الدكتور محمّد شيّا: معلّماً وعلَماً

بقلم د. أنطوان سيف

          نادراً ما تمنّ الحياةُ بهنيهاتٍ تبيح التأمُّلَ المليَّ بجردة العمر من الأعمال والأفعال التي لها سجلٌّ مبعثرٌ في الذاكرة  المتماهية بالذات، غيرِ متنبّهةٍ، أو مهتمةٍ، بما يتمرّد من محفوظاتها على الاستحضار والظهور والسفور. فالجردات يفلتُ منها ما يتعدّى الذاكرةَ الفردية وينغرزُ في الوجدان المتعدد من بني قومها، وعند من سمحت المناسباتُ العابرة، ولكن الباقية، في اختباره، وغالباً بأرقى الوجوه، على اتّساع الأمكنة والأزمنة. فالدكتور محمّد شيّا، عندما واجه هذا الانفلاشَ للذات، في دواخلها، وفي خوارجها أيضاً التي تحوّلت في آخر المطاف إلى دواخل تذكارية بامتياز، لملمَ هذا المبعثرَ في سيرةٍ ذاتية، نزولاً عند رغبة "الحركة الثقافية – انطلياس"، لضمّها إلى كتاب "أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي" واحداً مميزاً مثلهم، من الرعيل السابع والثلاثين في المهرجان اللبناني للكتاب، حيث كان في الرعيل الأول، عام 1981، علمٌ يأخذ المركزَ الأرفعَ في لائحة تقدير شيّا، هو الأديب الفيلسوف ميخائيل نعيمِه. فهذه الأمسية التكريمية، إذ هي موصولةٌ بأفقٍ قائدٍ عمرُه نيفٌ وأربعة عقود، طرفُه الأبعد هذه القمةُ الأدبية والفلسفية، تندرج راهنيَّتُها الحيةُ في تراثٍ ثقافي عريق متنامٍ.  أخال الدكتور شيَّا تهيَّبَ، منذ البدء، الغبطةَ والتقديرَ المضاعفين اللذين تستثيرهما حتماً هذه المصادفةُ التاريخية الطيِّبة التي تنطوي عليها هذه العشية. وضعَ في هذه اللملمةِ المضنية منطقاً كان قابعاً في السيرة مضمَراً دوماً، لم تموّهْ كثرةُ أفعالِها، بإنجازاتِها وخيباتِها، إنجازاتِها المدوَّنة وخيباتِها المستترة، طمسَ نقاطِ استدلالها القليلة بل النادرة، ولكن الحاسمة والمِفْصَلة، التي ترفع عن هذه السيرة الثرة وهمَ العشوائية، وتفرضُ فيها فرضيّةَ الانسجام التاريخي في كل الأفعال المسلكية والكتابية الإبداعية. من هذه النقاط الاستدلالية القليلة لسيرة مكرَّمنا، الحياتية والفكرية، برأيي مقولتان اثنتان أساسيتان: فلسفة ميخائيل نعيمه التي أدخلها شيّا في  كل حركاته وسكناته، ومقولة "الأدب والفلسفة" التي مارسها كوحدة جدلية توأمية، معرفياً نقدياً وإبداعياً، في مؤلفاته وفي قراءاته لمؤلفات غيره.

          وعلى ضوء هاتين المقولتين، يمكن قراءة فلسفة محمّد شيّا الحياتية في مواقفه العملية في المؤسسات الأكاديمية، الصغرى والكبرى، وفي مشاريعه التحديثية الثقافية والتعليمية البرغماتية، كما في كتبه التأريخية لسيرة كبار لم يتألق في سرد سيرتهم إلاّ بعد أن استجابوا لقلمه بكونهم مفكرين فلاسفة أدباء شعراء رائين، أي  في الدائرة العظمى لما أسماه القدماء قيم الحق والجمال والخير. وليس من باب الصدفة أن يقدّم في سيرته الشخصية المطبوعة إنجازاتِه في الأفعال العامّة (وغالبيّتها في الجامعة اللبنانية) على كتاباته التي جعل في مقدمة لائحتها المطبوعة عنوان كتاب: "فلسفة ميخائيل نعيمه"، ثم عنوان كتاب: "في الأدب الفلسفي"، موضوعِه الفكري والابستمولوجي الأثير حيث بات هو من أبرز مراجعه في الثقافة العربية والأوساط المهتمة.

          ليس لي، في هذا المقام، أن أتوسّع في المواصفات التي سوّغت للحركة الثقافية – انطلياس بأن تختاره علماً ثقافياً معاصراً مميزاً في ثقافتنا العربية، هذا الذي نشأ في قريةٍ صغيرة في جبلنا، ترقُب البحرَ المتوسط من الأعالي، ودرّتُه عاصمتُنا بيروت التي استقطبت وتستقطب العديد من طاقاتنا وطموحاتنا. وها نحن، إذ نحمل تراثاً لبنانياً مجيداً في العيش معاً والتعاون والتكامل، كما من الإرادة المستدامة في تخطي كل الكبوات العامة بالانفتاح العقلاني والحوار الديمقراطي الملازم للتشارك الموسَّع في بناء نموذج متقدِّم وراقٍ في إدارتنا معاً للشأن العام،  ويؤكد قيم الحرية والعدالة والمساواة والمواطنية والعلمانية والتقدّمية وحقوق الانسان، في الاجتماع والسياسة، نعرف بالعمق إنَّ هذه القيم المميِّزة للبنان في محيطه العربي والإسلامي، التي أرسيناها بنضال مضنٍ ومرير، هي الأداة الفضلى لثقافتنا العربية الحديثة، ثقافة الانفتاح والحرية والابداع التي ستقودنا إلى مستقبل أكثر وحدةً وخيراً وحُسناً، ولن تقوى عليها قوى الانغلاق والتخلُّف والإرهاب الهمجي.

          فهنيئاً لك ولأهلك ولقادريك، ولنا، هذا التكريم الذي تستحق.

                                                                                                د. أنطوان سيف 

____________________________________

انطلياس، 17 آذار 2018

مداخلة الدكتور أسعد بتديني* التعريفية

                الصديق الأستاذ الدكتور محمّد شيّا كما عرفته وقرأته

 

اسمحوا لي أن اقول لكم أن كلمتي التعريفية بأعمال صديقي وزميلي الأستاذ الدكتور محمد شيّا ستكون مختصرة، وبناء لتمني الدكتور شيّا. ولذلك سببان: الأول أن في كلمة تعريف قدراً من المديح، وهوراغب بتجاوز ذلك. والثاني، ظنّاً بوقتكم، فهو كما أخبرني قد أعدّ محاضرة كاملة حول رؤيته إلى الفلسفة، وربما استغرقت بعض الوقت.

ولذلك سأتحدث باختصار شديد في أمرين اثنين: أولاً،  سيرة صديقي الدكتور شيّا، اعتماداً على كتابه الأخير "سنوات جميلة، سنوات مجنونة -  قصص الحياة والموت في جبل لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين" الصادر سنة 2016، عن دار بيسان؛ وثانياً بعض أفكاره الثقافية والسياسية والوطنية كما وردت في كتابه "العقل لا الغرائز، الوطن لا الطوائف"، الصادر سنة 2014، عن منشورات ’مجد’، تاركاً أمر أفكاره الفلسفية لما سيعرضه هو بنفسه، لأن أمر الفلسفة دقيق والأفضل أن يتكلم الكاتب عن فلسفته بنفسه.

أعرف الدكتور شيّا منذ مطلع التسعينات، أي منذ حوالي الثلاثين عاماً، وأعود اليوم بعد ثلاثين عاماً فأراه كأنه لم يتغيّر إلا قليلاً: فانفتاحه على الآخر كما كان دائماً بل زاد، وشغفه بالمعرفة كما كان، ومتابعته وأراؤه في كل ما يكتب أو يصدر تبقى كما كانت عندما عرفته، ومحبته العارمة للمساعدة وتقديم النصح والمتابعة ودون أن ينتظر ثمناً أو مقابلاً لا تزال كما كانت. وعلى المستوى الشخصي، فإن تواضعه لم يتغيّر كذلك، أكان أستاذاً أم مديراً أم عميداً أو اليوم كرئيس تحرير لمجلة ثقافية عريقة ومهمة هي مجلة ’الضحى’.

في السنوات الثلاثين التي عرفت الدكتور شيا فيها، ونظراً للقاءاتنا المستمرة تقريباً، تخيّلت أني أعرف الرجل تمام المعرفة. بقيت على اعتقادي هذا إلى أن صدر قبل سنتين كتابه الجديد الرئيسي ’سنوات جميلة سنوات مجنونة’، وهو إلى حد كبير سيرة حياته الشخصية والعائلية، بل سيرة حياة وطن في خمسين سنة، وقد فوجئت بما قرأته وإلى اقصى حد. لم يدر في خلدي أن صاحب الشخصية الهادئة كما عرفته هو نفسه صاحب السيرة المثيرة العاصفة التي قرأت صفحاتها في الكتاب أعلاه، وقد أدهشتني ليس فقط لما احتوته من أحداث مثيرة، بل كذلك لاختصارها تاريخ وطن في تاريخ منطقة، هي جرد قضاء عاليه، وتاريخ منطقة في تاريخ

      *أستاذ الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الفرع الأول

أسرة مكافحة صنعت نفسها بنفسها، فتغلبت على صعوبات تاريخية في زمن مبكر، وتمكنت

بفعل الإصرار والمثابرة وتوسّل العلم مفتاحاً للتقدم أن تصل بأبنائها كلهم إلى إعلى المستويات. تلك هي بدية السيرة الشخصية، الإصرار على الترقي الاجتماعي واللحاق بركب المتقدمين وسط أصعب الظروف المكانية والمادية. وتقدم السيرة الشخصية تلك عرضاً مشوقاً مثيراً وصريحاً بسلسلة العقبات والصعوبات التي واجهتهتا أسرة صاحب السيرة وهو شخصياً حتى أمكنه الوصول إلى الجامعة ثم ما بعد الجامعة، وخصوصاً في كيفية تأمين مستلزمات التعليم في مدارس خاصة مكلفة يوم لم تكن هناك مدارس رسمية بالقدر الكافي.

