ندوة حول كتاب الدكتور نجيب جهشان:" شمسي لن تغيب"

مشاركة   : د. أديب صعب- أ. رودريك خوري

إدارة      : د. جوليات الراسي.

ندوة حول كتاب الدكتور نجيب جهشان 

" شمسي لن تغيب "

إدارة الدكتورة جوليات الراسي

نهار السبت الواقع فيه 2 آذار

(2024 )

أيها الحضور الكريم

 

نرحب بكم فردًا فردًا في الحركة الثقافية أنطلياس، ويشرفنا حضوركم جميعًا في هذه الأمسية الثقافية التي نأمل أن تكون مفيدة وأن تفتح آفاقًا ثقافية جديدة ومميّزة.

كما يشرفني أن أدير هذه الندوة التي تتناول كتابًا موسوعيًا قيمًا بعنوان " شمسي لن تغيب"، تأليف الدكتور نجيب جهشان رئيس الجمعية الثقافية الرومية، التي تأسست عام 2014، والتي كان لي الشرف بالإشتراك في لقائها العلمي الأول الذي عقد عام 2019، وكان بعنوان: النهضة التربوية عند الروم في لبنان في القرن التاسع عشر"، والذي سجّل ألكترونيًا، والذي نأمل أن يصدر ورقيًا لأهمية ما تناوله من مواضيع.

أما كتابنا اليوم، والذي يقول عنه مؤلفه لتواضعه، بأنّه ليس كتاب تاريخ، فهو بحث علمي موسوعي شامل يتناول حقبات تاريخية طويلة، منذ بدء الحضارة الرومية وحتى عصرنا الحالي، وهو ما ينمّ عن سعة اطلاعه وعمق ثقافته وقوة تحليله. إذ أن الدكتور جهشان لا يكتفي بسرد الأحداث التاريخية المهمة، بل يسبر أعماقها ليعرف دوافعها وأسبابها الكامنة، ويستقرىء نتائجها المباشرة وغير المباشرة. إنه يفكّك الحدث بأنامل الطبيب الجراح، ليعرف علّته أو سببه، ويفسّر بتحليل منطقي سير انعكاساته. وهنا تبرز منهجيّته العلمية الواضحة على صفحات كتابه المؤلف من فصول ستة، والذي يقارب ال500 صفحة (496 صفحة)، مع مسرد للمصادر والمراجع التاريخية المتعددة اللغات. فمنها مثلا المصادر العربية الإسلامية، والمراجع العربية المسيحية، والدراسات الغربية القديمة والمعاصرة باللغتين الفرنسية والإنكليزية، والتي تتناول مجمل النقاط التي وردت في بحثه القيّم هذا. وأود الإشارة أيضًا إلى أن من مميزات المنهج المعتمد في إخراج الكتاب، هو وضع الأفكار الرئيسية المعالجة في الفصول ضمن حيّز معين في الصفحات.

تكمن فرادة الكتاب في تناوله موضوعًا لا تزال الدراسات حوله قليلة على المستوى المحلي وحتى  العالمي، وهو ما أشار إليه مؤخرًا في ندوة علمية أحد أهم الأساتذة المتخصصين في التاريخ في جامعة أميركية عريقة. فالكتاب يتناول تطور الحضارة الرومية ووضعها الحاضر استشرافًا لمستقبل مشرق. كما يفسّر بوضوح سبب اعتماد المؤلف لمصطلح الروم بدلا عن البيزنطيين. وهو محق في اعتماده هذا، ذلك لأن المصادر العربية في القرون الوسطى تعتمد هذا المصطلح التاريخي الصحيح عينه، أما المصطلح الآخر فهو اعتمد في الغرب الأوروبي ابتداء من القرن السادس عشر.

ومصطلح آخر يعالجه المؤلف جهشان وهو تسمية الروم باليونانيين، ودوافع هذه التسمية الخاطئة، وسياقها التاريخي. ومتى بدأ الغرب يدعو الروم بالإغريقيين والشرق يدعو الإيطاليين باللاتين وحلفاؤهم بالغربيين (ص 140).

 وبرأي المؤلف إن نسبة الروم للهلينة هو دعوة متأخرة من صنع غربي هدفها التقليل من أممية الروم وطغي الصفة الجامعة على كنيستهم (ص 76). ذلك أنّ أهم ميزتين للحضارة الرومية هما: الأرثوذكسية والأممية (ص 54 ). وهو بدحضه الترجمة لا يقلل من الإرث الإغريقي في الحضارة الرومية ( بخاصة في الكتب والأسفار المقدسة والتقليد الشريف) بل درءا لتحوير التاريخ وتزويره" (ص 77).

أما الحضارة الرومية فمحورها الإنسان، وكما يقول المؤلف: " كان الإنسان محور الحضارة الرومية، وكانت تشريعات الكنيسة والدولة في الإنتظام العام وفي حقوق الأفراد وفي الترتيب العائلي تشيّد حول الأنسنة "( ص 469 ).
وأن " الأبرز في إنجازات الروم خلال أحد عشر قرنًا ونيّف هو قوانينهم الإجتماعية وتشريعاتهم الإنسانيّة " (ص 470)، وبأن القديس "بولس هو من وضع أسس الأممية الرومية التي تحققت لاحقًا داخل الكنيسة والدولة"( ص 472).

