ندوة حول كتاب الدكتور نبيل أبو مراد: " شحرور الوادي"

تقديم نبيل أبو مراد
 
من الجامعة اللبنانيّة و الدراسات العليا في الفنّ الدراميّ، إلى جامعة باريس وشهادة الدكتوراه في الدراسات المسرحيّة، إلى دكتوراه اللغة العربيّة من الجامعة اللبنانيّة.
بينَ الدراسات المسرحيّة، والأدبيّة، والتعليم الجامعيّ في عدّة جامعات إلى جانب الجامعة اللبنانيّة، والتّمثيل مع الأخوَين رحباني، وفي التلفزيون، والسينما، والإخراج، تعَملَق صديقي الدكتور نبيل أبو مراد. وأتى جديدُه "شحرور الوادي" فَتحًا غير مسبوق في دراسة نتاج شاعر استثنائي، فتحَ باب الزّجل فَتحة كاملة، سائرًا به نحو نهضة زجليّة، تَجلَّت بدايتُها مع المنبر الذي أسّسَه.
نبيل أبو مراد، الناقد، والباحث، والمؤلّف في المسرح، والأدب، والزَّجل، هو حارسُ الذاكرة الزجليّة بامتياز، والعارفُ على بَحث ومُعايَنة ومُعاصَرة، حكاية الزّجل منذ أن كان براعم في أغصان الحناجر إلى أن تدلّى عناقيدَ ونبيذًا.
يا ابنَ وادي شحرور، نحن أسرى صوتِك وجَناحَي شَحرورِك.
 