وانتهي من هذا الجزء الأولي من السيرة لأنقل حرفياً نصيحة الدكتور شيّا للشبّان الجدد في كيفية تحمل الصعاب وبلوغ أهدافهم. يقول دكتور شيّا في كتابه ’سنوات جميلة، سنوات مجنونة’: من يخلص ويثابر ويتحمل الصعاب يحقق لا محالة أهدافه. وهي كما بدا بعض سيرة صديقي د. شيّا.

انتقل إلى الجزء الثاني من الكتاب السيرة لنقرأ معه معاصرته بل عيشه للحرب المشؤومة (1975-1990). هنا أيضاً يفاجئك دكتور شيا بطريقة اصطدامه المباشرة بالحرب. فهو من الناس الذين لم يغادروا او يهاجروا، وكان قادراً على ذلك كما يقول في الكتاب السيرة. وكان قدره بالتالي أن يعيش بعض ويلات الحرب بكل بشاعاتها ومخاطرها، وخصوصاً في منطقته، التي كانت على خط التماس مع المحتل الصهيوني سنوات 1982-1984، وقد أشار بالتفصيل لمكائد الإسرائيلي وكيف تسببوا بتلك الحرب وعملوا على أن تبقى متقدة زمناً طويلاً.. وفي موضوع الحرب أيضاً، قدم دكتور شيا آيات من أشكال العيش المسيحي الدرزي في منطقته على وجه التحديد ورأى فيها جوهر تجربة لبنان الحضارية. ورأى أنها راسخة ومتأصلة في الشخصية اللبنانية، ولذلك كان لبنان يخرج من كل حرب أهلية بكثير من الجراح والخسائر، والرغبة العارمة بالعيش الواحد التي ظلت راسخة عند الجميع. وهذه بعض أسباب بقاء لبنان الكيان، رغم ما تعرض له من حروب خارجية أو داخلية.

 لكن تجربة الحرب تجربة مرّة جداً، يحذّر الدكتور شيّا، بل هو يقول أنه كتب هذه السيرة ليقول لأبنائه وأحفاده قبل سواهم ما هي الحرب؟ وكم هي بشعة؟ وكم هي مدمرة لكل ما هو حي وجميل مادياً ومعنوياً. ويختم هذا الجزء بنصيحة ثاقبة وبالغة الأهمية والإخلاص للأجيال الشابة الجديدة. يقول:

" هدف هذا العمل هو فهم أسباب ما جرى من حرب، بل فتنة، وإدانته؛ لا بالخطب الرنّانة، بل بالإضاءة على لحظات إنسانية صغيرة....هدفي من كل ما أرويه أمران: إدانة الحرب، كل حرب،  كأداة بشرية غير موفقة لحل النزاعات، والإفادة من ثمة من وقائعها كيما تكون دروساً أو عبراً ينبغي الاسترشاد بها كي لا نسقط في ’إغرائها’، مستقبلاً أو من جديد."

كذلك أعجبني في العمل اسف د. شيّا لمكافأة الذي يقتل أكثر في الحروب ونسيان الذين ينقذون الأرواح، ويضيف: "ولكن ما العمل إذا كانت الجوائز في الحرب تمنح للذي يقتل أكثر، لا للذين ينقذون أرواح المدنيين، أطفالاً ونساء وعجزة".

هذا نزر يسير من كتاب يجب أن نقرأه مرة واثنتين ’سنوات جميلة سنوات مجنونة، قصص الحياة والموت في جبل لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين".

                                                  2

أنتقل إلى الجزء الثاني من مقاربتي المختصرة فأتوقف قليلاً عن أعمال الدكتور شيّا الفكرية والأدبية المنشورة. بين 1979، تاريخ نشر أطروحته عن ميخائيل نعيمه "فلسفة ميخائيل نعيمه: عرض، تحليل، ونقد"، ويومنا الراهن، آذار 2018، لم يتوقف الصديق الدكتور شيّا عن البحث والنشر. لكن ما لفت ويلفت قارئي دكتور شيّا ومتابعيه أنه في أربعين سنة من الكتابة والنشر (1977-2017) كان يظهر تنوعاً واسعاً في الموضوعات (من الفلسفة الخالصة إلى الأدب الفلسفي إلى الثقافة والسياسة، إلى الشعر)، لكن روح تلك الكتابات كانت واحدة وكأنها لم تتغيّر، التنوع والانفتاح في المقاربة الفلسفية، والمنهجية الدقيقة على مستوى المنهج - وكتابه "مبادئ المنهج وقواعد البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية"، كان ولا يزال كتاباً معتمداً في تدريس مادة المنهجية في الجامعة. وكذلك كتابه "في الأدب الفلسفي"، جرى تدريسه لأكثر من عشرين سنة ولا يزال في قسمي الفلسفة والآداب، وهو يتناول على نحو ثاقب الارتباط العضوي بين الفلسفة وبعض أشكال الأدب، وكيف تستطيع الفلسفة الإفادة من الإمكانات الواسعة التي توفرها الأنواع الأدبية كأدوات تعبير وتواصل في خدمة الأفكار الفلسفية، وهو لطالما لجأ إلى جان بول سارتر نموذجاً تطبيقياً لفكرته تلك. هذا بالإضافة إلى أعمال فلسفية أخرى، على مستوى تاريخ الفسفة، بالإضافة إلى ترجماته الكثيرة وفي الفلسفة أيضاً.

كنت اعتقد لفترة طويلة أن هذا هو الدكتور شيّا، صديقي وزميلي في الفلسفة والتدريس الفلسفي، الذي كرّس كل وقته للتدريس والتأليف والإسهام في الأنشطة والمؤتمرات الفلسفية. لكنني وسواي من الزملاء فوجئنا قبل عشر سنوات حين صدرت له مجموعته الشعرية "قمر آخر الليل"، (2009)، ثم أتبعها بعد بضع سنوات بمجموعته الثانية "لحظات هاربة"، 2013. تقدّم المجموعتان الشعريتان وجهاً جديداً من وجوه صديقي الدكتور شيّا، وجه الإنسان الرومانسي، المرهف الإحساس، والمتآخي مع الطبيعة اللبنانية، والجبلية على وجه الخصوص، إلى أقصى حد. لكن عبارته الشعرية، حتى في الشعر، كانت متداخلة على نحو عميق بالأفكار الفلسفية، ولكن من دون أن تثقل على العبارة الشعرية الجميلة المتفردة وأحياناً أقول الساحرة للدكتور شيّا. وأنا أدعو من لا يعرف هاتين المجموعتين الشعريتين أن يقرأهما، ويستمتع بشاعريتهما العميقة والجميلة.

وأنهي هذه المداخلة المختصرة ببعض أفكار كتابه الفلسفي الثقافي والسياسي، أيضاً، "العقل لا الغرائز، الوطن لا الطوائف"، الصادر سنة 2014.

تقع مباحث الكتاب تحت عنوانين متعاقبين ولكن متكاملين: القسم الأول تحت عنوان: "من الطوائف والغرائز...إلى الوطن"، والقسم الثاني تحت عنوان: "نحو ثقافة لبنانية وعربية ديمقراطية". لا تترك عناوين موضوعات الكتاب حاجة لأية إضافة. ولنأخذ على سبيل المثال بعض عناوين القسم الأول: فمن محاضرة "العقل لا الغرائز"، إلى مباحث ومقالات: "من الولاء الطائفي إلى الولاء الوطني"، "الدولة المدنية الديمقراطية التعددية بديلاً للدولة الطائفية الحالية"، "التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التي حددت طبيعة النظام السياسي في لبنان"، "الديمقراطية اللبنانية والتناقضات المؤسسة لها"، "الدولة الحديثة الديمقراطية والحاجة إلى مجتمع مدني"، "13 نيسان، أو الفخ الذي سقط اللبنانيون فيه"، "الطائفية والشيطان والحرب الأهلية"، "الإصلاح السياسي يبدأ بالإصلاح التربوي"، وغيرها.

وفي القسم الثاني من الكتاب الذي جعله المؤلف تحت عنوان "نحو ثقافة لبنانية وعربية ديمقراطية"، نقرأ مباحث وموضوعات أخرى تحت عناوين، مثلاً:

"سلاح ثقافة الديمقراطية أقوى من كل سلاح آخر"، "هل الديمقراطية سلعة غربية مستوردة حقاً؟"، "محنة الثقافة العربية وأزمة المثقف"، "جذور الاستبداد في الخطاب القومي"، "من أجل أن نمتلك حركة قومية أكثر عقلاً وديمقراطية"، "المثقف ’الساحر’ والمثقف ’المسحور’"، "آن أوان النقد"، إلخ.

هذه بعض أعمال صديقي الدكتور محمّد شيّا، تطرقت إليها على سبيل العناوين فقط، ولم أحاول تلخيصها، إذ أن في كل تلخيص ظلم لوحدة النص وسياقه، كما لصاحبه.

وبعد، لا أجدني بعد هذه الجولة المختصرة في سيرة الصديق الدكتور محمد شيّا، وأعماله المنشورة، بحاجة لأي تعليق أو إضافة، خلا الدعاء للصديق العزيز بدوام الصحة والهمة ليكتب ويكتب دون انقطاع، فلكم نحن في وطننا اللبناني وعالمنا العربي بحاجة إلى ناقوس قوي يقول دونما خوف: هذه عللنا، ثم لا يكتفي بذلك بل يكتب ويحاضر في كل وسيلة راسماً ما يشبه خارطة طريق مستقبلية للإصلاح المدني والثقافي والسياسي في بلادنا.

مبروك التكريم زميلي وصديقي د. محمّد شيّا، وشكراً للحركة الثقافية – أنطلياس.

