كلمة الدكتور ناصيف قزّي

في تقديمه احتفال تكريم القاضي سليم العازار

خلال فعاليات المعرض اللبناني للكتاب/ السنة الخامسة والثلاثون 2016 التي تقيمه الحركة الثقافيَّة في انطلياس.

السبت في 19 آذار 2016.

*

سليم العازار أو الحقيقة الساطعة...!؟

 

وهل أعظم من سؤال العدالة يطرح نفسه علينا في هذا الزمن الجاحد والثقيل... زمنِ تفكُّك النُظُم القيميَّة والمعرفيَّة، وحتى الدينيَّة، وشتى المعايير... زمنِ تبدُّد الآمال والأحلام... زمنِ العود على بَدء، وضمور مفاهيم الحداثة وتفرُّعاتها لصالح حالةٍ قروسطيَّةٍ أنعشَها بعض شياطين الأرض... زمنِ تهافت الخطاب السياسي في بلادنا... زمنِ الفراغِ المهين، الذي طاول مؤسَّسات الدولة اللبنانيَّة، والذي هو، وللأسف، مثبتٌ أصلاً في الرؤية والنهج والإرادة المفقودة في عمليَّة بناء تلك الدولة ومؤسَّساتها... زمنٍ ظننتني فيه أمام المشهد الأخير... بل قل أمام رؤيا الزمن الأخير...!؟

*

أيها الأصدقاء،

يسرني أن أرحب بكم في رحاب هذا الدير، وباسم الحركة الثقافية - انطلياس... الحركة المتبقِّية من مجتمعٍ مدنيٍّ، نرجو ألّا تكون قد أدركَته حالُ التفكّك والإنهار، تلك التي ضرَبَت الدولة اللبنانيَّة في بنيتها المزدوجة: الميثاقيَّة والدستوريَّة... ناهيك بما حلَّ بإنساننا من تشوهاتٍ طاولت كلَّ البنى: الإجتماعيَّة والثقافيَّة والأخلاقيَّة والسياسيَّة... وما إليها من حوافزَ ومرتكزات.

أيها الأصدقاء،

نتحلَّق اليوم معاً حول شخصيّةٍ نادرة الوجود في أزمنة التعثر والإنحلال التي تأسرنا... شخصيّةٍ قد تختصر صورة إنساننا المرجوّ... وما يُفترض أن يكون عليه خُلُقُه ومزاياه... 

اليوم... في دارتنا الثقافيَّة... وفي إطار فعاليَّات المهرجان اللبناني للكتاب... هو يوم القاضي سليم العازار... "القاضي رغماً عنه"...!؟

ترى، لماذا رغماً عنه...!؟

"لأنَّ أهدافي وتطلعاتي، كما يقول، كانت ولا تزال سامية جداً، كنت أطمح إلى الدفاع عن المظلومين مجاناً، ولولا حاجتي للمال، لما توانَيْتُ لحظة عن رهن نفسي لقضايا الفقراء"[ص. 25]. وأكثر من ذلك، ولولا خوفه من "عدم التمكن من تطبيق النذور"، لكان أصبح راهباً يسوعياً...

ليس غريباً على سليم العازار هذا القدْر من المجانيَّة والتفاني والعطاء، هو الذي تعلَّم، ومنذ نعومة أظافره، في البيت الذي نشأ فيه، قولُ سليمان الحكيم:

"رأسُ الحكمة مخافةُ الله"... ليتنبَّه مع الأيام، فيما بعد، "أن منتهى الحكمةِ كلِّها، هو أخيراً في محبة الله، فهي تنيرُ العقل، كما يقول، وتُرشدُ إلى الحق وتطهِّرُ النفس وتصقُلُها"[ص. 20].

 

 

*

حياته

القاضي سليم العازار هو سليل عائلة كورانيَّة عريقة.

- ولد في أميون عام 1924.

