ندوة حول كتاب جورج مغامس "في مدار برج العرب"

 

مشاركة: الأستاذ جورج شامي – الدكتورة نتالي الخوري غريب -

الأستاذ ايلي أنطون - الأستاذ ريمون عازار (قصيدة)

إدارة: الأستاذ نعوم خليفة

كلمة الأستاذ نعوم خليفة

 

          أيها الأصدقاء،

          في رحاب الحركة الثقافية – انطلياس وفي موسم المهرجان اللبناني للكتاب السنة الخامسة والثلاثون، دورة غريغوار حدّاد، نتحلق اليوم حول كتاب "في مدار برج العرب" ونحن في مدار دير مار الياس ورعايته، نرحب بكم وندعوكم لمشاركتنا في هذه الوليمة الشيقة والشهية.

"جورج مغامس، على ما يقول د. أنطوان معلوف في تقديمه للكتاب، لا أراه يشبه احداً ولا أرى أحداً يشبهه... فكأنه قائم من نفسه قلعة عاصية على رأس الجبل"

          تنازعني، وأنا أقرأ كتاب "في مدار برج العرب"، أمران: سحر السبك في الكلام المنحوت، ودقة التصوير، حتى لكأنني امام لوحة لفنان فذ مبدع، لا بل كأنني في دبي التي زرتها أكثر من مرة، استرجع معالمها وامكنتها.

          هذا الكلام المنحوت ببراعة لا يدعك تقرأ بسرعة بل بكل هدوء وتأنٍ خوفاً من أن يفوتك أي فكرة أو أي معنى يخفيهما سحر البيان او تغلفهما لعبة التعبير، فعليك ان تكون متنبهاً يقظاً على الدوام.

          أسلوب انيق رشيق حيّ يجعلك تحس وكأنك ترافق المؤلف في معالم دبي و"مولاتها" وتشاركه الحديث مع مضيفيه، والى جانب اللوحات الجميلة والوصف الدقيق والممتع ينقلك المؤلف الى ماضٍ من التاريخ بكل تفاصيله الدقيقة، كما يطالعك بنقد موضوعي للمجالات الاجتماعية والدينية والأخلاقية، ويقيم مقارنات، كل ذلك في روعة الأسلوب ودقة الإشارة ونحت الالفاظ وسبك المعاني.

          عذراً، لقد كان للكتاب فعل السحر عليّ إذ شدّني الى الغوص في مضمونه دون إرادة مني فغاب عن وعيي أن ذلك من مهمة السادة المنتدين، وهم من أساطين الفكر ورواد النقد والتحليل، أما انا فحسبي، وهذا شرف كبير منحني إياه مؤلف الكتاب والحركة الثقافية – انطلياس، أن ادير هذه الندوة ولكن فليُسمح لي ان أبدي اعجابي بهذا الكتاب وسروري بمضمونه إذ اغراني منذ الصفحة الأولى لمتابعة القراءة في مسالك تتداخل فيها صياغة اللغة ومتانة الأسلوب على وقع ألوان صور جميلة وأنغام موسيقى رائعة. جورج مغامس اسمح لي ان اهنئك على هذا العمل الرائع وهذا الابداع المدوي، وشكراً لحضوركم واصغائكم. 

________________________________________________

 

الشُّكرُ مُضاعَفًا

جورج مغامس

في النّدوة حول كتابي: «في مدار برج العرب»

الحركة الثّقافيّة- أنطلياس؛ 2016/3/08

أنا قلتُ ما قلتُ

وهم قالوا ما قالوا

ودونكَمُ، وسواكمُ المحتمَلين، بابُ القولِ مفتوحًا، ساعةَ الكتابُ بين أيديكم وأيديهم..

المهمّ أن تدومَ لنا هذه النِّعمةُ النُّعمة: حرّيّةُ التّفكيرِ والتّعبيرِ، بل جدواها!

وإنْ لي بكلمةِ شكرٍ واجبةٍ للكرامِ: حضورًا عزيزًا مشرِّفًا، ومنتدينَ أغنياءَ أسخياءَ، وحركةً حاضنةً ناهضةً عميمةَ الفاكهاتِ،

فإنّها تتضاعفُ بالتّأكيدِ والتّشديدِ على وجوبِ أن نظلَّ، نحن أهلَ القلمِ ومَهواهُ، على أُلفةٍ وتَوادّ، نتلاقى ونتكاشفُ.. نتكاتفُ ونتناصرُ.. نَدفعُ عن حضورِ الكلمةِ العَليّةِ، عن كرامتِها، زمرةَ المتطاولينَ.. زمرةَ النخّاسينَ، نَبني للإنسانِ والإنسانَ للأوطانِ والأوطانَ.. نركُمُ على الجليلِ والفضيلِ حبًّا وجوًّا جميلا!

سيّداتي سادتي،

إنّ عصائبَ السّوءِ على سوئهم واحدٌ اعصوصبَ، فكيف نكونُ المفرَّقينَ شَتاتا؟!

فالحقَّ الحقَّ أقولُ: لنكنْ واحدًا، أبناءَ نورٍ في وجهِ أبناءِ ظلمةٍ كثيرينَ يتكاثرونَ!!

بالوَحدةِ يكونُ لنا برجٌ، وعلى البرجِ نكونُ البروجَ...

... ثمَّ ثمَّ

ألا يا ليتَ الدّنيا بأمانينا،

إذًا لأخرجتُ من كُمّي زهورًا لكلِّ الصّدورِ...

________________________________________________

 

ندوة حول كتاب جورج مغامس"في مداربرج العرب" في 8 آذار 2016، الحركة الثقافيّة-  انطلياس.

(بقلم ناتالي الخوري غريب).

"في مدار برج العرب": صلاة استعقال أم بيان مساءلة أم أدب مبكّل؟

 

من يقرأ جورج مغامس في كلّ نتاجه،  يلحظ من الصفحة الأولى أنّه ليس للعامّة، هو مدرسة في الكتابة الأدبيّة، حيث الدُربة حفرٌ، ومُكنة الجمع بين التراث والحداثة حِرفةٌ، وإتقان الصَّنعة لا يخلو من روح الفطرة. الفكرُ المستنير حاكمٌ، والمنطقُ طاغ، واللغة عصيّة على الاستنساخ، والتكثيف حاضر باستدعاءاته الماضيَ والمستقبل، الموسوعيّة الثقافية ولائم، الحواسّ ترصُدُ، والعين ترسل مدركاتها للمقارنات والموازنات، والحسّ النقديّ يسجّل، والحدس البرغسوني يوحي، والوجدان يتفوّر جراحًا وتحسرًّا وتألّما. أمّا التجديد في العبارات فاستحداثٌ على ابتكار تراكيبَ سعى إلى فرادته فيها. وحين نكرّر أنّه مدرسةٌ في الكتابة ليس من باب التفخيم أو المجاز، سَواء وجدنا من أحبّ أسلوبَه أم لم يحبَّه، وهنا تطرح كتاباتُه إشكاليّةً على أمل أن يكون لها مبحثٌ آخر في إطار جدليّة الكتابة بين المبدع والمتلقّي، لأنّ اقترابَ الأدب من الكمال(كما عنده) لغة وأسلوبًا وفكرا ورمزا وتعابير وتكثيفًا ولُمَحًا وغنى معرفيًّا وثقافيا وموسيقيًّا وإيقاعيًّا، يجعلنا نتساءل إلى أيّ مدى هذا الكمالُ يجعل الأدب نخبويًّا بعيدًا من متناول كلّ القرّاء؟!(في العاميّة نقول الأدب المبكّل).