 

وأخيرًا أود أن أشكر الطبيب الدكتور نجيب جهشان على بحثه الموسوعي العميق والفريد هذا، وأشكره على تقديمه لنا. فهو بثقافته الواسعة والمتبحرة في العلم يذكرنا بالمؤرخين العرب في القرون الوسطى الذين كانوا متعددي الإختصاصات، وأذكرمنهم على سبيل المثال لا الحصر  المؤرخ الطبري ( 839-923م ) الذي درس الطب في مدينة بيروت، ذلك أن عاصمتنا كانت معروفة في هذا المجال منذ ذلك الزمن.

مع شكري لإصغائكم

جوليات الراسي   

____________________________________________

 

كلمة الأستاذ نقولا سابا في ندوة حول كتاب د. نجيب جهشان

لقد شرفني الدكتور نجيب جهشان بطلبه مني تقديم كتابه "شمسي لن تغيب" جولة في تراث الروم. أعرف الكاتب منذ عدة سنوات ولكنني أصبحت على تواصل دائم معه من خلال الجمعية الثقافية الرومية التي أسسها في بيروت مع نخبة من المثقفين. شاركت في أكثرية الندوات والمحاضرات التي نظمتها الجمعية والتي كانت مواضيعها تتعلق بالروم ودولتهم وحضارتهم وديانتهم وارثهم وتاريخهم وعلمهم.

 

واتشرف اليوم أيضا" بالمشاركة في هذه الندوة عن المولود الجديد " شمسي لن تغيب" الصادر عن دار النهار الى جانب مرجعيات عالمة في الدين والتاريخ والحضارات مثل الدكتور اديب صعب والدكتورة جوليات الراسي والمؤلف الدكتور نجيب جهشان. أما الموضوع الذي أود التحدث عنه فهو الاممية عند الروم وانتشار الحضارة الرومية عند الشعوب والامم ومنها الشعوب السلافية.

 

الاممية هي نقيض القومية والاثنية. لقد اعتمدت الدولة الرومية على الاممية كمبدأ ثابت في التعاطي السياسي والاجتماعي والثقافي مع شعوب المسكونة وحتى مع البرابرة. احترمت الدولة الرومية مبدأ الاممية ولم تفرق بين قومية واخرى بل اعتمدت اجراءات تمنع التغني بالقومية والمناطقية او التمييز بين شعب واخر على اسس لغوية وهذا كان مبدأ من مبادىء الحكم واساسا في تنظيم المجتمع. لم تحاول يوما الدولة الرومية فرض توحيد لسان شعوبها بلغتيها الرسميتين اللاتينية أو ال Koineاليونانية التي كتب بها الانجيل وبقيت اللغة الرسمية لدولة الروم حتى سقوط القسطنطينية سنة 1453.

 

 تجد الحضارة الرومية احدى مكوناتها الاساسية في الارث الحضاري الاغريقي والروماني وهنا نعود الى الوراء ثلاثة قرون قبل الميلاد مع الاسكندر المقدوني الذي اعتمد على الاممية وهو كان معجبا" بالحضارات والدول التي حاربها وهزمها لاسيما الفرس حتى انه زوج 10.000 من ضباطه وجنوده الى  10.000 امرأة فارسية لانه كان يهدف الى امتزاج كل الحضارات والثقافات في حضارة واحدة كي يسود العدل والسلام في العالم.

 

وفي مهد المسيحية لقبت الكنيسة بولس الرسول برسول الامم اذ اكد ان المسيحية هي عابرة للامم وللقوميات وليست كما ارادها معظم اليهود في ذلك الزمان حكر على شعبهم. وهذا واضح في رسالة بولس الى أهل غلاطية:

"لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ." (غل28:3)

 

بالعودة الى امبراطورية الروم، فهذه الدولة اعتمدت المسيحية دينا رسميا لها سنة 390 مع الامبراطور ثيودوسيوس الأول أو الكبير من خلال مرسوم تيسالونيك، فكان لها الفضل في نشر المسيحية في المسكونة والمعمورة وبنت بشارتها على مبادىء الاممية المسيحية فلم تفرق بين شعب واخر ولغة واخرى. اما اباطرة الروم فكانوا ايضا" يشددون على الاممية والانفتاح لاسيما جوستينيان الكبيرمن خلال مجموعة تشريعاته وذلك لان الاممية أيضا هي ضمانة لاستقرار الامبراطورية أمنيا" واجتماعيا" وهي تسمح للدولة باحتضان جميع المكونات الاثنية والقومية فيها.

نرى ايضا تنوعا كبيرا في الأسر الامبراطورية الحاكمة في القسطنطينية، فتعاقب على عرش الملك اكثر من تسعين امبرطورا وكانوا من مناطق وعرقيات مختلفة فاسرة قسطنطين الكبيرمثلا كانت من البلقان وثيودوسيوس من اسبانية وجوستينيان من البانيا وهرقليوس من ارمينيا وغيرهم من سورية ومن اسيا الصغرى ومن الاناضول ... وهذا يدل على الفكر الاممي المنفتح في الدولة والحكم الحضارة والفكر الرومي.

