ندوة حول كتاب "المسيح سيِّد التاريخ" للأب ميشال الحايك

أنطلياس – الثلاثاء 6 آذار 2018

إدارة: الأب أنطوان عوكر

 

 

ليست المرَّة الأولى التي تجمعنا فيها الحركة الثقافيَّة – انطلياس في ندوة حول إصدار للأب ميشال الحايك أو حول فكره.

نتحلَّق اليوم حول روح الأب ميشال الحايك للغوص في روحانيَّته وفكره الفلسفيّ واللاهوتيّ والاجتماعيّ. والكتاب الذي يجمعنا هو بعنوان "المسيح سيِّد التاريخ" للأب ميشال الحايك.

 

الشكر لكلِّ من أسهم في نشر هذا الكتاب: جامعة الروح القدس؛ مؤسَّسة الأب ميشال الحايك؛ الأستاذ جاد القصيفيّ.

 

1) تعريف بمركز فينيكس للدراسات اللبنانيَّة؛ منشوراته؛ سلسلة "أنتولوجيا"

 

2) تعريف بالأب (الخوري) (المونسينيور) ميشال الحايك، ومؤلَّفاته المطبوعة أو المسجَّلة...

 

3) مضمون الكتاب: ثماني محاضرات وبيبليوغرافيا تستعرض أبرز ما كتب الأب ميشال حايك وأهمَّ ما كُتِب عنه.

 

رأي شخصيّ أوَّليّ وسريع في الكتاب

-         كتاب آخر مطبوع؟! تحدٍّ للثقافة والأدب والفكر والعلوم!

-         كتاب أثار فيَّ حنينًا إلى زمن جميل؛ ذكَّرني بإذاعة لبنان من بيروت؛ ذكَّرني بصوت جميل كان يملأ هواء الإذاعة أيَّام الجمعة من الصوم في نقل مباشر من كاتدرائيَّة مار جرجس المارونيَّة – بيروت.

-         كتاب لاهوتيّ وروحيّ... مشرقيّ. قد يكون اللاهوت تنظيرًا... لكنَّ الأب ميشال الحايك جذَّره ليكون لاهوتًا نابعًا من الأرض، وتأمُّلاً روحيًّا سماويًّا مع ثبات الأرجل "على الأرض".

-------------

محاضران سوف يلفتان نظرنا إلى جوانب كثيرة من فكر الأب ميشال الحايك عامَّة، ومن المحاضرات المنشورة في هذا الكتاب في وجه خاصّ.

 

المحاضر الأوَّل: الأب البروفسور جورج حبيقة الراهب اللبنانيّ المارونيّ

دكتور في الفلسفة الألمانيَّة من جامعة باريس-السوربون (1992)

شغل منصب عميد كلِّيَّة الفلسفة والعلوم الإنسانيَّة في جامعة الروح القدس – الكسليك (1992 – 2001)

نائب رئيس جامعة الروح القدس – الكسليك لعدَّة شؤون (للأبحاث والشؤون الفرنكوفونيَّة؛ للعلاقات الدوليَّة)

ترأَّس أيضًا قسم الدكتوراه في جامعة الروح القدس الكسليك.

هو عضو في لجنة المعادلات التابعة لوزارة التربية والتعليم العالي؛ وعضو في لجان عالميَّة.

يشغل حاليًّا، وعن جدارة، منصب رئيس جامعة الروح القدس – الكسليك.

 

ابن الميدان-جزِّين يتحدَّث عن ابن بجِّه. لكم الكلمة.

---------

المحاضر الثاني: الدكتور ناجي الحايك – رئيس مؤسَّسة الأب ميشال الحايك

مركزها: بجه- ملك الدكتور ناجي الحايك- قضاء جبيل

أهدافها:

1.جمع وتحقيق أعمال الأب ميشال الحايك المنشورة وغير المنشورة والمحافظة عليها كتراث ثقافيّ

2.طبع ونشر نتاج الأب ميشال الحايك

3.تنظيم مؤتمرات علميَّة وحلقات دراسيَّة وأبحاث حول فكر الأب ميشال الحايك

4.القيام بنشاطات ثقافيَّة حول تراث الأب ميشال الحايك وتعزيزها، ضمن أهداف الجمعيَّة

5.التعاون مع جمعيَّات ومؤسَّسات لتحقيق أهداف الجمعيَّة

6.إطلاق جائزة باسم الأب ميشال الحايك

 

ابن شقيق يتحدَّث عن عمِّه؛ بالطبع شهادته مجروحة بعمِّه؛ لكنَّ موضوعيَّة الدكتور ناجي الحايك تشهد له. الكلمة لكم دكتور ناجي.

------------

يظهر واضحًا أنَّ هذا الكتاب يدخل، من جهة، في إطار إصدارات مركز فينيكس للدراسات اللبنانيَّة (التابع لجامعة الروح القدس – الكسليك)، ومن جهة أخرى، في أهداف مؤسَّسة الأب ميشال الحايك.

حقَّق هذا الكتاب قسمًا من هدف المؤسَّسة الأوَّل: جمع وتحقيق أعمال الأب ميشال الحايك المنشورة... علَّ الإصدارات اللاحق تحقِّق القسم الثاني من الهدف: تحقيق أعمال الأب ميشال الحايك "غير المنشورة". وشكرًا لكم جميعًا.

_________________________________________

 

 

كلمةُ الأب البروفسور جورج حبيقة

رئيسِ جامعةِ الروح القدس الكسليك

في الندوةِ حول كتاب الأب ميشال الحايك "ألمسيحُ سيّدُ التاريخ"

قراءةٌ لاهوتيةٌ وفلسفية

مسرح الأخوين رحباني، الحركةُ الثقافية ـــــــ أنطلياس

الثلاثاء 3 آذار 2018

 