- تابع دروسه الإبتدائيَّة في المدرسة الروسيَّة في أميون ثم "مدرسة راهبات العازاريَّة" في طرابلس، قبل أن يلتحق في السادسة من عمره بمدرسة "العائلة المقدسة الفرنسيَّة"، بعدما انتَقَلَت عائلتُه إلى بيروت واستقرَّت في منطقة الجميّزة. وفي العام 1932، التحق ﺑ"المدرسة الإبتدائيَّة"[Le Petit Collège] لدى الآباء اليسوعيِّين، قبل أن ينتقل إلى "المدرسة الثانويَّة" [Le Grand Collège].

- التحق في كليَّة الحقوق التابعة للجامعة اليسوعيَّة ليتخرَّج منها عام 1944.

- تدرَّج لدى محامين كبار ليستقرَّ في مكتب المحامي جورج قيصر بشاره منذ العام 1945.

- لم يُعرف عنه أنَّه تحزَّب يوماً لغير الحقّ والعدل، رغم "ميوله الإشتراكيَّة" في بدايات نضجه. كما أنَّ تأييده للإشتراكيَّة الفرنسيَّة في زمن "الجمهوريَّة الثالثة"، لم يمنعْه من المشاركة بحماسة في التظاهرات التي انطلقت في شوارع بيروت ضد الإنتداب الفرنسي، متسلحاً بنزعةٍ وطنيَّةٍ استقلاليَّة. ولم ينس يوماً أنَّه شاهد بأم العين نعيم مغبغب، النائب الشوفيّ المغدور، يطلق النار على "العسكري السنغالي" الذي رفع العلم الفرنسي على قبة البرلمان اللبناني... فأرداه.

- كانت قراءة اﻟ Orientواﻟ Le Jour، والنهار... ومقالات جورج نقّاش، من صلب اهتماماته اليوميَّة، في ذلك الزمن التأسيسي للبنان الكيان السياسي. كما كان رياضياً متألقاً يحب السباحة والهواء الطلق.

- عيِّن قاضياً في كانون الثاني/ يناير من العام 1953، ليتسلَّم على الفور، ورغم صغر سنه، مهام مستنطق بيروت، في بداية عهد الرئيس كميل شمعون، الذي أراد حينها تسليم المناصب والمراكز لشبابٍ جددٍ وأكفياء... التعيين اللافت الذي دفع بالمحامي هنري الجلخ لسؤال الرئيس كميل شمعون عن تعيين سليم العازار " يللي، على ما قال،ﻟِ بْسَيْني بتاكلّو عشاه". لكن المحامي المذكور لم يتردَّد، وبعد أربعة أشهر على تعيين العازار مستنطقاً، بوصفه ﺑ "النِمْر".

ومنذ ذلك التاريخ، بدأت القاعات والقامات ترتجف أمام عدالته الصارمة... وذلك، على ما يقول، "حرصاً على التمسك بالقيم والمبادئ التي تربَّيت عليها".

وهذا ما حدث، بالفعل، عندما طرد من مكتبه الحاج نقولا مراد، "أحد قبضايات الأشرفية"، الذي جاءه يوماً لإخراج أحد السجناء. وهذا ما حصل لحبيب أبي شهلا الذي جاءه يوماً ليدافع عن أحد الموقوفين، الماثل أمامه للتحقيق... فما كان منه إلا أن أوقفه، وبحضور وكيله، إحقاقاً للحقّ. 

أمضى سليم العازار،فيمنصبمستنطقبيروتزهاءأربـعسنـوات،قبل انينتقلإلىبعبدا ليعملمستنطقاًلجبللبنانمدّةثلاثسنوات... ثم مستشاراًلدىمحكمةالاستئنافالمدنيَّة.

نقل بعد ذلك إلى محكمةالجناياتفيبعبدا، قبل أن يعيَّن عام١٩٦٥رئيساًلقضاةالتحقيقفيبيروتمنقبلإميلتيانالذيكانوزيراًللعدل،آنذاك.

