المدارس المتعددة التي تعكس في مضمونها الانقسام السياسي على ما بين وهبة، تقف عندي عاجزة عن التأثير في طلابها إذا ما انتمى هؤلاء إلى طوائف تتناقل مواقف معاكسة.

واقع الحال أن هذه المقارعة مع بورديو ظلت ناشطة في ذهني ما بعد الدكتوراه. ففي العام 1979 أجريت دراسة في صيدا تفحص حظوظ معاودة إنتاج المواقع الاجتماعية عبر المدرسة لدى 550 شخصا. تتبعت هؤلاء ابتداء من مهن أجدادهم إلى مهن آبائهم إلى المدارس التي التحقوا بها والمستوى الدراسي الذي بلغوه وصولا إلى العمل الذي يمارسونه بعد ترك المدرسة، وبالنسبة للإناث سألت عن مهن أزواجهن.

مع انجاز هاتين الدراستين خفت تعلقي ببوريو، وانفتح ذهني على مجمل السوسيولوجيا بما في ذلك الاتجاه الليبرالي الذي يمثله ريمون بودون، والذي تبين لي لاحقا انه على اتصال فكري بالسوسيولوجيا الأميركية.

عدت الى مرحلة رمادية مرة أخرى، أتهيأ فيها لانقطاع جديد، كما انقطعت عن أمور كثيرة من قبل.لكن لا شيء يتبخر، كله يتراكم ويتراكب ويتشكل من جديد طبقا لآخر الأحوال والاهتمامات والمواقع. 

6.     المشهد السادس: في أميركا

كان منير بشور سببا لذهابي إلى أميركا. تعرفت عليه بمبادرة مني، بعد أن قرأت له، كما حصل مع سليم نصر. كنت قد انتقلت من أستاذ في دار المعلمين في النبطية إلى أستاذ في دار المعلمين للتربية الرياضية في العام 1973. لم أكلف طبعا بتعليم الرياضة في هذه الدار، فبيني وبين الرياضة خصام قديم، بل كلفت بتعليم مادة المدرسة والمجتمع، وهي مادة مستحدثة كانت واحدة من آثار عهد وديع حداد القصير في رئاسة المركز التربوي للبحوث والإنماء. وفر المركز لنا، نحن أساتذة مقرر المدرسة والمجتمع، نصا مطبوعا، كتبه منير بشور.

منير بشور يكتب بسلاسة وعمق ومن منظور أكاديمي لم اعرفه من قبل هو منظور الأدبيات السوسيولوجية والتربوية الأميركية. في تلك الأيام كان الانقطاع قويا بين الثقافتين الأميركية والفرنسية. حتى إبان الدكتوراه لم أقرأ كتابا واحدا بالإنكليزية، بما في ذلك ما كتبه حليم بركات وجوزف جبرا وتيودور هانف عن اتجاهات الطلاب السياسية، التي كانت موضوع أطروحتي. ففي لبنان عشية الحرب كان النزاع السياسي يلبس جبة اللغة الفرنسية مقابل اللغة العربية، أما اللغة الإنكليزية فكانت بعيدة عن النزاع السياسي بل هامشية الوضع في مجمل الثقافة اللبنانية التي كنت جزءا منها. المهم أنني علمت هذا المقرر بمتعة. وانتظرت سبع سنوات حتى أنهيت الدراسة التي وضعتها عن صيدا، في العام 1980، وذهبت إليه، عرفته بنفسي وقدمت له نسخة من الكتاب.

ثمة كيمياء إيجابية في شخصية منير، جعلتنا نرتبط فورا بصداقة عميقة حتى يومنا هذا، بما في ذلك العلاقة الوثيقة بين عائلتينا. وكان لتعارفنا آثار عدة علي. أذكر واحدا منها، أهمها.أنه أقنعني بالذهاب إلى أميركا وتعلم اللغة الإنكليزية، وقد تم ذلك ولغرابة الصدف في مقهى في باريس.قلت: كيف؟ قال: فولبرايت؟ قلت وما فولبرايت؟ فشرح وتطوع بتوفير الدعم. هكذا نزلت بعد سنتين من هذا الحديث في أرض "منسي" في اينديانا في أيلول من العام 1993، ومن هناك تنقلت في أنحاء أميركا.

