نص مداخلة الدكتور ناصيف قزّي

أستاذ الفكر العربي الحديث والمعاصر والأخلاقيَّات في الجامعة اللبنانيَّة،

خلال تقديمه الندوة التي دعت إليها الحركة الثقافيَّة - انطلياس في إطارالمهرجان اللبناني للكتاب/ السنة الرابعة والثلاثون،

حول كتاب  الخوري ميشال الحايك،المارونيَّة: ثورة وحريَّة، الصادر عن جامعة الروح القدس/ الكسليك،

والتي شارك فيها كل من الأب الدكتور باسم الراعي والأستاذ سمير فرنجيّة والدكتورة ماري خوري.

نهار الثلاثاء في 18 آذار/ مارس 2015.

الأب ميشال حايك

لِمارونِيَّةٍ وَطَنُها الحقيقي مساحةَ حرّيةٍ وروح

 

أيها الأصدقاء،

يسرُّني أن أُرحِّب بكم باسم الحركة الثقافيَّة - انطلياس... الحركة/ "النهضة"، الحركة/"الرابطة"، الحركة/"الندوة"، الحركة/ "الوعي"، قبل أن تكون الحركة/"المهرجان اللبناني للكتاب"، كما يعرفها الناس؛ الحركة المؤتَمَنة اليوم على إعلاء شأن التراث الثقافي اللبناني والعربي والإنساني، وفاءًلمكانة لبنان ودوره الريادي وأنواره عبر العصور ومفكريهوقادة الرأي فيه... ولجذورها التاريخيَّة الراسخة في تلك العاميّة، عاميّة انطلياس التي التأمت عام 1840، لترسم، وقبل قرنٍ على قيام الدولة اللبنانيَّة الحديثة... صورةَ ما يجب أن يكون عليه لبنان.

واسمحوا لي أن أغتنمها مناسبة ، لأدعوَ أجيالنا الشابة للإنخراط في هذه الحركة/ القدوة، أو،على الأقل، للتَمَثُّل بتجرُبَتِها المنزَّهة عن أيَّة غرضيَّةٍ أو منفعةٍ خاصةٍ أو جماعيَّة، في سعيهم الحثيث على دروب المعرفة والعلم... وذلك، كي تترسَّخَشعلةُ الثقافة الحقَّة، الثقافةِ الإنسانيَّةِالمنفتحةِ والبنّاءة، وتستمرَّبروافدِها وتنوُّعاتِها كافة... فيرقى بها إنسانُنا إلى المقام الحضاريّ الذي يستحق.

وهل بغير ذلك،يمكننا أن نستردَّ لبنان من لجَّة الفراغ الذي وقع فيه... والفراغُهذا مُثْبَتٌ أصلاً، وللأسف، في الرؤيا والنهج والإرادة المفقودة في عملية بناء الدولة ومؤسَّساتها...!؟

وهل بغير ذلك، يمكننا أن نُسهم في استعادة عالمنا العربي، بمشرقه ومغربه، من زمن الدم المهدور عبثاً... زمن التطهير الديني والمذهبي، والقتل الجماعي، والسبي، وكلِّ أشكال البربريَّة العائدة من قعر التاريخ... لكي نستَعيدَه إلى "كلمةٍ سواء"...!؟

وهل بغير ذلك، يمكننا أن نُكمل مسيرتَنا الإنسانيَّة تجاه العالم، من المدرسة المارونيَّة في روما إلى ميشال حايك... ومن منائرِ فينيقيا وعظمةِ بيزنطية، صعوداً، نحو منظومة القيم وفي مقدَّمها الحريَّة، حدُّ الأنسانِ وخالقِ الإنسان... وحدُّ المارونيَّة في آن...!؟

*

أيها الأصدقاء،

كان ذلك قبل أربعةِ أعوامٍ، يومَ تحلَّقنا،ومن هذا المنبرِبالذات، حول كتابٍللأبحايك بعنوان:كتاباتٌ في تاريخ الكنيسة المارونيَّة وروحانيَّتِها.

لم تتبدَّلكثيراً في لقائنا اليوم، حول كتابه الجديد المارونيَّة: ثورةٌ وحرّية،وجوهُ المشاركين، يومذاك.

فالأب باسم الراعي لا يزال هو نفسُه. حلَّت الدكتورة ماري خوري بدلاً من زوجها الدكتور سمير، وهما معاً توأمان لرسالة واحدة عنوانها، شُعلة الحريَّة والسلام... وأنا، الذي لي شرفُ التقديم، للمرة الثانية، بالإضافة إلى أنني أُحَمِّلُنفسي، وعن صديقي الدكتور ناجي حايك، رئيس مؤسسة ميشال حايك،الذي شارك في المرة السابقة؛ أحمِّل نفسي...براءة الأمانة. كما أن "بونا ناصر"، المطران مارون ناصر الجميِّل لاحقاً، والذي شاركنا في ذلك اللقاء، فنَحْمِلُ معاً،مجْتَمِعِيْن،من عطاءاتِه، في تحقيقِه للمارونيَّة نصوصاً ووثائقَ وأعلاماً وعلماءً، ما يجعلنا نعتزّ بتاريخنا والوجدان.