بِقلم نبيل أبو مراد
يرفّ شحرور الوادي إلى الأبد
 
يرُوقُ للقلمِ أن يكونَ بينَ أصابعِهِ مثلما يرُوقُ للماءِ أن يكونَ بينَ أصابعِ غيمة. وإنْ رفَعَ القلمُ له قبّعتَه، فإنّ لكلِّ عشقٍ سببًا يجُودُ عليه بالعمرِ الطّويل. فإنّ هذا الممتلِئَ حبرًا يفرحُ لكلمةٍ تستحقُّ سوادَه المضيء، ويبكي لِكلمةٍ يَحملُها سُخرةً على ظَهرِه. لقد نقَلَ إليَّ قلمُ نبيل أبو مراد حُبَّه بالعَدوَى، وصار كلّما دعا سِربَ كلامٍ ليحُطَّ على سطورِ دفترِه، وجَدَ اثنَين يرفعانِ له القبّعةَ: قلمَهُ، وأنا.
لم يكنْ من السّهلِ اللّحاقُ بشحرور الوادي، وإحصاءُ رَفّاتِه في فضاءِ الجمالِ الرَّحب، وليس من السّهل غربَلةُ ريشاتِه، وإعطاءُ كلِّ ريشةٍ حقَّها، ومعرفةُ قُدرتِها على أكْلِ رأسِ الهواء. لكنَّ نبيل أبو مراد، الآتي من بيئة شحرور الوادي جغرافيًّا وعاطفيًّا، والحاملَ قلمًا على خبرةٍ وثقافةٍ كبيرتَين، مضى إلى شحرورِه الحبيب، وصادَه على دِبقِ مِحبرتِه، فهنيئًا لك يا شحرورَ الوادي بِصَيّادٍ نبيلٍ، تزدادُ الطّيورُ الفريدةُ معَهُ بَهاءً وعُمرًا.
لم يُخفِ صديقي الباحثُ أنّه تَهيَّبَ دعوةَ شحرور الوادي إلى مملكةِ التّحليلِ والدّراسة، وأجَّلَ دَعوتَه هذه سنَواتٍ وسنَواتٍ، وما هذا التَّهيُّبُ إلّا احترامٌ لِكرامةِ القلمٍ النَّبيليّ، وفي الوقتِ نفسِه اعترافٌ بعبقريّةِ شحرور الوادي النّادرة، وثَراءِ نِتاجِه، وما هذا التّهَيُّبُ المُعلَنُ بشجاعةٍ إلّا أجمَلُ بابٍ يَلِيقُ خشبُه السّنديانُ بالدّخولِ إلى فردَوسِ شحرور الوادي.
ظهَرَ أسعد خليل الفغالي في مرآة نبيل أبو مراد "سيزيف" الزّجَل اللبنانيّ، الذي أَوجَعَ "سيزيف" الأسطورة، عندما تمكَّنَ من إنزالِ صخرتِه الذهبيّةِ عن ظَهرِه وإثباتِها تاجًا على رأس جبَلِ الزّجلِ اللّبنانيّ.
وفي مرآة أبو مراد المشغولةِ فِضَّتُها بفَيضٍ من معرفةِ الزّجلِ منذ أن حَبَا طفلًا على حريرِ حناجرِ الزّجّالين إلى يومِنا، تَبدو صخرةُ شحرور الوادي ذاتَ أضلاعٍ كثيرة، ومنها:
١ - أنِ استأذَنَ فُصحَى العرَبِ، ونَصَحَها بألّا تتفاجَأَ حين ترى قصيدتَه تتّجِهُ صَوبَ الإنتماء إلى اللّغةِ المَحكيّةِ أكثرَ من قبل، باعتبار أنَّ قاموسَ   الزّجَلِ هو في صُدورِ أهلِنا.
٢- أنْ خَلَّصَ الزّجلَ من قلّةِ الوفاءِ للوزن، بعد أن درَجَ الزّجّالون الأوائلُ على الإستعانةِ بالتّنغيم لإخفاءِ الكَسْرِ، ومع شحرور الوادي لم تعُدِ الحَنجرةُ مُجَبِّرًا عربيًّا للأبياتِ الساقطةِ عن سطوحِ الأَوزان.
٣- أنْ تابعَ تأثّرَه بأبيه الزّجّال خليل سمعان، الذي لم يُصبِحْ "الخوري لويس" قَبْلَ أن يتيقَّنَ من أنّ الدفّ في يدِهِ سيُقيم القدّاساتِ الإحتفاليّة الكبيرة على مذبح الزّجل، فحمَل شحرور الوادي الدّفّ إلى المنبر، مؤسِّسًا أُولى الجوقات الزّجليّة، لِيكُونَ صاحبَ الفضلِ في بدايةِ نهضةٍ زجليّةٍ، لم يَنجُ لبنانيٌّ واحدٌ من غيومها التي طافَت قوافي "من فَقْش مَوج الأزرَق لْ صِنِّين".
ليس يطاوِعُني الوقتُ، لأُهجِّئَ صخرةَ سيزيف الزجلِ اللبنانيّ ضِلعًا ضِلعًا، كما تألَّقَت في مرآةِ صديقي نبيل أبو مراد، الخبيرِ المحلَّفِ في كلِّ شؤونِ الزّجلِ اللبنانيّ... ويبقَى أن أشهَدَ بأنّ قلمَ أبو مراد في شحروره أمسَكَ بماءِ عينيّ من أَلِفِ الصّفحةِ الأُولى إلى ياءِ الأخيرة، وأنا مأخوذٌ بهذا الباحثِ الدّارسِ كيفَ يستعِينُ بأكثرَ من مَذهبٍ وطريقةٍ في دراستِه، بِلا أن تقيِّدَه سلاسلُ المناهجِ النقديّة، إذ يعطي الأولويّةَ للنصّ الشّحروريّ، ولِما في صدرِه هو من رغبةٍ في البَوحِ الذي يأتي مَلاكًا على قونةٍ، أو أحمرَ على قرميد.
 
قزحيا ساسين
إنطلياس، الأربعاء ٦ آذار ٢٠٢٤
 
 
تقديم هنري زغيب
 
تَخَصّص في اللغة العربيّة وآدابها، وعلّمها بضع سنوات. وفي أميركا حاضَر في جامعة جورج تاون، وجامعة فلوريدا. غيرَ أنّ القصيدة أخذَت بيده من أوّل الطريق وأبَت أن تتخلّى عنه، فكان شاعرًا،  تحت قرميد العربيّة، والمَحكيّة، وأسّس مجلّة الأوديسا الشعريّة، وأصدرها لِسَنتَين، والتزم قلمُه بالمَقال الصّحافيّ، في جريدة النّهار، بعدما حضرَت كلمتُه في مجلّة الحوادث، ومجلّة الصيّاد، حيث تولّى رئاسة القسم الثقافيّ في كلتَيهِما، كما جال في عالَم السِّيرة، والترجمة، وكان إنجازَه الأخيرَ فيها ترجمةُ نَبِيّ جبران.
الشاعر الصّديق هنري زغيب،  المنبر لكلمتِك
 