                                                                                 د. أسعد البتديني 

____________________________________

أنطلياس، 17 آذار، 2018 

بعد رفقة ممتعة دامت خمسين عاماً:

ما الذي يبقى، وما الذي يزول، من الفلسفة  -

وجهة نظر شخصية

أ. د. محمّد شـيّا


                             نظريات الفلسفة كلّها لا قيمة لها في النهاية، إن لم تتسع

                             لخفقة قلب،

                             لدمعة عين،

                             للحظة شروق شمس،

                             أو لفكرة تعطي الإنسان أملاً بنهار جديد أفضل.  

 

                                       1     

هي ذي الفلسفة عندي، أما دون ذلك فما من حاجة (حقيقية) بها.

هذه هي رؤيتي للفلسفة، في ماهيتها ووظيفتها، التي سأعرض لها ببعض التفصيل.

ظهرت الفلسفة كحقل مستقل عند الإغريق )خارج أثينافي البدء) على أيدي طاليس ثم فيثاغوراس في القرن السادس قبل الميلاد، كما يعرف كل طالب فلسفة - بالرغم من أن بعض مباحثها كان معروفاً قبل بعض الوقت في الحضارات القديمة السابقة والمجاورة للإغريق (البابليون والمصريون القدامى على وجه الخصوص). إلا أن الجديد الرئيس الذي أضافه الإغريق هو أنهم حوّلوها إلى علم دقيق (برأيهم) إذ أضافوا لها أدوات الاشتغال أو المنهج، أو ’الآلة’ التي ستتوكأها الفلسفة، ما سمح باستقلاليتها عن الأشكال الثقافية الأخرى السائدة، الأمر الذي لم يتوفر لها قبل ذلك.

عرّف طاليس (أو فيثاغوراس) الفلسفة باعتبارها، " محبة الحكمة" (philo-sophia)، أو امتلاك الحكمة، التعريف الكلاسيكي الأول للفلسفة كحقل مستقل. ولكن سرعان ما بدا ان التعريف نفسه بحاجة إلى تعريف إضافي، وهو ما تحوّل إلى واحدة من المسائل الي شكّلت مضمون الفلسفة باستمرار. استغرق الصراع المعرفي والسياسي على إعادة تعريف التعريف السنوات الأولى من تاريخ الفلسفة، وليُحسم (ولومؤقتاً) على يدي أرسطو(384-322 ق م) الذي رأى إليها كما ورد في الكتاب الأول من ’ما بعد الطبيعة’، باعتبارها، وعلى نحو بالغ التجريد، أعلى مراحل العلم وموضوعها: "مبادئ الموجودات وعللها الأولى".

التكريس الأخير لتعريف أرسطو للفلسفة، ومن موقعه كسلطة فلسفية معرفية كبرى، وريث كل اتجاهات الفلسفة اليونانية المتناقضة حتى ذلك الوقت، (والمعلّم الأول لاحقاً)، حسم الجدل في طبيعة المشروع الفلسفي، على نحو إيجابي وسلبي في آن. ففي الوقت الذي دفع التعريف إلى الواجهة بقاعدة متينة مشروعة للفلسفة (مبادئ الوجود) وبآلة اشتغال محددة كذلك (المنطق)، أسهم التعريف (النظري) ذاك سريعاً، من وجهة مقابلة، في (قمع) كل اجتهاد مخالف في المسألة، وكرّس لحوالي عشرين قرناً لاحقاً، أو أقل من ذلك بقليل، الطابع العقلاني المجرّد للمشروع الفلسفي وضيّق بالتالي من فرص تحوّله إلى رافعة معرفية تسهم في ترسيخ الوجود الإنساني الفردي الواقعي (لا المجرّد) وفي ترقية الانساني والاجتماعي (بكل المعاني) – الأمر الذي سينتظر بعد ذلك عشرين قرناً ليتحقق، أو ليبدأ بالتبلور والتحقق تدريجاً من خلال التجديد العلمي سحابة القرن السادس عشر، ثم الفلسفي بدءاً من مطلع القرن السابع عشر.                                                 

ربما كان ضرورياً، ولو إلماحاً، استعادة مروحة الشروط التاريخية التي سمحت بإطلاق المشروع الفلسفي عند الإغريق، وحددت له منذ البدء مضمونه وووظيفته.

هناك توافق بالتأكيد حول قول أرسطو بأن الدهشة وحب الاستطلاع هما في أصل التفلسف، من أين جاءت أشياء هذا العالم؟ وكيف؟ وهو ما جمع في البدء بين الفلسفة والعلم، فكانت ظاهرة الفلاسفة العلماء. إلا أنه من غير المعقول، مع ذلك، أن تكون الدهشة وحب الاستطلاع وحدهما ما صنع الفلسفة. لو كانت الدهشة وحب الاستطلاع وحدهما ما صنع الفلسفة لوجبَ أن تظهر قبل ذلك بكثير! وهو ما لم يحدث في ما نعرف – بينما ظهر الفن مثلاً قبل الفلسفة بعشرة ألاف سنة على الأقل. في الفلسفة، إذاً، ما هو أكثر من الدهشة وحب الاستطلاع.

في ظهور الفلسفة، في الوقت الذي ظهرت فيه، (أي في نهاية القرن السابع ومطلع القرن السادس قبل الميلاد) إشارة جلية إلى ما هو أعمق من ذلك وأشد اتصالاً بتعريفها الإغريقي. وليس جزافاً تعريف طاليس وفيثاغوراس للفلسفة باعتبارها "محبة الحكمة"، وللمشتغل بالفلسفة "مُحِب الحكمة" أو الباحث عنها. فالحكمة هنا هي المعرفة اليقينية، المعرفة المكتسبة بالعقل والمثبتة بواسطته حصراً، وليس بالنقل أو التقليد على ما كان شائعاً قبل عهد الفلسفة.

هوذا عنوان المخاض الطويل الصعب الذي افضى أواسط الألف الأخير قبل الميلاد  إلى ظهور الفلسفة. لقد شقّت لنفسها دوراً محدداً أو وظيفة لم تكن موجودة من قبل. كانت الوظيفة الجديدة التي أسندت لها وبوضوح: انتزاع القدرة على المعرفة من ’آلهة هوميروس’ - كما كانت حتى ذلك الوقت - ومنحها للإنسان. هذا هو الحقل الجديد الذي تجرّأ عباقرة الإغريق الأوائل فانتزعوه من آلهتهم وجعلوه للإنسان، الذي كان يراكم تدريجاً نقاط قوته (المادية وغير المادية) ما سمح له من ثمة بالتمرّد على تاريخ طويل من السحر والخرافات والأساطير المنقولة جيلاً بعد جيل. كان طاليس واضحاً في اعتبار ’العقل’ هو الإله على الأرض.  وسمح ذلك للعقل اليوناني دون تأخير أن يبدع في ثلاثة قرون لا أكثر (بين الخامس والثالث قبل الميلاد) مقدمات الحضارة الغربية بكاملها، في الفكر والأدب والمنطق والفلسفة والرياضيات والأخلاق والسياسة، ولينجز ما سمّي، ومن دون مبالغة، "المعجزة الأثينية"- وقبل أن تنتقل من ثمة إلى عالم هلّيني متوسطي ومشرقي أوسع.

ماذا يعني الخروج على ما كان بديهياً حتى ذلك الوقت من أن الحكمة "لا تؤتى إلا للآلهة"، وفق ما أورده سقراط في محاورة "فيدون"؟  وماذا عساها تضيف الفلسفة هنا؟ وما أداتها كيما تنجح في أن تضيف حقاً؟ ولماذا في الأصل؟

هنا يكمن التجديد الرئيسي الحاسم الذي جاءت به الفلسفة في بواكير عملها (أي منذ طاليس وفيثاغوراس في القرن السادس قبل الميلاد)، بنتيجة جهد معرفي ضخم وشجاع لم يكن سهلاً، حتى عملياً، إذا اتهم أصحابه بالتجديف على الآلهة فحوكم بعضهم وفرّ آخرون، تمرّدٌ ما كان يجرؤ عليه إلا القليل في مجتمع بحري - تجاري – حربي كانت الآلهة جزءاً رئيسياً من مفاصل حياته وحياة أفراده، وأشعار هوميروس هنا، وبخاصة في ملحمتي الأوديسة والألياذة، هي المثال الأكثر انتشاراً لثقافة ما قبل الفلسفة.

لم ينشأ فعل التفلسف philosophizing(بما يعنيه من ثقة بالإنسان، بقدراته، إلى حد التمرّد على الآلهة والأساطير) أواسط الألف الأخير قبل الميلاد من فراغ، أو بدون مقدمات. فمدن إغريقية عدة، (وذروتها أثينا ) كانت تراكم بسرعة، مُذ ورثت الحضارة الفينيقية وحضارات أخرى، أسباب المعرفة والقوة والسيطرة المادية، الطبيعية، التجارية والبحرية والاقتصادية والسياسية، ما خلق واقعياً منذ القرن السادس قبل الميلاد عالماً جديدأ مختلفاً لم تعد الآلهة تلعب فيه غير دور بسيط. كان تعداد ساكني أثينا قد بلغ 300 إلى 400 ألف ساكن، ثلثهم أو أكثر من العبيد يقومون بكل ما تحتاجه المدينة من نشاط مادي واقتصادي وحتى عسكري، ما سمح للنخب الأثينية أن تتجه إلى ما هو ’أسمى’ من العمل اليدوي – الذي رذله أفلاطون وأرسطو على وجه الخصوص باعتباره لا يليق ب’الإنسان الأثيني الحرّ’، فتفرّغوا للسياسة والجدل والسلطة ولإدارة تجارتهم واستثماراتهم ومستعمراتهم.

وعليه، كان المسرح جاهزاً لنقلة إضافية على مستوى الأفكار، فتبلور نشاط فكري واسع النطاق في خدمة غايتين متصلتين إلى أقصى حد: البحث عن الحقيقة (بديلاً من الأساطير والخرافات والخزعبلات التي كانت سائدة) وحق الإنسان، وقدرته، على معرفة الحقيقة، بل على معاينتها شخصياً (فلا يكتفى بما يُتناقل أو تزعم الآلهة احتكاره). أما الأداة في ذلك كله فهي: العقل.

