كلمة الدكتورة نايلة ابي نادر

في تكريم المطران يوسف مرقس والدكتور طيب تيزيني

 

تفيض القلوب دمعاً بلون الدخان، وتقطر العيون ندى بطعم العلقم، تخجل الاقلام وتنزوي في محابرها لعجزها عن البوح بما يحدث من حولنا. أهي الثورة، او هو التغيير؟ هل هي نسخ مشوهة من الانسانية بدأت سلالاتها بالظهور؟ اهو ارهاب ام ترهيب؟

تكسرت الذات امام ذاتها، وانكفأت تفكر في امكانية الاستقالة من انسانيتها.

هل ما يجري من حولنا يقوم به بشر حقيقيون؟ لهم مثل الآخرين قلب ينبض، وأم تبكي هماً، وولد ينتظر خلف النافذة قدوم اب محمل بالعطاء؟ هل القرعة التي يحملونها فوق اكتافهم لها طعم التفكر؟ هل دخلنا فعلا زمن اللا معنى، زمن الرحيل في اتجاه المجهول والسكن في الهباء؟

ما معنى ان تكون مفكراً تحمل القلم سلاحاً، والمعرفة عنواناً، والبحث عن الحقيقة هماً لا يستكين. ما معنى ان تحمل في طيات ذاتك رغبة بالحياة، بالعيش الكريم والحر، بالتفكر والتجوّل بين الكتب والنظريات سعياً وراء المعنى هارباً من العبث والفراغ؟ ما معنى ان تنذر عمرك مكرسا جهدك في خدمة الانسان والانسانية ليأتي آخر ببساطة وسهولة ينسف قيمك ويحرق تراثك ويقوض بناءك ليرمي بك مسبياً على حافة التاريخ؟

هل ما يجري من حولنا هو استفاقة لطبيعةٍ ما تهوى الشر وهي دفينة فينا؟ أهو تمظهرٌ لوحشية كامنة في كل منا، جاء من يوقظها ويعيدها الى التداول؟ هل ما يجري حقاً ناتج عن أنا أفكر؟ عن كائن يحركه وعيه وحبه للحياة؟ كيف لنا ان نعقل هذا الكم الهائل من التفنن في ابادة الانسان وابداع طرق جديدة لإهلاكه وترهيبه ومحو اثره وجعله مشروعَ شهيدٍ متنقلٍ من مكان الى آخر؟ كيف لنا ان نروي ما يجري لاحقاً في كتب التاريخ تحت عنوان: الحضارة العربية المعاصرة، او نكتب في الادب: نبذات من يوميات عربي في القرن الواحد والعشرين؟

اي عمليات جراحية يجب القيام بها لاستئصال هذه الصور المدمرة الكامنة في الذكرة؟ اي دواء يمكن وصفه من شأنه ان يسهّل هضم ما يجري، او يساعد على تقيؤه ورميه في قمامة التالريخ؟

اين نحن اليوم؟ اين نقف؟ على عتبة نهاية؟ ام بداية؟ ام نحن في تقهقر ورجوع الى ما قبل الوراء؟

رفعت الحركة الثقافية عينيها شرقاً فأبصرت نوراً قادماً من الموصل ينشر القيم والعلم والحوار في أنفاسه مع كل شروق. ثم توجهت شمالاً لتصافح يداً لا تملّ من الحفر وقلماً لا يهدأ من النقد، في عروقه يجري نبض الثورة على الظلم والقمع والجهل والكراهية. علمان لهما ما يكفي من السلطان ليقولا لكل واحد منا: قف، هنا حاجز الضمير. قف، هنا ميزان العقل. قف، هنا استراحة المحارب، فاسترح من دورانك في الفراغ وتأمل... انت مجبر على التفكّر والعودة الى طرح الأسئلة الكبيرة التي تحجّم غرورك، وتبرز عريك في مواجهة لا ترحم مع الحقيقة.

نتحلق معاً في هذه العشية حول علمين اثنين اهدانا اياهما التاريخ المعاصر نفساً طيباً ينعش القلوب ونغماً ساحراً يدخل العقول وفكراً ملتزماً يرفع الانسان الى مقام الانسانية.

سيادة المطران يوسف مرقس الذي كنا بإيعاز من صديق الحركة الثقافية الدكتور عبد الجبار الرفاعي، نودّ تكريمك منذ العام الماضي، لكن لسبب سيامتك مطراناً على الموصل تأجل التكريم الى هذه الدورة الحالية. لا بدّ ان كثيراً من الاشياء قد تغيرت خلال هذا العام، في بلدك وكنيستك وشعبك. نحن هنا لنحييك، ونشدّ على يدك، ونحمّلك كل المحبة والتقدير والوقار الى مواطنيك في معاناتهم المتجدّدة مع كل شروق، الى ارضك المتشحة بصراخ الدماء، الى فراتك الشاهد على ابشع ايام تاريخه العريق. فرحنا بحضورك بيننا لا تجسده الكلمات، أهلا بك علَماً مكرماً يضيء الدورة الرابعة والثلاثين، ويضفي عليها الكثير من المعنى.

الدكتور طيب تيزيني الذي له في ذاكرة الحركة الثقافية أطيب الأثر، نحن الذين قرأنا ودرسنا نصوصك المفعمة بالفكر والنفس النقدي والنهج العلمي الدقيق. نلتقيك في عمق الأزمة، نفكر بمعيتك بما يجري، نطرح الأسئلة، نتشارك الهمّ المعرفي وقلق المصير. انت الذي تربطك بلبنان ابعد من علاقة جوار، ولك فيه اكثر من محب، تحييك الحركة الثقافية اليوم على طريقتها، فتحفر اسمك بأحرف من وفاء على صفحات تاريخ مهرجانها، نبضها الحي على الساحة اللبنانية. انت الذي أغواك السؤال الفلسفي، وجذبك الفكر النقدي، فركبت سفينة الحياة مغامراً لا تأبه بالمخاطر، رافعاً صوت الكلمة، عاشقاً للحكمة، وملتزاماً بالانسان. 

ان الحركة الثقافية ، بشخص رئيسها، وامينها العام، وجميع اعضائها تفخر باستضافة سيادة المطران يوسف مرقس، والدكتور طيب تيزيني، وتهدي كلا منهما اجمل ما عندها، باقة محبة ملونة بكلمات التقدير، وصفحات ذهبية تسطع بفكر كل منكما.