أمَّا عن جديد هذه الندوة حول ميشال حايك، فإلى الكتاب الجديد، مشاركةٌ سخيَّةٌ علينا، نحن، معشرَ الأكاديميّين... متمثلةٌ بالأستاذ سمير حميد فرنجيَّة... اللبناني العريق في مكانته الفكريَّة والسياسيَّة... وفي تراثِهِالنضالي والعائلي... ومارونيَّته...!؟

*

أيها ألأصدقاء،

وقبل أن نعطي الكلام للسادة المنتدين، لا بد لنا من إطلالتين مقتضبتين:

الأولى، عن سيرة الأب ميشال حايك... والثانية،عن الكتاب...

 

أولاً، من هو الأب ميشال الحايك؟

-       ولد الأب ميشال حايك في بلدة بجّة قضاء جبيل عام 1928.

-       سيم كاهناً في باريس لدى الآباء الكرمليين عام 1954.

-       تدكتر في باريس في اللاهوت والليتورجيا والآداب والعلوم الإجتماعيَّة/ السياسيَّة.

-       درَّس في المعهد الكاثوليكي في باريس وفي عدد من الجامعات اللبنانيَّة.

-       شارك إلى جانب المطران أغناطيوس زيادة في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني بصفة مستشار لاهوتي.

-       ألقى، وعلى مدى أربعين سنة، أي منذ ستينات القرن الماضي وحتى مطلع القرن الحالي، عظاتٍ متنوعةً إبَّانَ زمن الصوم، حملها أثير الإذاعات اللبنانيَّة إلى كلِّ أذن صاغية... ليكون ميشال حايك، بذلك، لجيلٍ بل لأجيالٍ، الواعظَ الموصوف في كلِّ بيت، وعلى كلِّ لسان.

-       توفي عام 2005.

-       له العديد من الكتب والمقالات والدراسات والأبحاث والأشعار في التاريخ والفلسفة واللاهوت والليتورجيَّة والأدب والشعر والأنتروبولوجيا...- الكتاب مذيل ببيبليوغرافيا شاملة [ص. 123].

 

ثانياً، ماذا عن الكتاب؟

أما الكتاب فهو محاضراتٌ سبع، بل عظاتٌ، اقْتُطِفَتْ من فتراتٍ زمنيةٍ متفاوتة. وثَّقَها جاد القصّيفي، لتَصْدُرَفي منشورات جامعة الروح القدس – الكسليك.

تُظَهِّر تلك المحاضرات،فيما تظهِّرُهُ، المارونيَّةَ في جوهرِها ونشأتِها وتاريخِها وصلابةِ ناسِها وعلمائِها... وجبالِها والوديان... وكنيستِها وأحبارِها وشهدائِها ومعاناتِها... ورسالتِها ورسوليَّتِها... وفوقَ ذلك قِبْلَتَاها: أنطاكيا والقدس... إلى رومانيَّتِها المبكِّرة، وروحانيَّتِها النسكيَّة، وزُهدِها، وتجاوُزِها لكيانِها الوضعي... ليُمْسيَوطنُها الحقيقي مساحَةَحرّيةٍ وروح.

وفيما يؤكِّد الأب حايك،في محاضراته تلك، على جدليَّةِ العلاقةِ بين المارونيَّةِ والأرض، يعتَبِرُ أنَّ المارونيَّة في جوهرها "مدرسةٌ روحيَّة"[ص. 27]، أو كما سمَّاها تيودوريطس القورشي: "فلسفةُ العيش في العراء"[ص. 28]... أو إذا شئتم "طريقةُ نسك رهباني" [ص. 29]. "فلم يشيِّد الموارنة، كما يقول، الصروحَ ولم يسكنوا القصور [إلا لاحقاً....!؟]. قصورُهم الوحيدة هي أديار"[ص. 31]... ويتابع، "هم لا يصلحون إلا لشيء واحد هو الحرّية"[ص. 37].

وفي هذا السياق يحذِّر حايك، في ما يشبه الرؤيا، من "أن نهاية الموارنة هي بَدءُ نهايةِ المسيحيَّةِ المشرقيَّة. ونهايةُ المسيحيَّةِ المشرقيَّةِ هي حكمٌ بالإعدام على كلِّ الإثنيَّات والكيانات الثقافيَّة التي تمثِّلُ خيرَ حظوظِ الشرق للخروج من عصوره الوسطى حيث يُخشى عليه كلَّ ساعةٍ من الغرق فيها [وقد غرق فعلاً...!؟]. وبكلمة أخرى، يتابع حايك، إن مشروعَ إبادةِ الموارنةأو مشروعَ تهجيرِهِم أو مشروعَ تعطيلِهِم ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، يُشَكِّلُ اغتيالاً للمشرقِ وخصوصاً للعروبةِ والمسلمين."[ص. 50].

وبعد،

المارونية: ثورةٌ وحرية... وطنُها الإنسان... في بَدءٍ من لبنان... لبنان، يقول بونا ميشال،"مشرقُهُم المصغَّر"[أي الموارنة]، بديلاً عن المشرق الذي عجزوا عن بنائه مع الآخرين،"تارة في سوريا الكبرى وطوراً على شكل الهلال الخصيب، وعند بعضهم في إطارٍ أوسع يضمُّ الجزيرة العربيَّة"[ص. 53]...!؟

وفيما يثمِّن، عَلَمُنا الكبير، إحياءَ الموارنة للعروبة، يُعْرب عن خيبته من تلك العروبة... ليعود إلى توصيف ماضي المسيحيِّين وحاضرِهِم ومصيرِهم بالإضافة إلى شهادتِهم في هذا المشرق..."فأوراقُ اعتمادهم، يقول، ممهورةٌ بالدم والدمع"[ص. 83].

