كلمة المحامي هيكل درغام

في تكريم علم الثقافة خالد زيادة

2016/3/11

 

          أيها الأصدقاء،

واحة سلام، نقطة تلاقٍ وحوار عقلاني في إطار المحبة والتضامن هذا هو المهرجان اللبناني للكتاب الذي تنظمه الحركة الثقافية – انطلياس سنوياً، منذ خمس وثلاثين سنة، حيث يتراكم ما ينتجه العقل الخلاق لتحقيق الأهداف الثقافية الوطنية.

          منذ ثمانينات القرن الماضي والحركة بوتيرة تصاعدية في خدمة الثقافة والمثقفين، من غير كلل بغية ترسيخ ماارتضته نهجاً وميثاقاً لذاتها في برامجها المتنوعة وأخصُّها تكريم اعلام الثقافة من لبنان ودنيا العرب هم على صورة الوطن، آملين ان نفيهم بعضاً من حقهم لأن بأمثالهم يستقيم المجتمع وينتصر في معركة البقاء والتقدم والحرية. انهم رمز لحضارتنا في صون قدرات الوطن وبث روح الوحدة الوطنية في وجه مشاريع التفتيت والانهيار.

           

          في هذه الأيام الحالكة حيث الخطر الداهم على الاستقلال، وعلى الدولة والكيان والميثاق الوطني عجزت الطبقة السياسية من انتخاب رئيس للجمهورية بالوسائل الدستورية.

          الحركة الثقافية إذ تكرّم السفير خالد زيادة كعلم ثقافي فإنها تؤكد على الجانب الثقافي المركزي في إنجازاته المتنوعة. معه نرتقي بالكلمة والمعنى، بعد ان سيطر الجهل، والفساد على الشأن العام. فهو يعرف تاريخ وطنه في ماضيه وواقعه فهو ابن مدينة طرابلس وراوي مسيرتها وسيرة أهلها، بإيمان راسخ بوحدة الناس والأرض والمؤسسات ونغتنم هذه المناسبة لنرسل تحية إلى طرابلس الفيحاء التي عاندت دوماً وبكبرياء كل محاولات تشويه صورتها البهية وهي تُشّع مبدعين وفنّانين وصولاً إلى لين حايك صاحبة الصوت المعجزة.

-        حاصل على إجازة في الفلسفة من الجامعة اللبنانية. حامل دكتوراه من جامعة السوربون الثالثة، موضوع الاطروحة: "المؤثرات الفرنسية على العثمانيين في عهد السلطان سليم الثالث".

-        مؤلف ألَّف اول كتابٍ بسن السادسة والعشرين من عمره

-        أستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية الجامعة اللبنانية، قسم الفلسفة.

-        عمل خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982 على حفظ سجلات طرابلس الشرعية  

-        رئيس المجلس الثقافي للبنان الشمالي من 1984 إلى 1986

-        أستاذ محاضر في جامعة البلمند

-        زميل في معهد الدراسات المتقدمة برلين، العام الدراسي 1997 – 1998

-        باحث زائر في جامعة برمنغهام 1998 – 2000

-        عضو اللجنة الوطنية للأونيسكو 1998 – 2000

-        عضو في لجنة الحوار الإسلامي المسيحي وعضو الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي

-        شارك في العديد من المؤتمرات العلمية الاكاديمية

-        ناشر العديد من الكتب والدراسات والأبحاث...

مارس الصحافة، فعمل في صحف البلاغ والسفير والكفاح العربي خلال دراسته الجامعية 1972 – 1977.

عيّن سفيراً للبنان ومندوبا دائماً في جامعة الدول العربية من العام 2007 حتى تقاعده 26/1/2016. شارك عضواً في الوفد اللبناني في القمم العربية كما كان عضواً في الوفد اللبناني الى القمة العربية الاميركية اللاتينية في الدوحة – قطر وقمة منظمة التعاون الإسلامي في مصر، ومثّل لبنان في القمة العربية التي عقدت في سرت ليبيا 2010.