-قد يكون هذا الكتابُ ثالثَ ثلاثيّة لديه توحي بأدب الرحلة، بعد كتابيه: أيّام في بلاد الماتروشكا، وَفلسُ العودة إلى منازلِ الغبطة، لكنّ الرحلة المكانيّة فيها ما هي إلّا بؤرٌ سرديّة اتخّذها الكاتب ليطرح من خلالها قضايا الجوهر في رحلة الفكر والروح انطلاقًا من العرض في رحلة الحواس.

نعود إلى هذا الكتاب تحديدًا:" في مدار برج العرب"، وفي البرج علوّ المقامِ والمقالِ، يسنده برج بابل، وقد هرب منه إليه، شتيتُ من تبلبلت بهم الألسنةُ من مشارق الأرض ومغاربها، في البرجين توقٌ إلى السماء، وفي البرجين، الشرقُ قِبلةٌ،ونباهةُ الرقيب من علُ  تصوّر المدى القريب والبعيد، والمنظورُ في وعي الناظر، حسرة ومفاضلة، من شاهق الخيبات والجراحات التي تطفو على مرأى تفوق الآخرين، الروحُ جوّابٌ في الأمكنة، والزمنُ سيّال بين يدي التاريخ.

في مدار جعبة مغامس المعرفيّة، هذا الكتاب هو أقربُ إلى "صلاة استعقال"، وما تستدعيه من تهيّب وتعقّل وتفكّر، لأنّه يطالب بالعقل ضرورةً حتميّة لا حلّ خارجًا عنها، في وجه "محاولات التدعيش بعد محاولات التتريك تلاطمُ محاولات الفرسنة، 52 والإسراع إلى إعادة الاعتبار إلى العقل النقدي في إطار المؤسسات الدينيّة، 35."  

 أراد الكتاب صلاة جماعة، لأنّ كلّ آخر قام بمحاورته، لم يكن آخر بمعنى الغيريّة، بل كان صدى صوتِه، كمعاناة مشتركة ومن يؤمن معه بإعلاء صوت العقل على أي صوت آخر.

وإذا حاولنا تتبّع منظومة فكريّة في هذا الكتاب على الرغم من أنّه يسير ضمن خطّ من المشاهدات والتداعيات في مشهديّة سرديّة-حواريّة، نجد أنّ طابع التفكّرات هو المهيمن، في تسجيل موقف، أو توثيق تمرّد أو تصوير تفوّق وانحدار في جرأة لا تحتمل المواربة وازدواجيّة التأويل، في نصّ أقرب إلى أن يكون بيانًا فكريًّا،  فتصبح بذلك رحلتُه أقربَ إلى ما قام به رفاعة الطهطاوي حين أُرسل فيبَعثة إلى فرنسا وكتب كتابه الشهير"تخليص الإبريز في تلخيص باريز" ليجيب عن التساؤل الملحّ:"لماذا تقدّم الغرب وتخلّف العرب". والمقارنة هنا إذا جازت، لماذا دبي، في هذا الخليج تطوّرت عمرانيا وأمنيا واقتصاديًّا،  وصارت "فلذةً من باريس"، وجمعت أممًا، وحلّت عليها بركاتُ العولمة انتشارًا وجذبًا، ولبنان يتأخّر وينغمس في وحول التجارب مجددا؟! وما زال مهدّدًا تارة "بقميص عثمان"، وتارة "بنار شعوبيّة"؟! حاول مغامس في هذا المدار أن يطرح إشكاليات عن الإنسان والتديّن وصراع الحضارات، بحثًا في أسباب التخلّف والتقاتل والتنافر بدلًا من التكامل والاستنهاض، عبر الغوص على مكوّنات العقل النقدي العربي وثغراته، منتفضًا على الذين" يصمّون آذانَهم دون القراءات التفسيريّة والتأويليّة للنصوص الدينيّة ولا سيّما تلك التي تزخر بالعنف، تُجاه الآخر"، إقصاء وإلغاء، ثائرًا على "مسفّهي دعاةِ الدولة المدنيّة الديمقراطيّة  "37،

 معتبرًا أنّ لعنة التعدّدية  كامنة في انعدام "التمييز بين المسائل التعبّديّة والمسائل السياسيّة،34"، وذلك بسبب تحجّر العقول، ما أسهم في إحياء النزعات السلفيّة المتشدّدة، والتصنّع و"التقنّع والإفتاء بالفتن" ، فالأحاديّة لعنة، والتعددية بلوى والحذر من الثورة تعقّل:"يمنعنا من الثورة أنّنا فسيفساءُ بالهزّات تنفرط"144. وعند الفصل بين قيصر والله، لدولة عرفت كيف تخلع عنها "قمصانها الميتافيزيقيّة"39، يعزو نهضة هذه البلاد إلى أنها تغرف من المستقبل، وقد تركت الماضي لأسراه وقضاياه التي قرّحت جلود العرب دهرًا،"هذي بلادٌ لا يستغيث حاضرُها بماضيها بقدر ما يستدعي ويستلهم المستقبل. نحو المستقبل تسير دولةَ مؤسّسات وحياة39".  إذا التحجّر العقلي، برأي مغامس أدّى إلى "قتل الله في الدين"، لأنّه لا يتجاوز الحرف والتصنيم، "فالله ليس في الطقوس وإضاءة الشموع وحرق البَخور وقرع الصدور110"، "ومصافاته في مصافاة الإنسان102"، وبذلك تظهر رؤيته اللاهوتية المسيحيّة في جوهر الله- المحبّة، فهو" يد تسقي وتعطي وتسخو وتحبّ وترحم... وبألسنة الطبيعة ينطق، وينطق العصافير!"111. منتفضًا وثائرًا على توظيف الله"مسرحًا ومسلخًا وستائر لهوى النفس وللشهوات111" وتقسيم الأوطان باسمه، منتفضًاعلى "هذا الله القتيلِ بالأقنعة والقُفّازات، بقبّعة الإخفاء، "111."وهنا في هذا الشرق ليس لنا إلا الله عليه نتّكل- وهو الله مَن به وعليه نقتتل"ص 144.

وبعد، هذا كتاب لا يؤمن بالأقدار، "وهل الدهر إلّا ما نحن فاعلوه؟!140، فالإصلاح يحتاج خلاصًا وإخلاصًا مسبوقًا "باعتراف أولا بتواطؤ الذات على الذات"141. يحتاج ان تكون المحبّة أصلٌ والصدق قيمةً وأساسا للمواطنة.

+++

في التقنيات السرديّة:

زمن السرد: في هذا الكتاب هو ما يقارب الأسبوع من الزمن، لكنّ زمن القصّ تمدّد في التاريخ،  فكان تكسير الزمن واضحًا فلا يجري في خطّ تعاقبي، بل يقوم بتحويله من أجل أن يستلهم عبرًا من أحداث ومعارك وقصائد وفلسفات،أو يصف حالا سياسية وفتنوية في الواقع الراهن هي صورة عمّا مضى.