لن اتحدث عن فكر اي منكما تاركة هذا الشرف الى من تمّ اختيارهما خصيصاً للتعريف بإنتاج كل منكما عن كثب.

أختم بقول لتوفيق الحكيم: العمود الفقري لشخصية الانسان: سلسلة تجاربه في الحياة. تعالوا اذا نستمتع معاً في الكشف عن تجارب كلٍ من علمينا الكريمين.

 

 نِيافة رئيس الأساقفة يوسف توما مرقس

كلمة الأب توم هوغلند

ربَّما يكفي أن نقول إنَّ نيافة رئيس الأساقفة يوسف توما مرقس يحمل دكتوراه في اللاهوت من ستراسبورغ في فرنسا ودبلوم دراسات مُتقدِّمة (DEA)في الإثنولوجيا (عِلم الأعراق البشريَّة) من نانتيرّ في فرنسا، وإنَّه أبٌ دومينيكانيٌّ خدَم في بغداد بالعراق حتَّى 2014، لمَّا طلبَت منه كنيستُه الأُمُّ – كنيسةُ أبيه في الواقع – كنيسة بابل الكلدانيَّة أن يُضاعِف خدمته لكنيسته، وقبِلَ أن يُصبِح رئيس أساقفة أبرشيَّة كركوك الكلدانيَّة في العراق. نعم، منذ كانون الثاني (يناير) 2014، صار أبونا المحبوب عندي هو سيِّدَنا المحبوب عندي!

صحيحٌ أنِّي لا أعتقد أنْ أبونا يوسف يتوقَّع منِّي أن أتحدَّث مُطوَّلاً عن سيرة حياته. وهو أيضاً يعرف أنَّه ليس على هذه الأرض شخصٌ يُسعِده أكثر منِّي أن يُطلَب منه قَولُ كلمات قليلة عنه. حقًّا إنَّ فرحتي أكبر من أن يُعبَّر عنها!  وأقدِر أن أقول لكم بصدق: لو خبَّرتُكم عن جميع إنجازاته في أثناء خدمته للرب بكاملها ما كُنَّا نستطيع أن نذهب إلى بيوتنا الليلة. ولكنِّي سأذكر لكم سبباً واحداً يجعله عزيزاً جدًّا عليَّ. فيكفيني أن أقتبس ما كتبه إليَّ في إيمايل قبل عشر سنين تقريباً بعدما أصبح خلافٌ "اكليريكيٌّ" حَرباً علنيَّة عبْرَ الإنترنَت، ولمَّا كان كِلا الطَّرفين المُتورِّطين صديقين شخصيَّين لنا وشعرتُ بأنَّني مُضطرٌّ أن أفعل شيئاً ما "لإنقاذ الكنيسة". فكان جواب أبينا يوسف بسيطاً ومُصِيباً صميم الموضوع: "يا طام، يجب علينا أن نحبَّ كِلا الطَّرفين أكثر!"  نعم، ذلك هو رئيس الأساقفة والأبُ والدكتور والأخ يوسف الذي أعرفه. الشَّخصُ الذي سيمشي "المِيل الثاني"، الشخص الذي يتعمَّق في النَّظر إلى داخل المسيح قبل أن يصلب الآخرين!  نعم، طالما كان سَنَدي وصديقي الأفضل والشخص الذي تلهَّفتُ لأراه مرَّاتٍ كثيرةً جدًّا في أثناء الأوقات الصعبة طوال الثلاثين سنة من صداقتنا المتينة. وما يزال ربُّنا يسوع المسيح هو مُثبِّتَ علاقتِنا ومُمكِّنَها.

بينما كثيرون سيتذمَّرون بسبب السنين الكثيرة التي قضَوها خادمين في الجيش العراقيّ، سيقول لكم الأب يوسف إنَّ سنواته الخمس في الجيش كانت هي المدَّة التي فيها تمكَّن أن يمتحن ما قد تعلَّمه في الدَّير والمعهد اللاهوتيِّ، وكان له في الوقت نفسِه مساء طويل بعد مساء طويل ليقرأ ويقرأ ويقرأ. تلك السَّنوات هيَّأته للعشرين سنةَ التاليةِ من المُقرَّرات اللاهوتيَّة الأُسبوعيَّة المُعطاة بلا انقطاع للاكليريكيِّين والعلمانيِّين معاً. نعم، في الأخير كان أكثر من ألف شابٍّ عراقيٍّ قد تلقَّوا تربيةً لاهوتيَّة وبيبليَّة على يد الأب يوسف وغيره من رجال الله الأكْفاء في بغداد. نعم، على مدى سنين كان كهَنة يأتون من سرسنك – وهي قرية صغيرة تبعد عن بغداد سبع ساعات إلى جهة الشمال – ليجلسوا في حضرة الأب يوسف كي يتعلَّموا الأُمور السَّماويَّة التي سيتمكَّنون في ما بعد من إعطائها لرعاياهم في الجبال الكُرديَّة.

بينما الأب يوسف يقوم بذلك، ويُربِّي "النَّحل" طوال سنين كثيرة، أنشأ أيضاً شرِكة نشر: مكتبة الناصرة. نعم، لقد أقام هذه المكتبة كدار نشر يكون فيها لكُتُبه مكان بارز طبعاً، ولكنْ يشتري أيضاً كمِّيَّة من كلِّ كتاب يكتبه كُتَّابٌ توَّاقون في كنيسة العراق، ثُمَّ يُرسِلُ جميع الكُتُب إلى جميع الكنائس والرَّهبنات والأديِرَة في جميع أنحاء العراق. نعم، على مدى سنين كثيرة كان في وسعك أن تزور الكنائس في أنحاء البلَد كلِّها فتجد زاوية صغيرة فيها كُتُبٌ من مكتبة النَّاصرة. نعم، حتَّى في أثناء الحرب الإيرانيَّة العراقيَّة، حينَ لم تكُن أيَّة شبَكة توزيع حكوميَّة تشتغل، كان هناك شبَكة تشتغل!  وكانت تلك هي الشَّبكة التي أسَّسها الأب يوسف مع الأُخت زاهدة، وهي دومنيكانيَّة أيضاً!