          خالد زيادة هو باحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي، ركّز اعماله على الفترة الحديثة. كان شاغله الأساسي رصد التحولات التي طرأت على الأفكار والاتجاهات الاجتماعية التي اصابت المؤسسات الإدارية والعلمية. من هنا اهتمامه بالعلاقة بين العالمين العربي والإسلامي من جهة وبين أوروبا، واعتباره ان كل الظواهر الثقافية والسياسية والاجتماعية انما حدثت بتأثير هذه العلاقة التي ترجع الى ما يزيد على قرنين من الزمن. إلاّ ان الانكباب على الفترة الحديثة لم يمنعه من العودة الى التراث العربي الكلاسيكي التاريخي والفقهي. اراد ان يرصد تطوُّرَ النظرة التقليدية التي تميَّزت بالازدراء والتجاهل الممزوج بالإعجاب المعاصر بما انجزته أوروبا وما حققه الغرب من العلوم والتقنيات.

          أيها السادة،

          لن اسمح لنفسي بان اتجاوز حدود الدور المقرر لي كمدير لهذا اللقاء، خاصة لست ممن يزعمون القدرة على الإحاطة اللائقة والوافية بشخص المكرم وايفاءه بعضاً من حقه. لذا كان من البديهي ان يكلَّف لهذه المهمة الدقيقة شخص لا يتصف فقط بمعرفته الوثيقة بالعلَم المكرم بل يشاطره العديدَ من الشمائل والسمات المميزة، انه صاحب خامة فكرية واخلاقية كبرى، تعتز حركتنا بصداقته انه مناضل عنيد في سبيل استقلال لبنان وتحصين الدولة والكيان انه معالي وزير الثقافة السابق د. طارق متري، مثقف جامع لمناهل العلم والمعرفة. عرفته الجمعيات الثقافية والمجامع العلمية في لبنان والمحافل الدولية. محاضرا لامعاً ودبلوماسيا رصينا. حط به المقام اخيراً لتمثيل الأمين العام للأمم المتحدة كمندوب له في ليبيا. قدم استقالته طالباً اعفاءه من هذه المهمة الشاقة عسى ان يكون قراره صائباً في الاستقالة، وكلامه فائضاً في الحديث عن علمنا المكرم.

المحامي هيكل درغام

__________________________

كلمة السفير خالد زيادة

الحفل الكريم،،

 

اسمحوا  لي في البداية أن أعبّر عن تأثري بوجودي بينكم في هذه المناسبة، التي شكلّت بالنسبة لمن مرّ قبلي على هذا المنبر لحظة فارقة في حياة كل منهم.

 

هذا التقليد الذي أرسته الحركة الثقافية في انطلياس أصبح مناسبة لبنانية منتظرة عاماً بعد عام. لذا لا يسعني سوى أن أوجّه الشكر للحركة الثقافية التي شاركت في العديد من نشاطاتها وجمعتني مع أفرادها الصداقة والهموم الثقافية والمشاغل الأكاديمية.

 

وأوجه الشكر إلى الأستاذ هيكل درغام على عنايته بإدارة هذه الجلسة، وشكري الخاص إلى صديقي معالي الوزير الدكتور طارق متري الذي قبل مشكوراً أن يكون إلى جانبي اليوم، في تتويج لصداقة يقرب عمرها من الأربعين سنة، هي المسافة الزمنية منذ أن تكوّن وعينا في أواخر ستينات القرن الماضي، والدروب الوعرة التي كان علينا أن نسلكها وسط أزمات وحروب الوطن التي لم تنتهِ بعد والتي نرجو أن نغادرها في أقرب وقت.

لا أبالغ إذا قلت أنّ الأحداث والتجارب هي التي صاغتنا حين سعينا إلى أن نكون جزءاً من الواقع الذي يعيشه وطننا، مشاركين في التيارات السياسية والثقافية التي نشطت آنذاك، حين كنّا طلاباً قبل بلوغ المرحلة الجامعية وخلالها، مشاركين في التظاهرات المطلبية والوطنية، والاجتماعات الحزبية العلنية والسرّية التي أسهمت جميعها في تكوين وعينا في خطوط عميقة لا تُمحى..

                                    

إلاّ  أننّي من جهتي، وكنت بعد في سنوات دراستي الفلسفة في الجامعة اللبنانية، وعملي في الصحافة الثقافية، توجهت إلى القراءة والتفكير حول مسار تاريخنا منذ بدايات النهضة، وجذبتني أفكار الطهطاوي وبطرس البستاني وخير الدين التونسي، كما لفتت انتباهي أعمال أسماء بدأت بالبروز آنذاك مثل عبدالله العروبي وهشام جعيط. وهكذا غادرت مرحلتي الايدولوجية والحزبية، إلى مؤلفات التنويريين ومحاولات الكتاب النقدية التي كانت تسهم في إعادة النّظر بالتجارب النهضوية والإصلاحية والثورية.