لم ينسَ حايك سيدةَ أيليج، رمزَ الصمود والبساطة والتواضع والتجرُّد والتقشُّف والتضحية، والتي كانت، ولأكثرَ من قرنين من الزمن، مقراً آمناً للبطريركيَّة المارونيَّة في أحلك الظروف التي مرَّت على شعبنا في زمن المماليك... كما لم ينسَ حكايةَ"حفرون ونفرون" رَمْزَيْ إرادة البقاء ونزعة الإغتراب لدى كلِّ ماروني... ليبقى الخلاص، عنده، دائما بالمسيح[ص. 103]. المسيح الثائر... المسيح "العهد الجديد"... المسيح الذي "أبطل الحتميَّات"...!؟ ولتغدوَ المسيحية في قاموسه "خميرةً للقلق وتوقاً إلى ما سيجيء، إلى من سيجيء، لتظهر، وكما يقول الكتاب: الأرضُ الجديدة والسماءُ الجديدة"[ص. 117].

ولا نعجب من أنَّهلم يستثنِ،في نقده المتدافِع صعداً، وعند سؤاله عن موقع كنيستنا المارونيَّة من هذه المسيحيَّة الثائرة؛ لم يستثنِتلك الكنيسة، حينيقول: "إن الكنيسة عندنا تَظْهَرُ وكأنَّها خارجَ الموضوع، خارجَ الزمان غير معنيَّةٍ بالتاريخ حتى ولا بتاريخِنا"[ص. 117][ملاحظة/ تجدر الإشارة إلى أن هذا الكلام يعود إلى العام 1978].

تلك كانت باقةٌ من أفكار ميشال حايك الواردة في الكتاب الذي نتحلَّق حوله هذه العشيَّة... والتي يسهل الربط فيما بينها... لما يتحلى به هذا الكاهن الماروني، الفيلسوف واللاهوتي والعالم والشاعر، الثائر كالبركان؛ لما يتحلى به من دقَّةٍ وتميُّزٍ، استطاع بهما أن يختصر،وبصفحاتٍ قليلة، مصنفاتٍ ومجلدات قد لا تتَّسع لها رفوف المكتبات.

هذا غيض من فيض عطاءات الأب ميشال حايك... المخْتَلِفْ في كلِّ شيء.

فماذا تراهم يقولون، السادة المنتدون، في الأب حايك، اللامحدود في فكره ولاهوته، دون أي تهوّر أو ابتذال...!؟

 

 ______________________________

الأب ميشال حايك

المارونية :  ثورة وحرية

الحركة الثقافية – انطلياس – 17 أذار 2015

 

 

سمير فرنجية

 

بداية أشكر جامعة الروح القدس على دعوتها، وقبل ذلك أشكرها على اهتمامها بهذا التراث الثمين للموارنة وللبنان على حد سواء. إن الاهتمام بفكر وروح الأب ميشال حايك هو مساهمة في إعادة الاعتبار الى معنى لبنان، بما هو بيئة فريدة للعيش معاً في هذا العالم، وبما هو – هذا المعنى – خلاصنا الوحيد في محنتنا القائمة.

 

أيها الأصدقاء،

 

قبل شهر من اليوم، كتبت مقالاً في جريدة النهار بعنوان: "أسئلة مارونية في زمن العنف والإلغاء".

 

فسألت ماذا ننتظر كموارنة للخروج من التقوقع والعمل على إعادة الاعتبار الى النموذج اللبناني في العيش المشترك، هذا النموذج الذي عملنا على بلورته منذ بداية القرن الماضي  والذي يكتسب اليوم أهمية استثنائية في منطقة يجتاحها عنفٌ مجنون؟

 

ألا ينبغي لنا الآن، وأكثر من أي وقت مضى، تظهير فرادة التجربة اللبنانية في العالم عموماً، من حيث شراكة المسيحيين والمسلمين في إدارة دولة واحدة، وفرادتها في العالم الإسلامي خصوصاً، من حيث شراكة السنَّة والشيعة في إدارة الدولة ذاتها؟

 

في كتاب "المارونية: ثورة وحرية" جواب على مثل هذه الأسئلة. ففي المقدمة تذكير بأن الأب ميشال حايك قد نادى ب "الحلم الماروني الكبير"، حلم "وطن تعددي تتلاقح فيه الثقافات  والحضارات والأديان ، وطن لا تذويب فيه أو إلغاء للذاتيات". هذا الحلم يلخص جوهر التجربة اللبنانية.

 

ويذّكر الأب ميشال حايك بأن الموارنة  "كانوا أول من استقدم فكرة الوطن الى الشرق، وأول من غامر بانشاء وطن على غير الأسس التيوقراطية المألوفة منذ الماضي السحيق (...) فهم يمدون يدهم الى الدروز والسنة والشيعة من المسلمين، والى سائر الطوائف في سبيل تجسيد تلك الفكرة المبدعة وإقامة ذلك الوطن الفريد".