 
 
تقديم جان توما
 
يَحمِل شهادةَ الدكتوراه في اللغة العربيّة، هو أستاذُها في عدّة جامعات لبنانيّة، ويَشغَلُ منصبَ رئيسِ قسم اللغة العربيّة في جامعة الجنان.
له نِتاج أدبيٌّ كبير، تخَطّى العشرين كتابًا، على قيمة إبداعيّة ومعرفيّة، إذ توزَّعَت كتاباتُه بين ضفّة الخَلق الأدبيّ، والدراسة الأدبيّة، والتاريخ...
إبنُ مدينة الميناء، طرابلس، في صَوتِه سَفَرٌ إلى جُزُر الجمال البعيدة، وفي وجدانِه قلمٌ يرتفع صاريًا، وورقة ترفّ شراعًا.

 

الكلام للدكتور الصديق جان توما
 
_______________________________________
 
كلمة د. جان توما في ندوة د. نبيل أبو مراد
 

نبيل أبو مراد:  شُحرور الوادي (1894 -1937) [1]

نبيل أبو مراد، من كلّفَكَ أن ترميَ كلَّ هذا الإرثِ الجماليِّ العاميِّ أمامَنا، وتلغي الدروبَ، كأنّكَ أَزَحْتَ بهذا الغنى الإبداعيِّ حجرَ القبرِ لقيامةٍ مرجوّةٍ، وقدْ دَمَّلَ صليبُ البلدِ أكتافَنَا وأدماها. كيف طلع ببالك ترمينا ع البيادر ع التلج، بزمن الضيعة الحزيني. رديتنا لحدود الدني، الي صارت دارة ويا دارة دوري  فينا.

شو بدك تتخبرنا سنة ١٩٧٤ بلولو عن حياتنا انو" البلد كلها ضدك وعم بتآمروا عليك"؟ شو بدك تتقول لحياتنا:" بعطيك دوا بروق يهدي " وتقلك" يعني انعس ونام" ليش" ت يسبقني الزمن وارجع لاقي كل شي تغير واركض خيّل بلكي بلحق العمر الي هرب"، تهمتك سنة ١٩٧٤ انك مجنون، يا ريتك جننتنا وقتها معك ونصحى بس يظبط هالبلد"، ومنرجع ع كتابك، انت ما هديتني كتاب، انت هديتني وردة، فرجيتا لصحابي، خبّيتا بكتابي، زرعتا عالمخدّة، هديتك هاي مزهرية رح نداريها و نعتني فيها  لانو لبنان ونحنا فيها. وبعدين ...

 

نبيل أبو مراد أًعَدْتَ الإيقاعَ إلى دَفِّ الشُحرور، منذ أنْ أَرَاكَ ابْنَهُ أشياءَهُ، ومنها الدَفُّ، لعلَّ الدَفَّ هو الأشياءُ كلًّها. " فهو "الذي كان يخشخشُ فيه على المنبر"(ص 10). نقولُ معكَ الليلةَ يا شُحرور: " قللي شو مخلاك طيّب/ صوتَك وفنونَك والدّفْ/ كلّ ما بايدك رَنّ وخشّ"( ص 100).

جاءَ كتابُ نبيل أبو مراد ليؤكّدَ أنَّ كُتُبَ الشُحرورِ ووالدِهِ تُعَدُّ " مرجِعًا ثمينًا خصوصًا في تقصّي تجربتِهِما الشعريةِ والمتفرّدةِ في زمانها" ( ص11)، كما تميّزا بموسوعيّتِهما، لذا عَبَرَ نبيل أبو مراد حقلَ ألغامٍ في نقدِهِ الأدبيِّ  متأرجحًا بين المطبّاتِ كي لا تَعْثُرَ رِجْلُهُ بدفٍّ، فتنقّلَ كالأيّلَ طافرًا بين جلولَ مناهجَ التحليلَ الموضوعيَّ والأسلوبيَّ وصولًا إلى التأويليِّ، فالتأريخيِّ، فالاستقرائيِّ، والمقارنِ، ومنهجيّةٍ عمليّةٍ ومرنةٍ، فالمنهجِ النقديِّ (ص11-12).