الوصف:لم يأتِ الوصفُ تقريريًّا، أو توثيقيّاً، (إلا في حالات قليلة عبر تنصيص مرجعي عن بدايات الحكم فيها)،  بل جاء نقلا لحال المشاهدة عند معاينة كلّ ما يرتبط بموضوعات أراد الأديب أن يوقف الزمن عندها، ليؤبّدها، ليمنعها من الهروب من أمام نقده،  فلا عفويّةَ في اللقطة، وكأنّها ذهنيّةٌ مبرمجة يحكمها العقل أيضًا لتخدم الحركيّة الجماليّة التي أشرك فيها الظلال والألوان، مولّدًا معاني تخدم مواقفه وأفكاره." وقد أسهم الوصف الرمزي والتفسيري في تقوية الأشكال السردية، مما يتيح إمكانات تشغيل الديناميكية الحكائية، مما يزيد من بلاغة التعبير عن الموقف السردي، جيرار جينيت"

- تقنية التداعيات:  جاءت عبر هواجسَ محكومةً بمنطق المقارنات التي تغوص على جوهر المشكلات، بحثًا في علّتها لتصويب ما أمكن من معلولات صارت إليها. "التداعي نوع من الاستحضار والتذكر من خلال صورة ضبابية للشيء او من خلال انعكاس تمثّلاته في مجلس او خيال او مرآة او حكي او مداهمة، او اقتحام فضولي،من كتاب بلاغة السرد 314"  فالمنطق لدى مغامس جعل هدا التداعي متسلسلا متناسلا يخدم تصعيد الخطاب. وقد جاءت بأسلوبين: التذكّر والاستدعاء.

تقنيّة التذكّر:جاءت مشحونة  بشتى الأحاسيس المتضاربة والجراحات الوطنية تارة، وتارة أخرى جاءت زفير مجد وطن خلاق وشامخ. ما يحيل إلى تقنية الاستدعاء.

تقنية استدعاء التراث القديم:وظّفه الأديب بلاغيًّا كمنجز تكثيفي، ودلاليًّا في خدمة نقل الحالة في أسبابها ومسبباتها، عبر شخصيّات مؤثرة في إنجازاتها، (أدبية: عباسية، ابو العلاء المعري لوصف مهازل الحياة، وأبو نواس في استخفاف الطرب، وابن الرومي في معرض الهجاء والقدّ والهدّ، وشخصيات أدبية نهضوية وحداثوية،.. أمين الريحاني في ملوك العرب لاستحضار منازعة الأشقاء، ونسيب عريضة والأخطل، وخليل مطران، ومسرحية وروائية:(كشكسبير ودون كيخوته لفتًا إلى خلودهما وتمجيد ذكراهما الأربعمئة) وقوانينَ وأحكامًا(حمورابي) وفلسفاتٍ (الكتف الأرسطيّة والكتف الأبيقوريّة)، وعاداتٍ وأمثالًا وتراثا فقهيًّا (ابن حنبل، وابن تيميّة)... وأحداثًا دامية وإبادات يستدعيها على أبواب المئويّة" مجازر الأرمن، والسريان والكلدان والأشوريين...أوسقوط الأندلس وطورا بورا" وفظائع ستالين السوفياتي وبُل بُت الكمبودي وغيرهم.

وكلّ هذا الاستدعاء لم يأت بريئًا، فإلى جانب توظيفه معرفيًا وكشفًا لحجب التقنّع وعقم الموروث، استخدمه في تقنيّة السخريّة، التي تحمل في جانبها البلاغي قوّة التلميح والصراحة الجارحة، وهي نكهة لا يولم إليها الا الأفذاذ من ذوّاقة الأدب ومحترفيه والعارفين خباياه، (تقبيل أرجل السلاطين، في معنى البوس الفارسية الاصل، وبوش الفرنسية والقبلة العربية أو والامكنة بين مرقد العنزة ومبرك الجمل(16)، الأبواب العالية تتطاوس عيونُها البلقاء على منطقتنا،ص 52، مصير الشراويل والطراطير، "اللحى بطولها وعرضها كالمخالي بأعناق الحمير" 28، الصدارة الكورتيزونيّة العوارض". لم يرد شيء عفو الخاطر، ولا أقصد أنّه تكلّف، إنّما في معرض النحت والتجويف لفكرة لا يمكن أن تُستبدل بأخرى تحوجها ثروة معجمية وجعبة ثقافي.

وقبل الختام لا بدّ من القول بعد هذا العرض، إنّ تصنيف الكتاب كما سمّاه مؤلّفه في تساقط الجدران، او كما يسمّي د.ربيعة أبي فاضل هذا النوع بهجرة الأجناس، أو ما يمكن أن يطلق عليه، ففيه من الشعر بلاغته وجماله ولمعته، ومن الرواية إطارها وسردها، ومن الرحلة تنقّلاتها، ومن السيرة وجدانها وذاتيّتها، ومن المقال موقفه، ومن الخطبة فصاحتها، ومن التراث أحداثه وغناه وتناقضاته وعباقرته، ومن الفلسفة عقلها ومنطقها، ومن الدين روحه، وهذه التوليفة لا يمكن أن تكتمل إلا  لمن صهرها في فكره وعقله ووجدانه.

وفي الختام نبارك للكاتب المولودين والخلودين والبرجين، وقد بدأ الفصل الأوّل من الكتاب بالمولود الجديد، هذا المتجسّد في حبر وورق، درب خلودٍ أدبي، والمولود الآخر، وأنهى به الفصل الأخير من هذا الكتاب، المتجسّد لحما ودمًا دربَ ديمومة الاسم في اكتمال سيرورة الحياة في الأحفاد.  

  

والاخيرة لا يمكن إلا أن تكون خاضعة للتقدير والاجتهاد، للعقل لا للنقل، وفاقًا لمعادلة المعطيات والإمكانات والمصالح" ص34.

________________________________________________

في مَدارِ الأبراج

المحامي ريمون عازار

 

 

بالنُّورِ تَكتُبُ، لا بالحبرِ والقَصَـــــــــــــــــــــبِ

فَتَبزُغُ الأَنجمُ الأَقمارُ في الكُتُـــــــــــــــــــــــــــــبِ

وتَجْتَني مِنْ رُؤَى الإِبداعِ أَروعَهــــــــــــــــــــــــــا

وتَنْشُرُ الوَهْجَ أَلوانًا على الهُضُـــــــــــــــــــــــــــبِ

وردًا وفُلًّا، وحُسنًا بانَ مُكْتَمِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاً

كأَنَّهُ البَدْءُ، أوْ مِنْ شَهقَةِ الشُّهُـــــــــــــــــبِ

حَتّى لَيُسأَلُ هلْ أَفراسُكَ انطَلَقَـــــــــــــــــتْ

مِنْ سَاحِ عَبْقَرَ أَوْ مِنْ دارةِ العَجَــــــــــبِ

***

يا غامِسَ الرّيشَــــــــــــــــــــــــــــةِ الغَرَّاءِ في دُرَرٍ

يا بُلبُلَ الدَّوْحِ يَشْدو في المَدى الرَّحِبِ

تَسْتنْزِلُ الرُؤْيَةَ العَلْيَاءَ حالِيَــــــــــــــــــــــــــــــــــةً

تُفَجِّرُ الومضَ في الأَمْداءِ والسُّحُبِ

تَستَولِدُ الكِلْمَةَ العَذْراءَ، تُخصِبُهــــــــــــــا

فيَرفُلُ الوحيُ في أبْرادِهِ القُشُـــــــــــــــــــــــــــــبِ

أَلسِّفْرُ عِنْدَكَ جَنّاتٌ وأَجْنِحَــــــــــــــــــــــــــــةٌ

والكُتْبُ بَحرٌ مِنَ الأَعْمَاقِ والصَّخَبِ

***

مُذْ أَنْ عَرَفْتُكَ كالنُّسّاكِ مُلتَزِمًـــــــــــــــــــــــــــــــا

في «صوتِ لبنانَ» تُعْلي رَايَةَ الأَدَبِ

تُحَوِّلُ الحربَ حَرفًا لا حُدودَ لـــــــــــــــــــــــــــهُ

يُزَلْزِلُ الشّرَّ، يَفْري ظُلْمَةَ الرِّيَــــــــــــــــــــــبِ

أَنّى استَطَعْتَ تَكوُنُ البرقَ في سُدُمٍ

وحَولَكَ الرَّهْطُ مِنْ فِتْيانِنَا النُّخَــــــــبِ

رَأَيتُمُ وَحْدَها الأَقلامُ تُنْقِذُنــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