 

سؤال آخر طرحته في مقال جريدة النهار: ماذا ننتظر كموارنة للعمل على منع الحرب بين المسلمين، حمايةً للمسلمين وللمسيحيين، وللكيان اللبناني؟

 

ألم ندرك بعد أن المنطقة العربية قد دخلت حرباً دينية تشبه إلى حدّ بعيد "حرب الثلاثين سنة" التي دمّرت المجتمعات الأوروبية في مواجهات دامية ما بين الكاثوليك والبروتستانت خلال القرن السابع عشر، وأن لبنان ليس في منأى من هذا العنف؟

 

ألا نعتير ، كما جاء في رسالة بطاركة الشرق الأولى، "أن المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين، كما أن المسلمين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسيحيين، وأننا من هذا المنطلق، مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ"؟

 

هذا السؤال الكبير حول طبيعة علاقتنا مع العالم العربي أجاب عنه الأب ميشال الحايك باسلوب يخاطب العقل والقلب في آن معاً.

 

يقول: " لنا نسبة بالعالم العربي لغة وقربى وتمازجاً وتواثقاً منذ نجران وغسان والحيرة، منذ بداية التاريخ العربي حتى بني أميّة والعبّاس. ترجمنا له أرسطو وأفلاطون وإقليدس وهوميروس والعلم والحكمة في الشام وبغداد، ورفعنا في هذا العالم العربي راية التحرر في وجه أول دخيل وأيقظنا روح القوميّة فيه، وأحيينا اللغة والفنّ فيه بعد الانحطاط. فتراثه هو منذ بدئه أيضاً تراثنا وأول خطّ كتب بالحرف العربي الشائع وجد بالقرب من حلب في القرن الخامس وكتبه مسيحيّ".

 

هل هذه العلاقة سهلة ؟ إنها بطبيعتها صعبة لأن الموارنة مدعوون الى التوفيق باستمرار، كما يقول الأب ميشال، بين "أعتق ما في الشرق وأحدث ما في الغرب". والمهمة ليست سهلة. أنجزوها في الزمن البعيد مع الحاقلاني والدويهي والسمعاني والصهيوني وغيرهم ممن لقنوا الغرب تراثات الشرق ونفخوا في الشرق روح النهضة فأقاموه بعد أجيال الانحطاط، واستكملوها مع نجيب العازوري وخيرلله خيرلله وأمين الريحاني وسليمان البستاني وغيرهم.

 

ويضيف الأب ميشال: "أستطيع القول، لا عن إدعاء بل عن وعي وادراك وموضوعية راسخة في البحث منذ سنين (...) أن العرب والمسلمين لم يكن لهم في تاريخهم فئة من الشعوب أعطتهم ما أعطاهم الموارنة..." (ص 60).

 

ينبغي على الموارنة اليوم تجديد هذا الدور والعمل في هذا الزمن، زمن العنف والقتل والإلغاء، على وضع أسس ثقافة جديدة هي ثقافة السلام والعيش معاً.

 

أيها الأصدقاء،

 

يقول الأب ميشال حايك: المارونية هي قضية كبرى، حملها رجال صغار... فأسقطوها وأسقطتهم".

 

فالمارونية عندما تتحول الى هوية مغلقة يتم استخدامها في الصراعات على السلطة تفقد ميزتها الأساسية وهي الحرية. فاختزال الانسان يالجماعة والجماعة بحزب والحزب بقائد يفقد الفرد حريته ويجعله محكوماً بقرارات واحكام لا يشارك في رسمها. وهذا أمر خطير لأن الحرية، والكلام هنا للأب ميشال حايك، هي "وطن الموارنة الوحيد لا الأرض... لأجلها صادقوا من صادقوا، وعاداهم واعتدى عليهم من عادى واعتدى" (ص 14).

 

ويفقدهم أيضاَ هذا الإختزال القدرة على التواصل مع الآخر المختلف، هذا التواصل الذي شكل ميزة أساسية في تاريخ الموارنة وقد أعطى الأب ميشال حايك في الكتاب حيزاً مهماً لأهمية اتقان اللغات التي هي وسيلة هذا التواصل.  فيقول: "كل من يرفض واحدة من الحضارات واللغات التي لأجلها أبدعت جبيل الأبجدية، قد يكون نزع نفسه من الجنسية اللبنانية" (ص 43).

 

وانطلاقاً من أهمية الحرية والتواصل مع الآخر يرفض الأب ميشال حايك المنطق الذي يرى الى الموارنة أقلية بحاجة الى من يحميها. فهو يقول: نحن هنا لنبقى، ولا حاجة بنا إلى حماية مشبوهة، لأننا نعرف أن من إدّعوا حمايتنا كانوا حماة لمصالحهم. لا ضمان في هذا العالم العقوق، غير ذلك الذي نحمله في وجودنا ونحققه بأعمالنا ونظهره بإبداعنا. وفي كل حال، لسنا زبائن لأحد، بل أناس يحاولون المساهمة في عملية إنقاذ المشرق. ونحن منه، ومن خلافاته وعصبياته وأوهامه.

 

ويضيف: "نحن هنا لنبقى شهادة للشرق، شهادة على التعدّد الإنساني ودعوة مستمّرة إلى الحرّية. واختباراً للقاء الروحي وإرادة التجدد والإبداع، لا إمتيازات لنا إلا بما نتميّز به من مبرّرات في تجميل الأرض والفكر والروح".

 

أيها الأصدقاء،

 

في نهاية هذه المداخلة أريد العودة الى جوهر الرسالة التي حملها الأب ميشال حايك طوال حياته والتي لخصها على الشكل الآتي:

"الانسان قبل الأوطان. إذا سلم سلمت، وإذا خارت روحه انهارت أرضه. من تحرير الروح تبدأ عملية تحرير الأرض.