من أكاديميّتِهِ البحثيّةِ هذه، طَرَحَ نبيل أبو مراد المسألةَ الأدبيّةَ، في التحوّلَ النقديَّ من الثنائيّ: المؤلِّفِ/ النصِّ إلى عَلاقةٍ ثُنائيّةٍ جديدةٍ هي النصُّ/ القارىءُ ليكرِّسَ ما أَنْتَجَهُ المنبرُ الزجليُّ من ثُنائيّةٍ جديدةٍ هي الزجلُ/ الحضورُ(ص 12)، متناولًا قضيةَ" العاميّةَ والفصيح"( ص19)، وناقلًا "ما نَبَّهَ الشُحرورُ إليه في مسألةِ الفصحى، في ما بعد، واعتبرَ أنَّ دخولَها إلى الزجلِ يسبّبُ بلبلةً في لسانِهَا وتركيبِهَا، (ص21)، رابطًا ما بين اللغةِ واللسانِ، إضافةً إلى سلامةِ الإيقاعِ والوزنِ: " لسان الإنسان حصانو/ وقوة شِعرو ميزانو/ والبيكون شِعْرو مكسور/ انشالله بينقصّ لسانو" (ص 23)، فماذا يقولُ اليومَ، لو عادَ، عن تفصيحَ العامّيةِ؟!

هذا الإرثُ الذي حمّلَهُ الوالدُ خليل سمعان فرح الإفغاليّ الشُحروريّ لابنِهِ أسعد الخوري فغالي كان بساطَ ريحِ الشُحرور للعلوِّ الشعريِّ الزجليِّ، وبقي محلّقًا باجنحتِهِ غيرِ المتكسّرَةِ على الرَّغمِ من القولِ "عندما ارتسمَ والدُه كاهنًا: ماتَ الزجلُ (ص 28). لذا بدا واضحًا دورُ الوالدِ في تلمذتِهِ لابنِهِ، ولعلَّ الشُحرورَ كَرَجَ حجلًا في كرومِ الزجلِ، فما انتشى إلّا لَمّا أنشأ جوقتَه التي حملت لواءَ الزجلِ، فكانت عاميّةُ الشِعرِ العاميِّ، ارتجالًا وإنشادًا ونقرةَ دفٍّ، فصار الوادي بشُحرورِهِ جبلًا، وصار الشُحرورُ نسرًا يجوبُ أوزانَ الشِعرِ العاميِّ ويعملقُهُ.

أسَّسّ شُحرورُ الوادي جوقتَهُ عام 1928م، وفي مصادرَ أخرى 1925م، ويُرجِّحُ أبو مراد 1924م. همُّهُ كانَ إنشاءَ المنبرَ الزجليَّ، (ص 54)، يومَ لم تَكُنْ مُفْرَدَةُ "المِنصّةِ" التقنيّةُ واردةً، فزمنُهُ كان زمنَ أَنْسَنَةِ الكلمةِ المغناجةِ على الشفتينِ ونفرةِ الأصابعِ على الرِقِّ، لا على شاشة إلكترونيّة. لذا "كتب أمير الشعر الزجليّ رشيد نخلة، الذي بويع عام 1933م، صكّ خلافة الأمارة لشُحرور الوادي من بعدِه"ِ. (ص62).