 ولأن الهدف معرفة الحقيقة (لا سواها) جرى إعمال العقل على أفضل وجه (فكان المنطق ’الأورغانون’) الأداة المكتشفة حديثاً للتمييز بين الغث والسمين، بين ما هو وهمي وأسطوري وخرافي، وما هو حقيقة بيّنة.  وفي وسعنا هنا  أن نتذكر أن المنطق (وبخاصة الصوري) كان أولى الانجازات التامة للفلاسفة الأثينيين، (عند أرسطو على وجه الخصوص) إضافة إلى عشرات الفتوحات المعرفية (وحتى العلمية والرياضية) الأخرى التي وضعوا مقدماتها (وأحياناً اكتملت عندهم كما في هندسة إقليدس بعد ذلك بقرنين)، ثم تطورت لاحقاً.

ولأن المطلوب هو التبيّن الشخصي والفردي للحقيقة، لا كمعطى يفرض من فوق أو من خارج (كما كان الحال مع ’آلهة هوميروس’)، كان التشكيك والتمحيص والتيقّن الفردي والشخصي ضرورياً منذ البدء، حتى في نتاج العقل. كان المطلوب (وهو أمر جديد تماماً) شهادة الإنسان الفرد الشخصية للحقيقة، "هذا العالم لم تصنعه الآلهة ولا البشر...لكنه أبدي" (هيراقليطس). وهو ما فعله على نحو أكثر جرأة أكزنوفان (570-475 ق م) ومن أقواله: "إن الناس الذين استحدثوا الالهة أضافوا إليها عواطفهم..". وبعد ذلك بروتاغوراس (485-411 ق م) وغورجياس (480-375 ق م) وأصحابهما  من الشكاك والسفسطائيين. لقد غدت قاعدة اليقين عند بروتاغوراس: "الإنسان مقياس كل الأشياء" بل أكثر من ذلك، هو"مقياس ما هو موجود منها، ومقياس وجود ما لا يوجد" . وبالإمكان تخيّل كمية الجرأة والتجديد في القول ذاك، وليس مفاجئاً بالتالي موت بروتاغوراس غرقاً وهو يحاول الهرب من اثينا بعد اتهامه بإنكار الآلهة.   

أكتملَ الإنجاز الأثيني في تحرير الإنسان (كجنس) من سيطرة الآلهة في السماء بإنجاز آخر هو تحرير الإنسان كأفراد من سيطرة ممثلي الألهة على الأرض (أي من طغيان الحكّام) فظهرت الديمقراطية الأثينية، وجوهرها بسيط جداً وهو: قدرة الأفراد أو المواطنين تحديداً أن يسوسوا أنفسهم بأنفسهم وأن يختاروا دستورهم وحكامهم  وأنماط عيشهم. الثقة الآن ليست بالإنسان بعامة فقط، بل بالإنسان كفرد، الفرد الحرّ تحديداً. وهو ما أطلق حرية الإبداع لدى النخب الإغريقية الفكرية والفنية والعلمية إلى أقصاها*. فخاضوا في كل مجال كما يشاؤون. تنازعوا في كل شيء. إلا أن أحداً منهم لم يجد نفسه ممنوعاً من التفكير والتجريب والإبداع في هذا الباب أو ذاك. وعليه، إذا كان العقل هو أول اكتشافات الإغريق الكبرى، فثانيها كانت الحرية.

..........

*من يرغب بدليل على ما فعلته أو سمحت به الحرية عند الأثينيين فليزر متحف البارثنيون على جبل الأولمب في أثينا فيشاهد حتى الذهول كيف ينحت الفنان الإغريقي قواعد الفن الكلاسيكي كاملة تقريباً ثم كيف يجرؤ على التحرر منها ساعة يشاء.

 

وعليه، فإن ما بدأت به الفلسفة، وما غدا صفة جوهرية لها، ليس فقط الثقة بالعقل بعامة، وإنما الثقة بعقل الفرد تحديداً: عقلي، عقلك، إلخ. العقل هو الباب الذي تنتسب إليه الفلسفة وهو أداتها في آن معاً، وقد كان في البدء مرادفاً للإنسان الفرد، عقل هذا أو ذاك، وقبل أن يتحول لاحقاً إلى جوهر أو كائن مطلق – بدءاً من أفلاطون على الأرجح الذي عاد فنحا بالمشروع الفلسفي الفردي الحر منحى "رجعياً"، إذا صحّ القول، إذ غلّب فيه السيستام المغلق على التجديد، والكل على الأجزاء، والثبات على التغيير، ومصلحة الجماعة على مصلحة الأفراد، إلى أشياء رجعية واستبدادية أخرى عدة، استعاد بها في الحقيقة نظام الآلهة السابق ولكن على الأرض هذه المرّة (والتي في وسع المرء أن يقول أنه ربما لم يعترف بها في الأصل!).

ما عمل عليه المؤسسون، فيثاغوراس، طاليس، هيراقليطس، أكزانوفان، وبروتاغوراس، ومعظم الفلاسفة الأوائل، وصولاً إلى سقراط نفسه، كان إعلان استقلالية الإنسان، كفرد قبل أن يكون كجنس، وقدرته على المعرفة اليقينية، وإعلان استقلاله عن الآلهة. وما اكتشافهم العقل – لا سواه -  إداة موضوعية قادرة على معرفة الحقيقة، وتفحّصها، وإثباتها أو نفيها، غير الدليل الذي استخدموه لإثبات أهلية الإنسان الفرد التامة وغير المشروطة لأن يكون مستقلاً وحرّاً.

                                                 2     

تظهر المكونات أعلاه، جميعها، أن الفلسفة في الأصل إنما كانت: من – أجل  – الإنسان؛ أي لإثبات استقلاليته، وإعلان حريته، وتعزيز حياته الواقعية، وقدرته على الترقي وتحقيق أفضل قابلياته الطبيعية. هذا هو المعنى الأول للعقل الذي انتزعه أوائل فلاسفة الإغريق من الآلهة، فانتزعوا بذلك حق البشر العاديين في المعرفة (التي لم تعد حكراً على الآلهة)، وفي اختيار أقدارهم ومصائرهم (التي لم تعد ملك الأقدار العمياء أو المقررة سلفاً)، وفي تنظيم شكل حياتهم على أفضل وجه وتحمّل مسؤوليتها بالتالي (وهي بداية ’السياسة’ بالمعنى الإغريقي).

ولا نملّ من التأكيد تكراراً على الدور الخاص والحاسم الذي لعبه الشكّاك والسفسطائيون الإغريق على وجه الخصوص. فقد أوغل هؤلاء في عملية انتزاع الإنسان من قبضة الآلهة، فكان منتهى التمرد الإنساني على الآلهة إعلانهم أن ما من حقيقة على الإطلاق، أو ما من حقيقة مطلقة، وأن كل شيء نسبي ومؤقت؛ ثم إعلانهم أن الحقيقة ملك الأفراد، بل إن وسع كل فرد أن يصوغ ’حقيقته’، أو حتى أن يتلاعب بها، كما يشاء – وهو مكمن نقد سقراط وأفلاطون وأرسطو لهم، رغم أن الأسباب الحقيقية لنقدهم هي أكثر توسعاً وأهمية.

ويمكن إدراج المتصوفة الإغريق، وبعد ذلك غير الإغريق، في الخانة نفسها، فمضمون التصوّف الحقيقي هو الإعلان أن في وسع الإنسان امتلاك حياة روحية أخلاقية فردية خاصة به، من خارج الدينالسائد. وغدا ذلك لاحقاً تقليداً صوفياً عريقاً، يبدأ بوصول الفرد (لا الجماعة) إلى الحافة القصوى للدين، فيأنس في نفسه (تحت مسميات مختلفة) القدرة على أن يحيا حياة فاضلة  خاصة به، بل ويأنس في نفسه القدرة على التماهي في الله، أي أن يغدو بتعبير ميخائيل نعيمه: الإنسان-الإله، أو الإله-الإنسان.

هي ذي بعض وجوه الفلسفة في تفاعلها مع الإنسان، والتي تطورت بوتائر مختلفة في الخط الذي بدأت به، فظلت أمينة للعقل ضد الأساطير، وللعلم ضد الخرافة والسحر، ولحرية التفكير والتنقيب عن الحقيقة، بل وتعليق القبول بها إلى أن يتم التحقق منها، وبعد ذلك شجاعة إعلانها – وحين احتاجت الإعلانات تلك إلى تضحيات لم يتأخر المشتغلون بالفلسفة في تقديمها دونما تردد ما أكسبها بعداً رسالياً أو رسولياً وأسهم من ثمة في منح الفلسفة الهالة السامية تلك والتي جلبت لها الكثير من الخصومة والعداء (ومن السلطات الزمنية والدينية على حد سواء).

 الفلسفة إذاً، ومنذ مندرجاتها الأولى، في تفاعل مع الإنسان، الفرد قبل الجماعة، أي مع الحياة واختباراتها، ومشكلاتها وتحدياتها، وعلى نحو حيّ، أي الحياة من أجل الحياة، بدءاً من الذاتي والشخصي وإلى ما هو أبعد ذلك من تجريد وتعميم. لهذا استمرت الفلسفة حيّة، حتى بعد أن خرجت من عباءتها تدريجاً كل الفروع المعرفية التي استقلت بمناهجها فغدت علوماً مستقلة، استقلال الثمار حين تنضج عن الغصن أو الأبناء حين يكبرون عن الأم. استمرت الفلسفة، برأيي، لأن حاجة الإنسان بها لم تبطل: حاجته للتفكير الفردي، العقلاني، الحرّ، غير الامتثالي، وغالباً خارج العام والمألوف والقواعد والقوالب، وحاجته الداخلية أكثر من ذلك ليعاين الحقيقة بنفسه، ولأن ينتقد ويعترض ويحتج ساعة يرغب بذلك.