 

___________________________

لاءَات الأب ميشال حايك الثلاث

الخوري باسم الراعي

الحركة الثقافية أنطلياس

في 2015/3/17

ـــــــــــــــــــــــــــــ

السيدات والسادة،

أشكر مركز فينيكس والحركة الثقافية انطلياس على هذه الدعوة الكريمة للكلام في سيد من أسياد الكلمة. كما وأحييّ الزملاء المتكلمين والحضور الكريم،

أيها السيدات والسادة،

هناك مداخل متعدّدة لقراءة نصوص الأب ميشالحايك في هذا الكتاب الذي يقدمه لنا مركز فينيكس تحت عنوان: "المارونية: ثورة وحريّة"، وهو أمر طبيعي، ما دام الأب حايك قد أشار في أكثر من موضع في نصوصهأن مقاربته تأويلية (ص11، 60). ومتى دخلنا مجال التأويل لا بد من السير بهدي القاعدة الذهبية التي أرساها بول ريكور في شأن أي نص، بأن النص متى خرج من يدي صاحبه لا ينتمي إليه بعد. ذلك ما دفعني إلى الخيار الذي قمت به لدى قراءتينصوص الأب حايك بالتركيزعلى البنية الداخلية لنصهالذي انعقد على "الرفض"، رفض ما آلت إليه المارونية في زمن وضع هذه النصوص. والرفض يعتبره حايك سمة الذات المارونية وهو لب التأويل أيضًا. والرفض لا يعني الرفضية، بل إذا شئتم هوأقرب إلى "فلسفة اللاء" عند غاستون باشلار، التي حدّدها بثلاثلاءَات:

-       لاء للانغلاق في التجارب السابقة من دون تهميشها طبعًا، ونعملحركة معرفة ديالكتية تقوم بين الماضي والحاضر، حتى تبرز الهوية الحقيقية.

-       لاءللمفاهيم الجامدة على خلفية التحديدات المتداولة،ونعملتحديدات ديالكتية بين ما هو مألوف وما تم التوصل إليه معرفيًا.

-       لاء للتسطّح المادي للوجود وللمعرفة، ونعم للعبور في الواقع إلى ما هو أبعد من الواقع، حتى يبدو الواقع لحظة في مسار تحقق موجّه باتقان.

ويخرج باشلار من هذه اللاءَات بتحديد "لفلسفة اللاء"يقول: "تعتبر فلسفة اللاء أن الروح بنشاطه هو عامل تطوير، بحيث أن الفهم الرصين للواقع، يعني الافادة من الابهام الذي يعتري هذا الواقع بغية تحويل وإيقاظ الفكر،بحيث أنوضع الفكر في حال ديالكتية، هومناسبة لضمان التوّصل إلى إيجاد ظواهر كاملة علميًا، ولتجديد المتغيرات البالية أو المخنوقة بسبب اهمالها من قبل العلم أو الفكر الساذج [أي الفكر الذي لم يعرها اهتمامًا]" (Gaston Bachelard, La philosophie du non. Tunis 1993. P.16). ويوضح في مكان آخر من الكتاب أن فلسفة اللا لا تأتي من الخارج بأحكامها ونقدها بل هي "أمينة لقواعد من داخل منظومة تتمتع بقواعدها الخاصة" (ص 124).

هذه الأبعاد الخاصة بفلسفة اللاءنجد شبيهًا بها في نص الأب حايك، فهو ينظر إلى المارونية على أنها روح وثّابيأبى الاختزال والخنوع والتقوقع، إنه روح مناهض لكل حصر أو حصرية، ذلك أن المارونيةانطلقتفعل اعتراض بدأه مارون "الرافض" (ص20)، كما يقول حايك.وبكونها نشأت من الاعتراض فلا تستقيم في نظره إلا في "الاقدام" (ص21) أي التطوير وإلا خانت انطلاقتها. ومتى حدثتهذه الخيانةتكون سببًا في كبوتها وانكفائها وحتى زوالها.وإذا تصلّبت أو غالت في تصلبهاخانتما في روحها.والكلام هنا ليس سريالية، إن نص حايك يظهر بوضوح أن الواقع هو مجال الروح الماروني ومدى فعله، ذلكلأن الروحانية المارونية، كما قال يومًا، اختارت سبت الفصح، لا جمعته أو أحده، منطلقًا روحيًا. هي إذًا في الواقع بين حاله ومآله. ولذلكفمتى انتقدها حايك، إنما يكون فعل الانتقاد نابعًا من الروح الماروني لا من خارجه. وهذا الروح يختصره حايك ببعض سطور، أسوقها هنا، قبل الشروعبتفصيل اللاءَات الحايكية: "إذا ضيّق عليهم، رغم ضيق مداهم، احتموا في صخرة الوادي واعتزلوا وتقوقعوا، وإذا وسع لديهم المجال تدفقوا من أعالي الجرد إلى الساحل فالجنوب فالبحر حتى يصلوا إلى أقاصي الدنيا وبختبروا كل فكرة ويجرّبوا كل شعار. فهم أكثر الناس تقدّمية إذا أَمِنوا، وأشدّهم رجعية إذا فزعوا. وإذا ضمنوا الحرية نفخوا في الشرق روح التحرّر، وإذا أذلهم استعمار فضّلوا الانتحار. لقد كانوا أول من استقدم إلى الشرق فكرة الوطن فأرادوه كيانًا مستقلاً قائمًا بذاته منعوتًا بصفاته غير مضاف إليه. ومع هذا التزمت الوطني، كانوا أول من استنبط فكرة القومية ونظّروا لها وجعلوا نفسهم دعاتها. إنهم غلاة في كل شيءأ" (ص100).