 

لقد واجهت الدولة الرومية وخلال 11 قرنا" اي منذ سنة 313 تاريخ صدور مرسوم ميلانو الذي سمح بحرية المعتقد الى سنة 1453 تاريخ سقوط القسطنطينية، كثيرا" من الغزوات والاعداء المتربصين بها لاسيما الفرس والغوط الجرمان والعرب والسلاف والفرنج (الصليبيين) والسلاجقة والاتراك وغيرهم . ولكن ما انهك الدولة الرومية في عدة محطات تارخية مفصلية كان الفكر القومي عند بعض الامم داخل الامبراطورية. هذا ما حصل بعد المجمع الرابع الذي انعقد في خلقيدونيا عام 451 حين استغلت بعض القوميات داخل الدولة الرومية كالارمن والاقباط ومعظم السريان الدين وعقيدة الطبيعة الواحدة للمسيح للتمايز داخل الدولة الرومية الجامعة والعادلة فعبروا عن ارادتهم في الانفصال عن الدولة المركزية وهذا ما أنهك الدولة وكانت النتيجة الانقسام العامودي بين قوميات متشنجة تريد الاستتقلال وغالبية الشعب الموالية للدولة وللاستقرار ولللانفتاح وهذا ما أدى الى اضعاف الدولة الرومية في حربها ضد الفرس بين سنة 602 وسنة 628 مما سهل وأدى في النهاية الى دخول العرب والاسلام الى المشرق الرومي منذ عام 632.

 

في سياق منفصل وخارج عن موضوع ندوتنا، تجدر الاشارة الى ان عصر القوميات منذ بداية القرن ال 19 وحتى نهاية الحرب العالمية الاولى والاتي من الغرب الينا، أدى الى ثورات وانشاء دول جديدة كاليونان وصربيا وغيرها ولكنه في نفس الوقت ادى الى تهجير كل الروم واليونان  في الجزء الاسيوي من تركيا بعد معاهدة لوزان سنة  1923 وهنا ايضا نرى كيف ان الفكر القومي قوى العنصرية وأدى في نهاية المطاف الى تطهير عرقي محزن تعرض له أصحاب الارض في اسيا الوسطى وهم الروم. فتصوروا كيف افرغت اسيا الوسطى من مسيحييها: من سميرنا المدينة اليونانية بامتياز، الى منطقة البونتوس ودير سوميلا التاريخي، الى أرضروم وادنا، والى كبدوكيا التي ولد فيها باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي، وايكونيا التي ولدت فيها القديسة تقلا وغيرها وغيرها من المناطق والمواقع الرومية التاريخية ... كل هذا بفضل الفكر القومي المستورد من الغرب.

 

هذا الفكر الاممي الجامع والمتسامح والمنفتح للدولة الرومية ساعد في تبشير كثير من الشعوب خارج الامبراطورية وعلى تخومها مما ادى الى اعتناقها المسيحية الارثوذكسية كديانة والفكر والحضارة الرومية كنمط حياة ونظام سياسي واداري مع العلم ان الدولة الرومية لم تفرض المسيحية بحد السيف او بالاكراه بل بالبشارة، والمحبة والقيم المسيحية. فالكنيسة الرومية بشرت شعوب الغرب والشرق بالانجيل فجعلت المسيحية الديانة الأكثر انتشارا في العالم

 

ومثالا" على نشر البشارة عند الشعوب خارج الامبراطورية، وبفضل الفكر الاممي المتسامح، قام الرهبان كيرلس وميثوديوس بتبشير الشعوب السلافية ومنها الروس الذي قرر اميرهم القديس فلاديمير المعادل للرسل ان يتعمدوا في نهر الدنيبر في كييف، فاقتبسوا الحضارة الرومية والايمان الارثوذكسي والتقاليد الدينية والاجتماعية للروم ومبدأ التناغم بين الدولة والكنيسة (Symphonia). هذا التناغم، كان ومنذ نشأة المسيحية ضابط ايقاع لأي انزلاق في العلاقة بين الدولة والكنيسة أو بين الكنيسة والشعب المؤمن. وانطلاقا" من هذا الارث الرومي، حافظت روسيا القيصرية خلال قرون طويلة وروسيا الاتحادية اليوم على السيمفونيا وبقي الحل الناجع لمجتمع متماسك وحياة عامة عادلة وسعيدة. وهذا ما عبرت عنه روسيا في شعار النسر ذي الرأسين الذي يعلوه تاج الحكمة الالهية والذي ما زال معتمدا" حتى الان أيضا في معظم الدول ذات الارث الرومي.

 

لكننا نرى اليوم محاولات جديدة مصدرها الغرب تحاول ضرب الفكر المسيحي المنفتح والمتسامح في الجسم الكنسي الموحد من خلال تفتيت الكنيسة الى كنائس "وطنية"  متقوقعة خلافا لتاريخ الكنيسة وللتراث الرسولي وتجعل من هذه الكنائس اداة طيعة في يد الانظمة السياسية كما حصل مؤخرا في اوكرانيا مثلا التي كانت خلال كل تاريخها جزء لا يتجزأ من الكنيسة الارثوذكسية الروسية.