أحْيَيتُمُ الأَمَلَ المحجُوبَ باللُجُـــــــــــــبِ

لمْ يُطْفِئُوا الحربَ، لمْ تَدْنَسْ بها يدُكُمْ

خَرجتَ مِنْها كما الإبريزُ مِنْ لَهَبِ

لم تَتْرُكِ السّاحَ، فالصَّولاتُ في صُعُدٍ

تَسْتَنْفِدُ البَدْعَ، والإِشْعَاعُ لمْ يَغِــــــــــــــــــبِ

في كلِّ فجْرٍ تَعودُ الغِيدُ لاِبسَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةً

عِقْدًا فَريدًا مِنَ الأَلماسِ والذَّهَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبِ

نُفَاجَأُ اليومَ؟ لا، الإِنجازُ نَرصُــــــــــــــدُهُ

نَرنو إليهِ، كَما لِلكَوْثَرِ العَــــــــــــــــــــــــــــذِبِ

***

هذا كِتَابُكَ، نَبْضٌ فيهِ أَمْ فِلَـــــــــــــــــــــذٌ

مِنْ قَلبِ لبنانَ، أَوْ مِنْ مُهْجَةِ العَرَبِ

كأنّما مِنْ صَبَا نَجْدٍ تُنَضِّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدُهُ

أوْ مِنْ صَبَانا، شَذَا الوِدْيَانِ والكُثُبِ

آراؤُهُ الغَيْثُ في البَيْدَاِءِ يُنْعِشُهَــــــــــــــــــــــــــــا

أَصْداؤُهُ مِنْ هُدى الأَجْراسِ في القُبَبِ

أرْزٌ، وأَدْيرَةٌ تَجْثُو على قِمَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمٍ

تُسبِّحُ اللهَ، تَتْلُو قِصَّةِ الحِقَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبِ

مِنْها يَراعُكَ رِحْلاتٌ مُكَثَّفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٌ

في الفِكرِ في الـمُدْنِ في الصَّحراءِ في القُطُبِ

تُجْنَى المواسِمُ فَيْضًا كُلَّما غَرَسَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتْ

يمينُكَ الضَّوءَ في قِرْطاسِكَ الخَصِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــبِ

***

إقْرأْ ، بِرَبِّك، ما أوْراقُكَ ادّخَـــــــــــــــــــــــــــرَتْ

منَ الثَّقَافاتِ، مِنْ رُؤْيا، وِمِنْ خُطَــــــــبِ

تُشَخِّصُ العِلَلَ النَكراءَ، تُبرِئُهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

تَقولُ، مِنْ فَوقُ، يا آلاءَنا انْسَكِبــــــــــــــــــــــــي.

تَمحو وتَرْسُمُ باسمِ الشّعبِ، تُنْبِئُـــــــــــــــــــــــــهُ

هُنا الخَلاصُ، هُناكَ الموتُ في التـــــُّــــــرَبِ.

هلْ جِئْتَ تَرْوي لنا الأَيّامَ داكنـــــــــــــــــــةً

يُدمي ثَراها غِوى طاغٍ ومُغْتَصِــــــــــــــــــــــــــــبِ

أمْ جِئْتَ تُشْعِلُ لِلآتي مَنائِــــــــــــــــــــــــــــــــــرَهُ

فَيَسْتوي الحقُّ، تَخْبو شَهْوَةُ الرُّغَبِ

إشْهدْ، فَدَيْتُكَ، وَلْتَشهدْ هُنا كُتُبٌ

أَنْ قدْ بَنَيْنا بِكَ الأَبراجَ لِلْعَـــــــــــــــــــــــــــرَبِ

في 4/2/2016

 

_______________________________

 

جورج شامي

أيّها الحفل الكريم

«لا شيء أسوأ من خيانة القلم... فالرصاص الغادر قد يقتل أفرادًا، بينما القلم الخائن قد يقتل أممًا»

انطلاقًا من هذا القول الصادر عن ثائر نادر من صنف تشي غيفارا، خَبِرَ النضال بإيديولوجيّة المؤمن بثورته، أتساءل في هذه العشيّة المرتبكة بضبابيّة قاتلة: في أيّ موقع نحن الآن؟

وبأيّ قلم نكتب دفاعًا عن الحريّة والوطن والكيان؟

وبأيّ نوع من الصمود نواجه خيانة القلم المتآمر مع الرصاص الغادر الذي يُصوّبُ إلينا من كلّ فجّ عميق؟!

وحول أيّ مدار صحراويّ النسب ندور؟

وأيّ برج نَنشد: برج العرب أم برج بابل؟

 

أيّها الغنيّ بعطائه...

هذا الجنى الذي جمعته ربعًا يهادن ربعًا... وكدّسته ثروة تتحدّى بها آلاف الثروات من نوعها في عالم الكلمة.. صدّقني إذا بحت لك بأنّك قد هيّجت أشجاني... وعاد بي صنيعك المدلّل هذا... خمسين سنة إلى الوراء... وتحديدًا إلى شهر آب اللهّاب من عام 1965 يوم انتُدبت لأقوم بأوّل مهمّة صحافيّة في عالم المشيخات المتصالحة استمرّت شهرًا... بدأت في مشيخة البحرين عهد الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة التي صارت مملكة، ثمّ قطر... عهد الشيخ أحمد بن عليّ، وبعدهما أبو ظبي عهد الشيخ زايد، ودبي عهد الشيخ سعيد المكتوم، والشارقة عهد الشيخ صقر القاسمي، والفجيرة، وعجمان، ورأس الخيمة وأمّ القيوين... أستظلّ من الرمضاء بسنام بعير رابض على صبره... يجترّ لعاب أمعائه... وأستجير بالخواء الداكن، كلّ حبّة رمل فيه جمرة تلسع وتحرق!

 يدهشني ويفرحني بعد ثمانية عشر صنيعًا يشكّلون حبّات سبحة الورديّة في محراب صلاتك، أنّك ما زلت تنتج وتتألّق وتفاجئ ولا تتأفّف وتواصل المسيرة بهمّة فتى أغرّ، لا يضّرسه وهن النهايات حتّى الحميدة منها؟ وأنت على يقين أكيد أنّ المعرفة لا تحدّ بقيود محسوسة، بل هي خارجة عن مدار الزمان والمكان... وكلّما حاولنا الاقتراب منها اصطدمنا بعجزنا وقصورنا ومحدوديّتنا!

هذا الواقع جعلني، منذ اللحظة الأولى، أتساءل: لماذا وقع اختيارك عليّ أنا العجوز، شبه الكفيف، لأكون في عداد هذه الباقة من الكرام، الملتفّة حولك، ولماذا سقطتُ في التجربة فاستسلمتُ لرغباتك مع يقيني التامّ بأنّك تعرف أنّني عاجز عن أن أكون عادلاً على الرّغم من المحبّة التي أكنّها لك!

 

أيّها الحفل الكريم

صدّقوني إذا بحت لكم بسرّ: أنّ العجب تملّكني وأنا أتمثّل صديقي جورج داعيةً روحانيًّا بمسوح النسّاك، ويستر عريه الأرضيّ بغطاء من الكتّان كواحد من بوذيي التيبت أو فقراء الهندوس!

