" سيمياء العدد والقلق الأكاديمي " 

للدكتور أديب سيف :

العِلْم تحت سقف الوفاء!

(د. جورج طراد)

(  في الندوة التي عُقِدت في الحركة الثقافيّة – انطلياس في 14 آذار 2014 )

لا بدّ لمن يقرأ الدكتور أديب سيف من أن يروّض نفسه على التقلّص . بمعنى أن عليه أن يرضى بالممكن الجزئي ، بعد أن يكتشف استحالة الحصول على الشامل الكلّي .ومَنْ تمرّدت عليه نفسُه ولم تطاوٍعْه في هذه المعادلة ارتدَّ عن دخول عالَم أديب سيف الأكاديمي يائسا كليلا ، مكتفيا بنتف من هنا، وبفُتات من هناك .

  هذه قناعة أهتديْتُ اليها بعد قراءة " سيمياء العدد والقلق الأكاديمي " ، وهي قراءة كانت مُتعِبة . أعترف . ولكن مكتنزة . أعتز . فلأديب سيف عالمُه اللغوي والرُؤيوي . فيه يتحرّك وبه . له شيفرتُه التي لا تحاكيها شيفرة . فامّا أن تُجهدَ نفسك لأبتكار المفاتيح . وامّا أن يزدادَ اللغز انغلاقا واستعصاء.

  على طريقة أديب سيف في قراءاته النقديّة، مثلا قراءتَه لعنوان كتاب يوسف عيد  "بالكلمة أرحل"، نرى الى عنوان كتابه" سيمياء العدد والنقد الأكاديمي"، فاذا لفظة "عدد" هي الأكبرُ اخراجا والمختلفةُ لونا . وهي مُضاف اليه للفظةٍ مفتاح هي " سيمياء " . فالسيمياء وتأويلاتها المختلفة، كما أشار الكاتب في المقدّمة ، أفق دائم التحوّل ، في حين أن "العدد" ثبات دائم . و"القلق" ، أيضا ، فضاء غير ثابت ، أمّا " الأكاديمي " فرمز لليقين ، أو أقلّه للسعي الى اليقين . أضف الى هذا أن عنوان الكتاب المؤلَّف من 4 كلمات (والعدد4 انثوي كما قال الكاتب )يبدأ بكلمة أجنبيّة ( سيمياء )دخلت عالمنا النقدي حديثا ، وينتهي بكلمة أجنبيّة ( الأكاديمي ) دخلت ،هي الأخرى ، عالمنا الثقافي . الطرفان ،اذن ،آتيان من انفتاح .أما الوسط (العدد والقلق )فهما نقيضان يُلغي أحدُهما الآخر ويقضي عليه ، اذا لم يُقيَّض له كاتب قادرعلى ترويض الجموح واخضاع الشطَط. والكاتب الذي قام بهذه المَهَمّة هو أديب سيف الذي سارع الى طمأنتنا بثلاث ألفاظ اضافيّة هي "موضوعيّة النقد الوفي" ، بخطٍ أصغرَ وبلونِ لفظة " العدد"؛ ما يوحي اليقين والثبات ، وكأنّه يشرح لنا معاناتَه في ضبط الأمور لتبقى موضوعيّة من دون أن تتخلّى عن الوفاء .

  والوفاء سمة من سمات أديب سيف، هذا الفارس الطالع من القرون الوسطى، وهي لا تحتاج الى دليل . فمادة الكتاب موزَّعة على أساتذة تتلمذ أديب عليهم ، ثمّ زاملهم فصادقهم ، لكنّه أبقى على هالة الاحترام تُغلّفهم ، في نظره ، حتى ولو اكتشف بعضَ ما يلوّث تلك الهالة .وفاؤه يجعلُه يقبل الآخر، أستاذَه ، فتبقى الصورة متألقة ، وتأتي الكتابةُ مثلَها مُحِبة ، حاضنة ، وفيّة .

  هذا في الخلفيّة والدوافع . امّا في التجليات ، فأديب سيف واعٍ جيّدا لما يفعل ، وعارف كيف. ربّما أكثر من اللزوم أحيانا . وهذا ما يُتعِب في قراءته . أو أقلّه ، هذا ما أتعبني . فثمّة معلومات غزيرة،جديدة ، متشعّبة ، متدرّجة ، ملأى بتفاصيلَ يصلح كلّ منها لأن يكون مادة دراسة قائمة بذاتها. فعِلم د. أديب غزير  وهو تعب على نفسه ويَتعَب ، ومَنْ كان هذا شأنه لا يمكنه أن يُهدْهِد الآخرين كي يرتاحوا ويناموا. هو حامل اليهم الأرقَ حتما، والقلقَ أيضا . انّه التعبُ المحرّض على البحث، حتى ليشعرَ كلّ منهم بأنّه مقصر فيسعى الى المزيد ، ذلك أنه ، لاشعوريّا ، يقارن نفسه بما جاء به أديب في كتابه هذا ...

 ثمّ ان أديب ، كما يتجلّى من هذا الكتاب النقدي الوفي ، رجلُ علم ورجلُ أدب. لا أجرؤ على الحسم في أيّ من الصناعتيْن تُكتب له الغلَبة. يقيني أن في رأس أديب سيف دقّةَ العِلم وطراوةَ الأدب . تصطرعان وتتحاوران ، تتسابقان وتتجاوران ، وأديب هو ذلك الحوذيّ الماهر الذي تحدث عنه أرسطو ، يقبض على العنان ويضبط جموح هذا وشرود ذاك ، لتبقى المعاييرُ محترَمة والمقاديرُ ضمن المعقول .

  والدكتور أديب ، كما يتبدّى من مقدمته الأكاديميّة التنظيريّة المقتضَبة ، وكذلك من خاتمته الأكاديميّة- الاجتماعيّة المسْهبَة ، مسكون بهاجس التقصي والتفتيق وملاحقة الدلالات واستخراج المعادلات ، من دون أن ينسى "أناه " لحظة واحدة.  بمعنى أن مقاربته العلميّة للنص هي انعكاس لأناه العلميّة ، كما أن تذوّقه هو جزء من أناه الأدبيّة . لأجل هذا جاء نَصّه ، ومن دون الدخول في أيّة تفاصيل ، مرآة لنفسه . وأكاد أقول انه ، أحيانا ، كان يقرأ في نص الآخرين ما كان ليكتبَه هو لو كان قلمُهم بين أنامله !

  ومراجع الدكتور أديب ، كما منهجيّة المقاربة لديه ، تستند الى ثقافة مترامية الأطراف ، غربيّة في معظمها ، حديثة برُمتها ، تشبّع بها  وتمثّلها فرَوّضَها ليضعها في خدمة النص الذي يقارِب . وأعتقد أن هذه الطريقة ، رُغم ما تسبّبه من تعب للمعتادين على الاستسهال والتناول من الكمّ ، على قولة مارون عبّود ، الأّ أنها تفتح آفاقا وتُرْسي نهجا وتُعَلّم أن الجديّة صنوُ التعب ، وأن التعرف الى الجديد، حتى ولو بدا غريبا في بعض الأحيان ،هو دخول في مجهولٍ مبارَك لا بدّ من أن يحمل عمقا اضافيا .