هذه القراءات التي كنت أكتب عنها مقالات في الصحف هي التي دفعتني إلى البحث في المؤثرات الأوروبية المبكرة على عالمنا، والدخول في تحديث لم ينجز. كأن انشغالي في عملي الأكاديمي الأول، وهو رسالة الدكتوراه، البحث عن بدايات التحديث، الذي لم يفرض نفسه إلاّ بسبب الهزيمة العسكرية، فأندفع الحكّام في بناء الجيوش النظامية التي حصدت القليل من الانتصارات والكثير من الهزائم.

الإشكالية الأولى التي استغرقت مني سنوات، هي العلاقة مع أوروبا،  وبعد البحث في بدايات التحديث الذي يعني الأخذ بنتائج العلوم والتقنيات التي حققتها أوروبا منذ عصر نهضتها وحتى عصر التنوير،  عكفت على قراءة نظرة المسلمين إلى أوروبا، وقد جمع العالمين جوارٌ فريد في التاريخ والجغرافيا، وتعقبت الكتابات العربية المبكرة منذ القرن التاسع الميلادي وحتى عصرنا الراهن، ورصدت كيف انتقلت النظرة من اللامبالاة والازدراء إلى الإعجاب،  عبر مرحلة طويلة من التاريخ تبادل العالمان فيها ولا يزالان الحروب والبضائع والبشر والإعجاب والبغضاء.

 

خلال المدّة التي عملت فيها على علاقتنا بأوروبا والغرب، كان العالم يتغير، في سبعينات القرن الماضي كان لا يزال التفاؤل يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّنا نستطيع أن ننخرط في الحداثة وفق المعايير التي أخذت بها شعوب العالم. إلاّ  أنّ الأمور تغيرت، وتغيرت السياسات والأفكار وتلاشى تأثير أوروبا،

وخبت الأفكار الكبرى التي كانت تحرك الشعوب وانطفأت الايديولوجيات القومية والاشتراكية التي كانت تغذي مخيلات الملايين في كل أنحاء العالم. صحيح أن الأفكار التي أرستها الثورات الكبرى مثل الحرية والمساواة وحقوق الإنسان أصبحت مكتسبات انسانية، إلاً انّنا في عالمنا ما زلنا في طور تحقيق هذه المفاهيم وإعادة تعريفها، فلا مفر، وقد خبا تأثير أوروبا وأفكارها الكبرى من ان ننتج أفكارنا بأنفسنا.

 

الإشكالية الثانية تتعلق بثنائية المؤسسات والأفكار، كان التحديث في بداياته يستهدف بناء المؤسسات، من الجيش إلى الإدارة إلى المدرسة والقضاء، ولم يمكن المصلحون في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ليعيروا الأفكار والمفاهيم اهتمامهم.             

إلاّ أنّ جيلاً من المتعلمين في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر مشبعٌ بأفكار التنوير والثورة الفرنسية نادى بالحرية والدستور وتقليص سلطات العاهل، وفي تلك الآونة نشأت السياسة في عالمنا، السياسة المبنية على أفكار الحرية والدستور، والتي انبعثت من التجربة المخفقة لأول دستور وبرلمان عام 1876،  وأولئك الذي فقدوا مقاعدهم في مجلس المبعوثان من أتراك ولبنانيين وسوريين ترفدهم ثلّة من الكتّاب والصحافيين والتنويريين الذين انشأوا الأحزاب وأرسوا قواعد الحياة السياسية التي تعني أن الاهتمام بالشأن العام، وشؤون الدولة لم يعد من اختصاص الحاكم أو العاهل. أفضى انتشار الأفكار إلى الثورات التي سجلت انتصار أفكار الحرية على المؤسسات التقليدية، وقد نعمت بلدان العالم العربي بين الحربين العالميتين بمرحلة كانت فيها الأفكار الليبرالية والاشتراكية الوطنية، توجه السياسات والمؤسسات، وهي المرحلة التي انتهت بتغلب المؤسسة العسكرية على الحياة العامة وتقييد الحريات وفرض الأحادية العقائدية على التنوّع السياسي والفكري..