وأنّ العجب تملكّني إلى حدّ الدهشة حين علمت أنّ جورج نام في فراش وثير في جيرة برج العرب في حماية سوبرمان، وتدّثر بغطائه كي يحميه من أيّة نازلة تنزل بالبرج لا سمح الله، وأنّ أحفاده وحفيداته.. «حفداءَه» كما يحلو له، كانوا حرّاسه، حماهم الله، يلاعبون «ميكي موس»، و«توم إند جيري» وسبيسدرمان»، ويلهون متجاهلين ذاك الصقر الرابض على أعلى نقطة في البرج يترصّد الطرائد لينقضّ عليها ويميتها أبشع ميتة! ويقضم ظهور النواريس البريئة!

وأنا أعترف لكم أنّ إحساسًا غريبًا قد ألمّ بي، وهو حالة استثنائيّة قلّما شعرت بها من قبل، تشبه إلى حدّ بعيد تلك الحالات التي يلتقطها القلب. ولنقل اللاوعي أو القدرة الخفيّة على تحسّس أشياء لا نراها ولا نسمعها ولا نشمّها ولا نلمسها ولا نتذوّقها...

وأعتقد أنّني أواجه تلك الحالة تتجسّد أمامي ومعي في مضمون ما قرأت واستعدت قراءته مرّتين  في هذا الكتاب.. وأنا الآن في مأزق!

من جهة لا أريد حرمان القارئ أو المستمع من التمتّع بشيء جميل لا يحصل، ربّما، إلّا في ما ندر، أو مرّة واحدة من العمر.

ومن جهة أخرى ثمّة مشكلة، وهي أنّني أمام عمل إبداعيّ بمقاييس استثنائيّة، إلاّ أنّه لا يحظى بكامل الصفات التي ينشدها المبدعون ليفرضوا سحرهم وجاذبيّتهم على العالم الذي يتوجّهون إليه.

                                        *  *  *

صحيح أنّ جورج مغامس كائن بشريّ من متوسّطي القامات، ولكنّه في الجوهر يتمتّع بكامل الصفات التي يتمتّع بها ذوو القامات المديدة في الأدب عمومًا، ولا ينتقص من لمعات إبداعه كونه يعيش عصرًا خرافيًّا متخلّفًا بعض الشيء أقرب ما يكون إلى عصور اندثرت وطمسها النسيان والزحف الحضاريّ؛  فهو ينتمي إلى عهود الأمراء الذين تركوا بصمات مميّزة على هذا اللون من القصص الغنيّ بنبرات الإبداع التأسيسيّ، لا إلى الذين اكتسحوا في ما بعد هذا العالم بغزو أشبه ما يكون بغزو التتار، فمزّقوا المشاعر، وهدموا القصور واجتاحوا السهوب... وعقّموا الخصب ونقضوا الرسالات... وبالوا على القيم!

                                        *  *  *

أيّها الحفل الكريم

بين عالم من الأشباح والخرافة، يسوسه «كاسبر» الشبح الخفيّ، في «مدار برج العرب»... وبين الاستسلام اللإراديّ لقدر يحمل في مطاويه الرهاب والقلق من المجهول، ذاب جورج في خلطة متنافرة لوقائع تذهب مذهب السرد التقريريّ أو الاستنطاق العدليّ، ثمّ تتغلغل في حنايا الخفايا والأسرار، فإذا هي وقائع مجتزأة بخجل من التاريخ ومن أبعاد ممزّقة باهتة... خالية من أيّ بريق وألقٍ ورعدة وخيلاء، ومن عناصر النهوض الذي ينفخ الحياة في الجماد فينطلق... وتتبّسط الأمور إلى حدّ الاستسلام، محاولاً أن يوحي بأنّه ابن الروح التائهة الباحثة عن جسد يلائمها لتنسكب فيه من جديد... سواء كان من نوع النسخ الحلوليّ في جسد سقراط أو في جسد النعجة دوليّ، على الرّغم ممّا في هذا التحوّل من نقض لمبدأ التقمّص!

وأراك تنسلّ مثل حيّة بلا أنياب، تسعى إلى القارئ بحكمة وتعقّل وإدراك فتتغلغل في عبّه... ترهبه ولا تعضّه... تشعل الرعب في جسده وروحه على الرّغم من أنّ ملامسة جلدها لجلدك، أرقّ من ملامسة الحرير... معتمدًا مزج الوقائع بقرائن ذهنيّة، ظنًّا منك أنّ هذا المزج المستباح هو سنّة من سنن الكتابة القصصيّة المبنيّة على الرواية وعلى الحكي، هذا الحكي الملموس والمحسوس، فتقارب بذلك البساطة المتناهية بالوداعة والرقّة والشفافيّة وتظلّ محتفظًا بحياديّتك فلا تنحاز، وتتمالك نفسك وأنفاسك كطالب جامعيّ شديد الانضباط!

وألاحظ أنّك مهما حاولت أن تضفي على عالمك صفّة فضيّة الوقع، عاجيّة الدفق، لا تقارب المعاناة الانسانيّة المقهورة المعجونة بوجعها وبالعرق والنصب والدم والحرقة والحرمان واللوعة، والأسى، والبؤس والاضطهاد والظلم، وتقف بتواضع ومسكنة عند عتبة البرجوازيّة فلا تتجاوزها إلى البروليتاريا التي يعميها الحقد على الرأسماليّة المتسلّطة، مندفعة بحبّ الثأر، فتنسى كلّ أوجاعها وآلامها ومعاناتها في سبيل الانتقام.

                                        *  *  *

يا صديقي جورج، أنت تطبع شخوصك بطابعك، وهذا ليس خطأك، بل خطأ خالقك الذي سكبك في قارورة بلّوريّة السمت أخّاذة البريق! فهل يمكن اعتبارك قد نجحت في خلق توافق وتوالف ما بين الزمن الكونيّ والزمن الذاتيّ، فأعطيت المتلقّي شعورًا باستمراريّة الحياة وخصبها وعطائها، وجعلت العناصر المحبطة أساسًا لعماراتك الفنيّة عندما خلطت الثابت بالمتحوّل وأخرجت منهما مزيجًا وجوديًّا؟

                                        *  *  *

كتابك تعبيرٌ عن معاناتك، فموضوعه واحد يحرّك وضعًا متأزّمًا، وهو وضع الإنسان الذي تسيطر عليه يد القدر! وهو لا يرتبط بمكان معيّن ومحدود، فالمكان يمثّل إناء شفّافًا تفيض منه مشاعر الذات، وإن كان يغرق بوصف عقيم أحيانًا كثيرة ولا يقيم وزنًا للإطار الخارجيّ.

الأدوار عندك تتداخل بفوضى وليس هناك راوٍ يبثّ الأخبار... بل يتسرّب إلى داخل الأحداث بشكل خفيّ ويتقمّص الشخصيّة المطلوبة فنيًّا... ولم تكن ولا مرّة ولو في الشكل وفي الظاهر، البطل... البطل الذي يدافع عن قضيّة ما، ويستميت لإنقاذها، وإن كنت أنت المحور الأساسيّ...

ولم أجد عندك العبارة الواضحة أو الجملة المكثّفة التي تعكس حالة داخليّة مليئة بمشاعر متناقضة... ولم تتّسم لغتك، على الرّغم من مبالغتك في التأنّق إلى حدّ الاعجاز، بطابع بلاغيّ بيانيّ شفّافّ، رقيق يحاكي العقل والخيال في آن واحد! في عالم لا عقل عنده! وبرجه العاجيّ أعلى من برج العرب.