 

تحدي اخر يجب الاشارة اليه يخالف ايضا الفكر الاممي عند الروم هو القومية في الكنيسة ethnophyletisme، فتقسيم الرعايا لا سيما في دول الاغتراب على قاعدة قومية ولغوية هو مخالف للتراث ويجب وضع ضوابط له. فمثلا في اي مدينة كبيرة في اوروبا الغربية أو اميركا نجد كنائس ارثوذكسية ذات ايمان واحد ولكن مقسمة اثنيا وقوميا: فهذه كنيسة لليونان واخرى للروس وللانطلكيين وللصرب وللبلغار وللرومان وللجورجيين وللمقدونيين وللبولنديين ومؤخرا للاوكران. صحيح ان الكنيسة عند المغتربين هي صلة الوصل مع الدول الام وعنصر موحد للجاليات المغتربة، لكنها أيضا لا تستطيع ان تبقي البعد والغربة بين ابناء الكنيسة الواحدة خاصة ابتداء من الجيل الثاني والثالث الذي انصهر في دول الانتشار.

 

نختم هنا بالقول أن القومية قد يكون لها فائدة في وحدة الدول وفي الدفاع عن الهوية للشعوب، ولكن الارتقاء الى السلام والاستقرار والانفتاح والتسامح بين الشعوب والامم لا يحصل الا ببث الفكر الاممي العابر للاثنيات وللاختلافات. وشكرا

 

المحافظ نقولا سابا

 

انطلياس، 2 اذار 2024

_____________________________________

معرض الكتاب اللبناني الواحد والأربعون - أنطلياس

ندوة حول كتاب

شمسي لن تغيب – جولة في تراث الروم

السبت 2 آذار 2024

الحضارة الرومية تواجه حضاراتٍ عديدة

البروفسور نجيب جهشان

 

مساء الخير !

في مطلع مداخلتي القصيرة هذه، أودُّ تقديمَ جزيل الشكر والإمتنان لدار النهار التي نشرت هذا الكتاب، وأخصُّ بالذكر سعادة المحافظ القاضي زياد شبيب الذي أشرفَ على هذا العمل ووجَّهه وأنجزَه في وقتٍ قصير، كما أذكرُ بالتقدير والإطراء السيدة كارلا قرقفي زياده والسيدة إليز بشعلاني أبو عيسى، الى جانب كثرٍ آخرين،  وهما اللَتان أشرفتا على إخراج الكتاب وإعدادهِ للنشر ليظهرَ في حلّةٍ مميّزةٍ مشوِّقة.

وبهذه المناسبة، أعبّرُ أيضاً عن شكري وتقديري للحركة الثقافية في أنطلياس التي تنظِّمُ هذه الندوة في المهرجان اللبناني الواحد والأربعين للكتاب، كما أرفعُ مشاعرَ الإحترام والمحبة لسعادة المحافظ المهندس نقولا سابا الذي شرَّفني بكتابةِ مقدمةِ الكتاب والذي قبلَ، بقلبِه الكبير وسعةِ رؤياه، أن يشاركَ في هذه الندوة التي تضيءُ على البعد السياسي والدينيّ للحضارة الرومية، وأعبّرُ عن كل الإمتنانِ والتقدير للبروفسورة جوليات الراسي التي تديرُ هذه الندوة وللبروفسور أديب صعب الأديب والفيلسوف والشاعر والصديق الذي قبلَ أن يغورَ في صفحات هذا الكتاب ليدرسَ، ناقداً، ما جاء فيه من معلوماتٍ عن الدور الديني الكبير الذي وجّهَ الحضارة الرومية في قرونِها السبع عشرة الماضية.

الحضارات، في العالم البشري، هي ظواهرُ أكادُ أصفُها بالطبيعية لأنها تشابهُ في نشأتِها وتفرُّعها وتطوُّرها وتفاعلِها ظواهرَ الأصناف والأجناس في عالم المخلوقات المِجهرية والنبات والحيوان. فالأصناف والأجناس النباتية والحيوانية والمجهرية تنشأ بفعلِ طفراتٍ ذاتِ مفاعيلَ مقاومةٍ إيجابيةٍ تسمحُ لها بالبقاء والإستمرار والنجاح. وهي، بعدَ أنْ وُجدت، تتوسعُ وتتكاثرُ ثمَّ تصطدمُ بأصنافٍ وأجناسٍ أخرى لتكتسحَ مكانَها وتبقى حيةً وتستمرّ. وهذا، بالقدر نفسِه وبالشكل نفسِه، ما يحدثُ في العالم البشري حيث تنشأ حضاراتٌ جديدةٌ فتنمو وتتركزُ وتتوسّعُ الى أن تصطدمَ بحضاراتٍ اخرى مجاورةٍ، سابقةٍ لها ومتزامنةٍ، لتكتسحَ مكانَها الأرضي، بل ولتقضيَ عليها إن كان ذلك ممكناً أو متاحاً.