والبارز في هذا النص،سيطرة فكرتين موجهتين:التجواز أو التطور (والفكرة الثانية) متى كان ذلك موافقًا للذات المارونية ولا يخرجها من حدود هذه الذات. فالانطلاق في المارونية متأصل في ذاتها، وهو امتداد لذاتها، إنه باختصار فعل حرية. وهذه هي مقومات الهوية المارونية تأصيلاً: الذات التي تعي ذاتها والإقدام، أي الانعزال (بمعنى العودة الجذرية إلى الذات) والرسالة. هذا هو اليقين الأول في المارونية،إنه فعل الحرية الأولى:انعزالواقدام. وهذا الفعل، كما يبيّن هوسرل إضافة إلى كونه "تثبيتًا لحضور الإنسان في العالم، هو تحرّر للإنسان في وجه العالم" (Henri Duthu, Husserl vu par Lévinas. Une philosophie de la liberté. http://espacethique.free.fr/dwnld.php?lng=lng&pg=290)،بمعنى قذف لمعنى لا فعل تفلّت، إنه التزام. فالمارونية تنعزل لتقدم أي لتحدّد شروط إمكان رسالتها من جديد. وهنا يبدو بوضوح أن روح المارونية لا تفهم خارجًا عن رساليتها.

في هذا السياق نفهملاءَات حايك الثلاث، وبعيدًا عن هذا السياقندخل مع الأب حايك حكمًا في متاهات النص والنقل والتاريخ وما شاكل...

-       اللاء الأولى، لا للانغلاق نعم للانعزال، أي نعم لديالكتية الماضي والحاضر تمنع التقوقع في هوية جامدة. ينبه الأب حايكفي هذه النصوص إلى هذه المسألة عندما يقول: "لن ندخل [...] في مباراة المغالاة والبهورة و"التفشيط" والإدعاء. ولا اعتدنا أن نستقبل التاريخ من هذا الباب كما تعلمون، ولا أن نستلذ القصص العشائرية، والجلوس في أرخبيل الطوائف [...] فإذا كانت المارونية [...] حركة قامت بوجه العصبيات، فكيف نعتنق ما كفرت به، من دون أن نكون كافرين بها؟ المهّم [...] أن نستخلص ما أمكن استخلاصه من نموذجية تعني الجميع، أما الباقي فنتركه للإستهلاك والإستغلال الداخلي..." (11). ذلك ماجعله يلوذ بالتأويل (ص16)، والتأويل يأبى القوالب، فهو فعل حرية ودليل عليها كما يقول ديلتاي، لأنه يخلق مسافة تفكّرية بين الذات والعالم. وهذا معنى كلام حايك،في النص المذكور أعلاه، نكفر بالعصبية من دون أن نكفر بالمارونية. فالعصبية ضد الديالكتية، أما الانعزال فلا، لأنه زمن تأويل كما يقول: "الأمس، كيف يمكن أن يكون؟ إن هو بنصوصه وآثاره وأحداثه ليس سوى عملية إبداع عند من ينتمون إليه ويعتنون به" (ص12). والمحركان الأساسيان لعملية التأويل تلك هما خطان متواصلان: ذات تعي ذاتها أن لها تاريخ، وتاريخ يختزن قوة دفع تنتفض على معوقات التاريخ. فالمارونية في نظره تعيش زمنها الذاتي منعزلة أي عصية على التغريب متى هددت، كإصرار على الاستقلالية ورفض للإندماج أو الذوبان (راجع، ص25)، وكسر للقيود متى أوجدت لذاتها مساحة لا تلغي الذات، وهذان هما باب الحرية الأصيل. من هنا قوله: "لم تنكسر فيهم (أي الموارنة) روح الحرية على الرغم من هزائمهم عبر التاريخ!" (ص12) وكأنه يقول بكلام آخر، تفقد المارونية ذاتها متى مسّت استقلاليتها وتعطّلت إرادة المبادرة لديها. ومتى أصيبت بهذا الداء انتفت قضيتها (ص14) أي ذلك اللقاء بين الحرية والتاريخ.