وماأنعينّ في هذا المنصب،حتّى "دبّتالصرخة" منقبلرجالالسياسةلإقصائهعنه.وعندما حاول إميلتيانأنيستوضحمنهمسببالاعتراض،قالوا له: "لايمكننااننتكلّممعهبشي". فمـاكـانمنـهإلّاأنردّعليـهمقائلاً: "لقدزدتمونـيرغبةًبـه"... إلاأنَّهلميبقفيهذاالمنصب سوى 11 شهراً.

انتقل، بعدها،إلىمحكمةالاستئنافالمدنيَّةفيبيروت،وعيّنرئيساًلمدة ١٤سنة.ومنثمّأصبحالرئيسالأوللمحكمةاستئنافبيروتمدّةسنةتقريباً،وعام١٩٨٠انتقلليتسلَّم رئاسةمحكمةالتمييزمدّة١3سنة.

وخلالهذهالفترة،وتحديداًعام١٩٩٠عمدالعماد ميشالعون، رئيس الحكومة الإنتقاليَّة، آنذاك،إلىتعيينهمدّعياًعاماًللتمييز. حدث ذلك دون أن يكون بينهما سايق معرفة.

ويذكرالعازار هنا، أنَّهعندما زارقصربعبدالشكر العماد عون، بادره قائلاً: "كانيجبأنأعيّنكفيهذاالمركزمنقبل،ولكنّهمخوّفونيمنك"... ليجيبه :

"ربّماماقالوهعنيهوصحيح،وأتمنّىأنتحافظعلىصيتي،فأناذوصفحتين،الأولىحسناءملساء،والثانيةإذالمستهاخشناء".

لكنه لميستمرفيهذاالمنصباكثر من١٥يوماً. فبعدإقصاءالعماد عون،اعتُبرتكلُّ القراراتالتياتّخذهاباطلةوغيرشرعيةوغيرمعترفبها.

عاد سليم العازار، بعد ذلك، ليتابع عمله فيغرفةالتمييز،فضلاًعنعضويَّتهفيمجلسالقضاءالأعلى، واستمرإلىأنبلغسنالتقاعد عام١٩٩3.

-كان قد عاودممارسةالمحاماةعندماطلبواإليهأنيدخلفيعضويَّةالمجلسالدستوري الأول في تاريخ الجمهوريَّة اللبنانيَّة. وقد سعى دون جدوى لترؤس هذا المجلس الذي كانت له فيه صولات وجولات، ولا سيما لجهة البت بالطعون النيابيَّة التي قدِّمت في زمن الوصاية والتزوير... ما دفع بالرئيس الياس الهراوي، آنذاك، إلى الإفصاح أمام زواره بأنه "لو كان سليم العازار ﺑ المجلس الدستوري يوم انتخابي كان طيَّرني"...

- لا يخفي سليم العازار امتعاضه من ضعف الجهاز القضائي في لبنان... الجهاز الذي حلم بإصلاحه.

- هو متزوج من السيدة روزالي الياس ملحم من بلدة كفرحزير في الكورة، ولهما أربع بنات: ريما وهالة ومهى وديانا.

*

كتاباته

أما كتاباته، فقد جُمعَ معظمها في مصنَّفٍ ضخم [911 صفحة] بعنوان:

وحدَها الحقيقة تُنجِّي

أَعَدَّ هذا الكتاب وقدَّم له الأب جوريف قزّي، العالم الماروني القدير، والمرجع الكبير في الفكر الديني، ولا سيما الإسلاميَّات... وأدرجه ضمن سلسلة مؤلفات "الحقيقة الصعبة" التي دأب على نشرها منذ ما يقارب الأربعة عقود.