وتستعينُ الحضارةُ الجديدةُ بوسائلَ عديدةٍ تكتسبُ منها الصلابةَ والقوةَ والغلبة، ومنها حجمُها الديمغرافيّ وتموضعُها الجغرافي ومواردُها الطبيعية وميزاتُها اللغوية وعقائدُها الدينية وتقاليدُها الإيمانية والفولكلورية وغيرُها. وهذه الحضارة الجديدة، متى وُجدت، تسعى للتجذّرِ في مكان نشأتِها، ثمَّ للتوسعِ والنموّ مكانياً والبقاءِ زمنياً، فتصطدمَ لا محالةَ بالحضارات المجاورة. فمنها من تحطّمُ وتفني، ومنها من تبتلعُ وتهضمُ، ومنها من تتعايشُ معها وتقتبسُ منها صفاتٍ لغويةً ودينيةً وفولكلوريةُ وأنماطَ عيشٍ وإقتصادٍ وحياة. وغالباً ما نرى حضاراتٍ تمتزجُ بأخرى لتكوِّنَ معها حضاراتٍ هجينةً قد تكون أكثرَ صلابةً وقوةً وديمومةً وإنتشاراً. كما أنَّ بعضَ الظروف التاريخية والجغرافية والإقتصادية والدينية قد تؤدي بحضارةٍ واحدةٍ للإنقسامِ والتفتّتِ فتستحيلَ حضارتَين أو أكثرَ تتنافسُ فيما بينها ساعيةً، كل واحدةٍ من جانبِها، أنْ تكونَ الظافرةَ الغالبة.

في كلِّ ما وصفتُ، تنقلكُم صورةُ الحضارات، في شبهِها، الى صورِ العالم النباتي والحيواني حيثُ تلاحظون الظواهرِ نفسَها التي ذكرتُها في عالم الحضارات الإنسانية.

"شمسي لن تغيب" كتابٌ يحاولُ أن يسردَ سيرةَ الحضارة الرومية منذ نشأتِها حتى يومنا الحاضر. هو يفصِّلُ بدقةٍ ظروف نشأتِها ويروي الفصولَ الزمنيةَ التي عبرَتها ويتوسعُ في شرح نتاجِها الثقافي ويحلّلُ الصعابَ والمآسيَ التي مرّت بها. وفي تحليلِ سيرة هذه الحضارة، يكشفُ الكتابُ بوضوحٍ الصراعاتِ التي عانت منها هذه الحضارةُ في علاقاتها بالحضاراتِ المجاورة التي تزامنت معها. وفي الدقائق القليلة القادمة سألقي الضوءَ على هذه الحضارات التي تأثَّرَت بها الحضارة الرومية أو أثَّرت فيها.

نشأت الحضارةُ الرومية رسمياً في مطلع القرن الرابع، وبالتحديد بين سنتَي 313 و330، وفي عهد الإمبراطور الكبير قسطنطين الأول الذي خطى خطواتٍ جريئةٍ نقلَت العالمَ القديم  من زمنِ مدينة روما العريقة في شبه الجزيرة الإيطالية الى زمنِ روما الجديدة على مضائق البوسفور. ومن خَطواتِه الجريئةِ نذكرُ أنه نقلَ عاصمة الإمبراطورية من مدينةٍ ذاتِ طابعٍ لاتيني الى مدينةٍ ذات طابعٍ إغريقي، وأنه أطلقَ حريةَ العبادةِ في دولةٍ كانت الوثنيةُ القديمة تحكمها وتتحكّمُ بها، وأنه باشرَ بتنظيمِ المسيحية كمؤسسةٍ كنسيةٍ وكعقيدةٍ مستقيمةٍ واضحةٍ وكتقليدٍ ثابتٍ وجامع. نعم، الحضارةُ الرومية أكملت الحضارةَ الرومانية بكلِ مكوِّناتها وميزاتها اللاتينية الإغريقية المطعَّمةِ بكافةِ حضاراتِ حوض البحر الأبيض المتوسط، لكنّها جرَّدتها رسمياً من طابعِها الوثني المتعدّدِ الآلهة، وأقرنَتها بالبشارة المسيحية ذات القيم الإنسانية السامية والتقليدِ المشرقي ذي الأبعاد الروحية العميقة. وإبتداءً من عهد قسطنطين الكبير، راحَت هذه الحضارة الجديدة تزدادُ بأساً وثراءً روحياً وإنفتاحاً ثقافياً على كافة الأمم لتبلغَ في القرون اللاحقة، أي وصولاً الى عهود أباطرة عظام كيوستنيانوس الكبير وباسيليوس الثاني، قمّةَ إبداعاتِها الثقافية والدينية المتمثلةِ بالأممية الشاملة والأرثوذكسية الجامعة.

واجهَت الحضارةُ الرومية، وهي تسعى لبلوغ قمة عطاءاتها الثقافية والدينية، حضاراتٍ غريبةً أطلقت عليها إسم البرابرة، طرقَت أبوابها، أي حدودَها الجغرافية، من الشمال والشرق. وفي كلماتٍ مختصرة، أذكر تباعاً هذه الحضارات التي كانت السبّاقة في الهجوم على الحضارة الرومية والتي كانت بالغةَ العنفِ في غزواتِها لبلادِ الروم الذين، في المقابلِ، لم يسعوا، كما تشير كلُ الوقائع والأحداث التاريخية، لينشروا حضارتَهم ودينَهم بقوة السيف في أرضِ البرابرة بل إكتفوا بالدفاع عن وجودِهم ودولتِهم وبالإعلان جهاراً عن معتقداتِهم ودينِهم علّها تلقى عند الآخرين قبولاً سلامياً طوعياً.