نعم، إنَّ الجهد الشاقَّ الذي بذله كِلاهما أحدث تأثيراً لا يُصدَّق في كنيسة العراق بصرف النَّظر عن الطائفة. كذلك أيضاً وُزِّعَت مئاتُ المُحاضرات التي ألقاها الأب يوسف وآخرون في أشرِطة مُسجَّلة، وقد أُرسلت مع الكُتب إلى جميع أنحاء العراق.

ذلك هو ما أطلق صداقتنا، لأنَّ الأب يوسف لم يتصوَّر كيف تُرسَل كتُب روحيَّة إلى زوايا العراق دون الكتاب المقدَّس. ولمَّا باشر الأب يوسف البحث عن الكتاب، تبيَّن له عاجلاً أنَّه لم يكُن في العِراق كُلِّه أيُّ نُسَخ من الكتاب المقدَّس. هل تستطيعون أن تتصوَّروا أنَّه ما كان يمكن الحصول على كتابٍ مقدس يسوعيٍّ إلاَّ إذا تيسَّر دفعُ تسعين دولاراً أميركيًّا؟  ثُمَّ إنَّ عدد الكتب التي أمكن الحصول عليها كان قليلاً جدًّا جدًّا؟

فكِّروا في هذا فلا تتذمَّروا ثانيةً أبداً بسبب كون الكتُب المُقدَّسة غالية!  إنَّ التِّسعين دولاراً كانت معاش شهر في أوائل الثمانينيَّات في العراق. حسناً، كان الأب يوسف بحاجة إلى نُسَخ من الكتاب المقدَّس، وما كان ينوي أن يجلس مستريحاً دون أن يفعل شيئاً. ففتَّش وفتَّش، وأخيراً حصل مع الأب أفرام، رئيسِ الدُّومينيكان آنَذاك، على رقم تلفون جمعيَّة الكتاب المقدَّس في بيروت. وفي ظَرف أسابيع قليلة، أمَّن الأب يوسف جميع الأوراق الحكوميَّة وصارت الألفُ نُسخة من الكتاب المُقدَّس في طريقها.  وكما يُعبِّر الأب يوسف: "تلك كانت البداية، لمَّا صارت قطَراتُ الماء أنهاراً، وفي الأخير بحاراً، من الكتُب المقدَّسة وكتُب العهد الجديد، تشقُّ طريقها إلى كنيسة العراق". وقد عبَّر غِبطةُ البطريرك الرَّاحِل روفائيل بيداويد عن ذلك هكذا: "لم يسبق قطُّ في تاريخ كنيسة العراق أنَّ البلَد كان مُشبَعاً بكلمة الله أكثر ممَّا هو الآن!"  نعم، بفضل ثلاثة أبطال عراقيِّين، الأب يوسف وسامي إيليَّا والأُخت زاهدة، فُتِحَت حدود العراق تماماً لكلمة الله. كان سامي إيليَّا هو المسؤولَ الثاني في وزارة الشؤون الدينيَّة، ورُغمَ الضَّغط المستمرِّ تحمَّل المسؤوليَّة عن استيراد كمِّيَّات كبيرة من نُسَخ الكتاب المقدَّس والكُتب الروحيَّة في وقتٍ كان العالم كلُّه فيه ينظر إلى العراق كبَلَد مُقفَل بالنِّسبة لإدخال الكتُب المقدَّسة إليه. ولكن سامي إيليَّا ما كان ليتمكَّن من الوقوف بقوَّة لولا مُساندة الأب يوسف والأُخت زاهدة عندما حَمِيَت الأُمور، وكثيراً ما كانت تَحمَى. ومن القِصَص المشهورة أن سامي إيليَّا ذاتَ مرَّة، بصفته مَن يتولَّى المسؤوليَّة في الوزارة، اتَّخذ القرار بتخفيض كمِّيَّة الكُتب المقدَّسة والكُتب الروحيَّة الدَّاخلة إلى البلد، فتصرَّف الأب يوسف في الحال وساق سيَّارته إلى الوزارة. وسأل سامي إيليَّا: "عندما تُدفَن في قبرك، بماذا تريد أن يتذكَّرك العراقيُّون؟  بأنَّكَ أغلقت الباب أمام الكتاب المقدَّس أم أبقَيتَه مفتوحاً؟"  نعم، وكان الجواب إيجابيًّا مرَّةً أُخرى!

وذاتَ مرَّة، في أوَّل معرِض دُوَليٍّ للكتاب أُقيم في بغداد، وكان مَنصَب جمعيَّة الكتاب المُقدَّس قد أُغلِقَ منذ ما قبل الحرب الإيرانيَّة العراقيَّة، بعد تسعة أيَّام من حمْل الكتُب المُقدَّسة وتفاسير الكتاب المقدَّس إلى الأشخاص الكثيرين الحاضرين في معرِض الكتاب استولى الإرهاق على جميع العاملين في منصَب جمعيَّة الكتاب. كنَّا قد باشرنا بثلاثين طنًّا من الكتب المقدَّسة والكتب البيبليَّة، وأخذ المخزون يتناقص أكثر فأكثر. وكان مُعظَم المخزون قد نَفِدَ فعلاً لمَّا تدخَّلت الحكومة وقالت: "كفى!"  فاختفى فجأةً جميع "أصدقاء" جمعيَّة الكتاب المقدَّس، إذ لم يجسُروا أن يكونوا جُزءًا من الفشَل بعد أيَّام من النجاح الذي لا يُصدَّق. فرَكِبنا نحنُ فريقَ العمل في الڤان وسُقنا لرؤية الأب يوسف والأُخت زاهدة. نعم، شعرنا قليلاً كأننا أولاد مدرسة مُشاغِبون يُقابلون معلِّمة الصَّف، وهي في هذه الحالة الأُخت زاهدة التي كانت كلَّ حين تُعطينا النَّصائح، وأيضاً المُدير: الأب يوسف. ولكنْ لم يقُل أيٌّ من هذين "القدِّيسَين" الحقيقيَّين ولو كلمة تأنيب واحدة، بل بالأحرى قالا: "واجبنا الآن أن نحتفظ بالكُتب المقدَّسة والكُتب الأُخرى للكنيسة!  لن ندَعَ كتاباً واحداً منها <يضلُّ طريقه>."  ثمَّ نبَّش الأب يوسف والأُخت زاهدة معاً جميع التراخيص السابقة التي كانا قد حصلا عليها عبْرَ السِّنين، وعند مُقارَنتها بلائحة جميع الكتب المخزونة في المستودع تبيَّن لنا أنَّ هذه ستكون فُرصة مُناسِبة لإعطاء كنوز لا تُصدَّق من الكُتب للرَّهبَنات والكنائس في أنحاء العراق كلِّها. ولمَّا انتهينا من كتابة أسماء الكتُب كلِّها وإلى أين ستُرسَل، كان سامي إيليَّا قد رجع من سفرة إلى الخارج، فتولَّى هو نفسُه الاهتمام بتوزيع تلك الكُتب المقدَّسة والكُتب الروحيَّة كلِّها والحرص على وصول كلِّ كتاب مقدَّس وكتاب آخر إلى غايته الصحيحة. نعم، ما "ضاع" كتابٌ واحد بل وصل فعلاً إلى "بيته".  وذلك تماماً لأنَّ ثلاثة أبطال كانوا شُجعاناً كفايةً للصُّمود والمساندة.

