كلمة المحامي هيكل درغام

في حفل تكريم علم الثقافة  القاضي الدكتور سامي منصور 

الحركة الثقافية – انطلياس 2018/3/16

ايها الاصدقاء .

  روى قاض فرنسي لقاض لبناني  ان مديرمعهد القضاء في بلاده  بعد ان اضيفت مادة سميت اخلاقيات القاضي ، اتصل بقاض كبير اشتهر بعلمه ، ونزاهته ،ومسلكه ليتولى تدريس تلك المادة ، فأجابه ، وهل تطلب مني مثلا ان القي على الطلاب والزملاء ما يشبه العظات ؟ واردف المدير فقال :

لا يا سيدي لو عادت الامور لي لطلبت منك بكل بساطة ان تتمشى قليلا امامهم وان يروك .

هكذا هوحال  الرئيس سامي منصور الذي نكرمه في هذه العشية علما ثقافيا من اعلام الثقافة في لبنان ، والعالم العربي .

رجل يكفي ان تراه وتراقب خطاه ، وتتطلع على سيرته الذاتية لتعرف انه قاض كبير يعلم بمثله وهو العلم الثابت . 

     الكلام عليه يطول ، ويريح وان كان يجرح التواضع ، ويجعل المتكلم يحس بالاعتزاز،  والتقصير معا ففي قولة  الحقيقة اعتزاز وفي عدم ايفاء الحق الكامل تقصير .  

         ذاع صيته بعدة اعمال،  وقرارات صدرت عنه تنضح بتحقيق العدالة قبل الحرص على تطبيق القانون . يؤثر الاجتهاد المبتكر على التمسك بحرفية النص ويوزع العدل بوحي من ضمير مؤمن متمسك بما يوحيه اليه رب الضمائر   .

     

  قاض يحافظ على استقلالية قراره بكثير من الشجاعة والتفاني .

 في معهد الدروس القضائية اللبناني،  وفي القاء المحاضرات في الجامعات والمؤسسات  الحقوقية  كم كان يسدي النصح بطول البال ،  ومعالجة ما اعوج بأناة قد توصل الى نتيجة بدل الصدام الذي يؤزم الامور وتنتفي معه امكانية الوصول الى الغاية  . من شعائره :"  قل لي ماذا تقرأ لاقول لك من انت ".

اراؤه وكتاباته صدى لحياة مليئة بالعطاء  تحمل قسطاس العدل بيد وسداد الرؤيا بيد ثانية .

كبير هو في كل ما فعل  . قاض يعتز به القضاء . انسان يحب بقلب كبير يخالجه كل ما يمت الى الانسان بصلة  ، مؤمن بربه ، معتز بدينه دنما افراط .

رجل ثقافة ، وعلم .

 الثقافة تجلت لديه في شمولية نظرته الى الموضوعات التي بين يديه  اذ ترى في اي قرار او حكم سطره ، وفي اي مداخلة ، او محاضرة ، اودرس القاه بحثا علميا عميقا ، ومستفيضا اين منه ما تقرأه في المؤلفات الوساع . اجل ان مسيرته الانسانية كقاض مثقف اعطت لمن حوله ولمجتمعه ، ومحيطه المثال ، واغنت هذا المجتمع بالعلم ، والثقافة ، والعدل،  والاصالة ، وبالمواطنية الصالحة .

      صاحب فكر علمي ملك ناحية التعبير عما يجول في اعماق خاطره من لغة التخاطب باسلوب سهل ممتنع لا يتوافر لسوى اصحاب المعادلات الذهنية المنفتحة على عالم الثقافات الصعبة .

    قاض نزيه مستقل  فقيه لا يغريه منصب ، ولا يؤثر في احكامه نفوذ . شكلت العدالة شغله الشاغل باعتبارها حجر الزاوية في منظومة القيم .

حضرة الرئيس المكرم     

نحن في الحركة الثقافية انطلياس بتكريمكم كعلم من اعلام الثقافة في لبنان الرعيل  السابع والثلاثين نكون في الحقيقة نفتعل المناسبة لنفتح صفحة اخرى من صفحات سجلاتنا لندون  عليها اسم واحد من القضاة الاعلام  الذين امنوا  بما قاله الرئيس يوسف جبران ذات يوم  :"  أن العدالة مولود المحبة ، وبدونها تكون قسوة ،  وبأن الثقافة ليست مجموعة نشاطات نقوم بها بل هي طريق حياة لا لنخبة في مجتمع بل للمجتمع ككل ، للمجتمع الذي يسعى مفتشا عن معنى  ، وعن تعبير لهذا المعنى ".