من هنا ينصب جهد حياك في نصوصه، وهي غالبيتهامن زمن الحرب، على إبراز خيار، سار عليه أيضًا موارنة آخرون أمثال المطران حميد موراني ويواكيم مبارك، فيتأصيل المارونية في الحرية، محاولين ثني الموارنة عن الانزلاقالاتني، وهم لم يعرفوا ذلك إلاّ متى صار لهم دولة،وعن التكبّش الأعمىبالمكتسبات إلى حدود إلغاء الذات، حتى تجد المارونية الروحية ما تقوله لهم، إنهاتعني أيضًا أن المارونية تتجاوز الانغلاق في أرض. ذلك ما دفع حايك إلى القول إنهم يأتون الأرض من حريتهم وتبقى "الأرض" الوحيدة التي لا تنزع من تحت أقدامهم الحرية: "إن وطنهم ليس في أرض أولاً، [والأولاً مهمة هنا]، بل في مناخ حرية" (ص14)، إنه آتٍ من "حركة روحية نسكية، غير مرتطبة أصلاً بأرض أو بعرق ولا بقومية ولا بلغة" (27). إن المارونية عيش في اثر المسيح الذي صلب خارج أسوار المدينة (راجع، ص32). وإذا أردت أن أكون أكثر راديكالية في الاسترسال بهذه الفكرة، أحيلكم إلى موقف المطران موراني الذي ذهب أبعد من تأرجح حايك، حين قال في واشنطن سنة 1980: "القضية الجوهرية ليست في أن تبقى للمارونية أرض أو لا تبقى، بل في أن تبقى المارونية أرضًا، أي قاعدة ثابتة من جهة ومنطلقًا فعّالاً من جهة أخرى" (الوجدان التاريخي الماروني، 1981، ص70).

-       اللاء الثانية: لا للعجز، بالانقياد إلى مفاهيم جامدة كــ "المارونية السياسية" التي هي نقيض الأصل أي "المارونية الروحية" (34)،فالمارونية كما قال سليم اللوزي لا تخاطب إلا بلغة الرسالة، لأنها علّة وجود الماورنية (84)وتجسيدًا لحركيتها بين الآصالة والتجديد. فالموارنةفقهوا وجودهم مشروعًا قيد الإنجاز باستمرار (وهذا شرط أساس في النسك وهو التجدد المستمر)، إذ ارتضوا وجودهم كمايرى حايك "وثيقة حيّة" (15)تأبى التصنيم، حتى لا تتناقض وخيارهم الذي أخذوه عن مارون الناسك الذي اختار أن "يتشفّع للعالم، لا أن يملك أشياء هذه الدنيا، بل أن يتمالك عن كل أشيائها [...] هذا الموقف الماروني الأول. وقد ظل هذا النموذج الرهباني عالقًا طويلاً بالمارونية، ينعكس على تاريخها وذهنيتها ونوع تفكيرها ومسلكها الاجتماعي وكل منشآتها الزمنية" (30). يمكننا القول إنحضارتهمتنبعث في روح الدير عندهم. ويذهب حايك في شكل راديكالي أيضًاإلى أن وجودهم في الجبل كان علامة هذا الخيار الرسالي عندما يقول: "نزلوا عهد الانتداب إلى الساحل، شعروا بحدس عميق، بأن هذا النزول هو انحطاط، وأنهم سيفقدون النموذج، ويضيّعون الأصالة" (32). وتاريخهمصنعوه من دون أن يحتكروه أو يجعلوا منه ماركة مسجّلة. فهم على رغم أنهم "ولدوا على جبل [...] سيظلون أبدًا أبناء جبال أو أبناء وديان" (19)، ليظلواخاضعين لرساليتهم التي هي صنو "إقدامهم"، يقول:"نزلوا إلى الساحل، يتسّلقون جبالاً أخرى، يمدّون يدهم إلى الدروز والسنة والشيعة من المسلمين، إلى سائر الطوائف، في سبيل تجسيد تلك الفكرة البدعة، وإقامة ذلك الوطن الفريد" (23). والواضح لديه أن الجذرية المارونية تخالف المارونية السياسية ورواسبها (27) التي حولت الوطن الماروني من "مساحة روحية، وحيث تكون الروح هناك الحرية" (ص13) إلى مجرد أرض ولعبة سياسية.

 

-       اللاء الثالثة: لا للتسطّح أي العيش في أفق محصور خانق وفي توجهات لا مستقبل لها،بل العبور في الواقع إلى ما هو أبعد من الواقع، حتى يبدو الواقع لحظة في مسار تحقق الروح الماروني. وهوعبور لا يتم،في نظر حايك، من دون استنهاض روحي يمليه واقع يطرح على المارونية مسألة وجودها: "اليوم، أكثر من خمسة عشر قرنًا، المارونية تطرح كمسألة وجود. تكون أو لا تكون!" (38). ومصيرها مرتبط بمقدار وعيهالشموليتها لا البقاء في ارتهانها لمكتسباتها وضماناتها، ذلك بأن يحسن الموارنة البقاء على وفائهم "لذاتهم وللأرض" (42). إن خلاصهم رهن بهذه الأمانةالتي هي صليبهم في آن، كما يقول (82)، لأن التاريخ كشف أنهم قد خسروا رهانهم على "لبنان الحديث [...] صنيعة [...] التوافق" (42) على التعدّد، فهل يعون كيف يظلّون "هم هم لا غيرهم" (48)؟ فلبنان الذي هو"المحور الذي يدور حوله المصير الماروني" (49)، هو على شفير الزوال. برز هذا الموقف في المحاضرة الثالثة بعنوان: "مارونية الأرض والروح"، حيث يقول صراحة: "اليوم يختبرون (الموارنة) الموت، وفي ذلك دليل لكل واحد على أية ميتة سيموت بها [الشرق] بدوره [...] أترى أتت أخيرًا ساعة موت الموارنة؟" (50-51). والمخرج الوحيد الذي يراه حايك هو في فك الارتباط الذي أدى إلى تسطّح المارونية روحيًا بالمعنى الفلسفي والديني للكلمة.فلعل العودة إلى روح المارونيةتكون المخرج الذييعتق الموارنة ويطهرهم من رجس السياسة المارونية. بلغة أفصح لا ضمانات سياسية للموارنة، فهم يوم ربطوا مصيرهم بالضمانات ضاعت المارونية (84)، إذ "لا امتيازات لنا، كما يكتب، إلا بما نتميّز به من مبرّرات في تجميل الأرض والفكر والروح" (85). بالإمكان العودة إلى الصفحات 54-57، حيث يتكلم على اعادة اكتشاف قيمة العراء، وهم قد خبروه مع بداية الحرب في لبنان ولا زالوا يلمسونه اليوم في أزمة الرئاسة التي، كما أرى، هي تعرية للموارنة من اللهاث وراء الضمانات. يقول: "بسبب هذا التعرّي قد يشعرون الآن أنهم أخف ثقلاً [...] مما مضى، في السعي إلى تسلق جبال لبنان من جديد [...] حتى يستنشق الهواء النقي" (55). إنهم بحكم تاريخهم على موعد مستمر مع الترك ليولد تاريخ جديد من رحم الحرية التي من أجلها تربوا على روح التخلي تاريخيًاكما يقول حايك: "هم دومًا [...] على استعداد للتخلي عن فرنسا وعن العرب وعن مجتمعهم نفسه، عن بطريركهم وعن رهبانهم وحتى عن إيمانهم بالله وبالمسيح، إذا قَسَت هذه الحرية، التي هي عندهم أساس الإيمان، ركن المجتمع، سبب الالتزام بالغرب، وهي حلمهم للعرب (...)" (72). والترك حتى ولو أتى من هزيمة لا يخيف حايك البتة: "فإذا أخفق الموارنة أو نجحوا، يقول، ففي إخفاقهم كما في نجاحهم معان وأبعاد أوسع من إطار طائفتهم ومن حدود تخوّفهم الضيّق" (52).