إنّك أقرب إلى النمط الذي يتوكّأ على خلط الحكاية بالطرفة، والواقعيّة بالخرافة، والمتخيّل بالملموس، والجدّ بالهزل، والرشاقة بالثرثرة، تساكن فتافيت الحياة وتسكنك... وتربكك التفاصيل، فتغرق بما تعرف وتتحوّل الحكاية المرويّة لأن تقارب ثرثرة النسوة، كلّما التقين حول فنجان قهوة في الصباح أو في المساء أو عند نبع ماء أو في مقهى أو حول تنّور... إنّك، تضيع في فوضى مخزونك الثقافيّ الغنيّ... وتُعطي انطباعًا في معظم الأحيان أنّك تعاني من عسر هضم معرفيّ مزمن، يولّد عندك استسهالاً في الكتابة، وخصوصًا الكتابة الأدبيّة التي توحي أحيانًا وكأنّك تهمل صياغة مادّتك فلا ترقى إلى شموخ ناطحات السحاب ولا يجاري وقعها خبب الأحصنة المطهّمة، ولا قفز قطعان المها في الصحارى والبراري.

وإذا كان الغالب عندك أنّك تكتب حبًّا بالكتابة، وأنت واحد من أبنائها البررة ونسّاكها الأطهار، وتعرف أكثر من غيرك «أنّ من الحبّ ما قتل»، فعليك، وهذا فرض، أن تغربل وتنخل، وأن تتخيّر الجمالات البهيّة، لأنّ الكتابة كيفما تيّسر وبدون جاذبيّة ووجع، قاتلة المواهب! خصوصًا وأنّ نصّك يلتهم فكرتك!

أيّها المقتدر، مطلوب منك أن تتقن لعبة الاختيار والتصنيف والرشاقة والصناعة، فليس كلّ ما يجوز في المسرحيّة يجوز في أدب الرحلات، وليس كلّ ما يجوز في الرواية يجوز في أدب السيرة، ولا كلّ ما يجوز في القصّة الطويلة يجوز في الأقصوصة أو القصّة الومضة «الميكرو قصّة» السحريّة التي لا تحمل «ذرّة غبار» إضافيّة على النصّ.

                                        *  *  *

منذ أن هبّت على هذا الفنّ من فنون الأدب الانشائيّ المسكوب في أبراج عاجيّة، رياح التغيير وموجات التحرّر، وقامت محاولات جبّارة لنفض كلّ أساليب التزمّت في الكتابة، مترافقة مع أزياء رعاة البقر، ووجبات «الهامبرغر»، و«كنتاكي تشيكين»، و«البيتزاهات»، و«الميري كريم»، و«البوب كورن»، و«التشيبس» وغيرها. وتحرّرت نهود النساء من الحمّالات وقدودهنّ من المشدّات وصار العري والتعرّي شيمة حضاريّة واندثرت سترات «الفراك» و«الريدانكوت» المذنّبة والقبّعات العالية واختلط «السموكن» بـ«الجينز»..

وانحسرت سيطرة الرجال وانحسر بأسهم وجبروتهم عن كثير من الميادين وكثير من الأندية لصالح المرأة! وذكاء المرأة ومجد المرأة! التي نحتفل بعيدها في مثل هذا اليوم من كلّ عام..

وباتت الرحلة إلى القمر متعة والدوران حول الأرض نزهة على كورنيش البحر...

وأنشئت خارج جاذبيّة الأرض ورش لتصليح الأعطال في المركبات الفضائيّة..

وسكن الناس في الهاتف الجوّال بالصوت والصورة والفعل وردود الفعل..

وبات الحاسوب المحمول باليد مجسّمًا يختصر كونًا من المعرفة..

وانتزعت المرأة الريادة في أعمال العنف...

وصار طعن الرجل في رجولته وفي ذكورته هاجسها الأوحد..

ونافست في ميادين الأعمال..               

وخاضت غمار القتال، مصارعةً وملاكمةً، ولاعبةَ جيدو وتكواندو، ومبارزةً في لعبة الشيش..

وقادت عصابات التدمير والإرهاب والسرقة والخطف..

وأخضعت الخدود والشفاه والأثداء والأرداف للنفخ والتنحيف والتخسيس، وكأنّها دواليب الدرّاجات الناريّة أو عجلات الطائرات، وسيّارات «السيكس ويل»..

وراجت موضة الحبل الاصطناعيّ باسترخاء..

 وبوشر بزرع الأعضاء البشريّة بسهولة ويسر..

وأضيف إلى زواج المتعة، زواج المسيار و«الويك إند»... والمساكنة!

حافظت يا عزيزي على هدوئك في هذا العالم المجنون بالابتكارات والتكنولوجيا، والانجازات العلميّة والفكريّة والاجتماعيّة والكونيّة، مشحونًا ببراكين هامدة بصقيعها، متنقّلاً من بلد إلى بلد آخر، ومن حالة إلى حالة أخرى، وكأنّك قد دخلت الحالة الخامسة من حالات التقمّص أو حالات الغيبوبة، وتتحدّث بهلوسة ظريفة مقنعة عن الدين والعقل في عالم لا يؤمن أبدًا بالعقل... والدين متحجّر ومتكلّس كأنّه طمى بركان بونبايي.

في هذا المدار العربيّ أين هي المرأة، ولماذا حضورها ممسوح حتّى الأمّحاء ولا تكاد تذكر إلاّ في ما ندر، ومن داخل خباء، مع أنّها رفيقة الدرب الطويل، وأمّ البنين، وقاعدة التاج؟

أين لميس المهندسة المعماريّة تتحدّث عن فنّ العمارة العربيّة أو المستعربة وكلّ المستجدات «في مدار برج العرب»؟

وأين لمى الباحثة البيئيّة تتحدّث عن أهميّة الرعاية التي يوليها النظام والانسان للطبيعة في مدار برج العرب، من قطرة القطران إلى أعلى هوائيّ في البرج، ومن حبّة الرمل وقطرة الماء إلى الرطب الشهيّ في أعلى نخلة تستنزل السماء نداوةً وعافية؟

أنا متأكّد تمامًا أنّها موجودة كالجمر تحت الرماد إلى جانبك وفي عروقك... وفي نياط قلبك... ولكنّك وأدتها وأدًا جاهليًّا شرسًا... وأنزلت بها ظلمًا فادحًا... حين سلبتها ملكة الكلام وملكة الفهم والإدراك، واخترت لها أن تكون تمثالاً من المرمر أصمّ أبكم وكأنّك قد نسيت أو تناسيت برنسيسيّة متأصّلة فيك أنّها زهرة الحياة الدنيا وزهرة حياتك أنت بالذات وحوريّة الجنّات والفراديس المعهودة... وتحتلّ الصدارة في الوحي والإلهام لتعلي من شأنك وقدرتك وذوقك!

                                        *  *  *

بين الروحانيّات والزمنيّات التي تأرجحت خلالها الوقائع الخفيّة والظاهرة في مدار برج العرب، شكّل عامل «الصدفة» الواقعة الأبرز التي اعتمدت على الخليويّ لتحريك المشاهد، لا بل المحور «الأساس» والمفاجئ، وإن تضاءل في بعض الرؤى.

بين الروحانيّات والزمنيّات لجأت إلى «التوبة»... أجل «التوبة»، الملاذ المنقذ، وغاب الحسّ الوطنيّ غيابًا شبه تامّ عن روح النصّ، في زمن المشاعر المتأجّجة والدعوات الملحّة لإنقاذ الكيان، المهدّد بالزوال... والقتالُ المصطنع على أشدّه يتجدّد بفضل الإخوة الأعداء الذين استباحوا لأنفسهم اقتناص الوطن من أهله... واشعلوا قتالاً عبثيًّا بين أبنائه الأصليّين فورّطوهم بحرب طائفيّة ومذهبيّة ذهبيّة الأفخاخ برّاقة الجنى، قائمة على الخديعة والترهيب بالفتنة بين عرب أقحاح، وعرب عاربة، وعرب مستعربين!