أيها الحضور الكريم،

في مستهلّ كلامي، يطيب لي أن أتوجّه بكلمة شكر من القلب إلى الحركة الثقافيّة في أنطلياس، رئيسا وأعضاء، محيِّيا مهارتها في جمع الطاقات المبدعة في ميادين الإنسانيّات وغيرها، وإلى الأب المدبر العزيز أنطوان عوكر رئيس دير مار الياس انطلياس والآباء الأنطونيين الأحباء لحضنهم حركيّةَ الفكر هذه ودفعها إلى مراتب عالية من العطاء المستدام، وإلى مؤسسة الأب ميشال الحايك بشخص رئيسها الدكتور ناجي الحايك الذي لا يضنُّ بأي تدبير بغية تسهيل هذه الإصدارات المثرية لخزانة الفكر المشرقي، وإلى الأب الدكتور جوزيف مكرزل العزيز، رئيس مركز فينيكس للدراسات اللبنانية ومدير مكتبة جامعة الروح القدس الكسليك الذي وضعها في مصاف المكتبات الرائدة برؤيويّته الثاقبة، وإلى الأب العزيز جاد القصيفي، معدِّ ومقدِّم هذه المجموعة من عظات الصوم لراحلنا الكبير الأب ميشال الحايك تحت عنوان "المسيحُ، سيِّدُ التاريخ"، وإلى كل واحد منكم يشاركنا العشق الروحي واللاهوتي والفكري لواعظ كاتدرائية مار جرجس في بيروت.

إن رحلتي مع الأب ميشال الحايك طويلة ومتنوّعة وغنيّة. كان لقائي الأول معه عبر أثير الإذاعة اللبنانية عندما كنت بعد طالبا في الرّهبانية اللبنانيّة المارونيّة في دير سيدة طاميش. في فترة الصوم، كان المسؤولون التربويون يُسمعوننا كل مساء جمعة ونحن في أسرّتنا عظات الأب ميشال الحايك مباشرة من كاتدرائية مار جرجس في بيروت. ما كان يشدّ السامع إليه ويأسر جوارحه بأكملها، قبل التوقف عند المضامين والطروحات، هو صوتُه الساحر في مخارجه وإلقائه، المنسابُ هبوطا والهادر صعودا بحسب قوّة المقاربة وصرخة الثائر وسكينة المناجاة المتلاشية في حضرة العزَّة الإلهية. كيف للنعاس أن يتسلل إلينا ونحن نسمعه؟ كان اليقظةَ فينا، كان التوقُّدَ الروحي في أعماقنا. وعندما ينتهي من عظته، كنا نخلد إلى النوم كأناس سكارى، لا نقوى على الحراك والنطق، منتشين مما سمعنا وأدركنا. ولما ابتدأتُ دراستي اللاهوتية في جامعة الروح القدس الكسليك، كان فرحي عظيما بأن أجده أمامي متربّعا على منصّة الأستذة، مع رفيقه وصديق عمره الأب الملفان والألمعي إسطفان صقر، ينقل إلينا معارفه الموسوعية في لغة فرنسية أخَّاذة. كنا ننتظر مادته من أسبوع إلى آخر كمدمنين على مسلسل، نتحرّق انتظارا للآتي من التحاليل والمقاربات والنظريات، يجمعها عنصرُ التشويقِ والحبكُ المنطقي الصارم والهادف. انقضت الأيام والتقينا من جديد في مدينة الأنوار في باريس حيث كان يُدرِّس في جامعة باريس الكاثوليكية وفي الإكليريكية التابعة للكردينال لوستيجه، وحيث كنت أنا أُحضِّر أطروحة دكتوراه في الفلسفة الألمانية في جامعة السوربون الرابعة. قمت مرة بزيارته في بيته بالقرب من الجامعة. إن دخولي إلى منزله كان ميسّرا واستقبالَه لي كان طافحا بالودِّ والحفاوة وحرارة الشوق والصداقة الصدوق. ولكن المحنةَ الكبرى التي واجهتني، ولم أكن لأتوقّعها البتة، أين يمكن أن أجدَ مكانا للجلوس. إن مخدعَه يمٌّ تطفو على سطحه كتب وموسوعات ومجلّدات وصحف ومجلاّت. ليس بوسع المرء أن يرى شيئا من الأثاث والفرش والمقاعد. حتى الممشى لم يكن بأحسن حال. إن أكثريّة الأشياء عنده كانت تنوء تحت مِسلّات ومكعّبات من الكتب المرصوفة والمتناثرة. أمهلني قليلا من الوقت لكي يُنزل مجموعةً من مراجعه عن عرشها، في هبوط اضطراري، ويجلسَني مكانها إلى حين. إن جليسه الدائم إنما هو الكتاب، وسميرَه الدائم الكلمة، ورفيقَه الدائم الفكر. لا أنسى البتة من جهة أخرى المديح الاستثنائي لعضو الأكاديمية الفرنسية مثلّثِ الرحمات الكردينال جان ماري لوستيجيه الذي قاله لي في الأب ميشال الحايك. كان ينظر إليه بإعجاب شديد مصنّفا إياه بالعالِم والعبقري.

في هذه الأمسية، أودّ أن أتوقف وإياكم حول بعض من المسائل التي قاربها الأب ميشال الحايك في محاضرته ـــ العظة تحت عنوان "هو سيد التاريخ" وغيرها التي نشرناها حديثا في جامعة الروح القدس الكسليك. في مطلع عظته، يقول ما حرفيّتُه: "لم يهتمّ البشر بعظيم من الأرض قدر ما اهتموا للمسيح. فعلى اسمه ومن تعليمه نهضت حضارات رائعة وهو لم يخط حرفا واحدا إلا مرة واحدة على التراب يوم قُدّمت له تلك الخاطئة". إذا عدنا إلى فلسفة الإغريق القديمة، لرأينا أن مبدأ الكتابة والتدوين لم يكن يحظى بتقدير عال، لا بل كانوا يصنِّفون الكاتب في خانة تفتقر إلى الرِفعة والجدية في مقاربة الحقيقة. هذا التصنيف المتدني يعود إلى النظرية القائلة بأن الحقيقة تبان وتظهر بشكل دائم وتدريجي، وإذا دُوِّن ما يتكشَّف منها في هذه اللحظة، نكون كمن ينزل من القطار ويُنهي رحلته، ويدع الحقيقة تتابع مسيرتها وبالتالي تكشَّفها إلى نهية التاريخ. من هنا كان العشقُ للحواريّات الحيّة والمباشرة والدائمة. وسقراط خير دليل على ذلك. كان يوقف الناس في شوارع أثينا وأزقتها ويُمطرهم بأسئلة وجودية واجتماعية وفكرية وسياسية وروحية لا تنتهي. فهو لم يكتب كلمة واحدة. وبفلسفته الحيّة واللاّمكتوبة، غيَّر مسارَ الفلسفة ومواضيعَها وبات هو الحلقةَ المفصليةَ بين ما قبله وما بعده.