في ذلك الحين كان الأب يوسف قد تولَّى مسؤوليَّة نشر "الفكر المسيحيّ"، وهي مطبوعة مسيحيَّة مهمَّة جدَّا أُطلقت في الموصل سنة 1964، ولكنْ لم تنتشر على نطاق البلد كلِّه إلاَّ في السَّبعينيَّات. ثلاثةٌ من رجال الله المُمتازين في كنيسة توما بالموصل، وهم نيافة جرجس قس موسى والأب پيوس والأب نعمان، كان لي امتيازُ رؤيتهم في أثناء العمل بصفة كُتَّاب ومُحرِّرين ورُعاة. وعلى مدى سنين استمتعتُ بهذه المجلَّة التي باتت تعني الكثير جدًّا لكنيسة العراق. فبسبب مسؤوليَّات أُخرى كثيرة جدًّا وصعوبة طبع المجلَّة وإرسالها بريديًّا في الموصل، أراد الآباءُ آنذاك أن يتخلَّوا عن نشر هذه المجلَّة. ولكنْ إذ فكَّروا مُسبَّقاً أدركوا أيضاً أنَّ مجلَّة رائعة مثل "الفكر المسيحيّ" لا يمكن أن تُوقَف توًّا. فإنَّ كنيسة العراق كانت بحاجة إليها، وهكذا قرَّروا أن يُسلِّموها إلى زميلهم وصديقهم العريق، الأب يوسف توما، والآباء الدومينيكانيِّين في العراق. ورأى الأب يوسف أنَّ تلك فُرصة لا تُفوَّت لاستخدام مهاراته في الكتابة والتحرير فضلاً عن رؤيته لأجل كنيسة العراق بجعل المجلَّة مصدر حياة حقيقيَّة للكنيسة. وقد جمع الأب يوسف فريقَ عمَلٍ عاليَ الكفاءة، وفي بداية العام 1995 أصبح أوَّل عدد أصدروه من "مجلَّة الفكر المسيحيّ" واقعاً ملموساً. ومنذ ذلك الحين، حتَّى في أسوإ أوقات الحرب والعنف في بلَد يتمزَّق، ما تزال المجلَّة تُطبَع وتُنشَر. صحيح أنَّ المجلَّة وجَبَ أن "تُهرَّب" إلى كُردستان، الجُزء الشماليِّ من البلَد، ولكنَّها ما تزال تُرى في كلِّ مكان. ولطالما كان التجاوب رائعاً، سواءٌ في العراق أم خارجاً!  ربَّما يكفي أن نقول إنَّ "الفكر المسيحيّ" منذُ بضع سنوات نالت الجائزة باعتبارها المجلَّة الكاثوليكيَّة الفُضلى على نطاق العالم كلِّه!  فيجدر بنا تقديمُ الحفاوة والتكريم للأب ورئيس الأساقفة يوسف توما وفريق عمله المُتفاني من الآباء الدومينيكانيِّين، والأُخت زاهدة والعَلمانيِّين الكثيرين.

في أثناء سنوات المجلَّة، قُمنا – الأب يوسف وأنا – برِحلتين، كانت أُولاهما إلى فنلنده في زيارة لجمعيَّة الكتاب المقدَّس المحلِّيَّة، حيثُ التقى الأب يوسف صَفوة أهل الكنيسة في فنلنده، فضلاً عن أساتذة جامعيِّين، في اجتماعات عديدة، قائلاً لهم إنَّ العراق "الذي يتعرَّض للتَّحدِّي"  ما يزال هو عراقَ الكتاب المقدَّس، حيثُ عاش "قدِّيسون" بارزون كثيرون وجرى كثيرٌ جدًّا من أحداث الكتاب المقدَّس الهامَّة. نعم، لنا في هذه الأيَّام أن ننظر نظرة جديدة إلى نينوى، المكان الذي فيه تاب الناس وصرخوا إلى الله، وفقد مبعوثُ الله الخاصُّ كلَّ عطفه على أهل المدينة، رغمَ أنَّهم أطاعوا الرِّسالة التي حملها إليهم من الله، أو ربَّما أيضاً بعدَما أطاعوها خصوصاً. نعم، ينبغي أن يؤكِّد هذا لنا أنَّ الأوان لا يفوت أبداً على نينوى الأجدِّ!  وأنا على يقين بأنَّ هذا شيءٌ غالباً ما يُفكِّر فيه نيافتُه عندما يرى رعيَّته المُتضائلة تتردَّد على كنيسته.