  وأكتفي ، هنا بفكرة العدد التي ركّز عليها أديب رؤيته النقديّة الوفيّة، لتأكيد ما تقدّم. فالدراسات تسْع. والعدد 9 ، كما يقول ، هوعدد ذو تكوين بِنيوي سيميائي ، وله خصائص داخليّة لأنه بامتزاجات العدد9 وما دونه من الأعداد ، نتوصل الى العدد نفسِه (ص ص 14-15 من الكتاب ). لا أريد أن أتعبَكم كما تعبتُ أنا . أكتفي بالقول أنك أحيانا كثيرة ، محتاج لأعادة قراءة مقطع من كتاب الدكتور أديب ، مرتين أو ثلاثا ،لتستوعب ، أو لتشعر بأنك بدأت تفهم . وينتابك فرح عميم حين الأستيعاب والاحساس بالشبع الفكري. وما اشارته الى كلمة" الجسر"،  في قصيدة خليل حاوي المعروفة ، وموقعها العددي الوسطي سوى دليلٍ آخرَ على ما نذهب اليه .

  وقد ذكّرني هذا التعبُ الأديبي ، اذا صحّت النسبة ، بتعب آخرَ مماثلٍ تسبّبته قراءتي لدراسات فاليمير خليبنيكوف (1885-1922 Velimir Khlebnikov)، رائد الرؤيويّين المستقبليّين الروس مطلع القرن الماضي ، حول العدد والمصادفات/الوقائع المرتبطة به ، لاسيّما حين قال ان هدفه هو دحض ما يُعتَبر مصادفة ، والتأكيد على أن لا شيء بالمجان ، وأن ما نعتبره كيفيّا ليس سوى علاقة لا تزال مجهولة بين المعطيات . وقد طرح خليبنيكوف مثلا في العام 1912 ، استنادا الى معادلة الأعداد ، سؤالا مضنيا هو :" أليس علينا انتظار سقوط دولة في العام 1917 ؟" ..وفعلا سقطت في السنة المذكورة ، أمبرطوريّة القياصرة الروس التي كانت تُعتَبر عصيّة على السقوط ! وقد وصل خليبنيكوف الى درجة اقتراح استخدام الأعداد بدلا من الكلمات في الحوار بين الناس . وهذا ما آمن به لايبنيتز(Leibnitz ) ونوفاليس(Novalis) وبيتاغور(Pythagore)  كما يؤكد تودوروف (Todorov) .

  هل ان أديب سيف سليلُ هذه العائلة الفكريّة ؟

  لم يكن مثل هذا السؤال مطروحا عندي قبل أن أقرأ كتابه الجديد . اليوم ، بتّ أميل الى مثل هذا الاعتقاد ، حتى ولو لم يكن الدكتور أديب واعيا له . ففي العادة يشرب المثقّف من كل فكر من دون أن يعرف بالتحديد مصدر الارتواء .. وأديب مثقّف كبير نهل من ينابيعَ عالميّة كثيرة صارت جزءا من كينونته الفكريّة التي بها نعتزّ ونفرح .

  بقيت اشارة أخيرة ، شخصيّة وعابرة . أشكرك على " الاهداء "، يا أديب . فأنا لست مستحقّا لما قلتَه عنّي بين الكلمات وفيها وخلفها . فاللسان، كما قالت العرب،هو أحد الأصغريْن ، وهو موصول بالقلب مباشرة ،في حين ان الفمّ وعاء ليس الاّ. وشكرا .

--------------------------------

أديب سيف : عالمٌ يعشَقُ الحقيقة !

الدكتور ربعة ابي فاضل

 

قال أَفلاطون في الجمهورية : “Celui qui aime réellement la science doit dès ses            premières années poursuivre de toutes ses forces la vérité toute entière”[1]

العلمُ والحقيقة مفتاحان إذًا، لفهم فكر هذا الرّجل، وطريقة قراءته، ورؤيته إلى الحياة والوجود. كتبَ عن الزّمان في الشّعر، وذكّرنا ببرغسون، وبكون الإنسان هو جوهرَ الزّمان :

“l’homme est tout entier temporel, il est le temps dans sa substance”[2]

 

وكتبَ في المكان والعشقِ التّكاملي أَو التحوُّلي بينَه وبينَ الزّمان، في التّجربة الإنسانيّة والكونيّة، فالزّمكان هُما معًا، يُمثِّلان الواقعَ والمثال :

“… réalités empiriques et idéalités transcendantales”[3]

وذهب بعيدًا في التأويل، متخطيًّا الحواجز كأنه فارسٌ بجناحين، على فرس، يُغوّر في ثقافاته، من هايدغر إلى ريكور، إلى غادامر، إلى آخرين، متنقّلاً من فضاء الّلغة إلى فضاء المعاني، والجمال ، والجلال، والسّر... فمعه لا حدودَ للدَّلالات[4]، وخصوصًا عندما تكونُ حقولُ القراءَة رموزًا وأساطيرَ وفلسفات روائية وأورفية... إنّه قارئٌ محلّلٌ ومحاورٌ وباحثٌ عن الآخر، وعن ذاته. أَولم يقل ريكور “Comprendre c’est se comprendre devant le texte”[5]

لقد صدق يونغ عندما قال ، كأنّه عنه يقول : “C’est dans la grandeur du temps que l’homme grandit… l’esprit créateur joue avec les objets qu’il aime…seul dispose de           la faculté réelle celui qui a la grâce du savoir et de la compréhension vivante”[6]

ولا ننسَ أَنّ نقده الصَّعب جذَّاب يُشبه الـ “horreur sympatique”  عند بودلير. فأنتَ تقرأُ قراءة لقارئٍ غير عاديّ، عن نصوصٍ استثنائية ، شعرًا ونقدًا، وأَنواعًا أُخر، والقارئ هذا مُنحَ شهادةً من السَّماء قبل شهادات الأرض، موهبةً ترادفُ العَبقريّةَ، وطبعًا مختلفًا، وعزيمةً بروميثيّة، وشغفًا بالمعرفة لم نره في الجامعة اللبنانية، منذ ربع قرن، ولا شكّ في أنّ النّاقد نبيل أيوب، وأساتذَتَهُ الآخرين، ساعدوه على تنمية الفكر وارتقائه، لكنّه منذ بداياته، كما أعلم ، كان كأنّه يتبع شعار غادامر :

 “la tendance générale est de n’admettre aucune autorité et de tout soumettre au tribunal de la raison…l’ultime source de toute autorité, ce n’est pas la tradition mais                  la raison”[7]