  القيمون على الحركة هم من دعاة التثاقف الحر  يسعون دون تبعية للمحافظة على الاصالة ، والهوية ، والتراث  في سبيل ان يحافظ لبنان على دوره الريادي الثقافي العربي رغم كل الظروف الصعبة  بهذا المعنى   يقول منح الصلح عن الحركة :

 " فلا لبنانية محتكرة ، ولا عروبة منبوذة  ، ولا مسيحية مكتفية بنفسها ،  ولا اسلام مستبعد ،  بل ظاهرة ثقافية مستدانة  يترقب اللبناني وغير اللبناني وقائعها بقلب نابض عرف القيمون عليها ان يجعلوا من الدار الغنية بثمار الفكر والروح ملاذا للنفوس الوطنية المتشوقة للتلاقي ، وفضاء للحرية الفكرية مفتوحا امام المفكرين ، والمثقفين ، والناشطين اللبنانيين ، ومن كل اتجاه " .انتهى الاقتباس .

بهذه المفاهيم المدئية ،  والقيمية نستضيفكم الليلة في حفل تكريمكم علما ثقافيا من بلادنا لما ابدعتم في مجالات الثقافة ، وعملتم لقيام مجتمع المعرفة خاصة في مجال الفقه ، والعلم ، والاجتهاد  القانوني ، والانساني ،  ولما ساهمتم في صياغة القوانين الحديثة بين تطور علوم المعلوماتية ، ومجالات القوانين بحيث اصبحتم مرجعا يستعان به على الصعيدين العربي والدولي .  

اعطيتم الكثير على مدى نصف تقريبا محاميا ،   قاضيا ، محاضرا،  اداريا ،  مثقفا ناشطا في الدفاع عن حقوق الانسان ،  وفي كل المجالات التي خضتم غمارها  فالى كونكم شغلتم مناصب قضائية دقيقة ورفيعة سواء رئيس محكمة التمييز شرفا – رئيس المجلس العدلي بالانابة 2011 -2013  - مدير عام وزارة العدل حتى نهاية سنة 2013 – رئيس معهد الدروس القضائية اللبناني شاركتم مع الدكتور ابراهيم قبيسي  والاستاذة الدكتورة ليلى سعاده  في تاسيس الفرع الفرنسي لكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية .                            

 Filiere Francophone de droit    ولكم الكثير من المحاضرات ، والمؤلفات والدراسات ، والاراء القانونية جميع هذه الاعمال منشورة في كتيب اعلام الثقافة المعد خصيصا لهذا النشاط  يوزع مع منشورات الحركة مجانا لمن يرغب .

ايها الاصدقاء

 نحن نؤمن بان المستقبل موجود في المكان الذي ينفتح فيه العقل على الحرية وان الثقافة في وطننا اليوم يجب ان تكون فن الحياة في الزمن الصعب ليعود لبنان موطن الانسان اي موطن الثقافة . يجب ان يصبح مصنع عقول ، ومحرك ابداع واختراع ، وارض علم ، ومعرفة ، وان تكون له رسالة لانه لا يمكن الدفاع عن امة لا رسالة لها .   

بهذا المعنى ارى ان الرئيس منصور من انصار هذا النهج الرسالة الذي تربى عليه  وانه مارس رسالة التعليم  والتوجيه بصفته  رئيسا لمعهد الدروس القضائية واستاذا محاضرا في العديد من الجامعات في لبنان وخارجه  وتخرج لديه الكثير من الطلاب والقضاة ممن تلقفوا هذه المبادىء القيمية  ، وترسخت عندهم هذه الثقافة  واسمحوا لي ان اذكر هنا ، واوجه الشكر والتحية الى الرئيسة جوسلين متى التي حكمت بوحي ربها وعقلها والصواب بموضوع جرم تكسير تمثال السيدة العذراء داخل الكنيسة ،  واسمحوا لي ان ادون ان هذا الحكم هو اول حكم من نوعه في تاريخ لبنان لارتكازه على الحقيقة والمحبة والعدالة .

يشرفنا ويسعدنا ان تكون الاستادة الدكتورة ليلى سعاده مشاركة معنا في هذا الاحتفال .

    علم ثقافي بامتياز .  صاحبة سيرة ذاتية غنية .

ليلى سعاده المثقفة الملهمة ، المقتدية بصواب عقلها وسعة معرفتها ،  الشاخصة في مسيرتها الى عمق المعضلة الثقافية التي لوت سواعد الكثيرين . تشخص وتقرر وتعمل بعزم ، وصدق  ، وتفان . الهبت   قلوب وعقول الكثيرين  الذين عرفوها او تعرفوا عليها ، اوشاهدوا الانجازات الابداعات الصادرة عنها  ،  ومع الرفاق .