 مع المسيح، وصلت هذه القاعدة إلى أقصاها وملئها. فالمسيح هو كلمة الله. هو "الدبار" في اللغة العبرية، أي الكلمة ـــ الحدث. إنه المصالحة المطلقة بين الكلمة والحدث. جميعنا يعرف حقَّ المعرفة أن مأساة الانسان الكبرى ناتجةٌ من تمزقّه الداخلي. فهو يفكِّرُ بشيء ويقول شيئا آخرَ ويعمل شيئا مغايرا. أتى المسيح ووحّد الفكر والقول والعمل. أيُّ كلام بشري بوسعه أن يحتوي هذه الكلمة ـــ الحدث، وأيُّ لغة، مهما علا شأنها التعبيري والتأويلي، بمقدورها أن تستضيف كلمةَ الله المطلقة؟ لهذا السبب لم يكتب المسيح شيئا. وأَبلغُ دليل على ذلك ما قاله يوحنا الرسول في الخاتمة الثانية لإنجيله: "وأتى يسوع بأمور أخرى كثيرة، لو فُصّلت، وفي كتب دُوِّنت، لما اتسع العالمُ نفسُه، في ظني، وحواها" (يو 21/25).

إن حياة المسيح بأكملها تخرج عن المألوف وتتربع على عرش الاستثناء المطلق. في هذا المضمار يقول الأب ميشال الحايك: "أيَّ شيء أبقاه المسيح على حاله من ذلك الزمان؟ تعرّض لكل شيء، تعرّض أولا لأنظمة الطبيعة، فوُلد على غير ما يولد الناس، مبدعا ولادة جديدة بفعل الروح، لا بفعل اللحم والدم، رفض أن تتحكم الطبيعة في الانسان دون رادع، فأسكت العاصفة على البحر بكلمة منه، ومشى على الماء، ولِمَ يُحرَّمُ المشيُ على الماء ويُقتصر على اليابسة؟ ... ويتابع الأب الحايك: "لم يمتثل المسيحُ لنواميس الطبيعة. ففتح عين الأعمى وأنهض المقعد وأقام الميت من قبره... ولم يكتف بنسف نواميس الطبيعة. هتك الشرائعَ التي توارثها الناسُ من تقاليدِ الإنسانية ومن مسلَّمات الوحي الديني... جعل الانسان فوق الهيكل وفوق السبت وفوق الكتاب. وتعرّض لله، إله الغيب. جعله حضورا. حضَّره في التاريخ. استدرج الله إلى الموت، فكان المستحيلُ، أي أن اللهَ الذي لا يموت، اختبر الموت والانسانَ المائتَ اختبر الحياة. بالنتيجة لقد زجَّ اللهَ في الانسان، وخطفَ الانسانَ في لا نهايةِ الله".

أمام سحر المسيح وعظمته، قد نقع في تجربة التحسّر على قدرنا التاعس بدخولنا الحياة في زمن لم يكن فيه يسوع الناصري. ويقودنا خيالُنا المجنّح إلى تذهُّنات سُريالية، نتصور ذواتنا في حضرة هذه الظاهرة غير المألوفة، كيف كنّا سنندفع بفرح لا يوصف إلى السجود خُشّعا أمام مزوده العاري، ونهرول مغبوطين إلى ملاقاته في الساحات والطرقات لتبجيله وتكريمه والتبرّك والاستشفاء من لمس ردائه وذرف دموع التوبة على قدميه، إلخ. يستدرك الأب ميشال قائلا: "ولكن قد يكون خيرا لكم ولي أننا لم نكن في ذلك الزمن. فإننا قد نكون كنّا من لاطميه أو صالبيه أو مُهيِّجي الشعبِ عليه".

 يستهجن الأب الحايك حنيننا إلى زمن المسيح على الأرض. فالمسيح هو هو أمس واليوم وغدا وإلى الأبد. إنه في كل إنسان بدون استثناء. هدّم حضارة الأسوار لحماية الذات من الآخر وأرسى ثقافة التلاقي والتحاكي والتكامل في الحبّ والغفران. فالآخر جزء من ذاتي وطريقي إلى ذاتي. كيف لي أن أعي ذاتي في غيريَّتها بدون الآخر المختلف؟ عندما دخل المسيح زمن الانسان وأخذ طبيعتنا، بات لصيقا كيانيا بكل كائن بشري، سابقا وحاضرا ولاحقا. أصبح هو حلقةَ التواصل الوجودي بين الانسان وأخيه الانسان، بين الانسان ومصدر وجوده ومصبّه، وبين الانسان والكون. ومن يفتش عن اللقاء معه في معادلة الواقع المحسوس، لن يلتقيه إلا في وجه المشرّد والمنبوذ والمريض والمعدم. في عاهات البشرية وآخاتها، هناك يُقيم يسوعُ الناصري. وعبثا نسعى إلى تلمُّس محيّاه في مكان آخر. وينهي الأب الحايك مقاربته قائلا: "إذا أغلقنا قلبنا بوجه إنسان من البشر، فلنخش. فالمسيحُ هو ذلك الانسان".

بعدما حدّد الأب الحايك بعض الملامح الأساسية في جوهر المسيح ابن الانسان، ينتقل في السياق المنطقي إلى تحديد ماهية الانسان. ينطلق في تحليله من المقولة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: "الانسان طيِّب من طبعه، فالمجتمع هو الذي يُفسده"، « L’homme est bon par nature, c’est la société qui le corrompt »، أي بتعبير مرادف، سلوكُ الانسان السيء هو اكتساب من المجتمع الفاسد والمنحرف، والطيبة التي تسكنه مغروسةٌ في بهاء طبيعته الصرف وبراءتها الأولى. يعلّق الأب ميشال على هذه النظريّة بالكلام التالي: "هذا القول هو خُرافة لا صحّة لها إلا في خيال ذلك الفيلسوف الرومانسي المتشائم المتبرِّم بالناس. أما الصحيح فهو العكس، على ما يظهر من أبحاث علماء النفس المعاصرين، وعلى ما يُستنتج من استقراء معالم التاريخ القديم، وعلى ما تُلقّنه تعاليمُ الوحي في الديانات. كلُّ هذه الشهادات مجمعةٌ على أن الانسان حيوان لا يوثق فيه ولا يُركن إليه. لأنه فاسدُ الأصل، مجبولٌ بالشّر".