إنّه في أُطروحته، وفي "الملاءَمات النّقديّة"، وفي "وظائف العناصر الاسميّة"، وفي "سيمياء العدد والقلق الأكاديمي[8]، يحقّق لذاته، ولنا، رحلةً من عالم الدلالة إلى معالم التأويل،ومن الدّلالة النّحوية إلى الدّلالة العلميّة، ومن القلق الأكاديمي إلى واحة العقل المبدع. أَولم يقل إنّ الإبداع ليس كما هو شائع، في النّص الإبداعيّ، وحده، بل في الإبلاغي إذا أَظهرَ الجديدَ أَو ما يُمكن أَن يكون جسرًا إلى الجديد[9]. إنّه يقدّم لك ذاتك في نصّك، كي تعرفَ عنكَ ما كنت تجهل، وعن نبض قلبك وأسراره، وعن صمت المتعارضات في كيانك. فقد قرأ "عطشان يَحنو على الينبوع" بعيني قلبي[10]. فإذا شئتَ تذوّقْ دلالات الألوان وتجلياتها، في تجربة ديزيره سقال، وعشقَ الكينونة والزّيتون والأَرض، في تجربة يوسف عيد، ومواكبةَ أورفيوس بولس طوق، في أَناشيده وغربته واحتراقه، وأُبوّةَ نبيل أيوب للفكر النَّقدي التحديثي، في حياتنا الثقافية، وشعريّةَ جورج الحاج وأَبعادَها الإنسانيةَ والدِّينية، ومستوياتِ التّركيب الشّعري في حديقةِ جورج طربيه، وحواراتِ جورج سعادة الشّعريةَ مع القمر، وأبحاثَ جوزف أبو نجم الأكاديمية المنضبطة، الغنيَّة، فإنّك تدرك أمرين : القلقَ الأكاديميَّ المسؤول، والابداعَ الشّعريّ الراقي. وتَطَّلعُ على منطق تدرّجي قاد الباحثَ العالمَ أديب سيف إلى حقيقة سمَّاها، لتواضعه العلمي، إشارةً غيرَ نهائية، أو درجةً من درجات الحقيقة اللاّمتناهية[11]، ما يعكسُ مسألةً مُهمّة في النّقد، وهي أَنّ القراءَةَ والتأويلَ محاولةٌ لكشف الحقيقة، من خلال طرائقَ علميّةٍ صارمة، لكنّها، تبقى غيرَ كافية، لكون الإنسان ليس عقلاً وحَسبُ، بل هو روحٌ، والروّح تَقرأُ أيضًا، وتَعلُم في ذروة إشراقها، أَنّ الحرفَ يَقتلُ والخيالَ يُحيي، وأنّ دانتي وﭬـيرجل وأُوﭬـيد ما يزالون، وسوفَ يَستمرون، أَعظمَ من كلّ قُرّاء العالم، ومُروِّجي اللسِّانيات القديمة والحديثة[12]، اللّهُمَّ إلاّ إذا كان اللّسانيون هم أنفسُهم أَصحابَ رؤى فلسفية، ولاهوتية، وفكريّة، تجعلُ إبداعات قلوبهم مساويةً لعطاءات عقولهم أو تتخطاها اشتعالاً، وتأثيرًا، وغنى عميقًا. وتكمن أهميّة سيف، ناقدًا، في خروجه على الآلية النقدية المألوفة (L’automatisation)، وإبداعه نقدًا غريبًا جديدُا وغنيًا.

وبعد، هل نحن اليوم، في سياق استكمال سلطة القارئ على الكاتب، وإحلال قصديّة الأوّل محلّ قصديّة الثاني؟ وهل إنّ هُويّة القارئ هذا ترتبطُ بانزلاقات ومَتاهات تأويليّة لا متناهية، من دون ضابط منطقي نهائي؟ وهل لدى القراءَة المسؤولة طاقةٌ على إغناء التجربة الإنسانية بمعرفة جديدة خلاّقة؟ وسؤال آخر : ماذا وراء النّص، هل هناك نصّ آخر، ومتاهة لا نهائية أو إنّ ثمة ثقافة تداولية، وفعلاً رسوليًا يجعلنا نشرف على الحقيقة؟ المهم أنّه من غير المجدي تعطيلُ نعمة الفهم لدى القارئ، وهو يحاور المنتَج الأَدبي أو النقدي، وهذا ما نجح القارئ-الناقد سيف في تحقيقه، عندما عرض بوعي ثقافي حادّ تجاربَ متنوّعة، ساعدنا على معايشتها.لكنّ قارئًا عاديًّا لهذا القارئ الاستثنائي، لن يستمكن من الارتقاء إلى مستواه، إلاّ إذا حصّل ثقافات فلسفية ولسانية ودينية وهرمسيَّة باطنيّة، وثيوصوفية، وعلميّة وغيرها، ما يستحيل أن يتيسّر إلاّ لقلّة من المريدين المغامرين؟ إنّنا مع أديب سيف، ونقده، كأنّنا مع أبي تمّام وشعره، أو كأننا مع معتزلية جديدة لا تكتفي بتقديم العقل على النقل، وبقراءَة الخفيّ، بحثًا عن المفاهيم المجازيّة الحقيقية القادرة على نقلنا من الغامض الخفي إلى الواضح الجليّ[13]، بل تريد أن تصل بالنقد إلى حقل يمتص مُعظم العلوم، غير مبالية إلاّ بالراسخين في العلم، أمّا الآخرون فما عليهم سوى الانتظار لكي يفتحها الله فتحًا يسيرًا، وتكتشف صدورُهم مدارك التنـزيل وحقائقَ التأويل،مردّدين :"وما يعلمُ تأويلَه إلاّ الله"[14] وأستطيع أن أُلخّص قراءتي بالقول، كما أنّ ليوبولد سينغور رأى في الشعريّة ((une manière de vivre et de faire  وأَراد بشعره، تحقيق اليقظة والفرح لشعبه ، هكذا نحن في إبداعنا النّقدي، يجب أَلاّ ننسى قوله :   ma tâche est d’éveiller, mon peuple, Ma joie de créer des images pour le nourrir!”[15]

ربيعة أبي فاضل

(نابيه – آذار 2014)



[1] - La République, Eds Gonthier, paris, 1963, p. 184,185

[2] -René Rampnoux, Histoire de la pensée occidentale De Socrate à Sartre, Ellipses, Éd. Marketing, paris, 2008, p. 362

[3] -Ib. p. 241

[4] -Ib. p. 498 “… Jamais de mots capables d’exprimer quelque chose de definitif”.

[5] -Paul Ricoeur, Du texte à l’action, Essais d’herméneutique, 11, Ed. Esprit, seuil, paris, 1986, p.116

[6] - C.G Jung, l’Âme et la Vie, Éds. Buchet/Chastel, paris, 2012, p.81,222,240

[7] -Hans-Georg Gadamar, vérité et méthode, Éd. Du Seuil, paris, 1976, p.110 - 111

[8] - دار العلم للملايين، 2006، 2014.