 ليس المهم ان تعرف ليلى سعاده بل ان تدرك ما تعرفه ، وتنفذه ليلى سعاده من خلال عمق ثقافتها ،  وقوة شخصيتها ، ورؤيتها الشاملة في مجال العلوم القانونية والانسانية والوطنية .

ليس من مهادنة بين ليلى سعاده والزمن . لا استرخاء عندها بعد تنفيذ المهمة المنجزة .  هنا تكمن كفاءتها ، ومثابرتها العالية المترفعة التي تنفرد بها  . تعطي كل ما في ذاتها لمن يشبهها وهم من الاصفياء . تخلت بكبر واعتزلت اواقيلت من عمدة  وادارة الفرع الفرنسي لكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية التي شاركت في انشائه  ، وبقيت جامعة الكل برمزية ثقافية اخلاقية فريدة خارجة عن نمط سلوك عالمنا اللبناني والعربي . انها الامل والمعلمة الملهمة المثقفة لنا ولكل من عرفها وتخرج على  يدها .

_____________________________________

كلمة سامي منصور

أيها الحفل الكريم

أرحب بكم جميعاً...حضوركم هو بذاته قيمة مضافة الى هذا التكريم، فأشكركم وأشكر الحركة الثقافية- انطلياس التي شرفتني بهذا التكريم. فهذه الحركة المدنية والثقافية اللبنانية الأم في لبنان انطلقت من انطلياس قضاء المتن عام 1978 لتشمل مساحة الإقليم اللبناني، دون أدنى تمييز او تفريق ان لم يكن اكثر. وكانت انطلاقتها على يد مجموعة من الشبان أرادت التعبير من خلال مشروع ثقافي ملتزم ومتطوع، عن رفضها للعنف السائد أنذاك، وعزمها على المساهمة في إنقاذ لبنان واعماره، بواسطة التغيير الثقافي، المنطلِق من الاصالة، والعامل بوعي نحو الافضل... فكان لها ما ارادت: فعاماً بعد عام رسخ في الذهن ان هذه الجمعية تشكل المثل النموذجي للمجتمع المدني الحي والفاعل في لبنان. فقد جاء في اهداف هذه الجمعية، ان الغاية من تأسيسها هي العمل الثقافي أولاً وفقاً لمثياقها الاساسي. وقد حدد هذا الميثاق بشكل واضح هذه الغاية بالالتزام "بقضايا الانسان والوطن بعيداً عن اي التزام سياسي فئوي... والسعي للمشاركة باعداد انسان جديد لمجتمع جديد، انسان حر، واعٍ وصاعد ومثقف ومسالم، انسان اصيل، مرتبط بارضه وتراثه، عارف بحضارتها وبقيمها، تواق للترقي ولمستقبل افضل، في وطن موحد مستقل ديمقراطي، علماني – بمعنى المدني – منفتح على محيطه العربي ومتفاعل معه ومع العالم في اطار السيادة الوطنية المطلقة"([1]).

ان تكرّم هذه الجمعية انساناً ولد ونشأفي عائلة عادية، وترعرع في قرية عادية،  زُرعت في ضاحية بيروت الجنوبية، كانت ولا تزال وستبقى مثالاً للعيش المشترك والانصهار مع مختلف المناطق المحيطة بها، المتنوعة الاديان والمذاهب والانتماءات، فتوحدت تحت مظلة واحدة "لبنان وطن نهائي لكل اللبنانيين". هو اولاً ترجمة لما تقوم عليه الحركة الثقافية- انطلياس من قيم انسانية واخلاقية ارتكزت عليها، وعملت على تحقيقها طيلة فترة وجودها. وهوثانياً تكريم ليس لشخص بالذات وانما هو تكريم لكل من كان عصامياً، عمل على صقل شخصيته وطبعها بالعلم والتحصيل، كدّ وتعب  لتحقيق مبتغاه. فوقته لم يكن ولا للحظة له، فقد كان مكرساً لغرف قصور العدل، وقاعات المحاكمة، والمكتبة الحقوقية في الجامعات، ولقاعات التدريس فيها، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات القانونية والعلمية، في لبنان والخارج.

ان المراقب للحياة القانونية يخرج باستنتاج واقعي، هو ان لكل علاقة قانونية فئتان من الاشخاص. فئة المعنيين بالعلاقة (فئة اولى) وفئة المهتمين بالعلاقة (فئة ثانية). الفئة الاولى هي اطراف العلاقة. كالبائع والمشتري في عقد البيع. والمالك والمستأجر في عقد الايجار. الفئة الثانية هي الغير عن العلاقة، كالدائن عند بيع المدين لعقارات له او عند عقده رهناً او تأميناً على املاكه. فهو ليس من اطراف عقد البيع الذي اجراه المدين او الرهن او التأمين، وانما حقوقه هي في حق الارتهان العام على مملوك المديون بمجموعه... بمعنى ان هذا الحق بالارتهان العام على مجموع مملوك المدين الذي منحه  المشترع للدائن سيتأثر سلباً، عند نقص هذا المملوك او تقييده برهن او تأمين، او ايجاباً عند زيادة هذا المملوك بزيادة افراد ممتلكاته او تحريرها من القيود.