         من إمارة الوادي دعا الشُحرور إلى "التمسّكِ بالعاداتِ والتقاليدِ اللبنانيّةِ، فمن أُوْلَى أبياتِهِ: بالبلدان المعمورة / بِمحَلات المشهورة/ بِكْرَه رقص الشارلستون/ وبهوى مَشق الزعرورة/ (ص 57)، كما تميّزَ "بإطلالاتٍ على الشؤونِ المدنيّةِ والأخلاقيّةِ والسياسيّةِ، كما على مسائلِ العاطفةِ الإنسانيّةِ وما تعنيه من التآزرِ مع الآخَر، ومدِّ يدِ العونِ إلى المُعْوَزِ واطلالاتٍ على أمورِ الدينِ ووجوبِ احترامِ مبادئِهِ"(ص 76)، لذا شَغَلَهُ موضوعُ الوطنِ والوطنيّةِ والنقدِ الاجتماعيِّ (ص13)، من هنا نفهم ُوَجَعَهُ "لمّا سافرّ إلى البلقانِ بسببِ عَمَلِهِ في السكّةِ الحديديّةِ، ولمّا وصل إلى مدينةِ سالونيكَ سَمِعَ صوت والدِهِ بالفونوغرافِ يمثّلُ دورَ معنّى وقصيدٍ وقرّادي مع جوقةٍ "فَأَخَذْتُ أبكي من فَرَحي" (ص 80)، من هذا الجرحِ اللبنانيِّ نَدَهَ الشٌحرورُ وَغّنّتِ الشُحرورة :"واقفة ع البحر، بكّأني السفر"( ص 137)، فجاءَ "الزجلَ بابًا من أبوابِ الأملِ، ولبثِّ الرّجاءِ في روعِ الناسِ الذي قد يدفعُ بهم اليأسُ إلى هجرةِ وطنِهِم" (ص 103)

يُوضِّحُ نبيل أبو مراد في تحليلِهِ أنّ "قصيدةَ الشُحرورِ نوع ٌمن السردِ الإخباريِّ البسيطِ تَوَسَّلَهُ الشاعرُ لينقلَ تجربةً معيّنةً بقالبٍ خاصٍ من قوالبِ التعبيرِ وهو القصيدةُ- الحكايةُ بأسلوبٍ يجمعُ تشويقَ الحادِثَةَ إلى بساطةَ النَّظْمِ، إلى رشاقةِ التصويرِ وعفويةِ العبارة" (ص83)، وهي مشهديّةٌ صورٍ من جغرافيّةٍ الطبيعةٍ والوادي والرّيف، فهو يذكُرُ عينَ الديكَ، رتلَ الصبايا، جارةَ الفغالية، بساتينَ الوادي، شُورةَ الرّمانِ، جهةَ الشحّار( ص 97).

لقد أبرزَ نبيل أبو مراد "شُحرور الوادي شاعرًا ملتزمًا بقضايا الإنسانِ، شأنُهُ شأنَ كلِّ شعراءِ الزجلِ بأهميّةِ تقديمِ مفاهيمَ مثلِ الحريّةِ والسيادةِ والاستقلالِ وتعزيزِ الكرامةِ الوطنيّةِ، كما يؤكِّدُ على دورِ الأخلاقِ والنظامش والاتحادِ في ورشةِ تحصينِ الأوطانِ".(ص116)، إضافةً إلى تناولِهِ موضوعاتِ الغزلِ والرثاءِ ونقدِ العاداتِ الغربيّةِ والدعوةِ إلى التآزرِ الاجتماعيِّ ونقدِ الوضعِ الاقتصاديِّ( ص263)، إذ كان رائيًّا للأحوالِ في عهدِهِ، والمستمرّةِ من 100 سنةٍ تقريبًا إلى اليوم، فانتقد أوائلَ الثلاثينيّاتَ قَطْعَ الكهرباِء وغلاءِ الأسعارِ(ص115)، فنراه يقولُ في الوضعِ الاقتصاديِّ يومَها:" بليونا فيها بالغِشّ/ وقادونا عالعمياني/ خدعونا ورضيونا بعِشْ/ وخربو بيوت العمراني/ قشّوا الذهب منا قَشّ/ وشحنوا البنك العثماني/ ملايين ورق ماش ومِش/ طلوع ونزول نزول وطلوع/ رفّ الوطواط غطّ وطار/ (ص 128).