أما نحن، وإذا أردنا، من منظورنا، أن نصنِّف هذا الكتاب/ الوثيقة: القضائيَّة والدستوريَّة والقانونيَّة والفكريَّة والسياسيَّة والنقديَّة وحتى الوجدانيَّة، بالإضافة إلى كونه كتاباً في السيرة... إذا أردنا أن نصنِّفه فإننا نَضَعُه في خانة الحقيقة الساطعة...!؟

يتضمن الكتاب، بالإضافة إلى سيرته الذاتية وحكاية المجلس الدستوري وعمله وحقائقه ونقاط ضعفه... واستطراداً غطرسة السياسيين وتفلتهم من ابسط الضوابط والمعايير... مقارباتِه لقوانين إنتخابيَّة وأمور قضائيَّة وطعون انتخابيَّة... وصولاً إلى قضيَّة العماد عون التي اختصرها ﺑ "أسئلة إلى العماد عون بكل محبة"... قبل أن يَختم بوفائه لرجالاتٍ رحلوا، ومن بينهم، يوسف جبران والبير مخيبر وعادل عسيران وغسان تويني.

*

ترى... هل أصيب سليم العازار، هو الذي أنعم الله عليه بعمرٍ مديدٍ، ليكون شاهداً على عقود الإستقلال؛ هل أصيب بخيبةٍ، من ضعف جهازٍ قضائيٍ، لم ير فيه شبيهاً لنفسه، لا ماضياً ولا حاضراً، في جرأته ونزاهته وثباته وإقدامه...!؟

هل أصيب سليم العازار بالإحباط، هو الذي "لم يعمل مع العسكر"، و"تجنَّب رجال السياسة"، كلَّهم؛ هل أصيب بدوارٍ من ساسةٍ أوقعوا لبنان في المحظور... فيدعو إلى هدم كل شيء وإعادة البناء من جديد... هو القائل "إن لبنان سيولد من الفراغ"...!؟

هل فقد الأمل بمجمع سخَّر له كل القوانين حين قال:"الدستور ليس الغاية بحد ذاته وإنما هو وسيلةٌ لحماية الدولة والمجتمع اللبناني، وإذا ما خُيِّرت بين الحفاظ على الدستور أو الحفاظ على الدولة والمجتمع، فإنني بلا شك أغضُّ النظر عن الدستور بصورة استثنائيَّة وعن كل قوانين العالم للحفاظ على الدولة والمجتمع اللبناني"[ص. 107].

هل فقد أعصابه، هو الذي عندما يعمل على القوس، على ما يقول، "يصبح كتلة أعصابٍ"، لينعى النظام الذي بني عليه لبنان، منذ أن تشكَّل كياناً سياسياً قبل عقود...!

 

باختصار،

سليم العازار... هو "حكايةُ عمرٍ" دوزنتها الفضائل المسيحيَّة المفعمة بالتواضع والمجانيَّة... وشعلةُ عدالةٍ لم يبرأ يوماً ضميره المتيقِّظ من وهجها المنير... عدالةٍ هي الأصل لديه في منظومة القيم الإنسانيَّة العامة والتي لا تستوي أمور الناس ولا تصلح المجتمعات بدون قيامها...!؟

سيدي،

نحن هنا اليوم لنزفَّك إلى الأجيال القادمة... قامةً حقوقيَّةً بل قانونيَّةً ناصعةً، كما ثلجُ لبنان... وصوتاً هادراً، كما ينابيعُه الدافقة وشلالاتُه المنسكبة، لا يصدح إلا بالحقّ وللحقّ... ومثالاً يحتذى في مسيحيَّته المتألِّقة ووطنيَّته الصلبة...