والرِّحلة الأُخرى التي قمنا بها معاً كانت تلك السَّفرة التي لا تُنسَى إلى أرمينيا سنة 1998. هنا تبرز أمامي بضعة أُمور!  أحدُها أنَّنا في أثناء الانتقال بالسيَّارة رأينا بلدةً اسمُها شاميرام (وهذا اسم أميرة أشوريَّة تزوَّجها أميرٌ أرمنيٌّ). كُنَّا نبحث عن قُرى أشوريَّة في أرمينيا، وماذا أمكن أن يكون أشوريًّا أكثر من شاميرام؟  ولمَّا دخلنا البلدة وصلنا إلى مبنًى يبدو دينيًّا، فأوقفنا الڤان وإذا بشخص مميَّز جدًّا يخرج من هناك ويدعونا إلى الدخول بكثير من الحماسة والفرح. لقد تكلَّم هذا الرجل بلُغة أرمنيَّة جميلة، وعرَّفنا بنفسه على أنَّه المسؤول عن الدِّراسات الأرمنيَّة في المدرسة المحلِّيَّة. ولم يمضِ وقتٌ طويل قبلما أدركْنا أنَّه لم يكن أرمنيًّا ولا أشوريًّا. لقد كان يزيديًّا، ولن ننساه أبداً مع حُسن الضِّيافة التي أبداها لنا. نعم، حصلنا على مدخل إلى ديانته وتاريخ اليزيديِّين في أرمينيا فيما تابعْنا بحثنا عن القُرى الأشوريَّة. وبالحقيقة أنَّنا وجدناها وأدركنا أنَّ الأشوريِّين وصلوا إلى أرمينيا من أُورميا سنة 1849، وتابع مُعظمهم السَّفر منذ ذلك الحين إلى موسكو سعياً إلى فُرَص عمَل. وبقيَت في أرمينيا أقلِّيَّة ضئيلة جدًّا من الأشوريِّين، ومع ذلك أخذ هؤلاء يستعيدون كنائسهم القديمة التي حُوِّلت إلى مُستودعات في أثناء السبعين سنة من الحُكم السوڤياتيِّ في أرمينيا.

في أثناء هذه الزيارة التي لا تُنسى معاً التقَينا أيضاً الراحل الكاثوليكوس كراكين الأوَّل. وقد كان غبطة كراكين الأوَّل على أتمِّ الاستعداد لزيارتنا، وخصَّص الأب يوسف عدداً كاملاً من "الفكر المسيحيّ" لنقل صورة وافية عن أرمينيا.

مرَّت حتَّى الآن عدَّة سنين لم أزُر فيها بغداد. وما يزال قسم من أغراضي الشخصيَّة في دير مار يوسف الدومنيكانيِّ في بغداد، وأرجو أن أستعيده في المُستقبل. نعم، طالما كان ذلك الدَّير بيتاً لي، ولديَّ ذكريات غالية كثيرة يُمكِنُني أن أُطلعكم عليها. وسأُخبِركم عن قليل منها فقط. باكراً ذاتَ صباح، نعم باكراً جدًّا، لاقاني الأب يوسف عند باب غُرفتي، وكان يبكي. لقد قضى الليل كلَّه يقرأ عن إحصائيات التربية والتعليم في مطبوعة من اليونيسيف. وقد نظر إليَّ وهو يعطيني الكتاب: "طام، نحن في أسفل اللائحة بالنسبة إلى التصنيفات التي تخصُّ كلَّ ما يتعلَّق بالتربية. وليس ذلك كلُّه بسبب الحروب الكثيرة! إنَّ وضْع التربية مُزرٍ يبعث على اليأس!"  بعد ذلك بمُدَّة غير طويلة، وكنتُ قد رجَعتُ إلى لبنان، أخبرني الأب يوسف تلفونيًّا أنَّهم بنَوا أساس الجامعة المفتوحة في بغداد. تلك كانت استجابته حِيالَ الوضع التربويِّ الموئس في عراقه الحبيب. حدِّثوني عن المُبادرة إلى العمل!

كنَّا في الدَّير نبدأ كلَّ نهار بصلاة الصباح، وكان ذلك بالحقيقة وقتاً طيِّباً نقضيه معاً. أمَّا العشاء فكان وقت "صمت" قصير جدًّا في أثناء تناوُل الطعام. وكثيراً ما كان أحدهم يلفت انتباهنا إلى حاجاتٍ مخصوصة لدى ولَد أو عائلة، ولكُم أن تتأكَّدوا تماماً أنَّ الأب يوسف كان يقول: "مَن يذهب معي لرؤية العائلة؟"  وما كان مَلء السيَّارة بالحاجيَّات ليستغرق وقتاً طويلاً، ننطلق بعدَه حالاً. وقد جلبَت الزياراتُ الفرَح إلى العائلات دائماً! وإليَّ أيضاً!

لمَّا زرت بغداد أوَّل مرَّة في أوائل السبعينيَّات، التقَيتُ عدداً من الكهنة الأجنبيِّين. كانوا بالحقيقة كباراً في السِّنِّ، وكان في وسعكم أن تعرفوا أنَّ الحاجة إلى "دم جديد" كانت ماسَّة جدًّا. وتحقَّق ذلك بالتأكيد بمجيء كهنة عراقيِّين مثل الأب يوسف آطيشا والأب أفرام والأب جودت والأب نجيب والأب يوسف توما، وقد بدأوا معاً بإحداث فرق بتشجيع شُبَّان على الانضمام إليهم. نعم، دومينيكانيُّو اليوم رهبانيَّة قديمة، ولكن فيها عدَّة شبَّان في مراكز مهمَّة يتطلَّعون إلى المستقبل بأساس متين بناه "جيلي"، إلى مستقبل زاهر في بلاد ما بين النَّهرين.

آخِرُ مرَّة فيها كان لنا امتيازُ إضافةِ الأب يوسف في بلدنا الجميل لبنان كانت قبل أكثر بقليل من سنتين. تلفن لي وقال إنَّ عنده ستَّ ساعات في بيروت قبل إكمال الرحلة بالطائرة إلى مقصده الأخير، فرنسا. ومع أُختَين عراقيَّتين، كانتا تعملان مع الأب يوسف في مجلَّة "الفكر المسيحيّ"، ذهبنا إلى المطار. ومن هُناك بدأنا نزور العراقيِّين المُقيمين هُنا، مثل الراهبات الدومنيكيَّات في غدراس واللاجئين العراقيِّين المُنتظِرين أن يُقبَلوا في أحد البلدان الغربيَّة. نعم، التقَينا أشخاصاً كثيرين، وكانت كلُّ زيارة نُقطَة ذُروةٍ في حياتنا. ولمَّا قابلنا جميع أُولئك الأصدقاء المُختلفين بعد بضعة أسابيع، قال كلٌّ منهم: "لمَّا جاء الأب يوسف إلى بيتنا كان ذلك أشبه باستقبالنا للمسيح!"