[9] - سيمياء العدد والقلق الأكاديمي، دار العلم للملايين، 2014، ص 14.

[10] - ن. ص 369 .

[11] -ن. ص 369.

[12] - من المفيد العودة إلى : عبد الواحد المرابط، السّيمياء العامة وسيمياء الأدب، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2010، ص 174

[13] - من المفيد العودة إلى :

- نصر حامد أبو زيد، إشكالية القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط5، 1999، ص141.

- امبرتو إيكو، التأويل بين السيميائية والتفكيكية

ت. سعيد. نكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص 28-38

[14] - راجع محمد بازي، التأويلية العربية، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2010، ص25.

[15] -Senghor, œuvre poétique, Ed. Du Seuil, points, paris , 1990, p. 369 - 371

----------------------------------------------

   جورج زكي الحــاج

        دكتور دولة في الآداب

 أستاذ دكتور في الجامعة اللبنانيــّة

المنزل : 806595 /04  806995 /04 

  خاص  : 341015 /03   فاكس   : 806595 /04 

بريد إلكتروني : This e-mail address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.     

"سيمْيَاءُ الْعَدَد" للدكتور أديب سيف:

من الأَكادِيميّــــــــةِ إلى الإبداعيّـــــــــة.

 

نصُّ الكلمة التي أُلقيت في كتاب الدكتور أديب سيف "سيميائية العدد والقلق الأكاديمي" ، في الندوة التي أقامتها الحركة الثقافية ـ أنطلياس، في إطارالمهرجان اللبناني للكتاب (33)، يوم الجمعة الواقع فيه الرابع عشر من شهر آذار من العام الرابع عشر بعدالألفين.

                                                        

 

 إذا كان جيرار جينيت يرى الناقدَ في نوعين:

  ـ النوع الأول يشرح الأعمالَ الأدبيةَ ويُسهبُ في شرحِها،

  ـ والنوع الثاني هو طاقةٌ إبداعيةٌ خلآّقة،[1]

  فإنّي، بتواضعٍ كلّي، أرى النقدَ يندرجُ في أربعِ طبقاتٍ، وهذا ما رددّتهُ في غيرِ بحثٍ ومقالةٍ وكتاب.[2]

  1ـ نقدٌ وظيفيٌ أو نقدٌ صحيفيٌ، يومي أو أسبوعي، هو إلى الفوضى الكتابيةِ أقرب، يقومُ على الاسترسالِ والإطنابِ في المديحِ أو في الهجاء، والناقدُ فيه إنْ أحَبَّ أطنبَ، وإنْ كرِهَ استرسلَ، من دون أن يكونَ مديحُهُ أو هجاؤهُ قائميْنِ على مرتكزاتٍ علميةٍ ومسوّغاتٍ موضوعية، وينمُّ عن قصورٍ في فهمِ الصّنيعِ موضوعِ النقد، أو أنّه يُركِّز على فكرةٍ مُعيّنةٍ، طالعتهُ فيدور حولها، ويُسهبُ في الدوران.  وهذا لا يؤدي أيَّ دورٍ في النقدِ البنّاءِ والسليم، وهو ليس أكثرَ من إِخبارٍ أو إِعلامٍ، أو دعايةٍ للصنيعِ الفنّي.  

 

 2ـ نقدٌ شارحٌكالذي وردَ ذكرُهُ عندَ جيرار جينيت، يقومُ الناقدُ فيه بدورِ الوسيطِ بين المُبدعِ والمتلقّي، ويدخلُ في هذا النوعِ معظمُ النقدِ الأدبيِّ عند العرب، خصوصًا في القرنِ التاسعِ عشر ومعظمِ القرنِ العشرين، والتفسيرُ فيه لا يتعدّى شرحَ المعاني، كأنْ ينثُرَ الشِّعرَ، أو يُفسّرَ النثرَ، ويتوقّفُ عند الصُّورِ البلاغيّةِ بيانيّةً وبديعية، مُكثرًا من مفردات: ما أروع، وكم كان مُبدعًا، وهو أهمّ وأحسن، والوحيد، والسبّاق... وما إلى ذلك، وهذا أيضًا لا يؤدّي أيَّ دورٍ فعَّالٍ في النقد.

 

 3ـ نقدٌ أكاديميٌ، ينطلقُ فيه الناقدُ من نقاطٍ ثابتةٍ ومسلّماتٍ معروفةٍ لديه، للوصولِ إلى نتائجَ ثابتةٍ أيضًا. سالكًا طريقَ الموضوعيةِ العلميةِ، والأكاديمية. هذا النقدُ يمتهنُهُ، في الغالبِ، الأساتذةُ الجامعيون ضمنَ مناهجَ مختلفةٍ، وهو أفضلُ أنواعِ النقدِ التي مرّت .

 

4ـ نقدٌ إبداعيٌ،وهو نقدٌ، يُصبِحُ فيه الصنيعُ النقديُّ عملاً إبداعيًّا قائمًا برأسِهِ، ومساويًا للصنيعِ الفنّي موضوعِ النقد، إنْ لم يكنْ متخطّيًا لهُ. وهذا هو النقدُ الذي نحاولُ، جاهدين، الوصولَ إليه والتعاملَ معه .

هذا النوعُ الأخيرُ من النقدِ، يقومُ على خلفيّةٍ ثقافيّةٍ غنيّةٍ جدًّا.. والناقدُ هنا، بالإضافةِ إلى كونِهِ قارئًا جيّدًا، هو قارىءٌ شموليٌّ، وعارفٌ مُطّلعٌ على مختلفِ العلومِ الإنسانيةِ، من ميتولوجيا وأنتروبولوجيا، ولاهوت، وفلسفةٍ، وآدابٍ، وتاريخٍ، وعلمِ اجتماع، وحضارةٍ وغيرِ ذلك .. بالإضافـةِ إلى إتقانِ غيرِ لغــةٍ واحدةٍ، وإلى اضطلاعٍ في المفاهيمِ والمعتقداتِ الدينيةِ على غيرِ تعصّبٍ .

 هذا الناقدُ لا يقرأُ المعنى ومعنى المعنى، كما يقولون، وإنما ينفتحُ المعنى عندَهُ على مجموعةِ معانٍ، يشكّلُ كلُّ واحدٍ منها بُعدًا جديدًا ورؤيا جديدةً. لا أن يكونَ اجترارًا لفكرةٍ معيّنةٍ، أو لشعارٍ معيّنٍ اسْتَحْسَنَتْهُما العاطفةُ فانجرفتْ خلفَهُما.. لذلك أقولُ: إن كثيرًا من النصوصِ التي كُتبتْ في الفكرِ العربيّ، وبخاصةٍ في القضايا القوميةِ والسياسيّةِ، هي فكرٌ لن يَصْمُدَ طويلاً، لماذا؟ لأنَّ معظمَها هو إعادةُ إنتاجٍ لنظرياتٍ غربيةٍ أيًّا كانت طبيعتُها .. أي أنها تفتقرُ إلى الإبداعِ الخلاّقِ الذي يُجيدُ صوغَ النظريةِ انطلاقًا من الواقع.