سيدي،

إسمح لي أن أجرح تواضعك وأقول: إنك لا تقلُّ شأناً عن كبارٍ كبار، مرّوا في تاريخ مشرقنا العظيم، في وقوفك بوجه ساسةٍ صغارٍ صغار، دأبهم مصالحهم والأنانيَّات... فكنت، بذلك، وبعفويَّةٍ وثبات، على خطى الأنطاكيّ الكبير، يوحنا الذهبيُّ الفم، في وقوفه بوجه الأباطرة، ليلهب الساحات ويفتح التاريخ على مصراعيه للحقيقة... تلك التي تنجّي...!؟

___________________________________

ريمـــــون عـــازار  

محــــام بالاســــتئناف

انطلياس

ص.ب.70700

 

                                                                            

 

                                               

 


أنطلياس في : 2016/3/19

تكريم القاضي الرئيس الشيخ سليم العازار

في الحركة الثقافية – انطلياس

في هذا المكان الحافل بذِكْرَيات التاريخ ، المتوّج بمجد الكلمة ، العابر للثقافات والطوائف والمذاهب ، تُكرِّم الحركة الثقافية اليوم ، الحقّ والقانون والاجتهاد ، تكرّم العدالة المطلقة ، والنزاهة المطلقة ، تُكرّم الإشعاع والنزاهة والرجولة والجُرأة ، تكرّم الرّيشة المغموسة ابدا" في محبرة الحقيقة والعلم والثقافة والرؤيا ، تكرّم من أصبح اسمه يختزلُ كلّ هذه القيم والصفاتِ ، القاضي الرئيس الشيخ سليم العازار .

 

       ولد هذا العلم الخفّاق في سماء لبنان ، منذورا" للتفوّق والإبداع ، أُعطيَ النبوغ والذكاء ، وتسلم الوَزَنَات العشر ، فتطلّع الى الذُرى ، ونحا الى التفرد والسطوع . كان الطليعة في المدرسة والجامعة ، والألمع في سدة القضاء ، يحكُم بالعدل ، فيستقيم الملك . إِعتبر القضاء رسالة ، ومارسه رسالة ، فلم يتلطخ رداؤه الأبيضُ الناصعُ ببقعة واحدة دكناء .

 

       جاء في الكلام المأثور : لكل حصان كبوةٌ ، ولكل حسام نبوةٌ ، أمّا في ميدان الشيخ سليم العازار، ميدانِ الحقّ والعدالة ، فلا كبوة لحصانه ، ولا نبوة لحسامه ، ولا هفوة لأحكامه .كانت المعادلة تقول في الأمس ، عند التساؤل عن القاضي الرمز ، الذي يُضرَب بعدله المثل : عادل كعمر، أما اليوم، فصارت المعادلة تقول : عادل كالشيخ سليم العازار .

 

       فلمن من القضاة ، هتف الشعب يوما" لأحكامه ، بصوت احد اعلامه : بورك للبطن الذي حملك وللثديين اللذين أرضعاك ، حكمت فانصفت ، واجتهدت فابدعت ، وقلت الحق فانكفأ الباطل وانجلت الظلمة .

 

       نشأ هذا الرجل وترعرع ، في عائلة تمرست في الحكم ، يوم كانت تتولى السلطة في المقاطعات اللبنانية ، العائلاتُ التاريخية . حكم أجداده ، كما ورد في الخماسية المارونية للأب يواكيم مبارك،  فترة من الزمن منطقة عكار ، وشاركت دائما" الأمراء الأيوبيين في حكم مقاطعة الكوره، وانفردت زمنا" طويلا" في حكم منطقة أميون. امتاز حكمها ، كما ورد في الخماسية نفسها ، بالعدالة والأقدام والثقافة . وفي عهد المتصرفية مثّل أجداده منطقة الكوره، في مجلس ادارة جبل لبنان، طيلة ذلك العهد ، وكانوا الأشد جُرأة وشجاعة في مواجهة المتصرف، كلما تجاوز القانون وظلم الرعية . فأخذ الشيخ سليم العازار عن اجداده ، النزعة الى تولي السلطة وليس التسلط ، وقوة الشكيمة والشخصية الفذة ، وليس الاستبداد والتعنت ، ومواقفَ العزّ كلما مُسَّت الحقيقة وانتُهك القانون . كان العدالة النابعة من الأصالة والعصامية ومن الذات المستنيرة .  