هذه المعطوبيّة في أساس كيان الانسان، يحاول الأب الحايك أن يثبّتها بالعودة إلى أبحاث متنوعة، في حقول معرفية متعددة، تشمل أيضا سلوكيات الحيوانات. ويذهب في قراءته إلى الجهر بأن "الانسان بخَلقه وخُلُقه هو وحش، بل هو أخبث الوحوش لأنه أذكاها. أقرب الحيوانات إليه في سياق التطور، [إن صحت نظرية أهلِ النشوء والارتقاء أم لم تصح]، هو قرد حاملٌ حجرا يضرب به الآخرين". إن هذا التيقّن لجوهر الانسان يتقاطع مع نظرية الفيلسوف الإنكليزي في القرن السابع عشر توماس هوبز (Thomas Hobbes) الذي رأى في الانسان طاقة مخيفة في العنف والشراسة والقتل، الأمر الذي دفعه إلى الاستنجاد بتحديد الانسان كما ورد لدى الكاتب المسرحي اللاتيني في القرنين الثالث والثاني قبل المسيح بلوتوس Plautus في مسرحيته Asinaria : Lupus est homo homini, non homo ما ترجمته "الانسان هو ذئب أكثرَ منه إنسان لأخيه الانسان". فسكبها هوبز في قالب شبيه إذ قال: Homo homini lupus est"الانسان إنما هو ذئب لأخيه الانسان". وما تاريخ البشر المأساوي والدموي سوى تأكيد لهذا الوعي الكئيب لطاقة الشر في حياة الكائن البشري، كما رواها سفر التكوين عن مقتل هابيل على يد أخيه قاين. من هنا القول الشهير للجامعي والسياسي الفرنسي Roger-Gérard Schwartzenberg: « Les peuples heureux n’ont pas d’histoire. Ils n’ont donc pas de héros ». "الشعوب السعيدة لا تاريخ لها ولا أبطال". عندما نكون في قمّة الشعور بالغبطة والزهو لا نفكر البتة بالتدوين. وهنا نتساءل بحق هل من شعوب لم تكتب تاريخها؟ نجيب بالنفي. بما أن جميع الشعوب قد كتبت تاريخها، فهذا يعني أنها كانت كلُّها تعيسةً، لأن التاريخ يصطبغ أبدا بلون الحزن. بحسب الخلاصة التي انتهى إليها الأب ميشال الحايك، إن جبلة الانسان قائمة على النقص والتناقض. ويقول بصريح العبارة: "هذا هو الواقع البشري وهذا ما نسميه الخطيئة الأصلية. والخطيئة الأصلية لا تفسَّر بقصّة ثمرة محرمّة قطفها جدُّنا الأول، فهذه قصّة تصويرية، أو بتعبير آخر، القصّة هذه هي رمز. والرمز يعني أن الانسان في أصله منذ كان وفي أيّ زمان ومكان، هو على فطرة الفساد والإفساد، حيثما حلّ وأنّى رحل، يخرِّب الكون، يعطّل الطبيعة، يلوّث التاريخ، ينشر وراءه روائح العفن والموت". يلتقي هنا الأب الحايك مع العالم واللاهوتي والفيلسوف الفرنسي بسكال في شرحه لفرضية التضعضع الكياني في أصل الوجود الحسيّ، حيث يقول: " عندما علّمتني الكنيسة الخطيئة الأصلية، بدأت أرى تداعياتها على ذاتي وعلى الكون: إنها الفوضى و"هالشي المش زابط". غير أن الأب الحايك لم يقفْ عند هذا الحدّ في مقاربته لجوهر الانسان ومصيره، بل انتقل، ككاهن يسكنه الرجاء ويشدُّه التوق إلى ضفّة أخرى من وجود بشري بهي، إلى تحديدٍ يُعيد التوازن إلى قوى الخير والشر التي تأخذ من حياتنا حلبة لصراعها. فهو يرى جائزا التأكيدُ أن الانسان ليس فطرةً وحسب، إنه أيضا إرادة. "إرادةُ توق إلى مُطلقات الخير والحقّ والجّمال. فحياتُه إذاً تمزّقٌ مستمر بين شهوة الفطرة ونداء الإرادة... هو منصوب بين حالة الرفع وحالة الجر. الإرادة تجعل منه فاعلا مرفوعا إلى فوق، والفطرة تحولّه إلى مفعولٍ به، مجرورٍ مكسور". يُرجعني هذا التفكير إلى ما قاله الكاتب الفرنسي والحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1915 Romain Rolland : "علينا إن نوفِّق بين تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة". إذا ما أمعنّا التفكير في أيّ أمر من شؤوننا اليومية، لرأينا أن أمورنا مخيّبة للآمال. هي على الدوام دون انتظاراتنا. بيد أننا، بقوة الإرادة التي تسكن فينا وتحركُّنا، نسعى بدون كلل وبدون ملل إلى دفع الأمور في اتجاه نعتبره أخير وأفضل وأجمل.

إن هذا التذهُّن الشامل والمتزن لجوهر الانسان قاد الأب الحايك إلى الاعتراف بشكل لا لُبسَ فيه: "إنه، أي الكائن البشري، شريرٌ، ولكنه ليس شراً كلُّه. فبينما هو يرفع تماثيلا للغزاة والفاتحين ويتّخذ من القتلة والسفّاحين مُثُلَه، ويصوغ خُرافات عن بطولات سفّاحين، نراه أيضا ينحني أمام أهل الخير والصّلاح، ممجداً ذكرى من نادوا بالقيم ومارسوها حتى التضحية بالذّات". ويتابع قائلا: "في هذا المشرق بلغت حدة الصراع بين الفطرة والإرادة أقصى حدودها. ففي هذا المشرق طمحت الإرادة به إلى التخطي حتى مدخل السماء، فبنى المشرقُ بابل، أي باب إيل. ثم في هذا المشرق أيضا جنحت الفطرةُ إلى البلبلة والضياع، فهدَّم الانسان ما بنى... على لسان هذا الانسان المشرقي انطلقت تلك النداءاتُ الروحية الكبرى، من إبراهيم حتى المسيح. وأيضا في هذا المشرق، في قفاره ومدنه، سُمع عويلُ الجن وزعيق الشياطين".