بين الروحانيّات والزمنيّات ترسّخت عندك يا صديقي المتنوّر حياديّة قاتلة، ولامبالاة قاهرة ومدمّرة، وكأنّ الأمر لا يعنيك أنت بالذات ولا يعني أبطالك الذين اختصرتهم بشخصك، ولا علاقة لك، لا من قريب ولا من بعيد، بمستقبلك ومستقبل أبنائك، وأحفادك، ومستقبل وطنك وأمتك.

 لماذا جعلت من نفسك بطلاً معزولاً عمّا يدور من حولك، أي من واقعك... ولماذا اخترت المساحة الضيّقة لتكون مساحة الرؤية عندك وكأنّك تتنسّم رياح التغيير من كوى دير محفور في خبايا جرد، أهله مسكونون بهمّ واحد وهو الهرب لا التجذّر.

يا صاحب الجنى الوفير... يا أخي، ويا سميّي... عذرًا وألفَ عذر إذا جاوزت حِلمي وأفرطت بخشونتي، واسمح لي أن أختم كلامي بقول لهايدغر: «يتصرّف الانسان على أساس أنّه سيّد اللغة... لكن في الواقع تبقى اللغة سيّدة الإنسان»ز

وبارك يا سيّد

_______________________________

«في مدار برج العرب» للأستاذ جورج مغامس

نصٌّ إبداعيٌّ مفتوح يفتحُ الشّهيّةَ أمام دراسة لغته وتقاطعاته مع أدب الرّحلة والأدب الروائيّ

د. ايلي أنطون

«في مدار برج العرب» عنوان مكانيّ بامتياز يشير إلى أعلى برج في العالم حتّى يومنا هذا، وهو الرابض في قلب صحراء الجزيرة العربيّة. وهذا المكان يستدعي إلى الذّهن تلقائيًّا مكانًا آخر هو الشرق العربيّ المتموضع خارج مدار برج العرب. هذه الثّنائيّة المكانيّة تمتدّ عميقًا لتطرح إشكاليّة تاريخيّة حضاريّة: فالبرج الأعلى في العالم نتاج أرقى ما وصلت إليه التّكنولوجيا والعلم في عصرنا الحاضر، يواجه صحراء الجزيرة العربيّة بكلّ ما تمثّله من تاريخ ممعن في الحروب والجدب والتّمزّق والتّطرّف، ونادرًا ما اخترقتها بقع ضوء في تاريخها الطّويل، وصولاً إلى يومنا هذا. وبالتالي، لكأنّ هذا العنوان، بما كشف وما استدعى، يؤشّر إلى الانفصام في العقل العربيّ والشّخصيّة العربيّة.

فهل ظهر ذلك في الكتاب؟

إذا تخطّينا العنوان إلى المقدّمة يَفجأنا الكاتب، فنتساءل: أأدب رحلة في عصرنا الحاضر وقد أضحت الأرض قرية كونيّة بفضل التّكنولوجيا الحديثة الّتي مكّنتنا من رؤية أقاصي أماكن الأرض وتلمّسها والتّعرّف بأحوالها وأحوال أهلها في الميادين كلّها؟ أأدب رحلة في عصر الرّواية، وقد ندر من يكتب في هذا النّوع من الأدب؟

وندلف إلى الكتاب محمّلين بتوق إلى الاكتشاف، فنجد أنّ جورج مغامس قد أطلّ على الدّنيا ممتطيًا صهوة برج العرب، ولكن من موقعه الثّقافيّ الأدبيّ الزّمانيّ المكانيّ والإنسانيّ، فأضحى البرجَ والمدارَ معًا، وأصبح شكلُ الرّحلة الماديّ تعلّةً لأبعادها الحقيقيّة العميقة، رحلة تنطلق من الذّات، من أغوار النّفس الإنسانيّة لتضرب بعيدًا وعميقًا في التّاريخ والجغرافيا، وفي أحوال النّاس شعوبًا وأفرادًا، وفي مشكلاتهم وقضاياهم عبر العصور، في آدابهم وعلومهم ومآكلهم ومشاربهم، في حروبهم ونزواتهم وأفراحهم وأتراحهم، وفي رؤاهم للمرأة والله والحياة والموت والإنسان، وهو المسكون بهموم ذاتيّة اجتماعيّة وطنيّة وإنسانيّة. فها هو يعبّر بصورة رائعة بكر، تشكّل معادلاً موضوعيًّا لما يعتري حالته الكيانيّة، نتيجة الفقد والبعد عن الحبيبة والدّيار، فيقول على لسان الرّاوي «وكزهرة هملاويّة تتفجّر وتتبدّد بذورًا، كذلك انفجرت به حميّته فطلب الحبيبة الراقدة بعيدًا في نعيم السّرير، ولم يخالجه خاطر الإغلاق وراح يثرثر ثرثرة المحموم كسلك انتظمت به اللّواعج وانقطع...»

وإذا تركنا البعد الذّاتيّ للكاتب، نجد أنّ عين الرّاوي/ المسافر، المسكون بهمّ الوطن، تلتقط ما تراه في تلك البلاد، تقلّبه وتصفه وتذكر محاسنه وتقارنه بحال الوطن السّاكن والحاضر دائمًا طيّ الذّاكرة والوجدان؛ يقول الرّاوي: «لكنّ اذّكارًا عاوده فانقبض، إنّها بلاده في عين عطايا الخالق ويخلعون عنها أثواب العطايا، يجرّدون الجبال من مهابة الصّخور ومن أغاني الشّجر، ويلوّثون الينابيع، ويردمون وديانا وشطآنا، ويقيمون المصانع بين البيوت على الطّرقات، والطّرقات بلا أرصفة، والأرصفة مواقف للسّيّارات، ويعدمون كلّ حلم بحديقة عامّة...» وكأنّي به يتابع مسيرة الرّيحاني وأحمد فارس الشّدياق، اللّذين وضعا الأصابع على الجراح، وتحوّلا إلى مصلحين اجتماعيّين، وإلى دعاة تغيير للعادات وللنّظم الاجتماعيّة والسياسيّة. يقول أحمد فارس الشّدياق، بعد زيارته أوروبا، في كتابه «الواسطة في معرفة أحوال مالطة، وكشف المخبّأ عن فنون أوروبا»: «ويعلم اللّه، مع كثرة ما شاهدت في تلك البلاد من الغرائب، وأدركت فيها من الرّغائب، كنت أبدًا منغّص العيش مكدّره، كمن فقد وطره ولزمته معسرة، لا يروقني نضار ولا نضرة ولا نعمة ولا مسرّة ولا طرب ولا لهو ولا حسن ولا زهو، لما أنّي كنت دائمَ التّفكّر في خلوّ بلادنا عمّا عندهم من التّمدّن والبراعة والتّفنّن ...»

وإلى جانب الهمّين الذّاتيّ والوطنيّ، نرى عين الرّحّالة المثقّف، الّذي يخوض غمار الفكر والفلسفة والأدب والاجتماع والتّاريخ، آخذًا من كلّ علم بطرف، ليجمعها في أتّون نفسه، ويمهرها بختمه، فيخرجها وفاق عين الأديب القدير المقتدر الّذي يعطيها خصوصيّتها.