 

 والناقدُ الإبداعيُّ هو الذي يرى ما لا يراهُ الآخرون، حتى الشاعرُ نفسُه، استنادًا إلى مخزونِهِ الثقافي والمعرفي، وإلى نظرتِهِ الثاقبةِ، إيمانًا منه بأنَّ ما يراهُ قد وَرَدَ في لاوعي الشاعرِ.. لأن الشعرَ من لاوعي.. وعندما نؤمنُ بذلك لا يعودُ هناكَ مجالٌ للقولِ: هذا ما يقصِدُهُ الشاعرُ وهذا لايقصدُهُ ..

إزاءَ هذا الوضعِ، هل يستطيعُ الناقدُ، وهل عليه أن يشرحَ أثرًا أدبيًّا ويحكمَ عليه، أو أن يبحثَ عن أُسسٍ ومقاييسَ موضوعيةٍ في عقيدةٍ أو في علمٍ؟ أو أنه ينبغي عكسَ ذلك؟ بحيثُ يبقى الناقدُ محصورًا في ذاتيتِهِ ويعترفُ بأن النقدَ لا يستطيعُ أن يتوصّلَ إلى أيِّ تعيينٍ حقيقي.؟

  

 في الواقع، إن الرغبةَ في تجريدِ الناقدِ من تفضيلاتهِ الشخصيةِ، ومن ميولهِ وماضيهِ، ومن ثقافتهِ أو من قيمتهِ الذاتيةِ، تعني بالنسبةِ إليه، الحُكمَ عليه بالبَكمِ. إلاّ أن التحيّزَ لا يعني المطلقَ. إنه تحيّزُ الأصالةِ.. لأن الأبحاثَ الوثائقيةَ والثورةَ على التحليلِ، أمورٌ لا تكفي الناقدَ، بل يلزمُهُ أيضًا، لكي يجدَ الوحدةَ الإجماليةَ للوصفِ، أن يستعملَ حدسَهُ كشاعرٍ أو كأديبٍ أو كناقدٍ، ويعينُ موهبتَه على التجاوبِ. وبذلك يُصْبحُ النقدُ خلقًا وابتكارًا مستمرين، فالنقدُ يجبُ أن يكون وعيًا للأدبِ الذي يحيــــــــا، أكثرَ من أيِّ وقتٍ، من نبضاتِ الإنسانيةِ نفسِها، ولقد تمَّ الاتفاقُ على أنَّ الوعيَ، في زمنِنا الحاضرِ، إن لم يكنِ النقدَ ، كلُّ النقدِ، فإنه على الأقلِّ، جناحُهُ السائدُ.

 

  في النَّوع الرَّابعِ يندرجُ نقدُ الدكتور أديب سيف بعامةٍ، وكتابُهُ هذا بخاصّة، بحيث يُكوِّنُ نقدُه هذا جسرَ العبورِ من الأكاديميّةِ إلى الإبداعيّة، وبتعبيرٍ آخر، وكي أكونَ صادقًا مع نفسي، ومع ما أكتبُهُ من نقدٍ فأقول: الأكاديمي المُبدع، ولستُ أدري إذا كان يصحُّ قولُ العكس.

  من الرقم (60) الذي بنى عليهِ دراستَه لقصيدتي في الإمامِ الحسين (يا ابن الكرام)، التي كانت فاتحةَ منهجٍ نقديٍّ جديدٍ، والذي طالَعَهُ مُصادفةً في أثناءِ الدراسةِ، إلى التركيزِ على الرّقمِ في نقدِهِ الأدبيِّ... فكان الرقمُ (9) المُرتكزَ الأساسيَّ الذي بنى عليهِ كتابَهُ الجديدَ، فجعلهُ في تسعةِ موضوعاتٍ، لتسعةٍ من الأساتذةِ الذين درّسوهُ، أو أحبَّهُم... ولم يكنِ العالمُ القديمُ يعرفُ عدًّا أكثرَ من الرقمِ (9)، فكان لا بُدَّ له من أن يجدَ كُوَّةً ينفتحُ منها على الأرحبِ والأوسعِ، بل على المطلق، فكان (الصفر) أو الرقم الذّهبي، الذي شكّل اكتشافًا كبيرًا في علمِ الحسابِ والجبرِ والرياضيات، وبُنيتْ عليهُ أهمُّ النظرياتِ العلميةِ، ومنها بناءُ أهرامِ مصر.

  في "سيميائية العدد والقلق الأكاديمي"، نجدُ الدكتور أديب سيف يتعاملُ مع مركزيّةِ الدائرةِ : centre du cercleفي دراسةِ ربيعة أبي فاضل، ومع الرقم (8) في دراستهِ ديزيره سقّال، ومع الرقم (4) في دراساتهِ ليوسف عيد، ولجوزف أبي نجم ولبولس طوق، ومع الرقم (30)، الذي هو ناتجُ (3x10) في دراسةِ نبيل أيوب، ومع الرقم (60) الذي هو ناتجُ (20x3) أو (30+30) في دراسةِ جورج زكي الحاج، ومع الأرقام (5و3و2) في دراسةِ جورج شكيب سعادة، ومع الرقم (2) في دراسةِ جرجي طربيه،... مع ما تعني هذه الأرقامُ في الميتولوجياتِ القديمةِ، وما هي مفاهيمُها في الدياناتِ الموحّدةِ، وما هي رموزُها في الجمعياتِ السرّيّةِ، خصوصًا في الماسونيّة، وصولاً إلى ما اتفقتْ عليهِ العلومُ من طبٍّ وهندسةٍ ورياضياتٍ بشكلٍ عام، حولَ هذهِ الأرقام.

  عندما وضعَ دراستَهُ : "بنيويةُ الستّين في قصيدةِ يا ابنَ الكرام، الانتماءُ إلى لعبةُ التوحيدِ الرّقميّ"  حولَ قصيدةِ الحُسين  في العام 2007، وجدتُ نفسي مُقيّدًا بهذا العددِ، وذلك يعودُ إلى هذه الدراسةِ المُعمّقةِ، بحيثُ أنّ أيَّ إضافةٍ، أو أيَّ نُقصانٍ، سيُغيّرانِ في الدراسةِ جَسَدًا وروحًا، ويومَ أخذ بيَ الحماسُ وأنا أُلقيها في بلدةِ "الغازيّة" الجنوبيةِ، وارتجلتُ بيتين كانا في صميمِ الموضوعِ، حول غزَّةَ المحاصرةِ يومذاك، لم أضفْهُما إلى القصيدةِ يومَ أصدرتُها في كتابٍ، إحترامًا وإجلالاً لدراسةِ الدكتور أديب سيف، التي وجدتُها غيرَ قابلةٍ لتغييرِ حرفٍ فيها، ما يؤكّدُ إبداعيّةَ النقدِ، وارتفاعَه إلى مصافِ الصنيعِ الفنّي نفسِه، إنْ لم يكنْ قد تجاوزه، وهذا ما أشار إليه الدكتور سيف نفسُهُ في كتابه هذا، في هامش الصفحة 401.