أمام مشهدية هذا المشرق الممزَّق بين الإرادة المجاهدة بعناد لتجاوز هشاشة طبيعتنا البشرية واللِّحاق بمشروع سيِّد التاريخ، يسوعَ المسيح، لترميم الانسان، من جهة، وعمل الفطرة بغرائزها وحيوانيتها التي تحوّل الزمن إلى تاريخ مأسوي، من جهة أخرى، يقف الأب ميشال الحايك بقامة الأنبياء الثائرين على ذواتهم وعلى الآخرين، طارحا أسئلة حاسمة عن دور المسيحية المشرقية، عن مستقبل ما تبقى من تبّاع المسيح في هذه البقعة من الأرض التي اختارها يسوع الناصري لتدشين إقامته بين البشر وإطلاق بشراه الخلاصيّة للبشرية جمعاء. فهو يتساءل بحرقة في النفس: هل حافظنا على شعلة الثورة الروحية والفكرية والمجتمعية التي أتى بها المسيح، أم تركناها تخبو رويدا رويدا وتنطفئ تحت وشاح تراخينا وسأمنا واستقالتنا؟ في المقابل، نرانا مندفعين بطاقة هوجاء لركب تيارات معاصرة ونظريات متعدّدة من كلّ صوب وحدب. وفي صُوَر بيانية مبدعة يقول: "فما تهبُّ عقيدةٌ في الأرض إلا وتعصِفُ بها رياحُنا، فلها عندنا مناخٌ ومناصرون. وما يطلع زيٌّ جديد في الناس، في اللّباس والفنّ والرقص، إلاّ وكان له في دورنا وشوارعنا من يتلبّسون به ويتراقصون عليه. فإذا هذا الشرقُ أو هذه البلادُ خصوصا تُصبح على تنوّع ما فيها مُتحفا للأشكال والأزياء والعقائد".

 بالنسبة للأب الحايك، لا ريب البتة أن الكنيسة، وخصوصا كنيسةَ لبنان والبلدان المشرقية، بالرغم من الاضطهاد، لا بل بفضله، باقيةٌ بحسب وعد المسيح إلى انقضاء الدهر. بيد أن هذه الاستمرارية في وجود يتحول على الدوام إلى حضور فاعل، لن تتحقق خارج الثبات في المحبة. فهو يؤكّد بأسلوب مار بولس أنه "لو لم يبق ككنيسة شيءٌ لها وفيها ومنها، ولو عُرِّيت من كل ملك وامتياز ورسم وطقس؛ ولو أُطفئت فيها كلُّ الشموع وأُخرس صوتُ الجرس، وكُمّتِ الألحانُ وأُحرقت الصور، وبقيت المحبة، فالكنيسةُ باقية". إن كنيسة المسيح، المولودة من رحم الأوجاع والشاخصة، بالرجاء الذي يتضاعف قوة وزخما في المحن والمصائب، إلى مجد القيامة العظيمة، تستمد طاقة الصّمود والتجدّد من هذا المنطق العبثي في نظر الحكمة البشرية. هذا الجنون العاقل القائم على الغفران وكسر حلقة العنف، هو وحده القادر على دفع المضّطهد والظالم والمعتدي في هذا الشرق المعذَّب والمعذِّب إلى التعرّي أمام ذاته المتهالكة. وهكذا، على حدّ قول مار بولس، بالمحبة والغفران، نكون كمن يركم الجمر على هامة الظالم، فيرى قباحة صنيعه ويرتعب من ذاته المشوَّهة بالكراهية، فيبدأ، تائبا مطأطئ الرأس، رحلة العودة إلى ديار الخير والتحاب والتآخي. فاللاَّعنفُ أقوى وأمضى من العنف. والعنف هزيمة نكراء للبشرية.

في منظار الأب ميشال الحايك، لكي يولد هذا المشرق في حضن حضارة المحبة، حضارة التلاقي الإنساني العابر للثقافات والأديان والتقاليد، وينهضَ إلى الحياة الحقيقية التي يعطيها حكرا وحصرا سيّد التاريخ، يسوع المسيح، علينا أن نموت عن أمور عديدة. في هذا الصدد، يقول الأب الحايك: "قد يكون أولُ من يجب أن نحكم عليه بالموت عندنا هو الله الذي نعبده. ألله المتكَّلُ الذي نُبرِّر باسمه تقاعسَنا ونروح إليه عند كلّ هزيمة أخلاقية لأننا نزعم أن الله يدبّر شؤوننا، هو الذي اخترع العقل وجاء به علينا لنعرف أن من يتّكل على عقله فعلى الله اتكالُه. يجب أن نموت. أن يموتَ اللهُ الذي باسمه نخوض المعارك وإليه نصلّي في غزواتنا ...، ونحلِّلُ باسمه المنكرات، هذا الإلهُ العسكري الغازي يجب أن يموت، لأنه بالحقِّ هو إلهٌ ميت". إن انتفاضة الأب الحايك على ما دُرج على تسميته في أيامنا الحاضرة بالعنف المقدّس تنطلق من جوهر الله الذي إن هو إلا حبٌّ ورحمةٌ وحنانٌ وغفران. فالحركات الدينية المتطرفة تلغي باسم الله حضور الله في التاريخ وتجعل من الدين وشاحا أسودَ لستر أشنع صنوف الإجرام الإلحادي. فهو يقول: " الثورة التي جاء بها المسيح لم تُهرِق نقطةَ دمٍ واحدة من غير دمه. كانت ثورةً على الأخلاق والأنظمة. نادى بالصفح الإنجيلي عوض الثأر الموسوي. نادى بالرحمة للناس بدل القرابينِ والأضاحي عن الناس".