ان نقل هذا المنطق القانوني الى الحياة الاجتماعية يخرج باستنتاج اكثر واقعية، هو ان تشابهاً كاملاً ينشأ  بين هذين النوعين من الحياة، القانونية والاجتماعية. فكما العلاقات القانونية تولد وتنشأ وتعيش ثم تنتهي كذلك في الحياة الاجتماعية. وكما في العلاقات القانونية معنيين ومهتمين. كذلك في الحياة الاجتماعية تتواجد هاتان الفئتان من الاشخاص المعنيين بالحياة مباشرة، والمهتمين بهذه الحياة بصورة غير مباشرة، فيتأثرون بها سلباً او ايجاباً.

 

 

وانا لجهتي سأنهي كلمتي بملاحظتين:

الملاحظة الاولى،هي انني اعتبر نفسي من المعنيين في موقعين: الجامعة والقضاء. فحياتي منذ بداياتها كانت الجامعة. الدراسة في جامعتنا الوطنية في مقبل عمرها الذهبي ودون توقف والعمل القضائي دون توقف، اولاً كقاضٍ متدرج في معهد الدروس القضائية في لبنان، وفي المدرسة الوطنية للقضاء في فرنسا ENMبرفقة من اصبح كبيراً في القضاء، غالب غانم ، وفي الادارة سليم اللاذقي، وسليمان ايوب الذي حرمنا منه القدر وهو في ريعان شبابه. وثانياً كقاضٍ عامل  في مختلف المحطات القضائية بعد تخرجي من المعهد.

الملاحظة الثانية، وفي هذه المناسبة بما ترسمه لي من مضمون وتحدده من وقت، سأكتفي بجمل مختصرة ولكنها معبرة عن ماضٍ جامعي وقضائي متطور وحاضر متراجع.

فمن عاصر عاطف النقيب وتتلمذ على اخلاقياته القضائية، وعلى حياته اليومية في الجامعة والقضاء: العلم ثم العلم، التواضع ثم التواضع، والاخلاق الحميدة، والرفعة والترفع... وعلى النهج ذاته: مصطفى العوجي، فيليب خيرالله، سليم الجاهل، ايلي بخاش، جواد عسيران، يوسف جبران، فيليب بو طربيه، نزيه طربيه، نقولا اسود، سميح فياض، حسان رفعت، ادمون رباط، ادمون نعيم، خليل جريج، وغيرهم من هذا الجيل من الكبار، واللائحة تطول، لا يلام اذا وجد القضاء الحالي،  والقضاة الحاليين، والجامعة، والاساتذة الجامعيين، على انهم من كوكب آخر.

لست اتكلم عن الناحية الاخلاقية، فعندي، ان القضاة والاساتذة الجامعيين هم فوق كل اعتبار. وانما اتكلم عن الناحية المؤسساتية في القضاء وفي الجامعة، وعند القضاة والجامعيين، فمن شاهد احداً من أولئك الاعلام حاضراً في مجلس سياسي، او كان جمهوراً لاحد، او مصفقاً لزعيم او لاي مرجع اياً كانت قامته، فليعلمنا ذلك ونحن نكون له من الشاكرين، معترفين بفضله!!!

وأخيراً كلمة اعتذار لمن قصرت معهم... افراد عائلتي وخاصة زوجتي وولديّ بديع ورامي ولكل من احببتهم ولم استطع ان ابادلهم الا القليل من الاهتمام والوقت. ولكن ما يعوض هو الكمّ الهائل من الحب والعاطفة لكل منهم والذي لا يقاس بمكان او زمان ...

فإذا كانت العدالة عندي، هنا، منقوصة، فليسامحني الله وليغفر لي هذا الذنب، انه غفور رحيم...

 وشكراً.

 

_________________________________

[1]- المؤسسون / المؤسسات السادة/السيدات: الاب ميخائيل سركيس معوض- الاب سركيس محسن الطبر- ميشال مراد عقل- سامي جبران عطية- اسعد منصور اليشوعي- الاب مارون الياس عطالله- جورج سعيد ضومط- انطوان رشيد سيف- بشارة اسعد طربيه- موريس شكرالله الخوري (موريس عواد) .