  كثيرون همُ الذين تعاملوا مع العدد رمزًا، إنْ في الميتولوجيا القديمة، أو في الديانات الموحّدة، أو في الفلسفات، القديمِ منها والحديث، وإلى ماذا يرمزُ كلُّ عددٍ، بدءًا من الأحادية الإلهيةِ إلى الثنائيّةِ الكونيةِ، إلى ثلاثيّةِ الكمال ورباعيّةِ الكامل... وهكذا دواليك... كذلك في الجبر والهندسة، والفيزياء والكيمياء...وغيرها من العلوم، لكنّ أحدًا لم يزاوج بين العدد والنقد الأدبي، أو أن يجعلَ من العددِ مُنطَلَقًا أو مُرتَكَزًا لنقدِهِ، كما فعلَ الدكتور أديب سيف في كتابه هذا.

  ولا أكونُ مُغاليًا إذا قلتُ إنّ أديب سيف صاحبُ منهجٍ نقديٍّ خاصٍّ به وَلَهُ، على غرارِ جان بيار ريشار، أو جاكبسون، أو دوسوسّير... وكما انمازَ غاستون باشلار بعناصرِ الطبيعةِ الأربعة مرتَكَزًا لنقدِهِ العميقِ، ولنظرتِهِ إلى الأعمالِ الأدبيةِ والفنّيّةِ... هكذا أديب سيف ينمازُ بتزاوجِ العلمِ والأدبِ، وبتسخيرِ النظرياتِ العلميةِ، إنْ في الطبِّ أو في الهندسةِ والرياضيات، أو في الفيزياءِ والكيمياءِ والعلومِ الطبيعيةِ وغيرِها، وتطبيقِها في منهجِهِ النقديِّ، وهذا ما بدأَ به منذُ شهادةِ الماجستير، وتجلّى في أطروحةِ الدكتوراة، وكان أديبُ فيهِما، صاحبَ أعلى علامةٍ أُعطيت لطالبٍ في الجامعةِ اللبنانيةِ منذ تأسيسها حتى اليوم.

  ليس مُستغربًا أو جديدًا أن نقرأَ نقدًا لقصيدةٍ ما، أو لروايةٍ ما، أو لمقالةٍ ما، لكنّ الجديدَ هو أن نقرأَ دراسةً نقديةً لكتابٍ نقديٍّ تعليميّ، كما هو الحالُ في دراسةِ الدكتور أديب سيف لكتابِ الدكتور نبيل أيّوب، وبمعنىً آخر: نقد النقد. أو أن نقرأَ دراسةً نقديةً لكتابٍ في التاريخِ أو في الحضارةِ، كما هو الحالُ في دراسةِ كتابِ الدكتور جوزف أبي نجم، وهذا كلُّه من دونِ أن يتطرَّقَ الدكتور سيف إلى مضمون الكتاب الأول بالشكلِ التقليدي للنقد، ولا إلى ما وردَ في الكتابِ الثاني من معلوماتٍ تاريخيةٍ أو حضاريّةٍ... وإنما كانت دراستُهُ تقومُ على سيميائيةِ العددِ، ضمن المنهجِ الذي اختاره... وأكادُ أقولُ: ابتدعَهُ أو أوجدَهُ، أو اكتشفَهُ، وبهذا يكونُ الدكتور سيف قد جعل من النصِّ النقدي والنصّ التاريخي نصّينِ إبداعيين قائمينِ برأسيهما، ويُصبحُ الكتابُ النقديُّ ديوانَ شعرٍ، وكتابُ التاريخِ روايةً، والنصُّ الحضاريُّ مقالةً فنّيّةً. غير أنه، وكي لا يُّتهمَ بالشّطَحِ، أو بالمغالاة، أو بالتحيُّز، أو بالنظر إلى أيّ عملٍ أدبيّ، صنيعًا إبداعيًّا، يقولُ في الصفحة 395، في كلامِهِ على كُتبِ الدكتور نبيل أيّوب:

 " لماذا هذا الأسلوبُ غيرُ الجازم، في سيرورةٍ منطقيّةٍ جازمة وصلتْ إلى عددٍ جازمٍ؟

  لأنّ ما وصلنا إليه، ولئن كان جازمًا عددًا ومنطقًا، ولئن كان مُنطلقًا من ثوابتَ نصِّيّةٍ، غير أنّ هذه الثوابتَ كانت قصيرةً وقليلةً، في حين أنّ التأويل النفسي، خصوصًا، يحتاجُ في حالِ دراسةِ التحليل النفسي من خلال النصّ، إلى النصّ الإبداعي، بوصفِهِ مُنتَجًا أنتجَهُ المُبدعُ، كما يحتاجُ إلى الشخصيةِ بحضورِها المُتَكلِّمِ والسلوكي ليصيرَ الحكمُ أكثر اقترابًا من الحقيقةِ الدّامغةِ. إنّ نقدَ النّقدِ الذي أثرناهُ في تحليلنا شخصيةَ الناقدِ، أبعدَنا عن الشخصيّةِ بحضورِها، وإنْ قرَّبَنا إليها باستحضارِها."

  لم يكنْ أديب سيف في جديدِهِ النقديِّ مُحابيًا، لكنّه لم ينسَ أنه يتكلّمُ على أساتذِتهِ وزملائِه وأصدقائه، فأتى نقدُهُ إبداعيًّا نبيلاً، مُكلَّلاً بالوفاءِ، الذي باتَ نادرًا في هذهِ الأيَّام.

  والوفاءُ طبعٌ عند أديب، هو وفاءُ الكبارِ، وفاءُ النُّبلاءِ يومَ كان للشواربِ هيبةٌ، وللذقونِ كرامةٌ وقيمة. وهنيئًا لنا، نحن الذين كنا عناوينَ موضوعاتِ كتابِهِ.

  من الصعوبةِ بمكانٍ الكلامُ على إبداعيّاتِ الكتابِ كلِّها، أو على جمالياِتِ النّقدِ فيه، أو على الأبوابِ التي فتحَها في عِمارَةِ النقدِ الحديث. وما أُريدُ قولَهُ هو أنَّ الكتابَ يحتاجُ إلى قراءةٍ مُتأنّيةٍ، وذهنٍ صافٍ، وفكرٍ نَيِّرٍ، كي يستطيعَ القارئُ مُلاحقةَ تواردِ الأفكارِ المُتَتَابعةِ، والإحاطةَ بالمعلوماتِ الكثيفةِ، التي يزخرُ بها الكتاب.