أمضيت خمسة أشهر من الدهشة المستمرة، فاقت دهشتي في باريس عندما زرتها للمرة الأولى. التفوق يعزى إلى أن موضوعي كان دراسة التعليم العالي في أميركا، أي انه مشروع يقوم أصلا على ممارسة الفضول، وليس على الوصول إلى نتائج. ولم أشبع من أميركا فذهبت مرة ثانية بمنحة من فولبرايت أيضا في العام 2005 لممارسة الفضول في موضوع الاعتماد وضمان الجودة في هذه البلد الرائد في هذا الميدان.

الدراسة في أميركا نقلت اهتمامي إلى التعليم العالي على حساب سوسيولوجيا التربية. وجدت أن هذا التعليم فيها يفوق أي تعليم عالٍ في العالم، بما في ذلك النظام الفرنسي الذي الفته في لبنان وفرنسا. لذلك كانت أولى ثمار الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية دراسة عن التعليم العالي في لبنان نشرت في العام 1997. تلتها دراسات عديدة بعد ذلك. وجاءت دراسة قضايا الجامعة اللبنانية وإصلاحها في هذا السياق.

7.     المشهد السابع: في الجامعة اللبنانية

عدت من منحة فولبرايت الأولى في شباط من العام 1994، ووضعت تقريرا عن رحلتي لرئيس الجامعة آنذاك أسعد دياب. كان الرئيس الأول المعين بعد سنوات من التكليفات بالرئاسة للأكبر سنا، وكان الأول بعد اتفاق الطائف. لم يسألني عن شيء في التقرير لكنه طلب مني لاحقا الانضمام إلى لجنة لوضع مسودة قانون للجامعة ضمتني وإبراهيم مارون ورجل قانون لا أذكر اسمه. كنا نتناقش كأننا نلعب بينغ بونغ. وضعنا نصا أوليا، غير صالح، بشق النفس. وتوالى تشكيل اللجان بعد ذلك. بعضها شاركت فيه وبعضها لم أشارك. لكني كنت دائما مندفعا للإسهام في التفكير بشؤون جامعتي، التي تعلمت فيها وادرس فيها، الجامعة الوطنية التي تشكل رافعة العيش المشترك والحراك الاجتماعي ونشر المعرفة على امتداد الوطن.

استمرت المحاولات حتى نهاية  التسعينات. كان ذلك اثر انتخاب إميل لحود رئيسا للجمهورية، وإلقائه خطبته العصماء في مجلس النواب حول إقامة دولة القانون والمؤسسات. ظننا أن رياح التغيير تهب ولا بد أن ننتج نصا إصلاحيا موثقا عن الجامعة اللبنانية. وكان ظننا في غير محله. وظننا أننا بتشكيلنا فريقا مستقلا يريح رئيس الجامعة من عبء الضغوط السياسية عليه في وضع مسودات القوانين ودفعه إلى وضعها على الرف، وهو الذي رفع شعار ارفعوا أيديكم عن الجامعة. وكان ظننا في غير محله. وظننا أن القائمين على رابطة الأساتذة المتفرغين في ذلك الوقت، سوف تتعامل معنا بايجابية تامة طالما أنهم يرفعون باستمرار شعار تطوير الجامعة وإصلاحها. وكان ظننا في غير محله.