في كلامه واقعية خالصة مقرونةبرجاء كبير، فالمارونية تختبر الموت لا لتبقى فريسته بل للتتطهر وتعتق من الاستسلام الهانئ، وتعود إلى القلق المبدع،لتعود من التكتكيك إلى الأصل (راجع، 103). وهذه العودة لا بد من أن تكون ثورة على الرواسب، كما جاء في الفصل الأخير من نصوص الكتاب، ولا ثورة من دون تمرّد على الحاضر أي الحاضر الماورني، باستلهام لثورة المسيح المتمرد على الحاضر والماضي والمستقبلات (115)، ذلك أن، كما يقول: "الحقيقة لا يمكن أن تكون استقرارًا بل استنفارًا، لا تقليدًا بل تجديدًا مستمرًا وإبداعًا إلى ما لانهاية (...) فالمسيحية الحقيقية لا يمكن أن ترضى بوضع ونظام مهما كان الوضع ومهما كان النظام. أو تقنع بعرض أو أن تطمئن لحاضر مهما كان هذا الحاضر(...) ولنفترض افتراضًا، يوم تبطل كل الثورات، إذا افترضنا، فهل ينعم الناس بكل ما تشتهي نفوسهم من مأكل ومشرب وحرية ومعرفة. يوم يحطاطون لنفسهم بكل الضمانات، تبقى المسيحية خميرة للقلق وتوقًا إلى ما سيجيء، إلى من سيجيء (...)" (117). ومرامي هذه الثورة تبدأ بالذات، "في هذا الانقلاب الروحي، من الظاهر إلى الاعماق لانتزاع الذات من حالة الاغتصاب، وتسليمها إلى الروح المجدّد وجه الأرض، المغيّر وجه الإنسان" (121).

 

أيها السادة، بهذه اللاءات الثلاث تُفهم مارونية ميشال حياك ثورةً وحرية، شرط أن تستعيد المارونية ذاتها من الشتات الذي أنهكها، يوم تركت الجهاد الروحي ولهثت وراء الضمانات، فلا هي نفسها بعد ولا ما صَوَّرَتهُ من رحم هويتها يتطابق وروح الحرية التي أُعِتقت بواسطته من أسر التاريخ. فهل يكتب للمارونية أن تخرج من جديد معافاة إلى نهار التاريخ ؟ سؤال ليس برسم المارونية بل برسم الموارنة إذا ما أصابهم سهم الروح الماروني من جديد وخفق به تاريخهم، وإلا كتبوا لذواتهم ورقة نعيهم. والسلام.  


________________________________

كلمة الدكتورة ماري خوري

وصفت الدكتورة ماري خوري، في بداية كلمتها، الأب ميشال حايك بـ"ناسك الحرية". ثمّ تحدّثت عن بعض الإختبارات الشخصيّة معه، مشيرةً إلى أنّه لم يقبل يومًا أن يُدفع له بدل أو أن تُقدّم له هديّة. وأضافت أنّ الأب حايك عالج عدّة مواضيع مختلفة في كتابه كالدين والوطن والفلسفة والتاريخ والفنون، مشيرةً إلى أنّه يفرّق بين الدين والدولة ويوحّد بين الإيمان والحياة. ثمّ تحدّثت عن بعض المواضيع الّتي ذكرها الأب حايك في كتابه كإقامة مجمع أنطاكي يضم الكنائس المشرقيّة كلّها وإنشاء جامعة مشرقيّة تنقّب عن التراث الدفين وغيرها من المواضيع.

وكانت مداخلات من د. سمير خوري ود. أنطوان سيف...