الرّحلة قبل كلّ شيء حكاية سفر تنتظم في بنية محدّدة مهيمنة، نستطيع أن نطلق عليها اسم بنية السّفر، وهي بطواعيّتها قادرة على توليف أنماط وصيغ وأنواع أدبيّة تتقاطع في داخلها وتتعايش، مشكّلةً بنىً متنوّعة في ظلّ بنية السّفر الكبرى؛ وهذا المعيار أساسيّ في تمييز الرّحلة من غيرها من الأنواع الأدبيّة. كما أنّ هناك معايير أخرى تميّز بين أدب رحلة وآخر .

فما الّذي ميّز رحلة الكاتب من غيرها في كتابه الّذي نحن بصدده؟  

لقد ارتحل جورج مغامس مرّتين، مادّيًّا إلى رحاب الجزيرة العربيّة، ونصيًّا بإعادته إنتاج رحلته على مستوى الكتابة من خلال نصّه الإبداعيّ، عاكسًا تجربة ذاتيّة غنيّة، فرفد الرّحلة الحقيقيّة بإضافات ذاته؛ والدّليل البيّن على ذلك أنّه استخدم راويًا يتحدّث بضمير الغائب، وجعل مسافة بينه وبين الرّحالة/ المسافر، والرّاوي كان حياديًّا في الرّحلة الحقيقيّة إلى حدّ ما، مراقبًا، عالمـًا بكلّ شيء، لم يشارك في الأحداث، إنّما كان له حضوره الإبداعيّ في الكتابة؛ أضف إلى ذلك أنّ الحوار كان بلغة أدبيّة واحدة.

هذه الكتابة الجماليّة المحتفية بكلّ ما هو بلاغيّ، والمتّكئة على شحذ الذّات في انفعالاتها وتفاعلها مع تجربة السّفر، ميّزت نصّ جورج مغامس وقرّبته من الرّحلات الصّوفيّة، فكان فيها الرّحّالةَ يكتب بالمكان عوض أن يكتب عن المكان، وأبعدته عن غالبيّة الرّحلات الّتي هدفت إلى تقديم معرفة بصورة المكان بعيدًا عن جماليّة القول، وإبداعيّة الصّورة الّتي إن استعملت فلغاية وظيفيّة إيضاحيّة، فالأسلوب التّقريريّ هو الطاغي واللّغة تستعمل في الدّرجة الصّفر.

فما الّذي ميّز لغة جورج مغامس ونصّه، في رحلته هذه؟

إنّ التبحّر في لغة الكتاب يجعل القارئ على أهبة الاستعداد دائمًا، كما أنّه يخبرنا عن عدّة أمور قلّ أن يجمعها أديب أو باحث في عصرنا الحاضر، وهي ذخيرة لغويّة غزيرة، ودقّة في اختيار اللّفظ المعبّر عن المعنى، وقدرة على ترتيب القول ترتيبًا بديعًا فائقًا، أضف إلى ذلك القدرة على الرّسم بالكلمات للمشاهد واجتذاب القارئ المتمكّن إلى الدائرة العاطفيّة الوجدانيّة للكاتب الأديب عبر انزياحات مجازيّة استعاريّة ومقابلات مفعمة بالإيقاع الموسيقيّ.

فإذا ما قاربت معجمه اللّغويّ، طالعتك مائدة حافلة بالمفردات الّتي كان اليبس قد أنشب فيها أظفاره، فارتاحت في بطون المعاجم، وكأنّها أدّت رسالتها والسّلام، يأخذها كاتبنا فيعيدها إلى دائرة الحياة من جديد نافضًا عنها الغبار، دابًّا الحياة في نسغها لتأتلف مع أخيّات لها في سلك مكين متين، يشعّ بدلالات معبّرة عن مكامن الوجد والألم والفرح. ومن هذه المفردات على سبيل المثال لا الحصر: الأصناء، الهريس، الثّريد، صرصر، الشّراشر، حلالجة، المجدّرة، تزحاما، ينتضح، الهلهل، الهتيكة، يتنفّج...

أمّا تشابيهه فتنبع من خيال خلّاق وتوظّف لتقديم مناخات عابقة بالمعنى، وهو يحتفي دائمًا بالمشبّه به، فيبتكره ويرسمه لوحة يتآلف فيها العقل والخيال، لإبراز الجماليّة عبر الخفاء والتجلّي والإيحاء والفهم معًا، يقول «نقرأ أو لانقرأ: نخصب، وننتج، ونرفع الرأس بين القمم، كقبّرة ترحّب بشمس الفجر تلملم من حقول القمح حبّات النّدى، أو نتصنّم بعقم وجدب وتأتآت...» يطالعنا الكاتب بأمرين: الأوّل نظرته الحاسمة إلى أهميّة القراءة «نقرأ او لا نقرأ»، وكأنّه يخيّرنا بين الحياة والموت، ما يجعلنا في حال تهيّب وانتظار؛ ويأتي التّفصيل أفعالاً متتالية «نخصب ننتج ونرفع الرّأس» ليتبعها بالتشبيه الخلّاق، الّذي شكّل المشبّه به منه مشهدًا وصفيًّا موحيًا منبثقًا من الطّبيعة البكر بتكامل عناصرها مع الإنسان، لتضعنا في مناخ يتلاءم والأفعال السابقة.

أمّا إذا انتقلنا إلى المكان، فإنّنا نرى وصفًا ماتعًا متنوّعًا. فقد أعاد جورج مغامس، بخياله الخلّاق، إحياء المكان، انطلاقًا من مزجه الحواسّ بالتّاريخ بما تختزنه النّفس من حنين تراثيّ، مستعينًا بما حفظته الذّاكرة، يقول الرّاوي: «فخرج إلى بهاء السّحر، تلمّ به قشعريرة صقيع الفلاة، ونظر يتأمّل في روح هائمة على الكثبان ظنّها تارةً لصعلوك وآخر، وطورًا لبلقيس وزرقاء اليمامة أو للمكرّ المفرّ بالبارق الصّمصام لوّاحا... وتراءت له القوافل بالحلى بالحرائر بالتّوابل محمّلةً، وسمع الحداء كنايات ابتردت بواحات ولم تنس أنّها كانت قصبا...» إنّه مكان خاصّ ينتمي إلى الكاتب ورؤياه وثقافته، خلع عليه الكاتب الكثير ممّا في نفسه، فأعطاه بعدًا رابعًا زمنيًّا محمّلاً بعبق التّاريخ ووهج الثّقافة.

 كما نلحظ عنده وصفًا مغايرًا للمكان يرتكز إلى حاسّة النّظر ويتميّز بدقّته، فعين السّارد تلاحق الفعل واللافعل، متنبّهة لكل ّشاردة وواردة، إلى أن ينتهي الوصف بخلاصة استنتاجيّة؛ ومن نماذجه، يقول الرّاوي «وإذ أنت تدلف إلى مواقف السّيّارات انمازت فيها الصّفر للعموم، فلا من يدلّل ولا من يصايح ويزاحم، بل هي اصطفّت رأسًا يأخذ بعقب وتنساب إلى مقاصد الطّلّابِ».

كتاب «في مدارج برج العرب» نصّ إبداعيّ مفتوح في أدب الرّحلة، يمتلك خصوصيّته، تنتظم فيه الأفكار والرّؤى والتّقنيّات والأنواع، من الصّعب أن نحيط به في عُجالة. إنّه يفتح الشّهيّة والطّريق أمام دراسات تتعمّق في مقاربة لغته وتقاطعاته مع نصوص تتناول أدب الرّحلة قديمًا وحديثًا، ومع الأدب الرّوائيّ.