عملنا خمسة اشخاص ما يزيد عن السنة، أحمد بيضون، وناصيف نصار، وملحم شاوول، وخليل نور الدين وأنا. ووضعت الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية كل التسهيلات والدعم بتصرفنا. وأنتجنا نصا ما زلت اعتبره فريدا في مضماره. رئيس الجمهورية ذهب بالقانون والمؤسسات إلى دمشق، ورئيس الجامعة أرسل لنا إنذارا بواسطة المحامي تمهيدا لإقامة دعوى ضدنا، ورئيس الرابطة آنذاك حرك الأحزاب المشاركة في الرابطة لكي تهاجمنا في الصحف وتتهمنا بالعمالة، على الطريقة البعثية. ونشرنا الدراسة في كتاب في العام 2000.

هل كان يجب أن ينتج هذا النص من داخل الجامعة؟جربت هذا الاحتمال من خلال إجراء تقييم ذاتي، وذلك في عهد الرئيس إبراهيم قبيسي. عمل في كتابته 137 زميلا. وعندما أنجز النص في العام 2003 حوله رئيس الجامعة إلى كتاب مطبوع يمكنك أنت ضعه في مكتبتك إلى جانب كتاب العام 2000.  وجربنا وضع نص برعاية الوزير، في عهد خالد قباني، في العام 2006. لكن النص لم يخرج متماسكا أصلا من بين أيدي المجموعة التي شكلها الوزير، ولا استقبله أحد بحرارة، وهوجمنا هنا أيضا.

أصبحت الجامعة اللبنانية مثل أرض متنازع عليها بسبب خصوبتها، وفي جو التنازع هذا تصبح أجزاء منها مناطق نفوذ ومنافع، فان قال أي طرف بإصلاح ولو كان مثلنا ليس طرفا سياسيا ولا نريد إلا توفير النوعية والمساواة، كان له النافذون فيها بالمرصاد. 

نحن منذ خطاب إميل لحود حول دولة القانون والمؤسسات نسير ضد دولة القانون والمؤسسات.

8.     في الهيئة اللبنانية

الدولة في لبنان تهزل مع الوقت. لكنالمجتمع يعوض هذا الهزال إما بقوة جماعاته الأهلية الطائفية والسياسية أو بقوة المؤسسات المدنية، كالجامعات والمستشفيات والشركات والمصارف والنقابات وغيرها بما في ذلك الجمعيات غير الحكومية.

إن التجاوب السريع مع الدعوة لإنشاء الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية في العام 1995، من قبل زملاء لا يعرف قسم كبير منهم بعضهم بعضا، سببه المعلن تطوير المعرفة التربوية، وسببه الباطن النزعة للانتماء إلى مساحة عامة مدنية، مختلطة، تعلو فيها مرتبة الشأن العام، والشأن المعرفي هو مادة الشأن العام بما هو كليات فكرية (universals). المؤسسات المدنية هي ملاذنا وقت هزال الدولة وهي في الوقت نفسه عضد قيام الدولة.

لقد نشأت فكرة الهيئة اللبنانية متخيلة في مطعم مسيس الأرمني وفي حوار مع حبيب حجار الزحلاوي، ثم شارك في صقلها وتأسيسها في العام 1995 منير بشور ومراد جرداق وإيمان أسطة من الجامعة الأميركية وجوزيف أنطون الذي كان يعلم في ذلك الحين في الجامعة اليسوعية والياس مرعي من وزارة التربية.وهي نمت بنتيجة عمل جماعي شارك فيه جميع من انتسبوا إلى الهيئة.

بحلول الذكرى العشرين لتأسيسها في العام القادم ، نأمل أن تنتقل الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية إلى مرحلة ثانية نكون فيها حاضرين على مستوى الرأي التربوي اللبناني والتأثير في السياسات.

 

خاتمة

أيها السيدات والسادة،

يسعدني أخيرا أن أخبركم بأننا بنينا أنا وزوجتي فاديا بيتا في شقراء، قريتنا، نحبه كثيرا، صنعناه من خيالنا، ونقضي فيه بعض عطل نهاية الأسبوع، ونسعد بلقاء من نحبهم فيه. وهو مثل دار المعلمين، صغير ويتسع لكم جميعا.

شكرا لإصغائكم