         إنّ قراءةَ كتابَ شُحرورَ الوادي يُصْعِدُك إلى المنبرِ الزجليِّ الذي حَلَمَ بهِ وسعى إليهِ، إذ ثَبَّتَ أبو مراد الشُّحرورَ رائدا من رواد النهضةِ الأدبيّةِ إذ تراهُ اليومَ من جديدٍ، ماشي بالقاودميات، عم يلملم حبّات البلوط، بيدبّغ صابيعو بالتوت المرتاح ع حجارة البساتين، ما بزعّل طوب التين، بيسرق حبتين، بيغسلهم ع نبع العين مع عنقود العنب الحرزان، بيتطّلع بالضو، بالريح  الطالع من الوديان، بيغريهم من اللوز بحبة، ومن العنّاب بحبتين من الكرم إلي كان ، قبل ما ركبوا عربيات الوقف وهربوا بس... برّات النسيان.

_______________________________________

كلمة د. نبيل أبو مراد في ندوته

             مساء الخير، وأهلاً وسهلاً بكم جميعاً، وشكراً على حضوركم.

واسمحوا لي بداية أن أرحب بالأستاذ نبيل أسعد الفغالي ابن الشحرور، الذي أحبَّ أن يشاركنا في هذه الأمسية. وأغتنم الفرصة لأشكره على كل ما زوّدني به من معلومات حول تاريخ العائلة وحول جده خليل سمعان الفغالي الذي عاش في كنفه ردحاً من الزمن بعد وفاة الشحرور المبكرة. ولا شك في أن ديوان الشحرور الذي أعاد  الأستاذ نبيل جمعه ونشره سنة 2000 بعد أن نفد ولم يعد من اليسير الحصول على الطبعة الأولى منه التي كان خليل سمعان قد أصدرها سنة 1939، ولو لم يُقدم نبيل على إعادة نشر الديوان بحلته الجديدة لربما كانت آثار الشحرور الشعرية قد ضاعت ،أو على شفير الضياع. وقد شكل هذا الديوان لنا المصدر الأساس لدراسة أشعار الشحرور على المنبر وخارجه فشكرا للأستاذ نبيل على مبادرته الصحيحة في الوقت الصحيح.

        كما أود أن أرحّب أيضاً بالجنرال جورج روحانا الفغالي صديقنا وجارنا في وادي شحرور، وهو باحث ومؤرخ ،وقد زوّدنا أيضا بالمفيد من المعلومات حول الشحرور لا سيما وأن جدّه خليل يوسف حبيب كان شاعرا وقد غنى الزجل مع خليل سمعان. وكان الجنرال جورج قريبا وجارا للشاعر أنيس روحانا رفيق الشحرور، يزوره من وقت لآخر ويلتقي عنده بالشاعر علي الحاج وتدور الأحاديث في معظمها عن الزجل وعن مآثر الشحرور.

        ونواصل الشكر أيضا للحركة الثقافية التي فتحت لنا أبواب هذا الصرح العابق دائما بأريج الثقافة والمرافق لمسار الحضارة والانفتاح والرقي.

        والشكر موصول أيضا الى دار النهار للنشر بشخص مديرها سعادة المحافظ زياد شبيب الذي وافق ورحب بنشر هذا الكتاب ليكون أول بحث في الزجل تصدره دار النهار.

        ولا ننسى بالطبع أن نشكر الأساتذة هنري جان وقزحيا لموافقتهم على المشاركة في قراءة الكتاب قراءة نقدية متروية، وعلى ما قدموه من اضاءات ثرية مكتنزة بالعلم والخبرة ومقترنة بمحبتهم التي نبادلهم بها بالمثل بالتأكيد.

        سنة 2017 وضعتُ كتاباً عن الشاعر موسى زغيب بطلب وبموافقة رئيس الجامعة اللبنانية آنذاك الدكتور عدنان السيد حسين الذي كان له الفضل في ادخال الزجل من ضمن دراسات ومنشورات الجامعة اللبنانية.