  ولكنْ، وبعد هذا كلِّه، هل يُدرك الدكتور أديب سيف أن ما انطلق منه في كتابِهِ، وما طبَّقهُ في دراساتِهِ على غيرهِ في كتابِهِ النقديّ: "سيميائية العدد"، قد وصلَ إليهِ في الصفحةِ الأخيرةِ منه، وطبَّقَهُ على نفسهِ من دون أن يدري، أو يقصِد؟

  فالدكتور سيف انطلقَ من الرقم 9، وأجاد في شرحهِ هذا الرقم، بدءًا من عددِ الدراساتِ في الكتاب، إلى كمال العدد 9 حيث هو ناتج جمع الأعداد من 1 إلى 9، وناتج عملية ضرب الأعداد من 1 إلى 9، إلى ديمتريوس الذي يلفُّ العالمَ في تسعةِ أيّام، إلى دانتي الذي يقولُ بتسعِ سماوات، إلى الإيزوتيرية الإسلامية التي تجدُ أنّ العدد 9 يعني الفتحات التسع عند الإنسانِ، ويرمزُ إلى سُبُلِ التّواصلِ مع العالم، إلى روُنيه الذي يجدُ أنّ العدد 9 هو عددٌ تامٌ للتحليل الكامل، وصولاً إلى الماسونيّين الذي يرونَ أنّ العدد 9 هو عددُ الخلودِ الإنساني الأبدي، وأنّ تسعةَ مُعلِّمين وجدوا جسدَ أحيرام ونعشَهُ.

  وانطلاقًا من سيميائيةِ العدد، عنوان كتاب الدكتور سيف، واستنادًا إلى المنهجيّةِ المُتّبعةِ في الكتابِ المذكور، وبالتلازمِ بين مؤلّف الكتابِ ونقدِهِ، وصِدقِهِ مع نفسِهِ، وصولاً إلى تحليل التكاملِ لشخصيّةِ الناقد سيف، إنتهى الكتاب بالعدد 9، إذا بلغتْ صفحاتُهُ 432 صفحة، أي 4+3+2=9.

  أديب سيف: أنا فخورٌ بك، ولم أكنْ مُخطئًا عندما قلتُ لك، وأنتَ على مقاعدِ الدراسةِ، في نهايةِ السنةِ الأولى  ماجستير: "يا أديب، أنت نَسْرٌ، والنَّسْرُ عدوُّ القفصِ، فهو لا يبغي سوى القممِ." وها أنتَ لها.

في الرابع عشر من شهر آذار من العام الرابع عشر بعد الألفين. 

 جورج زكي الحاج

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1]ـجيرار جينيت ، مجلة مواقف ، عدد 41/ 42، ربيع وصيف 1981، ص 82.

[2]ـــ يمكن العودة إلى البحث المنشور في هذا الكتاب تحت عنوان : نحو نقدٍ عربي جديد .

 

-------------------------------------------------

أديب سيف : عالمٌ يعشَقُ الحقيقة !

الدكتور ربعة ابي فاضل

قال أَفلاطون في الجمهورية : “Celui qui aime réellement la science doit dès ses            premières années poursuivre de toutes ses forces la vérité toute entière”[1]

العلمُ والحقيقة مفتاحان إذًا، لفهم فكر هذا الرّجل، وطريقة قراءته، ورؤيته إلى الحياة والوجود. كتبَ عن الزّمان في الشّعر، وذكّرنا ببرغسون، وبكون الإنسان هو جوهرَ الزّمان :

“l’homme est tout entier temporel, il est le temps dans sa substance”[2]

 

وكتبَ في المكان والعشقِ التّكاملي أَو التحوُّلي بينَه وبينَ الزّمان، في التّجربة الإنسانيّة والكونيّة، فالزّمكان هُما معًا، يُمثِّلان الواقعَ والمثال :

“… réalités empiriques et idéalités transcendantales”[3]

وذهب بعيدًا في التأويل، متخطيًّا الحواجز كأنه فارسٌ بجناحين، على فرس، يُغوّر في ثقافاته، من هايدغر إلى ريكور، إلى غادامر، إلى آخرين، متنقّلاً من فضاء الّلغة إلى فضاء المعاني، والجمال ، والجلال، والسّر... فمعه لا حدودَ للدَّلالات[4]، وخصوصًا عندما تكونُ حقولُ القراءَة رموزًا وأساطيرَ وفلسفات روائية وأورفية... إنّه قارئٌ محلّلٌ ومحاورٌ وباحثٌ عن الآخر، وعن ذاته. أَولم يقل ريكور “Comprendre c’est se comprendre devant le texte”[5]

لقد صدق يونغ عندما قال ، كأنّه عنه يقول : “C’est dans la grandeur du temps que l’homme grandit… l’esprit créateur joue avec les objets qu’il aime…seul dispose de           la faculté réelle celui qui a la grâce du savoir et de la compréhension vivante”[6]

ولا ننسَ أَنّ نقده الصَّعب جذَّاب يُشبه الـ “horreur sympatique”  عند بودلير. فأنتَ تقرأُ قراءة لقارئٍ غير عاديّ، عن نصوصٍ استثنائية ، شعرًا ونقدًا، وأَنواعًا أُخر، والقارئ هذا مُنحَ شهادةً من السَّماء قبل شهادات الأرض، موهبةً ترادفُ العَبقريّةَ، وطبعًا مختلفًا، وعزيمةً بروميثيّة، وشغفًا بالمعرفة لم نره في الجامعة اللبنانية، منذ ربع قرن، ولا شكّ في أنّ النّاقد نبيل أيوب، وأساتذَتَهُ الآخرين، ساعدوه على تنمية الفكر وارتقائه، لكنّه منذ بداياته، كما أعلم ، كان كأنّه يتبع شعار غادامر :

 “la tendance générale est de n’admettre aucune autorité et de tout soumettre au tribunal de la raison…l’ultime source de toute autorité, ce n’est pas la tradition mais                  la raison”[7]