والآن، ها هو الأب يوسف معنا مرَّة أُخرى!  نعم، في هذه المرَّة أكثر من أيَّة مرَّة أُخرى نتساءل: هل من مُستقبَل لنا؟  حسناً، حتَّى دونَ أن أسألَ نيافة رئيس الأساقفة والأب يوسف أعرِفُ جوابه!  ألا وهو: "نعم!"، فالأب يوسف ليس فقط شخصاً مُفعماً بالمحبَّة والرُّؤية، بل هو أيضاً شخصٌ له إيمان!  إيمانٌ بالربِّ يسوع. شخصٌ يحبُّ كلَّ إنسان بمفرده. فلن تسمعوه يستنزل ناراً من السماء على "داعش" ولا على أيِّ إنسان آخر. إنَّه يعلم في صميم قلبه أنَّ المسيح يحبُّ كلَّ شخص بمفرده، وأنَّ مُستقبلنا مَنوطٌ به، له المجد. فبينما توجد أسباب كثيرة جدًّا للبُغض والتصرُّف بسلبيَّة حيال كلِّ ما يجري، أعلمُ في قرارة قلبي أنَّ الأب يوسف يحرس قلبه كثيراً جدًّا جدًّا للحِفاظ على تلك المحبَّة الخُصوصيَّة للآخرين. نعم، إنَّ محبَّته لشعبه جعلَته رجُلَ الكتاب المقدَّس في العراق، إنَّما ليس فقط لشعبه الأقربين. وإن سألتموه، فسيقول لكم بفرح إنَّ تعاوُنه في العمل مع كُرديٍّ رائع أنتج ترجمة لكامل الكتاب المقدَّس إلى اللُّغة الكرديَّة. إنَّها جاهزة للطَّبع!  وبانتقاله إلى كركوك، تيسَّر له أكثرَ أن يُشرِف على الجُزء الأخير من هذه الترجمة.

نعم، أيُّها الأب يوسف، عزيزي الألزق من أخ، لم يكُن العراق وحده هو ما وثَّق عُرى صداقتنا المتينة، بل أيضاً شغَفُنا بأن نرى الفُرصة متوافرة لدى الكُرد للتعُّرف بالمسيح الذي أعطانا سبباً لنحيا. بونا يوسف، لقد حقَّقتَ الحُلم!  أنت لم تتوقَّف عن العمل!  أنا مديون لك بالكثير الكثير لأنَّك لم تتوقَّف قطُّ!

إني أكنُّ لك محبَّةً جليلة جزيلة!

____________________________

 

في تكريم الطيب تيزيني

محمد علي مقلد

كلمة ألقيت في مهرجان الكتاب – الحركة الثقافية- أنطلياس7-3-2015

أول لقاء لي مع الطيب تيزيني كان خارج المكان. بل في مكان افتراضي قبل أن تولد الامكنة الافتراضية،أو في مكان لا جدران له، تتسع حدوده لتبلغ حلماً جميلا بالأممية الاشتراكية.

كنت قد انتسبت إلى الشيوعية من بابها الثقافي. وأول كتاب على المنهج الماركسي قرأته كان "الفن والمجتمع عبر التاريخ" للألماني أرنولد هاوزر. علاقة الفن بالسياسة معقدة. إذن كان علينا أن نتدرج في سلم الثقافة الماركسية لنقترب من السياسة أو لنقاربها أو لنتقرب من صانعيها، فلم يكن أمامنا إلا الغوص في بحار علمين كبيرين من أعلامها في المشرق العربي، حسين مروة والطيب تيزيني.

كانا توأمين مثلما كان حزباهما. توأما الحزب كانا سياميين واقتضى فصلهما إجراء عملية جراحية. أما توأما الفلسفة فكانا وليدين طبيعيين للماركسية السوفياتية. تابع أحدهما، الشيخ حسين رحمه الله، العلم في جامعات موسكو، والأخر،الطيب أطال الله عمره، في جامعات ألمانيا. واستمرا معاً، مسافة طويلة من العمر، يكمل واحدهما الآخر في مواجهة الإرث الثقافي المعقد الذي ربض على صدور الأجيال وما زال رابضاً، حتى الساعة.

المواجهة الواحدة الموحدة انطلقت من دعوة ماركس الصريحة: يبدأ التقدم من نقد الماضي، ونقد الماضي يعني أولاً نقد الدين. من هذه النقطة انطلق المفكران المشرقيان الماركسيان لدراسة التراث. شيخنا حسين مروة ترك لنا ما اعتبرناه كنزنا الثقافي الماركسي، النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية، وعاش على مجد هذا الانجاز بقية عمره إلى أن اغتاله تكفيريو ذلك الوقت الذين يشبهون كل التكفيريين في كل زمان ومكان. فيما لم يتوقف قلم الطيب تيزيني عن العطاء، في الحقل الفلسفي كما في حقل التعليم الجامعي ، كما في كل حلبات الصراع الايديولوجي، بما في ذلك مساهماته الكتابية خلال ثورة الربيع العربي في سوريا.

قراءة التراث كانت شغل المفكرين الشاغل. والدين عصي على النقد لأن الغوص في غماره من المحرمات، إذ كل مساس بالمقدس محرم، لكن المقدس ليس النص القرآني وحده بل كل ما كتبه السلف الصالح ايضا. لذلك دخل المفكرون إليه من أبواب خلفية وقاموا بقراءات موازية، على غرار ما صنف كتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي. أدونيس كتب عن الثابت والمتحول، حسين مروة عن النزعات المادية، والطيب تيزيني ترك لنا مكتبة ضخمة في هذا المضمار نذكر منها :

  • 1- مشروع رؤية جديدة للفكرالعربي في العصر الوسيط
  • 2- روجيه غارودي بعد الصمت
  • 3- من التراث إلى الثورة
  • 4- حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي
  • 5- الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى
  • 6- من يهوه إلى الله (جزآن)
  • 7- مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر
  • 8- النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة
  • 9- من اللاهوت إلى الفلسفة العربية الوسيطة (جزآن)
  • 10- في السجال الفكري الراهن
  • 11- فصول في الفكر السياسي العربي
  • 12- من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي
  • 13- بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي
  • 14- على طريق الوضوح المنهجي
  • 15- من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني
  • 16- بيان في النهضة والتنوير العربي
  • 17- حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث.