  1. أولى تلك الحضارات المنافسة تمثّلت بالشعوبِ الجرمانية القادمة من شمال أوروبا. كانت قبائلُ الجرمانيين تسكنُ المناطقَ الشاسعة شمالَ نهرَي الدانوب والراين، وباشرت منذ أوائل القرون الميلادية الأولى محاولاتِها لعبور هاذين النهرين وإجتياحِ أقطار الإمبراطورية الرومانية دون أن تفلحَ في ذلك في معظمِ الأحيان. وفي منتصفِ القرن الرابع، دخلت المسيحيةُ الآريوسية ببشارة الأسقف أولفيلاّ Ulfillaعلى القبائلِ الجرمانية، فتمكَّنت لاحقاً قبائلُ الغوط والفاندال والفرنج الآريوسيةُ المذهب من إجتياح القسم الغربي من الإمبراطورية الرومية وبلغَت روما القديمة في سنة 476، فإنتهى في ذلك العام وجودُ القسم الغربي من الإمبراطورية أي إيطاليا وبلاد الغول وبريطانيا وإيبيريا وشمال أفريقيا، وتحولَ ذلك الجزءُ الى ممالكَ وإماراتٍ جرمانيةٍ تحكمُ الشعبَ الروميَّ اللاتينيَّ التراث.

تأقلمَ الجرمانيون الغزاة رويداً رويداً مع الثقافة الرومية الغربية، وإعتنقَ ملوكُهم بعد حينٍ المذهب الأرثوذكسي وسيطروا على كرسي روما القديمة وحافظوا على أخلاقياتِهم وعاداتِهم الجرمانية وأدخلوا الغربَ المسيحي في ظلمات العصور الوسطى التي قرأنا عنها جميعاً. وبعد أن إشتدّت سيطرةُ الجرمانيين على الغربِ، باشروا الصدامَ مع دولةِ الروم الشرعية الباقيةِ في الشرق، فتوّجوا شارلمان الجرماني الفرنجي إمبراطوراً في روما في سنة 800، فكان هذا الحدثُ شرارةَ الإنفصام بين الشرق والغربِ الذي بلغَ ذروتَه في الإنشقاق الدينيّ الكبير في سنة 1054 وفي الحملة الصليبية الرابعة في سنة 1204 التي كانت وبالاً على الحضارة الرومية وعلى عاصمتها القسطنطينة بالتحديد. حملَ الغربُ من حينه الصفة اللاتينية وحاول إطلاقَ الصفةِ اليونانية على الشرق الرومي.

إستمرَّ الصراعُ بين الحضارة الرومية والحضارة اللاتينية الجرمانيةِ الطابع عبر طيلةَ القرون اللاحقة، وإتخذَ شكلَ هجمةٍ دينيةٍ حاولَت فرضَ بعض التعديلاتِ العقائدية على الإيمان الأرثوذكسي كإنبثاق الروح القدس من الآب والإبن والحبل بلا دنس والعصمة البابوية والمطهر وغيرها، وحاولت أيضاً إلحاقَ الكنائس الرسولية الشرقية بكنيسة روما، فتسبَّبَت بإنشقاق بعض الكنائس الشرقية وبإنشاء كنائسَ كاثوليكية رديفة.

وفي القرن السادس عشر، إنشقَّت الحضارةُ الغربية الجرمانية الى قسمَين، القسم الجنوبي الكاثوليكي الواردِ ذكره أعلاه والقسمِ الشمالي البروتستانتي الناتج عن حركة الإصلاح. ومن اللافت كثيراً للنظر أن الإصلاحَ البروتستانتي لم يفلحْ في فرض وجودِه الاّ في شمال نهر الراين الذي كان حدوداً للدولة الرومانية في القرون الميلادية الأولى. وفي هذا الأمر إشارةٌ الى أن الشعوبَ الجرمانية التي لم تغزو الإمبراطورية الرومية في الغرب لم تعتنقْ أو لم تقتنع بالكلية بالإيمان المسيحي الأرثوذكسي النيقاوي الخلقيدوني الذي كانت تشهرُه الكنائس البطريركية الخمسة وفي مقدمها كرسي روما، وبما يرافقه من تقليدٍ وطقوسٍ. لذلك، لما قويت شوكةُ تلك الشعوب الجرمانية الشمالية في القرن السادس عشر وإزدادت ثرواتها، باشرَت بالإنقضاضِ على روما وإنطلقَت متحرِّرة من كل رابطٍ تقليدي بالعالم الرومي. ومع مرور الزمن، إزدادَت الحضارة الجرمانية الشمالية بأساً وقوةً وشكّلت دولاً إمبراطوريةً في بريطانيا وألمانيا وأخيراً في وليدتها الحديثة أي أميركا الشمالية. وإزدادَت هذه الحضارةُ الجرمانية إندفاعاً فسيطرت على القارة الأوروبية بشكل الإتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، وتسعى الآنَ لإبتلاع أوروبا الشرقية وتدجين روسيا، وبذلك تقضي نهائياً على الحضارة الرومية الباقية.