        واليوم نضع هذا الكتاب عن الشحرور. وقد جاءت رغبتنا في اعادة التجربة في الدراسات حول الزجل لقناعتنا بان الزجل ميدان شعري قديم وعريق وتراث غني بامتياز، بل هو من اهم التراث الشفاهي بعد الفولكلور. ومن دون العودة الى البدايات مع الأشلوحي وغيره فان الحقبة الوسيطة قد أفرزت لنا مجموعة من الشعراء أمثال: منصور صافي نصر وأمين أيوب ورشيد نخله وخليل سمعان ومنصور شاهين الغريب والياس الفرّان وغيرهم العشرات. ثم جاء الشحرور في بدايات القرن العشرين وأسهم في هذه الحركة الشعرية وأنتج الكثير قبل أن يؤسس المنبر ونظم القصائد الطوال ذات النفَس الملحمي مثل المطوّلة عن الحرب العالمية الأولى سنة 1920 التي تتألف من أكثر من ثمانماية بيت ،وقد وجدناها  في كتيّب كان خليل سمعان ( الذي أصبح اسمه الخوري لويس بعد أن ارتسم كاهناً سنة 1911)  قد نشره سنة 1922 ودرسناها وحققناها وقسّمناها الى لوحات مرقمة وأعطيناها عنواناً لأنها كانت بلا عنوان وهو: لبنان في الحرب العالمية الأولى، تجربة ملحمية بالزجل اللبناني ونشرها مركز فينيكس للدراسات اللبنانية في جامعة الروح القدس- الكسليك. وبالمناسبة فان لخليل سمعان أيضاً تجربة ملحمية بالزجل بعنوان: الفارس الشهير الطائر الصيت المرحوم يوسف بك كرم، لا تاريخ للطبع، ولكن نقدّر أنه في العشرينيات من القرن العشرين.   اما المبادرة الأهم التي أقدم عليها الشحرور فهي تأسيس جوقته الأولى سنة 1924 مع الشعراء أمين ايوب والياس القهوجي ويوسف عبدالله رزق الله الملقب بيوسف الكحاله وكان يشارك معهم من وقت لآخر سليم الفران. قبل أن تتركز الجوقة سنة 1928 على شعرائها المعروفين والثابتين علي الحاح وأنيس روحانا وطانيوس عبدو الى جانب الشحرور ثم انضم اليهم في ما بعد اميل رزق الله.

        وبتأسيس الجوقة الأولى فُتح الباب لولادة عشرات الجوقات، منها خمسٌ على حياة الشحرور. وتوسّعت الدائرة الشعبية للزجل، وأصبح في متناول الجميع بعد أن كان محصورا في الحفلات المنزلية المغلقة، ودخل الى وجدان الناس بسهولة والى ذاكرتهم التي حفظت منه الكثير الكثير وأكثر مما تحفظ من الشعر الفصيح بكل تأكيد. وظهرت المجلات المتخصصة بالزجل وكذلك الروابط والنقابات، وسافر الشحرور وفرقتُه الى مصر فاتحاً الطريق أمام الشعراء اللاحقين للذهاب الى بلدان الاغتراب في ما بعد ناقلين هذا الفن الشعبي الى اقاصي الأرض. وهكذا أصبح الزجل حالة شعبية واسعة تردد صداها ليس فقط في لبنان بل وفي البلدان العربية القريبة منها بشكل خاص كما الى المغتربين الذي نشطوا بدورهم في تأسيس الجوقات الزجلية وفي إصدار مجلات متخصصة وكانت أزجالهم تحث أهل الاغتراب على استذكار وطنهم على الدوام وإبقاء جذوة محبته برّاقة في وجدانهم.

هذه النهضة العارمة التي تسبب بها الشحرور لم تلقَ مع الأسف من مؤرخي ودارسي عصر النهضة الأدبية والفكرية في لبنان أي اهتمام يذكر؛ علماً ان هذه النهضة كانت تسير جنبا الى جنب مع أدباء عصرها في منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ومع ذلك فلم يتبّه المؤرخون الى الشعر الزجلي المرافق أو ربما نظروا اليه بنظرة فوقية حتى لا نقول جاهلة ومتجاهلة.