 

الإشكالية الثالثة تتعلّق ببروز المثقف التنويري ودوره في الحياة العامة ثم انحسار هذا الدور.

عملت خلال سنوات على تعقب أصول المثقف بالعودة إلى الأجهزة العالمة والثقافية في الحقبة السابقة للتحديث، وبالإضافة إلى الفقهاء ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، حيث يُشكل رجال الدين جسماً له وظائفه فضلاً عن الدور الاجتماعي، فقد كان هناك جهاز قائم بذاته، يعرف بمؤسسة الكتّاب وهم العاملون في ادارات الدولة  ويتولون شؤون المحاسبة والصلات مع الدول الأجنبية.

وقف الكتّاب إلى جانب التحدث، إلاّ  أن الإمعان في تحديث ادارات الدولة والتعليم أدى إلى اضعاف حجم العلماء، لكنه أطاح بجهاز الكتاب الذين استبدلوا بإداريين ذوي تدريب وفق النمط الأوروبي.

إن انفراط جهاز الكتّاب أدى إلى بروز الإداري المتخصص  والمتنور في مصر مع أمثال الطهطاوي وعلي مبارك، أما في لبنان، فإن تلاشي مؤسسة الكتّاب جعلت من ناصيف اليازجي كاتب الأمير لغوياً وأدبياً ومثقفاً تنويراً.

ومهما يكن من أمر، فإنّ دور المثقفين التنويريين اللبنانيين كان رائداً منذ سبعينات القرن التاسع عشر، وسبب ضعف الدولة وهشاشة الإدارة الذي أصبح تراثاً لبنانياً، فإنّ المثقف اللبناني المتحرر من قيود السلطة أسس الصحيفة والمؤسسة والجمعية، ليس في لبنان فحسب، ولكن في مصر كما هو معلوم والأميركنيين حيث نشأ أدب لبناني مهجري.

إنّ دراسة احوال المثقف تفضي إلى التمييز بين الوظيفة والدور، فإذا كان المثقف مدرساً وإعلامياً وكاتباً، فإنّ ما يجعله مثقفاً هو الدور الاجتماعي، عادة ما يطلب الرأي العام من المثقفين أن يكونوا فاعلين في مجتمعهم وتلك إشكالية تكمن في التوفيق بين الوظيفة والدور.

إنّ ما نشهده اليوم هو انحسار الدور الاجتماعي والسياسي للمثقف، ليس في لبنان فقط ولكن في كل البلدان العربية.

كان الحقوقيون في لبنان ومصر وسوريا قد قادوا الحياة العامة في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وفي الثلاثينات من القرن العشرين كان الشعراء والأدباء، صناع القيم الوطنية ولعب الكتّاب من الصحافيين دور الرقابة على الحكومات. وكان أساتذة الجامعات ينشرون الأفكار في مجتمعاتهم. لقد انحسر كل ذلك، وبانحسار أدوار المثقفين تأخرت مجتمعاتنا، وبانحسار العلوم الانسانية والاجتماعية طغت أفكار التطرف والأصولية والمذهبية.

ما زالت الأحداث والوقائع التي يشهدها العالم العربي منذ عام 2011، تتفاعل وتنتقل من طور إلى آخر، ولن تشهد استقراراً قبل أن يتغير العالم العربي تغييراً جذرياً يضعه على طريق الحداثة والاندماج في العالم المعاصر.

وما شهدناه من انتفاضات وصراعات داخلية وتدخلات خارجية، إنما أتى في أعقاب ثباتٍ متمادٍ لأنظمة أحادية،  فما حدث ويحدث إنما يكشف عن فوات تاريخي وعجز عن تحقيق ما انجزته دول في الجوار، أو دول كانت أقل نمواً وحداثةً مما كانت عليه مصر وسوريا ولبنان في النصف الأول من القرن العشرين.