                                             3

إلا أن الثورة الفلسفية اليونانية، المتسمة في البدء بالتفكير الإنساني الفردي الحر، لم تكتمل، فقد انتهت برأيي عند سقراط، لتصادرها بعد ذلك، وكما يحدث غالباً، قوى أخرى، ولأسباب سياسية. جمدت الثورة الفلسفية الإنسانية الفردية الحرّة قبل أن تؤتي ثمارها كاملة، فجرى تجييرها لبناء سلطة معرفية\سياسية كبرى، لم تكن بعيدة عن السلطة الدينية\الميثولوجية السابقة، إلا أنها كانت على الأرض هذه المرة. وخير من يمثّل الردّة (الرجعية) الجديدة، كان أفلاطون. لم يخف أفلاطون عداءه لكل العناصر ’الإنسانية’ التي ظهرت في التمرد الذي حدث ضد الآلهة والذي أسفر عن ظهور الفلسفة والعلم الوضعي. فقد ابتنى نظاماً كلياً سماوياً على الأرض. وضحّى كلياً بالأفراد لمصلحة الجماعة، وبالديمقراطية لمصلحة الارسطقراطية المدرِكة لكل شيء (الحاكم الفيلسوف)، وضحّى بالحريات، كل الحريات، لصالح طاعة الحاكم وتماسك الدولة وقوتها وانتظام مكوناتها. وهو ما يفسّر عداءه الشديد للحركة السفسطائية (وما تعنية من فردية ونسبية في التفكير وفرص للتغيير) وللديمقراطية (وما تعنيه من حريات فردية)، ومن احتقار للأرض والطبيعة (لصالح السماء والماورائيات). وبرأيي فذلك هو ما غدا، على وجه دقيق، أيديولوجية العصور الوسطى المظلمة للفلسفة، التي تراجع كل تجديد فيها، وجرى تطويعها لصالح ألاعيب شكلية صورية (المنطق)، أو صوفية غنوصية (أفلوطين)، أو لاحقاً في خدمة الكنيسة الوسيطة المتزمتة ( القديس أوغسطينوس)، لخمسة عشر أو ستة عشر قرناً على الأقل.

قلتُ ’وكما يحدث غالباً’ وأنا أعني ذلك تماماً. وتكفي مراجعة صفحات من الثورات الإنسانية الفكرية اللاحقة لنكتشف كيف كانت تصادر تلك الانتفاضات الإنسانية الإصلاحية التنويرية بعد فترة قصيرة من ظهورها لتدمج في سلة عناصر قوة السلطة المسيطرة، بل لتشكل أحياناً القاعدة المعرفية التبريرية لها. 

لنأخذ على سبيل المثال، لا الحصر، ما جرى للمسيحية الأولى البسيطة الجاذبة، والتي وجد فيها فقراء ذلك الزمن، وفي أكثر من مكان، ملاذهم الموعود. فإذا بها تصادر بعد ثلاثة قرون ونيّف فتتحول إلى نظرية للسلطة، أو إلى سلطة سياسية برداء ديني. تحوّل الأباطرة إلى كرادلة، والكرادلة إلى أباطرة. وما فعلته المجامع الدينية المتلاحقة هو أنها قمعت كل تفسير مخالف للتفسير ’الرسمي’ في مسائل جوهرية عدة، وأحياناً من دون نقاش، (وما كان اكثرها في الثلاثمئة سنة الأولى من حياة المسيحية الصاعدة)، وفرضت بدلاً من ذلك تفسيراً رسمياً أحادياً واحداً للإنجيل. وشائع جداً بين المصلحين الدينيين، كما قرأنا، القول أنهم لم يتمكنوا من قراءة الإنجيل إلا في فترة متأخرة من أعمارهم، وأنهم فوجئوا بيسوع مختلف عن صورة يسوع التي جرى تلقينهم إياها.

وحدثت الردة الرجعية نفسها في الإسلام الصاعد مطلع القرن السابع للميلاد. إذ ما أن مات الرسول حتى استعادت القوى الإقطاعية والمالية والقبلية مقاليد السلطة، فغدا الإسلام نظرية دولة بل نظرية سلطة، ولم يعد رسالة تحرير وتنوير وأنسنة للأفراد والشعوب، وقمعت بالقوة كل قراءة مختلفة، وكل محاولة تفسير مختلفة. كانت مقتضيات السلطة الصاعدة تقتضي الرأي الواحد، وبلا اجتهادات فردية أو جانبية. ولطالما قال الشاعر المعاصر الأكثر أهمية أدونيس أن الإسلام كرسالة انتهى بموت محمّد، وأن الذي استمر هو أيديولوجية السلطة، صراع مكشوف على السلطة السياسية والثروة والمغانم وبما لا يتصل إلا شكلاً بالرسالة الإسلامية الإصلاحية السمحاء.

                                             4

أعاد الخروج من أسر التعريف الأرسطي المدرسي مطلع عصر النهضة النقاش في طبيعة الفلسفة ووظيفتها إلى ساحته الحرّة الأولى، مع الإضافات التاريخية المتوقعة. اندلع من جديد، وعلى قاعدة أيديولوجية أكثر وضوحاً هذه المرّة، الصراع على تعريف الفلسفة ووظيفتها. ونشأت من ثمة مروحة واسعة من التعريفات ذات الصلة. تدرّجت التعريفات تلك من اعتبار الفلسفة مجرد نشاط شكلي، أسمائي nominal، بل خطاب لغوي فارغ من أي معنى حقيقي، كما تبرّع بالقول الوضعيون المناطقة الجدد، وصولاً إلى النقيض، أي اعتبارها أداة تغيير معرفية حاسمة في التاريخ، وظيفتها الإسهام الإيجابي المباشر في التقدّم التاريخي للشعوب والمجتمعات – كما صاغها ماركس بوضوح في أعماله بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، ثم أنجلز وسائر الفلاسفة الماركسيين بعد ذلك (وظيفة الفلسفة تغيير العالم لا تفسيره فقط).          

بخلاف التصنيفات الكثيرة للتيارات والإسهامات المتداولة والمكرورة للفلسفة، فإني أميلُ شخصياً، وعلى خطى آخرين محدثين، إلى تصنيف الإسهامات الفلسفية في معسكرين متقابلين بوضوح، وهما: التعريفات الماهوية للفلسفة، من جهة، والتعريفات ’الوجودية’ بالمعني الإنساني والفردي الملموس، من جهة مقابلة.    

سيبقى التعريفان في صراع مستمر، ما بقيت الرؤى والمصالح المتنوعة متناقضة. والفلسفة تتسع لذلك كله. ولعل المرونة تلك هي ما سمح باستمرار الفلسفة لسبع وعشرين قرناً، نضرة واعدة حتى اليوم. إذ فيها أكثر مما اعتقد الذين شككوا في أهميتها، وفي حاجة الإنسان لها.

بعض أهم ما في الفلسفة هو أنها بيان دقيق بوضعية الإنسان، وقيمه وبخاصة حريته، في مجتمع ما، أو لحظة تاريخية ما. إذ لا تتضح اتجاهات الصراع على السلطة، وصراع الإنسان الفرد مع السلطة، والمساحة المتروكة له ولحرياته ومبادراته، في مجتمع ما، أو في لحظة تاريخية ما، كما تتضح في الفلسفة: في فلسفة زمن ما، في صراع الاتجاهات المختلفة داخل فلسفة زمن ما، أو ثقافة ما، أو مجتمع ما – وأحياناً داخل أعمال الفيلسوف نفسه. وتظهر أكثر في طريقة الإعلان أو التعبير عن الفلسفة تلك. ليس مضمون الخطاب وحده هو المؤشر، وإنما شكل الخطب ذاك ايضاً، وهناك غير طريقة منهجية لتفحص شكل الخطاب الفلسفي والاستدلال به ليس فقط على مضمون الخطاب ذاك، وإنما على الاتجاه التاريخي للعصر، ولمساحة الحرية فيه، أو حجم القمع الذي يتعرض له الخطاب ذاك. ويخطر بالبال هنا، عرضاً، بيت شعر المعري حين قال:

          وليس على الحقائق كلُ قولي                      ولكن فيه أصنافُ المجازِ

وتتضح صحة المعادلة تلك على أفضل وجه في أزمنة قمع الفكر والمفكرين والحريات بعامة. وحدث ذلك غير مرة في الكثير من حقب ثقافتنا العربية القديمة والوسيطة والراهنة، كما في ثقافات اخرى. لكن الفلسفة كانت تتجاوز القمع، وتتداول بأشكال مختلفة: من الجمعيات السرية لفيثاغوراس، إلى أخوان الصفا، إلى الجمعيات الفكرية السرية في معظم المجتمعات. كانت الفلسفة تُطلب بشدة خصوصاً غداة التأزم الذي كان يعيشه مجتمع ما، أوعشية نُذُر التغيير الآتي فيه.  (عاد لينين مثلاً  بعد هزيمة حزبه في الدوما سنة 1905 ليقرأ هيجل علّه يجد جواباً لأزمته). وهل هناك، إلى ذلك، ما هو ادل على قوة حضور الفلسفة (وخطرها) – وبخاصة حين يجري قمعها – مما رواه الشهرستاني من أن المتوكل استدعى الورّاقين في بغداد واستحلفهم على القرآن الكريم أن يتوقفوا عن استنساخ الكتب الفلسفية لكثرة ما كانت مطلوبة، وخطرة كما يبدو.  والأمر تكرر بطريقة أو بأخرى في علاقة الفلسفة وأفكارها بالأنظمة السياسية والدينية الأيديولوجية، في كل مكان.

وخذ دليلاً حديثاً آخر، يتمثل في العلاقة الملتبسة لاتجاهات ما بعد الحداثة في الفلسفة، وبخاصة سعيها غير المعلن لخلخلة كل يقين وكل حقيقة وكل تقليد وكل موروث في آن معاً) ما يتطابق والاحتياجات المادية والسياسية للعولمة وأنظمة ما بعد الرأسمالية، وانعكاسها من ثمة في ثقافة واحدة سلطوية مهيمنة وإقصائية لكل ما عداها.