إنّه في أُطروحته، وفي "الملاءَمات النّقديّة"، وفي "وظائف العناصر الاسميّة"، وفي "سيمياء العدد والقلق الأكاديمي[8]، يحقّق لذاته، ولنا، رحلةً من عالم الدلالة إلى معالم التأويل،ومن الدّلالة النّحوية إلى الدّلالة العلميّة، ومن القلق الأكاديمي إلى واحة العقل المبدع. أَولم يقل إنّ الإبداع ليس كما هو شائع، في النّص الإبداعيّ، وحده، بل في الإبلاغي إذا أَظهرَ الجديدَ أَو ما يُمكن أَن يكون جسرًا إلى الجديد[9]. إنّه يقدّم لك ذاتك في نصّك، كي تعرفَ عنكَ ما كنت تجهل، وعن نبض قلبك وأسراره، وعن صمت المتعارضات في كيانك. فقد قرأ "عطشان يَحنو على الينبوع" بعيني قلبي[10]. فإذا شئتَ تذوّقْ دلالات الألوان وتجلياتها، في تجربة ديزيره سقال، وعشقَ الكينونة والزّيتون والأَرض، في تجربة يوسف عيد، ومواكبةَ أورفيوس بولس طوق، في أَناشيده وغربته واحتراقه، وأُبوّةَ نبيل أيوب للفكر النَّقدي التحديثي، في حياتنا الثقافية، وشعريّةَ جورج الحاج وأَبعادَها الإنسانيةَ والدِّينية، ومستوياتِ التّركيب الشّعري في حديقةِ جورج طربيه، وحواراتِ جورج سعادة الشّعريةَ مع القمر، وأبحاثَ جوزف أبو نجم الأكاديمية المنضبطة، الغنيَّة، فإنّك تدرك أمرين : القلقَ الأكاديميَّ المسؤول، والابداعَ الشّعريّ الراقي. وتَطَّلعُ على منطق تدرّجي قاد الباحثَ العالمَ أديب سيف إلى حقيقة سمَّاها، لتواضعه العلمي، إشارةً غيرَ نهائية، أو درجةً من درجات الحقيقة اللاّمتناهية[11]، ما يعكسُ مسألةً مُهمّة في النّقد، وهي أَنّ القراءَةَ والتأويلَ محاولةٌ لكشف الحقيقة، من خلال طرائقَ علميّةٍ صارمة، لكنّها، تبقى غيرَ كافية، لكون الإنسان ليس عقلاً وحَسبُ، بل هو روحٌ، والروّح تَقرأُ أيضًا، وتَعلُم في ذروة إشراقها، أَنّ الحرفَ يَقتلُ والخيالَ يُحيي، وأنّ دانتي وﭬـيرجل وأُوﭬـيد ما يزالون، وسوفَ يَستمرون، أَعظمَ من كلّ قُرّاء العالم، ومُروِّجي اللسِّانيات القديمة والحديثة[12]، اللّهُمَّ إلاّ إذا كان اللّسانيون هم أنفسُهم أَصحابَ رؤى فلسفية، ولاهوتية، وفكريّة، تجعلُ إبداعات قلوبهم مساويةً لعطاءات عقولهم أو تتخطاها اشتعالاً، وتأثيرًا، وغنى عميقًا. وتكمن أهميّة سيف، ناقدًا، في خروجه على الآلية النقدية المألوفة (L’automatisation)، وإبداعه نقدًا غريبًا جديدُا وغنيًا.

وبعد، هل نحن اليوم، في سياق استكمال سلطة القارئ على الكاتب، وإحلال قصديّة الأوّل محلّ قصديّة الثاني؟ وهل إنّ هُويّة القارئ هذا ترتبطُ بانزلاقات ومَتاهات تأويليّة لا متناهية، من دون ضابط منطقي نهائي؟ وهل لدى القراءَة المسؤولة طاقةٌ على إغناء التجربة الإنسانية بمعرفة جديدة خلاّقة؟ وسؤال آخر : ماذا وراء النّص، هل هناك نصّ آخر، ومتاهة لا نهائية أو إنّ ثمة ثقافة تداولية، وفعلاً رسوليًا يجعلنا نشرف على الحقيقة؟ المهم أنّه من غير المجدي تعطيلُ نعمة الفهم لدى القارئ، وهو يحاور المنتَج الأَدبي أو النقدي، وهذا ما نجح القارئ-الناقد سيف في تحقيقه، عندما عرض بوعي ثقافي حادّ تجاربَ متنوّعة، ساعدنا على معايشتها.لكنّ قارئًا عاديًّا لهذا القارئ الاستثنائي، لن يستمكن من الارتقاء إلى مستواه، إلاّ إذا حصّل ثقافات فلسفية ولسانية ودينية وهرمسيَّة باطنيّة، وثيوصوفية، وعلميّة وغيرها، ما يستحيل أن يتيسّر إلاّ لقلّة من المريدين المغامرين؟ إنّنا مع أديب سيف، ونقده، كأنّنا مع أبي تمّام وشعره، أو كأننا مع معتزلية جديدة لا تكتفي بتقديم العقل على النقل، وبقراءَة الخفيّ، بحثًا عن المفاهيم المجازيّة الحقيقية القادرة على نقلنا من الغامض الخفي إلى الواضح الجليّ[13]، بل تريد أن تصل بالنقد إلى حقل يمتص مُعظم العلوم، غير مبالية إلاّ بالراسخين في العلم، أمّا الآخرون فما عليهم سوى الانتظار لكي يفتحها الله فتحًا يسيرًا، وتكتشف صدورُهم مدارك التنـزيل وحقائقَ التأويل،مردّدين :"وما يعلمُ تأويلَه إلاّ الله"[14] وأستطيع أن أُلخّص قراءتي بالقول، كما أنّ ليوبولد سينغور رأى في الشعريّة ((une manière de vivre et de faire  وأَراد بشعره، تحقيق اليقظة والفرح لشعبه ، هكذا نحن في إبداعنا النّقدي، يجب أَلاّ ننسى قوله :   ma tâche est d’éveiller, mon peuple, Ma joie de créer des images pour le nourrir!”[15]

ربيعة أبي فاضل

(نابيه – آذار 2014)



[1] - La République, Eds Gonthier, paris, 1963, p. 184,185

[2] -René Rampnoux, Histoire de la pensée occidentale De Socrate à Sartre, Ellipses, Éd. Marketing, paris, 2008, p. 362

[3] -Ib. p. 241

[4] -Ib. p. 498 “… Jamais de mots capables d’exprimer quelque chose de definitif”.

[5] -Paul Ricoeur, Du texte à l’action, Essais d’herméneutique, 11, Ed. Esprit, seuil, paris, 1986, p.116

[6] - C.G Jung, l’Âme et la Vie, Éds. Buchet/Chastel, paris, 2012, p.81,222,240

[7] -Hans-Georg Gadamar, vérité et méthode, Éd. Du Seuil, paris, 1976, p.110 - 111

[8] - دار العلم للملايين، 2006، 2014.

[9] - سيمياء العدد والقلق الأكاديمي، دار العلم للملايين، 2014، ص 14.

[10] - ن. ص 369 .

[11] -ن. ص 369.

[12] - من المفيد العودة إلى : عبد الواحد المرابط، السّيمياء العامة وسيمياء الأدب، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2010، ص 174

[13] - من المفيد العودة إلى :

- نصر حامد أبو زيد، إشكالية القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط5، 1999، ص141.

- امبرتو إيكو، التأويل بين السيميائية والتفكيكية

ت. سعيد. نكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص 28-38

[14] - راجع محمد بازي، التأويلية العربية، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2010، ص25.

[15] -Senghor, œuvre poétique, Ed. Du Seuil, points, paris , 1990, p. 369 - 371