إن مشروع تشييد أورشليم الجديدة، المدينة الآتية التي تجمع في رحاب محبة الله المطلقة جميع البشر على تنوعهم، لا يمكن أن يتحقّق على أيدي أناس يُتقنون فنَّ التقاعس في فيء الإيمان المجوّف والعقيم. الإيمان الصحيح أنما هو اندفاع جنوني لتحقيق ملكوت الله في كل لحظة وهنيهة من حياتنا. وفي شطحات بيانية أخّاذة يقول الأب الحايك: "نعجب كيف يتركنا الناس نجترُّ أوهامنا الفارغة كالقطيع في ساعة القيلولة! ألهانا اجترارُ الأمس عن إعداد غذاء اليوم لشعوبنا الجائعة". ويتابع في مقطع آخر: "إن عِشنا يومَنا سَلُم لنا غدُنا، وإلا عُرِّينا من المصير".

كان هذا بالفعل همَّ واعظ كاتدرائية مار جرجس في بيروت. استبسل في رسم خريطة طريق لهذا المشرق الهائم في مساحات البؤس والمآسي، تُخرجه إلى واحات الحياة وفرح الوجود. استعرضت وإياكم هذا المساء بعضا من النقاط العديدة الواردة في المحاضرات ـــ العظات الثمانية التي نشرناها مؤخرا في الجامعة. قد يكون من المفيد هنا أن نُشير إلى الأهمية القصوى التي كان الأب الحايك يوليها إلى مكانة كنيسة لبنان ودورها الريادي في بعث كنيسة المسيح المشرقية وإعادة وهج البدايات إلى إطلالاتها التبشيرية والتعليمية والمجتمعية. جميعنا يتذكر كيف حدّد فاجعة لبنان بأسلوب خارق يجمع التناقضات ليُجهضها في خلاصة وجوديّة تخلُب القلوب وتسحَر العقول، قائلا: "مأساةُ لبنان أنه لا يعرفُ أن يموت" « Le drame du Liban c’est qu’il ne sait pas mourir » .لو كان لبنان يعرف أن يلفظ أنفاسه لكان استراح في هدأة الموت وأراح الآخرين. لكان استراح من رسوليّة كيانه، من نظامه القائم على السلطة التشاركيّة والتناوب السلمي على الحكم، وعلى الاعتراف بالآخر المختلف كشريك، وعلى احترام الذاتيّات والذاكرات التاريخيّة، وعلى إشراك جميع مكوّنات المجتمع في الحكم التعدّدي، إلخ. لكان أراح دولَ المشرق كافة من هذا الإزعاج الإيجابي، لأنها تعشَق كلُّها حضارة اسبارطة، حضارةَ الأنظمة العسكرية الشموليّة المذوِّبة للفروقات ولحقِّ الانسان في الاختلاف. حتما كان الأب الحايك دائم الذهول من المكانة المرموقة التي يتمتع بها لبنان في الكتاب المقدس. كيف له أن ينسى أن الكتاب المقدّس يذكره أكثر من سبعين مرة، كرمز للحياة ومناعة الوجود والخلود؟ كم كان يغتبط ويتجدّد رجاؤه عندما كان يقرأ ما كتبه عن لبنان النبيُّ العظيم أشعيا في القرن الثامن قبل المسيح! كان هذا النبي يعزّي القفرَ القاحل والعقيم والصحراءَ المحروقةَ بأشعة الشمس، مرتعَ اللّاوجود والموت، قائلا: في زمن الخلاص، في زمن المسيح، سيعطيكِ الرب الإله مجد لبنان (ومجدُ لبنانَ أُعطي له، أي للقفر). لبنان هو رمز الحياة. وهل من الممكن أن يتسلّل الموتُ إلى ما هو رمز الحياة؟ من هنا كلام الأب الحايك الجازمُ والحازم: "مأساة لبنان أنه لا يعرف أن يموت". لقد أصدر الله، بحكمته التي لا تسبر ولا تدرك، حكما مبرما على لبنان وعلى كنيسته بديمومة الحياة والشهادة للمسيح المعلّق على صليب البؤس والكاسرِ شوكةَ الموت. في الآتي من الأيام، سيكون لزاما على هذا اللّبنان، العظيم والهشّ في آن، والذي ترنو إليه جميع كنائس المشرق النازفة، أن يردِّد صدى كلمات الأب ميشال الحايك النبويّة، المدوّية في بواطن الضمائر ومطاوي النفوس، ويَصعدَ مع بلدان المشرق وكنائسه قاطبة، مرنّما أناشيد المراقي، صوب أورشليمَ الجديدة، مدينةِ الله، حيث في ملء الزمن ستلتحم البشريّةُ بعضُها ببعض، متصالحةً مع ذاتها في ديمومة عنصرة التلاقي والتّحاب. وشكرا.  

 

_______________________________________________________________

 