هذا بعض ما تظهره الفلسفة، سلباً أو إيجاباً، وبطرائق مختلفة، وخلاصته: أنها مسرح لصراع لم يتوقف، ولا يبدو أنه سيتوقف قريباً، بين الإنسان والسلطة، بين العقل والنقل، بين التغيير والسكون، بين الإبداع والاتباع، بين الابتكار والتكرار، وعموماً بين الحرية والقمع.

وهل من حاجة بعد للقول أن الفلسفة ليست مجرد أحاجي لغوية ومفهومية، من دون مضمون حقيقي، كما يقول الأسمائيون الصوريون قديماً، وحديثاً الوضعيون المنطقيون (كارناب، آير، وآخرون)، ما كانت لتستمر سبعة وعشرين قرنا. وأنها ليست مجرد نشاط ذهني لا صلة له بالوقائع، كما أوحى الفلاسفة التجريديون والمثاليون. وهي لوكانت كما يزعمون فما حاجة البشر بها؟ ثم لوكانت كما يقولون لكانت زالت بعد أن خرجت منها معظم موضوعاتها.

الفلسفة، بخلاف ذلك كله، هي أرقى أشكال الإنتاج الثقافي، وأكثره صلة بحاجة الإنسان الفرد لممارسة حريته وإنسانيته وشعوره بكرامته واستقلاليته، في كل الظروف والشروط.وسيكون مفيداً متابعة مختصرة لهذا الجانب من تاريخ الفلسفة.  

                                                    5

تكرر جدل الإنساني والفردي والجزئي والنسبي في مواجهة الكلي والمطلق مع خروج الفلسفة الحديثة من غياهب الفلسفة الوسيطة نهاية القرن السادس عشر ومطلع السابع عشر. فبعد اثني عشر قرنا من غياب أي مضمون إنساني وفردي وحرّ في الفلسفة الأوروبية الوسيطة وتبعيتها التامة لحاجات الدفاع عن الكنيسة الغربية الأمبرطورية الجديدة (منذ القديس أوغسطين في القرن الخامس ميلادي حتى مطلع القرن الخامس عشر، وفي مرحلتيها الأفلاطونية مع أوغسطين ثم الأرسطية عند الأكويني في القرن الرابع عشر بتأثير مباشر من انجازات ابن رشد)،  تظافرت تحوّلات عدة، علمية وتاريخية ودينية إصلاحية، فأعادت تحرير الفكر الفلسفي الأوروبي من تبعيته لحاجات الكنيسة ولتعلن أواخر القرن السادس عشر ومطلع السابع عشر الانتصار الأخير للاتجاه الإنساني الفردي الحر في المشروع الفلسفي الأوروبي الغربي، وليتكرّس الاتجاه ذاك (الإنساني، الفردي، الحرّ) خاصية ثابتة في الفلسفة الغربية وإلى الآن.

هذا التحوّل مدينٌ بالتأكيد لإسهامات فلاسفة وأفكار فلسفية ثورية بالمعنى الحقيقي للكلمة أعادت الإنسان الفرد الحر مضموناً للفلسفة الجديدة، والعقل أداة لها. يمكن أن نذكر هنا، وبين آخرين، رينيه ديكارت (1596-1650)، فرنسيس بيكون (1561-1626)، توماس هوبس (1558-1679) وجون لوك (1632-1704)، فولتير(1649-1722)،الممثل الحقيقي لعصره حسب هوغو، وروسو (1712-1778). كرّس هؤلاء وعلى نحو أخير خصوصية المشروع الفلسفي الغربي في: التفكير العقلاني (ديكارت) في المنهجية (بيكون)، في السياسة (جون لوك)، في حرية التعاقد الاجتماعي بين الأفراد (روسو) وفي الحق بالعمل وتحويل نتائجه إلى ثروات شخصية (آدم سميث). أرسى هؤلاء ميزة الفلسفة الغربية الحديثة للسنوات اللاحقة: العقل الفردي، الحرّ، وغير الخاضع لأية سلطة خارجية.   

استمر ربيع هذا الاتجاه الانساني الفردي الحر في الفلسفة الأوروبية الغربية طوال قرنين كاملين، السابع عشر والثامن عشر، فاستعيدت في الإصلاح الديني ملامح المسيحية الأولى البسيطة التلقائية الجميلة، واستعيدت في الفلسفة الاتجاهات الأثينية ما قبل السقراطية (وشيء من الأرسطية لا الأفلاطونية) لجهة إعادة الاعتبارللأرض والطبيعة والعوامل المادية والعمل والثروة والإنسان الفرد ومعايير الجمال والمجتمع المكوّن في الأصل (حال الطبيعة كما أسموه) من أفراد، ثم الحكومات المكتسبة لشرعيتها من حرية التعاقد بين أفراد المجتمع، والأخلاق القائمة على الضمير الشخصي لا على السند الماورائي أو الديني. بل كان بعضها أكثر سقراطية بإحيائه للشك من جديد (ديكارت) طريقاً لليقين، أو حتى في تعليق القبول بكل يقين (هيوم).

إلا أن الاتجاه الإنساني الفردي الحرّ الذي غلب على التفلسف الأوروبي الغربي طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر لم يكتب له، مرة أخرى، الديمومة أو الاستمرار. فقد جرى من جديد كسر الإنساني والفردي والحرّ فيه  لمصلحة السيطرة المتزايدة للقوى الكبرى الجديدة (الاقتصادية والسياسية) التي أفرزها التحول الأوروبي التاريخي الجاري. فحاجات التمركز الصناعي الاقتصادي، واحتكار الأسواق، وتوحيدها تحت سلطة واحدة، أو بضع سلطات، والصراع على الهيمنة ولأسباب عدة على العالم خارج أوروبا الذي كان اكتشف للتوّ، قادت كلها ومنذ مطلع القرن التاسع عشر نحو بناءات علمية وسياسية واقتصادية كبرى، لا مكان فيها للأفراد أو للحريات بالمعنى الحقيقي بل للجماعة الكبرى القوية في مواجهة جماعات كبرى قوية أخرى. هذا هو التاريخ الأوروبي الواقعي سحابة القرن التاسع عشر وإلى عشية الحرب الكونية الأولى.

وفي موازاة البناءات السياسية والاقتصادية والقومية الكبرى الصاعدة على حساب حياة الأفراد وحرياتهم، ظهرت الاتجاهات والبناءات الفلسفية الكبرى أيضاً (كانعكاس لصعود القوى المادية الكبرى الجديدة وكمبرر لها في آن) فصادرت الابداعات الإنسانية الفردية الحرة التي كنّا رأيناها في القرنين السابع عشر والثامن عشر. كانت ذروة البناءات الفلسفية والعلمية الكبرى تلك: هيجل في الفلسفة، وماركس في الاقتصاد، وكونت في علم الاجتماع، وفرويد في علم النفس، وداروين في علم الأحياء التطوري.

لكن الانعطافة هذه نحو الكلي والعام والمطلق والموضوعي، تحت هذه الحجة أو تلك، لم تمرّ من دون اعتراض عالي الصوت من الإنسانيين جميعاً، في الأدب والفن كما في الفلسفة. فضواحي الصفيح  المنتشرة حول المدن الناشئة بفعل هجرة الريفيين إليها، ونهارات الاستعباد الطويلة في المصانع، وجيوش المتسولين البائسين في الشوارع، ومظاهر العسكرة والحروب التي لا تتوقف بين الدول القومية الناشئة، ومشاهد مجازر الثورة الفرنسية تحت شعارات برّاقة، أثارت كلها، وسواها، الرعب في نفوس الفنانين والأدباء والفلاسفة في حركة إنسانية فردية اعتراضية على التحولات الكبرى الجارية. وجرى التعبير عن ذلك في الأدب بالحركات الرومانسية الجديدة التي هربت من المجتمعات إلى الطبيعة، وفي الفن من الانتظام والانضباط إلى التعبيرات السريالية الأولى والمتمثلة في رفض كل وظيفة تناط بالفن والحرص على إطلاق إبداعاته حرة من كل قيد وهو ما جرى التعبير عنه في حركة الفن من أجل الفن، لا من أجل أية رسالة أو وظيفة أبعد من ذلك.

أما في الفلسفة فتعالت أيضاً حركات الاحتجاج الذاتية والفردية ضد الهيمنة المطلقة للكلي والعام والشمولي. ونختصر حركة الاحتجاج الفلسفي على هيمنة وخطورة الأنظمة الفلسفية الكبرى والمطلقة في حالة واحدة على الأقل. فقد عبّر عن حركة الاعتراض تلك بطريقة لافتة وشفافة، أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر، الشاب الدانماركي سورين كيركجارد (الذي سيغدو من مؤسسي الفلسفة الوجودية الحديثة) موجهاً نقده لهيجل على وجه الخصوص، الفيلسوف الألماني العقلاني، الشمولي، الأكثر أهمية ذلك الزمن. قال كيركجارد مخاطباً هيجل مباشرة: "أنا يا هيجل الدليل على بطلان نظريتك في وحدة الداخل والخارج....." – وهي حجر الزاوية نظرية هيجل الشمولية.

وفي نقد حيّ مباشر للفلسفات الشاهقة الارتفاع والبالغة الضخامة تلك، يقارب كيركجارد مرة ثانية الفلسفة الهيجلية والفلسفات الأخرى الشبيهة بها ويخاطب أصحابها بالقول: "أنتم تبنون قلاعاً ضخمة، لكنكم تسكنون كوخاً بجانبها، لأنها ببساطة غير صالحة للسكن"!

أهمية هذه الكلمات المعدودات من كيركجارد هي أنها أعادت افتتاح مكان للخاص، والجزئي، والذاتي في الفلسفة الغربية الحديثة، ودلّت من ثمة إلى أن الفلسفات الشاهقة الارتفاع والبالغة الضخامة تلك، هي مجرد هياكل أو قلاع ضخمة، غير صالحة لسكن الإنسان: ربما تكون أي شيء، لكنها غير صالحة لسكن الإنسان – اي ليست ملائمة للإنسان.