        وليس هذا وحسب فان نهضة أدبية وفنية أخرى أكثرُ غنىً من الحركة الزجلية كانت تواكب أدباء وشعراء زمانها هي النهضة المسرحية تأليفا وترجمة وعروضاً وتأسيسَ مسارح وفرق مسرحية ونشوء نقابات. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر مع مارون النقاش حتى منتصف القرن العشرين برز عندنا عشرات وعشرات الكتاب وضعوا أكثر من ثلاثماية وخمسين نصا نثرا وشعرا نملك أسماء مؤلفيها وعناوينها، ومنها مسرحيات شعرية بالكامل درسنا وحققنا إثنين منها لالياس طنوس الحويك ونشرتها جامعة الكسليك سنة 2012، وكان معظم هذه المسرحيات يُطبع ويُمثل على مسارح بيروت الجميلة والحسنة التجهيز، ومسارح الجامعات والمدارس. ونقل اللبنانيون هذا الفن الى مصر فذهبوا بفرقهم الى هناك وأسسوا فرقاً جديدة وجاءت الفرق المصرية مع يوسف وهبي ومنيرة المهدية وعلي الكسار وأمين عطالله وغيرهم الى لبنان وقدموا اعمالهم فيه، بل وكانت فرقة الكوميدي فرانسيز الفرنسية الشهيرة تأتي الى لبنان كل سنة تقريبا إبان الوجود الفرنسي وتعرض اعمالها في الغران تياتر والكريستال... هذه الحركة النهضوية الجياشة بالمعنى الأدبي والفني وبكل الأبعاد لم يتفضل عليها أيضاً مؤرخوا عصر النهضة ونقادُه بصفحة واحدة ذات قيمة، ولم يتناولها أحد بالدرس، علماً أن بعض أدباء لبنان امثال جبران ونعيمه وعبود وابي شبكة وفرح أنطون كتبوا مسرحيات. ولم تدخل في مجال الدراسات الأدبية.  وقد كنت في زيارة متحف مارون عبود في عين كفاع منذ شهرين تقريباً، ويواجهك حين تدخل أعداد الكتب التي وضعها عبود معروضة بأغلفتها في واجهة خاصة وليس فيها المؤلفات المسرحية علماً أن لمارون عبود تسع مسرحيات منشورة في جزء خاص مع مجموعة مؤلفاته، ولما سألت المشرف على المتحف لماذا لا تعرضون مؤلفات عبود المسرحية وله تسع منها قال لي بكل صفاقة الذين نظموا المتحف اعتبروا أن هذه المسرحيات أقل قيمة من المؤلفات الباقية. هذه هي النظرة بالضبط التي نظر فيها مؤرّخوا عصر النهضة الى المؤلفات المسرحية عندنا.

        هذه ليست ثغرة في التأريخ لعصر النهضة الأدبية والفكرية والفنية عندنا، وليست هفوة انها هوّة سحيقة بكل المقاييس ويجب ردمها، فلا يجوز، ومن غير المقبول علمياً وتاريخياً وأخلاقياً بعد اليوم ان نتحدث عن عصر النهضة الأدبية في لبنان من دون الحديث عن النهضة الزجلية التي ارساها شحرور الوادي بقوة ووالده ورفاقه من الشعراء الكبار، ومن دون الحديث وباسهاب وبدراية علمية حقيقية أيضاً عن النهضة المسرحية المرافقة.

        هذا هو السبب الأول الذي دفعني للعناية بالزجل وشعرائه الكبار الذين يستحقون كلٌ بمفرده أن يكون موضوعاً للدرس والتحليل والتقدير، ونشجع طلاب الدكتوراه في الأدب أن يتنبهوا الى هذين الميدانين الزجل والمسرح القديم  اللذين ما زالا أرضاً بوراً بحاجة الى حراثة لاستنباط خيراتهما وثمارهما الوافرة.

         أكرر شكري للجميع وأهلا وسهلا بكم مرة أخرى.

 

 

 



[1]شُحرور الوادي ( أسعد الخوري الفغالي) مؤسس المنبر ورائد النهضة الزجليّة في لبنان، دار النهار للنشر، بيروت، لبنان، الطبعة ألأولى، 2023- مداخلة في ندوة مع الشاعر هنري زغيب، قدّم لها الشاعر قزحيا ساسين،  مساءالأربعاء 6 آذار 2024- في المهرجان اللبنانيّ للكتاب، السنة الحادية والأربعون- انطلياس

__________________________________________