  1. ثاني تلك الحضارات المصارعة للحضارة الرومية هي الحضارة الفارسية. منذ ما قبل المسيح، حاول الفرسُ التوجهَ غرباً، فخاضوا حروباً كبيرةً مع جميع الشعوب المقيمة الى الغربِ من نهرَي دجله والفرات. وإستمرَّوا في محاولاتِهم بلوغَ البحر الأبيض المتوسط في زمن الإمبراطورية الرومانية قبل وبعدَ تأسيس القسطنطينية. وكان لهم تأثيرٌ كبيرٌ على الثقافة الرومية بفعلِ الجوار والتبادلِ الإقتصادي والفكري. ومن هذه التأثيرات، إنتشارُ بعض العقائد والأفكار الدينية في المجتمعَين الروماني أولاً والرومي ثانياً كالزرادشتية والميثرائية والمانوية قادمةً من بلاد فارس وما بين النهرَين. ولقد خاضَ أباطرةُ الروم حروباً ضاريةً مع الجيوش الفارسية تخلَّلتها هدنٌ طويلةٌ وقصيرة. ومن أهمِّ الحروب الفارسية، الحرب الطويلة بين 602 و628 التي أتاحت للجيش الفارسي الوصولَ الى الساحل المتوسطيّ بل والى أسوار القسطنطينية حينما نجَت المدينة المتملكة بأعجوبةٍ من هذا الغزو  الفارسي وكانت بقيادة البطريرك سرجيوس فأنشدت الترتيلة الشهيرة "إني أنا مدينتَك يا والدة الإله".

وفي هذه الحرب الطويلة الأخيرة، أطبقَ الفرسُ على المدينة المقدسة أورشليم وإستولوا على الصليب المقدس ونقلوه الى عاصمتهم كطيسفون، ولم يسترجعه الروم الا بعد إنتصار فسيلفسهم هرقليوس على الفرس. ويجدرُ الذكرُ، في المقابلِ، بأنَّ المسيحية إنتشرت في المناطق الغربية من الدولة الفارسية منذ القرون المسيحية الأولى، لكنَّ مسيحيي بلادِ فارس إلتحقوا بمذهب نسطوريوس بعد المجمع المسكوني الثالث، فناصرتهم الدولة الفارسية ضد الروم وكنيستِهم فأنشؤوا كنيسة الشرق المدعوة حالياً "الأشورية" والتي عرفَت لاحقاً إزدهاراً كبيراً ووصلَ إنتشارُها الى أواسط آسيا والصين في العصور المتوسطة. وإنتشرت هذه المسيحية النسطورية في الخليج الفارسي أو العربي ما بين القرن الرابع والقرن السابع، ومنه إنتقلت دعوتُها الى شبه الجزيرة العربية وكانت ذاتَ تأثيرٍ واضحٍ في نشوء الإسلام لاحقاً.

أما بعد ظهور الدعوة الإسلامية وتغلبِها على الفرس والقضاءِ على دولتهم، فإنكفأ صراعُهم مع الروم ولم يعدْ لهم وجودٌ حضاريٌّ خاصٌ بهم حتى ظهور الدولة الصفوية في القرن السادس عشر. وفي هذه الفترة الطويلة أي بين القرن السابع والقرن السسادس عشر، كانت الدولة الرومية قد إنهارت وباعدَ الأتراك بين الفرس والروم فأنتهى الصراعُ بينهما حتى يومِنا هذا.

  1. ساهمت الحرب الرومية الفارسية الطويلة في مطلع القرن السابع بخرابِ بلاد ما بين النهرين والمشرق، وأضعفت كلَي الجانبين. وترافقَت مع ظهورِ الدعوة الإسلامية في الحجاز والتي نتجَ عنها تكوّن الحضارة العربية الإسلامية التي أضحَت من أبرز الحضارات التي تصارعت مع الحضارة الرومية. فالحجازُ كان موطناً لمجموعاتٍ كبيرةٍ من اليهود والنصارى الذين جاؤوه من الشمال أي من بلاد الأنباط بعد تدميرِ أورشليم في سنة 130 وطردِ الرومان لليهودِ من فلسطين. ولقد نقلوا الى مكة ومدن الحجاز الأخرى الكتابَ المقدس والعديدَ من الشرائع والتقاليدِ الناموسية التي طبعَت وجودَهم هناك. وجاءت الدعوة المحمدية كطفرةٍ من هذا التراثِ التوحيدي، منتسبةً الى إسماعيل إبن إبراهيم من هاجر، وتغلّبت سريعاً على اليهودية في الحجاز وقضت على النصرانية (ومن غير الواضح إن كان النصارى الواردُ ذكرُهم في القرآن هم المسيحيون المؤمنون بالعقيدة النيقاوية أو النسطورية أو الخلقيدونية، أم هم اليهود الذين آمنوا بالمسيح منذ القرن الأول وهجروا أورشليم والأراضي المقدسة بعد سنة 130، وكانوا يعتمدون على الإنجيل العبري دون سواه من أسفار العهد الجديد والذين وردَ ذكرُهم مع الإبيونيين في كتاب بناريون للقديس إبيفانيوس القبرصي). في كل حال، تمكّن العربُ المسلمون، بسبب الوهنِ الذي أصاب الرومَ بعد حربِهم مع الفرس وخرابِ بلاد المشرق، من إحتلال بلادِ المشرق ومصر وشمال أفريقيا. عندها، بدأ الصراعُ الطويل والقاسي مع الحضارة الرومية، وتمكنَ العربُ المسلمون من إحكام قبضِتهم على هذه المناطق، وحوَّلوا المسيحيين الروم الباقين فيها الى أهل ذمةٍ جُرّدوا من العديد من حقوقِهم. وتعاون العربُ في حروبِهم مع الروم ثمَّ في نهضتِهم الثقافية والعلمية بالطوائف المسيحية المنشقة، وأعني بهم السريان والأقباط والنساطرة دون أن يسلمَ هؤلاء لاحقاً، وفي فتراتٍ مختلفة، من الضيقاتِ والإضطهادات التي فرضَتها بعض الخلافات الإسلامية.