إن ما يحدث من تغيير، والذي سيكون سمة السنوات المقبلة، يدفعنا إلى المقارنة مع ما كان قد جرى قبل حوالي القرن من الزمن، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حين شهد العالم العربي تغييراً جذريّاً تمثل بقيام ثورات وارتسام حدود وقيام دول وصياغة دساتير. عرفت بلدان مصر وسوريا والعراق ولبنان بداية حقبة ليبرالية ظهرت خلالها برلمانات وأحزاب وصحافة وجمعيات ونقابات، ونمو طبقة وسطى وملامح صناعة وطنية، في نفس الوقت الذي كانت تسعى بلدان عربية أخرى إلى التحرر، وبناء الاستقلال كما حدث في بلدان المغرب العربي. كل ذلك في ظل عروبة تتكرس في الأدب والشعر وكتابة التاريخ، كما تتكرس في نمو الشعور الوطني والمواطنة، وخلال هذه الحقبة التي امتدت حتى أواسط القرن العشرين، شهدنا إسلاماً متسامحاً ومنفتحاً ترافق مع دعوات إلى تحرير المرأة، وتحرير الإيمان الفردي من ثقل التقاليد.

 

لقد جرى تمثل لقيم الحداثة في الدولة والمجتمع، وبالرغم من هشاشة مؤسسات الدولة الحديثة العهد، وبالرغم من تعثر الحياة السياسية وضعف البرلمان والأحزاب، فإن المجتمع كان أسرع في الإصغاء إلى نداءات المعاصرة والتجديد الذي شمل كافة جوانب الحياة اليومية، وخصوصاً في المدن التي شهدت بدايات الهجرة من الأرياف.

كذلك فإنّ رابطة المواطنة نمت نمواً سريعاً متجاوزة الانتماءات العشائرية والطائفية والدينية.

كان هذا التغيير نتاج حقبة التنظيمات ( أواسط القرن التاسع عشر) التي أحلّت مؤسسات حديثة وتعليماً مدنياً وقضاءً متخصصاً، فضلاً عن قوات عسكرية نظامية محل المؤسسات التقليدية، ونتيجة لأفكار رواد النهضة الذين عملوا على نشر قيم الحرية والوطنية ودعوا إلى التربية والاحتكام إلى الدستور، كما كان ثمرة الإصلاحية التي دعت إلى تجديد الفكر وإصلاح التعليم، مع الدعوة إلى قبول الآخر والانفتاح على العالم.

شهدت الفترة القصيرة ما بين الحربين فضاءً عربياً يغادر تقاليده بخطى واسعة وسريعة رغم العثرات التي يمكن فهم أسبابها، فالتطور الذي أصاب أوروبا،  والتي كانت مثلاً عالمياً في فترة ما بين الحربين، استغرق قروناً، فلا يمكن بلوغ ما وصلت إليه في غضون ثلاثة عقود من الزمن. ومع ذلك فإن التعبيرات الفكرية والأدبية كانت تتفاءل باستتباب التغيير وبلوغه أغراضه عبر التعليم والقانون والحرية.

إن ما يجري في العالم العربي هو نتيجة مباشرة لانقطاع مسار التحديث، والإخفاق في إنتاج خطاب عقلاني معاصر يتصدى للأنظمة الأحادية.

                     

إن ما آلت إليه الثورات من صراعات داخلية وتدخلات خارجية، وما أصابها من تعثر، إنما يعزى إلى غياب الأفكار. فلا يمكن أن نصنع تغييراً دون أن تكون لنا رؤية متسقة مع متطلبات الانخراط في العالم المعاصر.

 

لقد عمل مفكرو النهضة على تمثل أفكار التنوير بما تعنيه من فصل الدين عن السياسة والاحتكام إلى القوانين والإقرار بالتعدد الاجتماعي والدستوري وحرية الفرد، وليس أمامنا سوى أن نضيع مشاريعنا بناءً على هذه المبادئ، وأن ننتج أفكارنا الملائمة لظروفنا، وأن نعوّض ما فاتنا من تأخر في ميدان العلوم والإنسانيات.

 

لقد انقضى عصر التنوير ولم نعد في عصر الرواد والمعلمين، وانتهى عصر النخب التي كانت تؤثر في مجتمعاتها، ودعاة الحداثة الذين كان المتعلمون يسمعون دعواتهم وينشرونها بين كافة فئات المجتمع. فالحداثة المرجوة ينبغي أن تتحول إلى مشروع مجتمعي وسياسي. وإذا كانت الأفكار التي دعا إليها النهضويون والإصلاحيون تشكل أساس المشروع التحديثي، فإنّ المطلوب هو صياغتها على نحو  راهن على ضوء النجاحات والإخفاقات التي أظهرتها تجربتنا خلال قرن مضى.

 

 

خالد زيادة

2016.03.11