المسيح سيد التاريخ

 2018 آذار 6 إنطلياس، في د.ناجي الحايك


 
"  المسيح سي  د التاريخ" عبارة عن ثماني محاضارت للأب ميشال الحايك   أ  لقيت ما بين سنتي   1985 و1968 في زمن الصوم المبارك. وقد قامت جامعة ا  لروح القدس مشكورة بطباعتها   من ضمن رسالتها المسيحية الهادفة إلى   نشر فكر كبير من ملافنة    تلك ، الكنيسة المشرقية  التي أاردها الأب حايك " واحدة،    مقدس ،جامعة  رسولية". ،ة
لا نعرف عن حياة   الس  يد المسيح   الأرضية إ  لا    إذ أ ، عشرها ن   فترة ما بين ميلاده وصلبه ما ازلت مجهولة بالكامل. تبقى لنا ال  سنوات ال  محورية   الثلاثة   التي قضاها في    ، التبشير و   هي لا شك كانت كافية لإشغال   الكتاب   واللاهوتيين والفلاسفة على مدى أ  لفي عاما في تحليل  وتوصيف  وتبجيل رسالة ابن الله المؤنسن وقد أتى الأب ميشال الحايك ل  يختصرها بعبارة   واحدة :المحبة.   محورية مجموعة العظات هذه هي   تطوير   لرسالة مار بولس الشهيرة   وشرح  ، عن المحبة مستفيض لأوجهها العديدة   ثم   ربطها بأهداف ثورة المسيح   الش  املة ال  تي تختلف بالشكل   والجوهر عن كل ما سبقها وما سيلحقها من ثوارت. لقد نقل   الس  يد المسيح   الثورة من ساحات القتال إلى ساحة   الحق   والمحبة.   ولعل أجمل ما قاله في توصيفها هو" إ  ن المسيح في ثورته لم  يهرق نقطة   دم واحدة   إلا   من دمه".  
-2-      لم يغير المسيح فقط مفاهيم الحياة   الأرضية ومرتكازتها ما إن قد   غير مفهوم الله   وعلاقته بالبشر. لقد أمات يسوع فكرة الله القديم   الذي   كان يشبه إله   القوة المخيف عند   الوثنيين، إ  له الغضب     إ ، والسطوة له العقاب والإنتقام   الذي ترتعد فارئصنا أمامه، و استبدله بإله المغفرة و   المحبة،   الر  ب   المحيي   لكل البشز .لقد أرشدنا المسيح الى أبيه   الحقيقي لا إلى إله الأصنام  ا  ي لاغ  بذلك ق  ي  م وتعاليم الناموس القديم .إ  له المسيح ليس إ  له   نظرية   الجبرية   التي تجعله يسي ر   أمورنا إنما هو الله   الذي أعطانا الخيار  الم طلقالمرتبط بالعقل   الذي يقود   خطانا.   إن الخيار المطلق لامحدود ويسمح لنا القيام بإنتفاضة على   كل   شيء حتى على الله نفسه . الخيار أي  الحري ة بذاتها يمكنها إ  يصالنا إلى رتبة القداسة والله الجديد أي يسوع المسيح حاضر ا دائم في سعينا لكي  نكون على صورته   بالحق   والمحبة لا لنلتجئ إ  ليه موس  ميا لإنجاح مصالحنا أو لنطلب منه استعمال   قوته لينصرنا على إخوتنا بالإ  نسانية.    
إن جوهر الإنتقال إلى حال المسيح هو قبول الإنقلاب على الموازين المعروفة في شريعة الأرض من آدم إلى يومنا   هذا .فالمسيح ال  ذي نقدس لم يكن   بطلا    ، على مقياس البشرية فهو   لم يكن قويا بجيشه ولا بزنده، كما     ، لم يكن فيلسوفا يشرح الفكر ولا رجل   ع  لم يستنبط   الحلول الفيزيائية   أو الط  بية. المسيح إنسان مثلنا   يشبهنا في كل شيء إ  لا في الخطيئة. هو   البشري   ال  ذي جاع وعطش فشحذ الماء على الص  ليب لي  عطى خلا   هو ال ، ذي بكى وتألم و خاف من الموت ومات ونزل القبر   جعل نا بعد موتنا نقوم لنحيا عن ا كما ي ليقوم مجد د يمينه.
-3-    
لقد   طور الأب حايك فكرة بدء البشرية مع آدم   ثم ت  حو  لها مع المسيح. لقد أنزلت الخطيئة الأولى الإنسان إلى صورته   الأرضي  ة ال  تي عاش فيها قديما ولا ازل   الكثير منا للأسف وبها يعيشون فيها .   أما    ، بعد الحضور الأول وما قبل الأخير للمسيح فقد انتقل الإنسان من الحالة ا  لمادي  ة والد  نيوية إ  لى حالة الروح. المسيح إذا هو   آدم   الثاني إذ أ  ن  البشر يولدون   بيولوجيا على صورة آدم ليعود و ا فيولد و ن من جديد على صورة المسيح   مع سر   العماد ال  ذي يغي  ر مفهوم روابط الل  حم والدم لترتقي إلى مارتب   الروح الأسمى فيصبح   الإنسان أخا   لكل إنسان  وتزول الأعارق والألوان والبلدان .مع   المسيح تضمحل   نظرية   الشعوب المختارة، مع المسيح لا   تصح مقولة "خير   أم ة أنزلت   للناس". مع المسيح أصبح البشر على صورة الله ب وسا  طة الر  وح الم  حيي الذي لا يموت.  
تقول   الصلاة :" ياسيدي مزجت لاهوتك بناسوتنا وناسوتنا بلاهوتك".   إن جوهر إمتازج لاهوت المسيح بناسوتنا يجعله   شريكا   بإنسانيتنا  و  شريكا لنا في مآسينا فلا   يعذب و لا يشقى   أي إنسان   إلا والمسيح مشارك له في عذاباته ولا يموت   أي   بشري   وحيد  ا لأنه بين أحضان   ومعية وحضور المسيح يموت.    
إن   المسيحي   الحقيقي   هو ال  ذي ق  بل   أن يعيش على صورة المسيح   التي   تحتم عليه أن يترك   كل شيء ويتبعه فيبيع أملاك أ  بيه ويهب  ها للمساكين .المسيحي   الحقيقي هو من يترك أفارح
-4-    
وأمجاد الأرض لكي يسير في أ  ثر فرح   حقيقي   غير   متكئ   إلا على عواميد   إيمان   بشر به   فقير معدم و  لد في   مزود ومات تحت ضربات السياط ونزف من آثار جروح   الر  ماح معل  قا على خشبة ا كانت ترمز قديم إ  لى الذل والعا  ر فحولها بإرتضاء الهوان على شخصه وقبول الحكم الجائر على نفسه، إلى أبهى رموز الضياء.  :إلى رمز  الحياة  الجديدة    