فضلا عن مئات المقالات والمساهمات في ندوات ومؤتمرات في المنابر والجامعات السورية والعربية والعالمية.

تخيل الطيب أن مشروعه لدراسة التراث مفصلا مفصلا، لن يكتمل في مجلد أو اثنين، بل قد يبلغ دزينة من المجلدات. منهجه في القراءة هو منهج المادية الجدلية، الذي ارتسمت معالمه في كتابات ماركس وتأويلاتها السوفياتية. يقاس الصواب والخطأ فيه بمقاييس التجربة الاشتراكية في بلد المنشأ.

من سوء حظ المشروع الطموح أن التجربة الاشتراكية بدأت تترنح باكرا، مع بداية مشروع الطيب. كان يمضي صعدا في مشروعه فيما الاشتراكية كانت قد بدأت مشوار تراجعها. أنجز نصف ما خطط لإنجازه ، أي ستة مجلدات ، كان أولها أطروحته الجامعية التي نشرت تحت عنوان: مشروع رؤية جديدة للفكرالعربي في العصر الوسيط، وأرغمه انهيار التجربة على  التوقف وإعادة النظر. استأنف الطيب نشاطه بالهمة ذاتها واضعا خطة جديدة طويلة الأمد أيضا، النهضة العربية بدل التراث. وإذا كان نقد الماضي البعيد هو مادة مشروعه الأول، فقد اختار أن يكون نقد الماضي القريب مادة مشروعه الجديد.

مشروعه الأول بدأ مع نهاية دراسته الجامعية وحصوله مرتين على دكتوراه في الفلسفة من جامعات ألمانيا، في عامي 1967 و1973، وانتهى بعد ثلاثة عقود، أي غداة الاعلان الرسمي لوفاة التجربة الاشتراكية. لكن الطيب ثابر  واقفا في تسعينات القرن الماضي على مشارف قرن جديد ليتابع من غير كلل معالجة عوائق النهضة العربية.

*************

لقائي الثاني بالطيب كان أكثر حميمية. أكثر حميمية لأننا استمعنا إليه وأنسنا إلى حديثه من غير أن تأسرنا الطقوس الأكاديمية والفكرية الجافة، وطاب معه السمر والسهر حول مائدة بيتية في منزلي في صيدا، ومع مفكر عربي مصري ماركسي هو الآخر، محمود أمين العالم، رحمه الله، وبحضور راعي الثقافة وجامع شمل المثقفين حبيب صادق. النكهة المصرية في سهرتنا خففت من عبء النقاش الجدي بين الفلاسفة . فيها عرفت أن الطيب من مواليد حمص، ومنه عرفنا أن ما يروى عن مآثر الحماصنة لا يقدم صورة حقيقية عن المدينة، فحمص الشهيدة اليوم هي المدينة التي كان قد تخرج منها كبار قادة الفكر والفن والسياسة في سوريا، ومن بينهم الطيب المولود فيها عام 1934

كانت تلك السهرة على منعطف مشروعي الطيب ، التراث والنهضة. لا أذكر شيئا من الفكاهات الكثيرة في  تلك السهرة، لكنني أذكر جيدا ذلك النقاش الحامي بين وجهتي نظر حيال حركات الاسلام السياسي. محمود أمين العالم القادم من مصر، حيث العنف الاصولي الوحشي ضد كل شيء، ضد  نجيب محفوظ وفرج فوده ونصر حامد أبو زيد، وضد السياحة وضد السادات وضد السينما وضد القانون وضد الكنائس وضد الحياة. اختار الشيوعيون هناك، أو بالأحرى الماركسيون، أن يكونوا مع النظام ضد عنف الأصوليات الدينية، فيما ماركسيو المشرق العربي اختاروا التحالف مع الاسلاميين في النضال المسلح ضد العدو الصهيوني.  

الماركسية العربية كانت قد بدأت ترتج ، أتاها "العصف الجميل" (أدونيس)، من ناحيتين، من الانهيار الكبير للتجربة الاشتراكية ومن دعوة الخميني القيادة السوفياتية إلى التخلي عن الماركسية واعتناق الاسلام. كان من الطبيعي أن يترك هذا الارتجاج أثره ليس على الطيب وحده بل على علاقة الفكر الماركسي بالفكر الديني، هذه الثنائية الضدية المحكمة التناقض، التناقض التناحري، بين المادية والمثالية  والتي تشكل عصب الفكر الماركسي. بات على الطيب أن يختار، كيف يكون المرء ماركسيا ويتحالف مع الدينيين ؟ والدينيون لا مكان في السياسة عندهم  لتحالف ولا لتعاون، لأن السياسة في نظرهم انصياع لما هو مرسوم في لوح السماء. كما أن جبهة المواجهة الماركسية مرسومة بالبركار بين معسكري الاشتراكية والامبريالية، فيما جبهة الاسلاميين هي بين الإيمان والكفر. إذن كان لا بد من حل وسط ، من تسوية . قالت التسوية إن الدين والماركسية مصدران متساويان لإيديولوجيات الثورة. وبدل نقد الدين، تحول الطيب وكل الطيبين من الماركسيين إلى نقد مواقفهم السابقة من الدين، ومضوا نحو فهم التجربة الإيمانية والدينية عموما من داخلها ودراسة تأثيرها في إنجاز التحول المجتمعي.

انهارت التجربة الاشتراكية وانهارت حركة التحرر وصار بعضها جزءا من التحالف الامبريالي، وتفككت الأحزاب الشيوعية العربية... كان من الطبيعي إذن أن يبحث الماركسيون العرب عن مخرج من هذا المأزق. بعضهم ، ومنهم الطيب، اختار صيغة من المصالحة مع التراث من غير أن يتنكر لمنهجه الماركسي، فراح يرصد سمات التقدمية والدنيوية في الاسلام التي ساعدت على هذا التحول الكبير في المجتمع الجاهلي،حسب قوله، ورأى أن " التمايز النسقي" بين الفلسفة والدين لا يلغي ضرورة  احترام كل مجال منهما للآخر، وخلص إلى القول بأن  الاحترام المتبادل والندية التنافسية والتسامح العميق في العلاقة بين الطرفين، وكذلك بينهما وبين كل الأنساق النظرية والثقافية والإيديولوجية العامة ضمن الواقع العربي المعاصر هو الطريق إلى إثمارها جميعا وإخصابها.