إن الصراعَ الرومي العربي عادَ بفائدة كبيرةٍ على العرب الذين فرضوا لغتهم وثقافتهم على البلاد التي غزَوها والذين أنشؤوا حضارةً مميزةً غنيةً بالعلوم والفلسفة والآداب، لكنَّ الروم الذين قُهروا تراجعوا كثيراً بسبب هذه الهجمة العربية، وتضاءلَ تأثيرهم في المشرق ومصر وأفريقيا الشمالية، وتناقصَت أعدادُهم الى ما هي عليه اليوم في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن ومصر، وغابوا كلياً عن شمال أفريقيا. ولم يتوقفْ الصراعُ بين العرب والروم الاّ عندما دخلَت معتركَ المنافسةِ قبائلُ الأتراك القادمة من وسط آسيا.

  1. والحضارة الأخيرة التي صارعت الحضارة الرومية هي الحضارة التركية التي نشأت وتطوَّرت عند القبائل الطورانية القادمة من وسط آسيا. فالمغول والأتراك وشعوبٌ أخرى أقلُّ عدداً كانت تسكنُ ذلك الوسط الجغرافي ومنه إنطلقت غرباً منذ القرون المسيحية الأولى. تمكَّن الرومُ منها في البدء وطرَدوها أو سمحوا لها بالإستيطان في أراضٍ تابعة لهم، ومنهم الآفار والهنغار والخزر، لكنَّ الأتراكَ السلجوقيين الذي قدموا لاحقاً إعتنقوا الإسلامَ في طريقهم الى الأناضول وما بين النهرين والمشرق ومصر، وأصبحوا دعاةً للإسلام ممتزجين حيناً بالعرب ومتسلطين عليهم أحياناً أخرى. وعند وصولِهم الى مشارف الأناضول، إصطدموا بالروم، فجرت المعركة الشهيرة في منزيكرت في سنة 1071، أسفرت عن إنتصارٍ باهرٍ للأتراك السلاجقة. منذ ذلك الحين، بدأ الغزو التركيُّ لبلاد الروم الباقية بعد الإحتلال العربي، وأضحى الصراعُ التركيُّ الرومي سمةً دائمةً من سمات الألفية الثانية. لم ينتهِ صراعُ الروم مع الحضارة التركية بسقوطِ القسطنطينية في سنة 1453، بل إمتدَّ الى يومنا هذا: فلقد تمكنَ الأتراكُ من تتريك كافةِ مناطق الأناضول وأسلمتِها، ونقلوا الصراعَ لاحقاً الى أوروبا الشرقية البلقانية واليونان، وإشتبكوا في حروبٍ عديدةٍ مع الروس الذي دخلوا ومعظمَ السلافيين في الحضارة الرومية. ومن أحدثِ الصراعات بين الترك والروم المجازرُ التي إرتكبت في نهاية الدولة العثمانية بحقِّ مسيحيي الأناضول وإحتلال شمال قبرص في سنة 1974 وطرد بقايا المسيحيين في القوقاز (ناغورني كاراباخ) ودعم الدول الإسلامية الناشئة في البلقان كبوسنيا وكوسوفو.

لكنه من الواجب أيضاً أن نلاحظَ بأن الحضارة التركية قد إقتبسَت الكثيرَ الكثيرَ من الحضارة الرومية بفعل الجوارِ والإحتلالِ والتبادلِ الثقافي والإقتصادي وتتريكِ الشعوب الأصلية المقيمة في البلاد التي غزاها الأتراك.       

     في كلِّ ما رويت بإقتضابٍ يتبين لنا بأن صراعَ الحضارات مستمرٌّ الى اليوم دون هوادةٍ، وهو يتسِّمُ في الوقت ذاته بالسلبية والإيجابية. هو سلبيٌ بقضائه على وجود حضاراتٍ وعلى سماتِها وتقاليدها، وهو إيجابيٌّ بفضل التبادل بين الحضارات في كلِّ أوجهِ الوجود البشري. لكنَّ الحقيقة المرّة التي لا مفرَّ من قبولها فهي أن الحضارة، كلَّ حضارةٍ، مدعوةٌ للصراعِ من أجل البقاء، والصراعَ يفرضُ القوةَ المعنوية والمادية، أي الديمغرافيا الوازنة والقوة الإقتصادية والقوة العسكرية والقوة الإيمانية والقوةَ العلمية، قوىً كلها مجتمعةً داعمةً للوجود.

وأخيراً، أشكركم لمشقّةِ حضورِكم وللوقتِ الذي خصّصتموه لهذه الندوة، راجياً أن تكون مفيدةً في إستكشافِ حقائقَ مغيّبةٍ وفي خلقِ صورةٍ جامعةٍ لحضارةٍ تعدّدَ خصومُها وسعوا في محاولاتٍ كثيرةٍ لتفتيتِها وتهميشِها وتجهيلِها، فكانوا أحياناً خاسرين، وللأسفِ أحياناً أخرى كثيرةٍ مقتدرين منتصرين، راجياً أن يكونَ المستقبلُ أكثرَ إشراقاً وثراءً وسلاماً. 

____________________________________