أما كتاباته     ف ، عن المحبة ت  ك  ملة لرسالة مار بولس الشهيرة مع   إضافة   عليها .يبدي بولس   الرسول المحبة على الإيمان   والرجاء إذ يقول   إن   المحب  ة   أعظم من الإيمان   الذي يزحزح   و هي ت ،الجبال تفو ق على العلم المطلق  وعلى   النبوءات كلها. أ  ما في محاضرة "  أح  وا ب بعضكم     ، بعضا" فيزيد الأب حايك على كلام بولس الرسول ليقول   إن فعل ال  محبة   أعظم   من الت  غل   تلك الغلبة ال ، ب على الموت تي لم تعط إ  لا للمسيح نفسه.  
يقول:   "المحب  ة ليست من فضائل الكنيسة والمسيحيين   إنما   هي الفضيلة كلها، وما سائر الفضائل إ  لا وصيفات لها".   المسيح النازل إ  لى الأرض هو تجسيد المحبة عند الله، المسيح   هو فعل المحبة لا قولها.   المحب  ة ليست من صفات الص  ديقين ولا من أسماء الله الحسنى.   المحبة هي الله كما   أن   الله هو المحبة بذاتها   لأنها خلاصة رسالته إلى العالم.  
-5-    
ويبقى أ    ، ن تكملة رسالة المسيح هي الكنيسة أقل  ه لأن   عمودها الفقري ودستورها أساسهما   المحبة. أوليست هي   المؤس  سة الوحيدة التي لا ترفع   إلا   شعار   المحبة ولا تنادي إ  لا بها .  هنا يبتعد الأب حايك عن ج  ل  د الذ  ات وتهشيم الص    ويخالف  ، ورة البهية للكنيسة بعض  ن ا م  مسيحي  ي جيلنا ال  ذين يفت  شون عن الز  وءانة في تل  ة القمح فيسم  رون عيونهم على مجرب   واحد من بين ألف   مكر  م .يكفي الكنيسة أن ترفع شعار الم  حبة وتنادي به على أجارس كنائسها حتى   لا يكون لها شبيه .حتى وإن هي أخطأت   وشذت     ، فعلا عن تعاليم يسوع إلا   أن ما   ص  ل  ب تعاليمها إلا      وما تبشير كهنتها ، تعاليم المحبة إلا  ومرتبط   أبدا ب  المحبة. الكنيسة   لا تمجد لا المفكرين ولا الفلاسفة  ولا الزيارن أو القادة والفاتحين، هي لا ترفع القاربين على مذابحها   إلا   تكريم  ا للذين افترشوا  وا عتمروا  و التحفوا  و انتقلوا   بالمحبة.  
كما أن ه   يلخص  مهام الكنيسة   بالتالي: "   إنها مشروع محاولة تق ريب  ية لكي يعيش أهل الأرض بأخلاق   السماء". الكنيسة   إذا هي   الس  كة و   الرابط   الذي سوف ينقلها وينقلنا من اورشليم   الأرضية الى اورشليم   الس  ماوية.  
 و  كعادته يعرج   على الش  رق ال  ذي يمثل أصل المسيحية ومسقط أرسها ومنزلها وساحة منازلا  تها المستمر ة.   الش  رق مقدس كونه البداية والعودة إ  ليه حتمي  ة في النهاية .أ  ل  م يق  ل   الآباء القدماء   بأن "   الفردوس الأرضي   كان في الش رق معآدم   الذي   أ  خر  ج ع  نوة من الباب الغربي
-6-    
ليعود مع آدم الجديد   أي   المسيح فيزهر في الش رق ومنه؟ ..."   من الش رقانطلقت   المسيحية فأنارت   العالم .المبش  رون الحفاة العارة ذهب و  ا من هنا فقطعوا البحار وقاسوا قيظ الص حاري  لكي تصل المسيحية إلى   كل الأرض. على رقابهم هم أعملت   السيوف وعلى جلودهم   قطعت الس ياط وهم يسيرون فيا  تجاه قبلة الملكوت ورجاؤهم الأسمى أن يكونوا على صورة   معلمهم الفادي، أن   يكونوا شهودا على تحقيق نبوءته لهم   بأنهم   سيعي  رون ويضط  ه دون لأجل اسمه. باسمه   يصلبون ويجوعون كل  يوم في سهول نينوى وعلى تخوم انطاكيا وفي ماردين  ومعلولا وفي القدسين وفي قطاع غزة،   كل   هذا وهم لا يشتكون لأنهم حياة يشتهون    ،المسيح نسيب   الدم... و القدوة والمثال.    
وهل من مسيحي   ما ازل ي  صل  ب جسدي  ا وروحيا إ  لا   في شرقنا هذا؟ وهل ت  حر ق أو   ت  فجر المعابد   إلا في شرقنا؟   مع كل   هذا الشقاء يعتبر الأب حايك   أن العازئم تأتي على قدر أهل  لذلك  ،العزم يحمل   الش  حقيقة هو ، رق المجرح أحمال الغرب المغت رب عن المسيح الشرق  أ  ن  ه هو الذي يموت فيما الغرب يكتفي بمساعدته على دفن موتاه   هذا إن ع ، دل.مسيحيو  المشرق   الذين   بق  ا و ماازلوا على نمط الحياة هذا منذ تسميتهم تم   كذلك في انطاكيا في الجيل   الأو  ل مناقضين حظ إخوتهم   الغربيين   الذين حالفتهم وعود الزمان فعاشوا ترف الأمبارطوريات   المسيحية.  
-7-    
كذلك   يلقي   على منكب  ي المسيحي  ة المشرقية   أ  حمال   الرسالة   كل  ها وع  وض أن   ي  عذر   تلكؤها   ربط  ا بالت   يطلب منها مجهودا أكبر ، اريخ الأليم وبالجغارفيا والجوار القاسي والقاني وكأنها  ، وحدها من يختصر تسمية الكنيسة المجاهدة ...  دعوته هي   للت  قيد برسالة إنجيلنا والإنفتاح   على كل العالم ورذل   التقوقع والإنعازل.  فالمحافظون يمكنهمأن   ي  ج  نحوا صوب سلفي  ة معينة   تصير رجعي  ة ف  توقف تقدم الحياة وتبقيهم متباكين على أطلالها.  
بالم ص    هو يطالبهم، لخ بأن ي  بقوا جبالهم مناارت تجذب العالم من بحار الرمل والملح.   يشد على أيديهم لكي  تكون بلدانهم مفتوحة لجميع الأرضكونهم ت  ميزوا ففطروا في جوار مهد إبن الله. باسم   المسيحي  ة فليتكلموا بجميع لغات الأرض، هم أبناء العهود القديمة ال  عبارنية و ال  سريانية  و  اليوناني  ة التي اجتمعت في   لغات كنائسنا وصلوات نساكنا من المحيط إلى الخليج.   
أختم   كلامي بوصية الأب ميشال الحايك لأبناء جيلنا   المسيحي   المشرقي. يقول  " :عبثا نبحث عن رسالة في أسلوب   غير أسلوب الإنجيل   .رسالتنا هذه لأجل  ها كنا بالأمس، وإذ   لم نرعاها حق رعايتها، عوقبنا على إهمالها  ولأجلها نحن اليوم باقون وهي السبب الوحيد  ، لإستماررنا".