كان التطور الأهم على هذا الصعيد هو أن الطيب أعاد النظر بمفهوم الثورة وأحل محله مفهوم النهضة، حرصا منه على الاستفادة من المقومات التقدمية الكامنة في التراث، وقال "أن مشروع الثورة ذاته بات يعيش اختناقاً قاتلاً. من هنا أدركت ما يخيّل إليّ انه البديل المناسب لمفهوم الثورة ومشروعها، وهو مفهوم النهضة ومشروعها..."كما قال في مكان آخر "كنا في الماضي نعتبر الحامل الاجتماعي حاملاً طبقياً ونتحدث عن الصراع الطبقي والإشكالية الطبقية، هذا ليس وارداً الآن. حامل المشروع الجديد، النهضوي، لا يمكن الآن إلا أن يكون تحالفاً طبقياً أو سياسياً يضم كل فئات المجتمع." ربما هي صيغة من مصطلح " الكتلة التاريخية " الذي اطلقه غرامشي، واعتمدته الأدبيات الماركسية كلها، ورفضته القيادات السياسية كلها، وقابلته بالاصرار على التمسك بالصراع الطبقي بحمولتهالسوفياتية الكاملة.

 

لم تكن الثورة الخمينية البديل الفكري السياسي والايديولوجي الوحيد. مع بداية الانهيارات الكبرى، أخذت تظهر بوادر لنفض الغبار أو كشف النقاب عن/ أو لتسليط الضوء على فلسفات نقدية مشتقة من ماركسيات غير سوفياتية، فرنسية على نحو خاص، أو متأثرة بها،من روادها سمير أمين وعبدالله العروي وأنور عبد الملك،  وعن دراسات أكاديمية من المغرب العربي كان من أبرز روادها محمد عابد الجابري ومحمد الوقيدي وطلابهما الكثر.

موقف الطيب من التراث تعارض على خط مستقيم مع نظرية القطيعة المعرفية التي أطلقها الفيلسوف الفرنسي باشلار، فكان من الطبيعي أن يتعارض مع كل ممثليها، وخصوصا مع الجابري الذي قدم قراءة للتراث لا تشبه القراءة بمنهج الطيب وحسين مروة اللذين سعيا إلى الكشف عن الجوانب المادية في التراث الاسلامي العربي، ولذلك خصص الطيب بعض دراساته للرد على هذا المنهج الذي لم يكتف فحسب، برأي الطيب، باعتماد مناهج البحث الغربية، بل راح يتبنى الموقف الأوروبي من التراث العربي ومن كل تراث، المدان، في نظر الطيب، وكذلك سمير أمين، بالمركزية الأوروبية.

ينتقد الطيب منهج الجابري الصوري، ويخلص إلى أنه ليس منهجا معرفيا إنما هو منهج إيديولوجي أساسا ولكنه مطروح في صورة معرفيةوقد فسر موقف الطيب من الجابري وقطيعته المعرفية ومنهجه في قراءة التراث على أنه موقف المشرق من المغرب، خصوصا أن نص الجابري في ثلاثيته عن العقل العربي قد تلقت نقدا قاسيا من مفكرين مشرقيين من بلاد الشام هما الطيب تيزيني وجورج طرابيشي.

لقائي الثالث مع الطيب كان في التسعينات أيضا، حيث كان لي شرف المساهمة إلى جانب الصديق الدكتور أنطوان سيف في تكريم الطيب بدعوة من اللجنة الثقافية في الإدارة المدنية التي كان يرئسها الرفيق محمود أبو شقرا عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي اللبناني آنذاك.

في تلك الفترة من التسعينات كانت مؤسسة كونكورديا الفلسفية الألمانية الفرنسية قد اختارته واحدا من مئة فيلسوف في العالم للقرن العشرين ، بينما كنا نحن نتعارك مع أصولياتنا ونحاول التبرؤ من جمود أصابنا ، وأوقعتنا الهزائم في إحباطات وأخرجت البعض من أنتمائه ورمته في أحضان الفكر الديني، بينما تمسك آخرون، ومنهم الطيب، بانتماء سياسي وفكري وحزبي دشنوا حياتهم النضالية به وما غادروه.

وفي تلك الفترة كنا قد خسرنا اثنين من رموزنا ، حسين مروه وحسن حمدان ( مهدي عامل)، قتلتهما أصوليتان ، سياسية ودينية، والحزبان التوأمان في سوريا ولبنان، مصران على الانخراط في جبهة الاستبداد والتحالف مع أطرافها حتى ولو كانوا هم القتلة.

في هذا المناخ السياسي رحت إلى بيت الدين لأشارك في تكريم الطيب، مدفوعا بشعور عارم من الحزن على غياب من غابوا، ومن الغضب على القيادات المصرة على التحالف مع القتلة، ومن الخوف على نفسي وعلى الطيب وعلى كل الطيبين من ضحايا الاستبداد على امتداد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج.

حملتني مشاعرالغضب والحزن والخوف  تلك لا على تكريمه بل على نقده بقسوة، على نقد وفائه للنهج الذي يرمي بنا في التهلكة. قلت في حينه أننا كلنا أصوليون، شيوعيين وقوميين ودينين، كلنا يبحث عن حل أزمات المجتمع من نصوص نستخرجها من التاريخ. وكلنا مستبدون، شيوعيين وقوميين ودينيين، كلنا يبحث عن اقصاء الآخر والاستئثار بالحقيقة والسلطة.

الفيلسوف الفرنسي ألتوسير الذي لا يتبنى الطيب نهجه في قراءته الماركسية ، ألتوسير هذا ارتكب جريمة قتل، قتل زوجته، لكن الرئيس الفرنسي أمر بنقله إلى المستشفى لا إلى السجن، وفي حيثيات قراره "أن من العيب على فرنسا أن تعتقل عقلها". بعد أكثر من عقد من السنوات، فيما الشعوب العربية تسعى في سبيل الحرية،  يعتقل الطيب بتهمة التفكير بمستقبل الوطن.

أعتذر منك يا أستاذي الطيب. مع أنني على حق. على حق في أن أخاف عليك من الاستبداد الديني ومن الاستبداد السياسي. أخاف عليك بلا منة، لأنني أخاف على نفسي وعلى كل فكر حر. لأنني أخاف على وطني وعلى أمتي.