لا حاجة لشروحات إضافية بعد كلمات كيركجارد، وإذا كان لي أن أفسّر بعضها، كما أفهمها أنا على الأقل، أقول، إن تيار الحياة المتدفق في أشكال الحياة كافة، في كل إنسان، لا يمكن خنقه أو حصره أو مصادرته إلا لفترات قصيرة، وأنه يعود سريعاً ليتدفق من جديد حيّاً  فيفتتح له مكاناً خاصاً به بل أمكنة خاصة عميقة متعددة،  في كل مجال، وبخاصة في الفلسفة.

 تعليقات كيركجارد كان قد سبقها ما يشبهها عند الشاعر الألماني غوته في مسرحيته الشعرية ’فاوست’ الذي وصف الفيلسوف، وتقنياته وأساليبه وعلم منطقه، كما وصف أساليب سواه، وكيف بدت في اللحظة تلك بعيدة عمّا يعني الإنسان ويغني حياته الطبيعية البسيطة. بدت له أجوبة الفيلسوف، كما الطبيب والعالم والكاهن والسياسي في اللحظة تلك، أجوبة مزيفة، ملفقة، مصطنعة، وتقوم على المكر والخداع.  

التيّار الإنساني، الفردي، المبدع، هو الذي غلب في النهاية، في المئة سنة الأخيرة تحديداً،  على الفلسفة، والثقافة عموماً. وتكرّس الانتصار ذاك في مدونات عالمية حرصت بكل الوسائل على حماية وجود الإنسان الفرد، وحقه بالكرامة الشخصية، وتمتعه بالحريات الأساسية المتصلة بجوهره الإنساني. لم تكن المئة سنة بالتأكيد صفحة بيضاء سهلة أمام الإنسان وفرديته وحرياته، فقد تخللتها حروب حصدت عشرات ملايين الضحايا، وستار حديدي أعاد الكليات واقعاً معيوشاً، إلا أن الغلبة في النهاية كانت باستمرار، رغم المآسي، لتيار الحياة الإنسانية الحر والمتدفق. وستتدحرج كرة الثلج تلك بقوة بعد ذلك فتعيد إرساء الفردانية والشخصانية والجوانية والحرية ركائز ثابتة للفلسفة المعاصرة، بدءاً من عشرينات والقرن الماضي وصولاً إلى فلسفات ما بعد الحداثة – رغم ما تثيره اتجاهات العومة الراهنة من علامات استفهام.

                                                 6

ملخّص القول، أن في وسع الفلسفة أن تكون أكثر فاعلية وحضوراً حين تتصل بالقيم الإنسانية، وبخاصة الفردية والحرية،  فتتوقف عن أن تكون مجرد نظرية أو بناء أو سيستام منطقي، لتتحول إلى موقف شجاع يدافع عن القيم الإنسانية والأخلاقية السامية باللحم الحيّ وليس بالكلمات. بين أمثلة كثيرة، نكتفي بأبرز ثلاثة مفكرين ومناضلين من أجل ترسيخ القيم الإنسانية العليا، واحدهم قديم والثاني حديث والثالث معاصر.

الأول، مثال سقراط في مواجهة الطغمة الأوليغارشية التي وضعت يدها على أثينا سحابة سنوات الاربعينات من القرن الرابع قبل الميلاد. كان في إمكان سقراط أن يتجنب الموت سمّاً لو قبل المساومة على قيمه، لكنه اختار الامتثال لحكم القانون ولو كان جائراً في لحظة معينة، وحتى لا يتحول عصيان القانون قاعدة عامة.

المثال الثاني، هو المهاتما غاندي، بطل استقلال الهند، ثم بطل التمسك بالقيم الإنسانية والأخلاقية السامية في مواجهة حتى جمهوره المتعصب والذي لم يرتق إلى مستوى أعلى من التجمع الإثني أو القومي أو الديني. فاختار مواجهة الموت على أن يخون قيمه.

والمثال الثالث في التمسك بالقيم الإنسانية والأخلاقية، أكثر حداثة، وهو الدرس الأخلاقي الرفيع المستوى الذي قدّمه مانديلا، بطل المساواة الإثنية والدينية في جنوب إفريقيا، والذي قضى ثمانية وعشرين سنة في السجن لنضاله ضد الفصل العنصري الذي كان يمارسه الحكم العنصري الأبيض. وكانت أول زيارة له بعد أن خرج من زنزانته، بعد انهيار النظام العنصري، هو زيارته للقاضي الذي حكم عليه بالمؤبد وأودعه غياهب السجن لأكثر من ثلث حياته. كان ذلك درساً في التمسك يقيم المحبة والتسامح والترفّع عن دوافع الكراهية وغريزتي الانتقام والثأر. وكان أن تحوّلت أفكاره بل قيمه إلى عامل سياسي حاسم  في الانتقال السلس النادر من نظام يقوم على الفصل العنصري إلى نظام آخر تعددي وديمقراطي، فكان بذلك مثالاً شخصياً للفكرة الفلسفية التي تتحد بالحياة، فتحوّت مصدراً إضافياً للحياة والعدل والجمال.

ولو سمح الوقت لإضافة شخصية رابعة معاصرة نموذجاً للتمسك بالقيم الإنسانية الفردية الرفيعة، لاخترت فوراً البابا فرنسيس، والرسائل الفلسفية الإنسانية التي ما انفك يرسلها.                                                 

بخلاف أفكار، وقبل ذلك، ممارسات الشخصيات الثلاث أو الأربع السابقة، بدت الفلسفات الكبرى التي تعلّمّناها، وعلّمناها، في تاريخ الفلسفة كما لو كانت ’غير صالحة للسكن’، ولم أجد، شخصياً على الأقل، أنها قدّمت على نحو واضح ما يعزز الحياة الروحية والأخلاقية في الإنسان بمعنى من المعاني. بعض الفلسفات تلك كانت أسوأ من ذلك بكثير-إذ بدت معادية للإنسان الفرد وللقيم، وقادت البشر إلى حمامات دمّ طوال القرن العشرين وإلى يومنا هذا. وحين تكون الفلسفة كذلك، فما حاجة الإنسان بها؟ ويصح قول غوته بالتالي: أن في وسعه أن يعيش من دونها.

وبعد، فهذا معياري في الفلسفة، وللفلسفة، ولا تُخدعنّ يا صديقي بالأسماء الرنّانة الطنّانة، من أي جهة أتت، وإلى أية مدرسة انتمت. فأسهل السناريوهات المكرورة هو أن تجمع فكرة إلى فكرة، وأن تضع فوقهما فكرة ثالثة، ثم رابعة، وهكذا دواليك. وأن تربطها كلها بخيط من المنطق، يبرر الانتقال من الأولى والثانية إلى الثالثة، ثم الرابعة، إلخ، ويجعل الاستخلاص الأخير مبرراً ومنطقياً، أي لا غبار منهجياً عليه – وسيكون أمراً مستحباً، إذا أردنا، أن نستعيد نصيحة غوته في ’فاوست’، أن تختار الغريب من الألفاظ والأكثر تعقيداً من المصطلحات. وعلى ذلك، شاع التقليد الغربي – لا الشرقي - الذي يقوم على معيار مؤداه أنه بمقدار ما تكون البناءات أو النظريات  الفلسفية أكثر شمولاً وتجريداً واتساقاً شكلياً logically consistentmore  تغدو أكثر تطابقاً مع التعريف التقليدي للفلسفة، والمتوقع منها، أي باعتبارها دراسة (أواحياناً يقال علم) القوانين الكلّية والمبادئ الأولى الثابتة للوجود. لكن التعريف ذاك يهمل بوضوح ما هو غير كلّي (أي ما هو حسّي وعياني وجزئي ومتغيّر)، بل يهمل كل ما هو حيّ وفردي وخاص في الإنسان – وهي سبب المسافة أو البون الشاسع التي فصلت في معظم الحالات بين النظريات الفلسفية والحياة الإنسانية الواقعية، ولا ينفع في شيء في الدخول في متاهة تعريف الواقع والألاعيب اللفظية المتصلة به، فتعريف الواقع أبسط من ذلك بكثير، هذا إذا كان في الأصل بحاجة إلى تعريف.     

في معظم البناءات الفلسفية الضخمة تلك إسقاط قسري على الواقع والوقائع. وهو ما لفت إليه عدد من الفلاسفة أنفسهم، ومن نقّادهم أيضاً – وحدث الأمر عينه حتى في العلم. خذ مثلاً محاولات تفسير الوجود بأكمله من خلال مبدأ واحد – المادة أو العقل\الروح (أو الوعي بالتعبير الماركسي)، أو تفسير الشخصية بمبدأ واحد، أو تفسير المجتمع والتاريخ والحضارة بمبدأ واحد. ما هو مشترك بين المشاريع الكبرى تلك هو قسر كل كثرة وتنوع، وكل دفق وتغيير، وجلب التيار  الحيوي المدتفق ليندرج تحت مبدأ واحد، أو مبدأين اثنين مثلاً. لقد أعطيت الأولوية لبناء النظرية المنطقي على حساب حضور الإنسان في النظرية، أو حضور الواقع فيها بكل كثرته وتنوعه. محاولات عبثية استنفدت طاقات المفكرين وإبداعاتهم جيلاً بعد جيل. خذ في ما يخصنا من المسألة، مثلاً، ثلاث مجلدات سطرها عقل ضخم يخص حسين مروة (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية والذي استغرق إعداده خمساً وعشرين سنة) ليبرهن في ألفي صفحة أن هناك نزعات مادية في الثقافة العربية الاسلامية. ما الذي تغيّر، أو يتغيّر، وُجدِت النزعات المادية تلك أم لا. هذا جزء من الهدر الجسيم لطاقات البشر، ومنهم مفكرونا، والغرق في مسائل ليست مسائل بحث حقيقية، وإنما هي قضايا عقيمة ولا طائل منها.     