 

       لم يسع الى  المراكز والمناصب ، بل سعت المراكز والمناصب اليه، لم يكبرُ بها ، بل كَبُرت به ، اعطاها من وهجه وهيبته ، فزادها تألقا" . لم يقرع يوما" أبواب اركان السلطة ، بل هم من قرعوا بابه ، لم يتزلف لأحد ولم ينتسب الى زعامة ، بل الى نفسه وعمله وابداعه وضميره . من هنا كانت قوته وسطوته وحصانته التي لم يستطع ولم يحاول أحد اختراقها .

 

       أُختير عضوا" في المجلس الدستوري ، فصار فيه الرقم الأصعب ، طُلِب اليه ان يساير ويهدأ ، فازداد تصلبا" وشموخا" وتمسكا" بالحقّ . قال انه لا " يكوعّ " ولا يهادن ، ولا يساير على حساب الحقيقة ابدا" ، وسجل المطالعات والمخالفات الأشد جُرأة ، والأرسخ رأيا" ، والأَثبت قانونا" واجتهادا". وعندما خرج بالقرعة من هذا المجلس ، تنفّس السياسيون المصطادون في المياه العكرة الصُعَداء ، وخفت صوت الحق ، وهدأ الدويّ الذي كان يحدثه وجود الشيخ سليم العازار .

 

بعد ان ادى قسطه للعلى في القضاء ، وأُحيل الى التقاعد ، لم يتوقف عن اصدار الأحكام ، ولكن ، هذه المرة، في المقالات والدراسات النارية والنورانية التي كان ينشرها في الصحف ، كتب في التاريخ والسياسة والإجتماع ، وفي القضايا الوطنية ، تطرق الى المسائل الحسّاسة التي كان الكثيرون يتلافون الخوض فيها ، انتقد بشدة الأوضاع الشاذة ، حتى ولو كان ذلك يطول أحيانا" القضاء ، ووصف لها الدواء الناجع ، واستند في كتاباته ، كما كان في احكامه القضائية ، الى الحجة والبرهان والأدلة القاطعة المانعة ، فعصيت الى حد بعيد على النقد والمناقشة، وكرسته ، كما كان من قبل في القضاء ، كاتبا" متألقا" جريئا" ، ووطنيا" حرا" طلق الجناح ، ومصلحا" اجتماعيا" بارزا" ، وصخرة في الحق لا تتزعزع .

 

       اذا قرأنا الشيخ سليم العازار في احكامه وفي مقالاته ودراساته ، ادهشتنا الدقة في اللغة والصياغة والوضوح والأيجاز والإشراق ، حتى ليصعب ان نَزيد كلمة او ان نحذف كلمة واحدة مما كتب، فنهتف بإعجاب ، حقا" : إنّ خير الكلام ما قلّ ودلّ ، وإنّ من البيان لسحرا ، وإن الحقيقة تزداد توهجا" ، كلما كانت اللغة أنيقة متوهجة .

 

       فيا ايها الكبير الكبير ، فيما تكرمك الحركة الثقافية اليوم ، علما" يدور منذ زمن في افلاك لبنان والعالم العربي ، تتكرم هي بك ، ويتكرم  لبنان ، ويتكرم العدل والحق والقانون والكلمة السواء .

 

       والى اعوام عديدة ايها الشيخ الجليل . فالأجساد ، كما نرى فيك ، تشيخ وتميل الى الهدوء ، اما العقول النيرة ، كما أنت ، فتزداد سطوعا" ، ولو تقدم بها العمر . فزدنا من إشعاعك ايها العقل النيّر، ان الظلمة حالكة ، والوطن يتراجع . وبهذا البيت من الشعر اختم يوم تكريمك فأقول :

كُرِّمت منا ، لا وحقك أعظمُ

                                      لبنان فيك مكرَّم ومكــــــــــــرِّمُ

 

أنطلياس في 2016/3/19

المحامي ريمون عازار