ومع الأسف الشديد، فقد جرى قراءة تاريخ الأفكار، وتصنيفه، وتاريخ الفلسفة بالتالي من هذه الجهة لا غير. وعليه جرى الاحتفاظ حتى الاحتفاء والمتحفية بالبناءات الفلسفية ’الضخمة’، أي المتسقة، المتكاملة، المنطقية، الخالية من العيوب المنهجية، وأهمل سواها حتى درجة الشطب والنسيان. وهو ما جعل تاريخ الفلسفة في العالم، الذي جري نشره وتعميمه وتدريسه ودرسه، لا يتضمن أكثر من بضع عشرات من الأسماء، أو النجوم، (تسع وتسعون بالمئة منهم من الذكور، وتسع تسعون بالمئة منهم من المنطقة الممتدة بين وسط أوروبا وغرب الولايات المتحدة، من فيينا إلى لوس أنجلس). أما عشرات بل مئات الآف الرجال والنساء الذين فكروا، وتفكروا، وتفلسفوا، وقدموا أفكاراً فلسفية في كل مجال فلا يرد لهم ذكر في معظم الموسوعات والمصادر والمراجع الفلسفية العالمية التي تدخل المكتبات والجامعات وأسواق النشر، بل إن المعاهد والجامعات والأسواق المحلية، خارج الغرب، لا تكلّف نفسها في الأغلب حتى الالتفات إلى نتاجها الفلسفي المحلي إلا من باب الواجب وبكثير من الخفر والخجل أحياناً.

 نقاط الضعف المشتركة في البناءات الكبرى كثيرة، وأهمها العَسف في انتقاء المقدمات والحجج والأدلة لتلائم وجهة نظرنا ’المسبقة’، أما ما لا يلائمنا فلا نلتفت إليه، ويجري إهماله أو طرحه جانباً، تحت هذه الذريعة أو تلك. كذلك القسر، أي لي ذراع الوقائع مرة وتحميلها ما لا تحتمل مرة ثانية، أو تعميم الأحكام انطلاقاً من بضع وقائع، ستبقى ولو كانت حتى كثيرة محدودة جزئية وغير صالحة علمياً للتعميم أو الإطلاق.وإذا كانت آخر الاتجاهات الحديثة في العلوم التجريبية والاختبارية هو اعتبار ’النظريات’ مجرد تفسيرات مؤقتة لا تتضمن أي يقين إضافي، فهل من مبرر لأن نفترض في الفلسفة ما لم تعد تعد تحتمله العلوم نفسها؟

وعليه، ففي وسعي القول أن كل بناء فلسفي  ضخم هو بناء شكلي، صوري، (وإن بدا محكماً منطقياً)، فيما هو قاصر علمياً، وواقعياً، وأحياناً منهجياً، من هذه الجهة أو تلك.  وهو قاصر أكثر بكثير لجهة المعيار الذي التزمنا به منذ البدء: معيار ’ما يعزز الحياة في الإنسان’، ويعطي أملاً بنهار آت أفضل. 

                                        7

ما الذي يتبقّى، إذاً، من الفلسفة؟ يتبقّى الكثير.

بعد أكثر من مئة وسبعين عاماً على ملاحظات كيركجارد الثاقبة، وإبداعات غوته في ’دكتور فاوست’، يتلقّى المشروع الفلسفي الحديث دعماً نادراً من حيث لا يتوقع. إنها كلمات ستيف جوبز، الأسم الأكثر شهرة والمؤسس مطلع القرن الحادي والعشرين لأهم شركة في عالم الإنترنت والكومبيوتر، ’أبّل’ apple، وأحد الأكثر ثراء في العالم. كتب جوبز وهوعلى سرير المرض في المستشفى قبيل وفاته بقليل:

"الآن فقط، وبعد أن أمضيت حياتي محاولاً جمع ما يكفي من المال، أدركت أنه كان لدي ما يكفي من الوقت لتحقيق أهداف أخرى لا تتعلق بالثروة ... أكثر أهمية مثل: الحب، الجمال، أحلام طفولتي...كل الكائنات تستطيع أن تحب... الحب كامن في قلب كل واحد منا، ومصيرنا يجب أن لا يكون الجري وراء الأوهام التي تبنيها الشهرة او المال اللذين أفنيت من أجلهما حياتي ولكن لا يمكنني أخذهما معي الآن...لا يمكنني أن آخذ غير الذكريات والحب...هذه هي الثروة الحقيقية ... هل تعلم ما هو أغلى سرير في العالم؟ سرير المستشفى. إذا كان لديك المال يمكنك استئجار شخص لقيادة سيارتك ولكن لا يمكنك استئجار شخص لتحمل مرضك والآمك بدلاً منك...في وسعك العثور على الأشياء المادية المفقودة مهما غلا ثمنها، لكن شيئاً واحداً لا يمكنك أن تجده عندما تفقده، إنه: الحياة!"

تلك أفكار، بل خلاصات ’فلسفية’ كاملة، تأتينا ممن لم يلتفت يوماً إلى الفلسفة (لبعدها عن اختصاصه التقني). أفكار أو خلاصات تبدو كما لو أنها تخاطب بعض الفلاسفة، أو الأتباع، الذين تعلّقوا ولا يزالون ببناءات أو أنظمة فلسفية ضخمة، كانت كبرى، أو مدهشة بعظمتها، غير أنه كان ينقصها ما هو أهم بكثير: الإنسان، ومعه، الحب، التعاطف، أو الحياة بالمعنى الواسع (التي نغفل عنها في الغالب)، والتي ختم بها جوبز نصّه السابق.

لذلك يكتفي  برتراند راصل، الفيلسوف البريطاني  الكلاسيكي، أحد كبار مؤسسي الرياضيات الحديثة، والمناضل العنيد ضد الحروب طيلة القرن العشرين، بتعريف إجرائي متحفظ متواضع لوظيفة الفلسفة اليوم (لكنه واقعي) فيقول:

"في الفلسفة... بُعدان: توسعةُ الفهم وتعميقُه، والنقدُ والتقويم."     (راصل، "قضايا الفلسفة")                                                                                     

هناك مساحات بغير حدود مفتوحة باستمرار أمام إسهامات الفلاسفة، ومثقفي الفلسفة، ومن الاحتمالات أمامها، وبلا حدود، وظيفة لن تنتهي. هي في عدد المشكلات والتحديات التي تواجه الإنسان في حياته، الفكرية أو النفسية والواقعية، وخصوصاً في عدد الأمكنة والمستويات واللحظات التي يجري النظر منها أو التفكير بواسطتها. وكلها منصّات فلسفية، طالما أن التحليل والاستدلال أداتها الرئيسية، وتقدّم الإنسان وحريته وسعادته الغاية فيها.                                               

وأختم بالمرور سريعاً بمسألة أدوات التعبير وعلاقتها بالمنهج الفلسفي. بالرغم من كثرة الكلام في منهجيات الفلسفة فبالإمكان اختصار خطوات المقاربة الفلسفية عموماً، وفي كل مسألة، إلى ثلاث هي: التحليل، والتركيب، والاستخراج المنهجي لخلاصة مبررة (بعد أن تجتاز خطوات المراجعة والتحقق الضروريين). هوذا ما يميّز المقاربة الفلسفية، كل مقاربة فلسفية. وعليه، ففي وسع كل مقاربة تمتلك الخصائص الثلاث أعلاه أن تكون، وفي كل حقل معرفي دون استثناء، مقاربة فلسفية.

إذا كان الأمر كذلك، فبإمكاننا القول أن في وسع أبواب الأدب (وبخاصة الرواية، وفنون أخرى مثل الرسم والموسيقى) أن ترفد الخطاب الفلسفي بأدوات تعبير جميلة، جذابة، مفهومة، وتفتح أمام الفلسفة بالتالي إمكانيات جديدة في زيادة تأثيرها ونفوذها: هي ذي بعض اسباب شهرة جان بول سارتر وألبير كامي وكولن ويلسون وآخرين في الثقافة المعاصرة. وهي عندنا أيضاً من أسباب شهرة جبران ونعيمه، وآخرين أيضاً. لقد كانت الأدوات الأدبية التي توسلتها الأفكار هي سبب الشهرة الواسعة (طبع من ’الوجود والعدم’ لسارتر أول الأمر 500 نسخة فيما طُبع من ’الدوّامة’ و’الغثيان’ و’الأيدي القذرة’، و’الغريب’، و’النبي’ و’مرداد’ ملايين النسخ، كما ترجمت إلى معظم لغات العالم الحيّة). 

سيستمر مضمون الفلسفة بالتأكيد في احتضان الإشكاليات والتحديات والمسائل الوجودية والفكرية والروحية والقوانين التي عملت عليها دائماً. لكن السؤال، ما الذي نريده من الأفكار تلك؟ وإلامَ تصل الأفكار تلك إذا ظلت معادلات نظرية مجردة، فلم تسهم، على نحو ما، وبطريقة عميقة، في تعزيز فرص الحياة في الإنسان على أفضل ما هو متاح له؟  هوذا سبب إضافي لإتصال الفلسفة بمفاصل الحياة الإنسانية الفعلية وتعبيراتها المختلفة: المشكلات الاجتماعية والاقتصادية،  الدين، الموسيقى السينما المسرح وسائر الفنون، البيئة، التربية، السياسة، وبتحديات حقوق الإنسان والحريات والمجتمع المدني، وبخاصة في عالمنا العربي.

من خلال هذا الاتصال تغدو الفلسفة أكثر غنى وقرباً من الإنسان، وتفاعلاً معه، وربما أكثر نفعاً له أيضاً بالمعنى الأخير: فلسفة-من-أجل-الإنسان.أما من دون ذلك فستبقى الفلسفة صورية، مجردة، وغريبة جداً عن الإنسان وعن الحياة؛ أي على هامش مجرى حياة الناس الزاخرة كل دقيقة بما ينبض وينفعل ويتحرك، بأحلام الإنسان وآماله وآلامه، وبما يولد ويموت، ومن دون توقف – ولا نستغربنّ أن تبقى الفلسفة، من دون ذلك، غير مطلوبة عند السواد الأعظم من الناس.

______________________________________