تكريم أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

تكريم الأب عادل تيودور خوري

2008/3/8

 
كلمة د. عصام خليفة

كلمة الأب الياس أغيا البولسيّ

كلمة الأب عادل تيودور خوري

 

 

تكريم الأب عادل تيودور خوري

 

 

كلمة د. عصام خليفة    

معلّم تدرّج في كنف الجمعية البولسية الكريمة التي وسيلتها الأولى والمميزة، في القيام برسالتها، هي على مثال بولس الرسول، اللسان والقلم (البند 4 من نظام الجمعية). ثم تدرج في التعليم الجامعي في أعرق جامعات المانيا والغرب ليصبح مرجعاً ومناراً.

متمكن من علوم الاديان وتاريخ الحضارات والفلسفة وسائر العلوم المساعدة.

يمتلك عبقرية اللغات الحية وبخاصة العربية والفرنسية والالمانية والانجليزية، كما يجيد سبراغوار اللغات القديمة كاللاتينية واليونانية وغيرهما.

فنان جمع بين جمال الصوت وروعة الخط وعلم الموسيقى والتأليف وادارة الجوقات بنجاح كلي. كاهن مؤمن برسالته.

        انسان مثال يحترم الآخر ويجيد فن الصداقة، ويتمتع بملكة التواضع.

        هذا هو الأب البروفسور عادل تيودور خوري الذي تتشرف الحركة الثقافية - انطلياس بتكريمه علم ثقافة في لبنان والعالم العربي (الرعيل 23) في المهرجان اللبناني للكتاب (العام 2008).

        أيها الحفل الكريم،

        في تبنين أحد حواضر جبل عامل ولد عَلَمنا. وفي اعتقادي ان روح التعايش بين ابنائها المسلمين والمسيحيين، وما قام به المسلمون فيها من دفاع عن مسيحيي الجنوب في الفترة العثمانية وفي ظل الانتداب الفرنسي (نزوح اهل عين ابل اليها عام 1920) كان له الأثر اللاواعي في اهتمام علمنا بالاسلام وبحتمية الحوار المسيحي - الاسلامي. وربما كان لثقافة والده استاذ التعليم الرسمي وخريج مدرسة القديسة حنّة (الصلاحية) في القدس، وكذلك ربما كان لاساتذته في اكليريكية القديس بولس الصغرى ولرفاقه الدور البارز في توجيه اهتماماته الثقافية.

        أيها الأصدقاء،

        ليس من دوري، في هذه العشية ان اتوسع في سيرة علمنا وفي تقويم عمارته الفكرية الاستثنائية.

        وانما حسبي ان اشير الى بعض المعطيات:

1-      بين عام 1954 وعام 2008 انجز عَلَمنا 291 بحثاً وكتاباً باللغات العربية والالمانية والفرنسية. من أبرزها نقل معاني القرآن الكريم، عام 2004، الى الالمانية وتفسيرها (813 صفحة) وقد لقي هذا العمل رضى اهم المرجعيات الدينية بسبب الدقة والامانة.

2-      درّس وحاضر في 31 جامعة في المانيا خاصة، وفي اوروبة عامة، وفي لبنان وايران. في مونستر انتُخب مدرّساً لعلوم الاديان. فالتف حوله الطلاب، على تنوع الجنسيات. ومع صعود نجمه في المؤتمرات والندوات والمقابلات الاعلامية، وكثافة الدراسات والابحاث التي كان ينشرها، نال درجة الاستاذية بجدارة واستحقاق. ثم رقي الى درجة العمادة في الكلية، بعد فترة، فتفوق في الادارة، كما كان متفوقاً في التعليم والبحث.

3-      كان عضواً مشاركاً في 35 اكاديمية في اوروبا وفي الخارج. وكانت ابحاثه ومداخلاته تتمتع بسلطة معرفية قلما تمتع بها الآخرون.

4-      علمنا "مترهب" للحوار بين الاديان عموماً وبين المسيحية والاسلام خصوصاً. درس العوائق المعترضة لهذا الهدف الأسمى: كالتزمّت والانعزال، والجهل وانعدام الكفاءَة، وعدم الصبر على الفكر، وعدم الصبر على المغايرة والاختلاف. ثم درس النصوص الدينية المسيحية والاسلامية خاصة ثم اليهودية والبوذية والهندوسية. وحاول ان يثبت، من خلال قراءَة جديدة لها، اسانيد لفلسفته الانسانية السامية. هدفه السلام بين البشر وبناء مستقبل يؤكد على العيش المشترك بدل التنابذ، وتعميق السلام في القلوب والعيال والمجتمعات، بدل تعميق الحقد والاصرار على خصومات الماضي. سلام يضم الجميع فلا تفرّد ولا استئثار، بل سعي مشترك للتفكير والتقرير والتنفيذ معاً.

والأب خوري يؤكد على طلب المصالحة والتصافي، والاستفادة من عبر الماضي لتحسين اوضاع الحاضر وبناء المستقبل. يؤكد في خطاب له: "على المسيحيين والمسلمين، في شرقنا وفي العالم كلّه، عليهم ان يُضحوا شركاء يعمل الواحد منهم مع الآخر. اجل، هناك اكثر من ذلك، عليهم ام يُمسوا اصدقاء يعمل الواحد منهم في سبيل الآخر، ويعملون معاً في سبيل البشرية جمعاء، اصدقاء تربطهم بعضهم ببعض اواصر المودة".

والأب خوري على يقين "بأن الدين لا يفرق، ان فهم صحيحاً وطبّق تطبيقاً نصوحاً. الدين لا يفرق، الدين يجمع. فكل من توجه الى ربه والتمس  وجهه بصفاء النية وصدق القلب لا يجد البغض مدخلاً الى قلبه ولا يحرك العنف يديه" ويضيف "نحن بحاجة الى تعاطف ناقد، وتصافٍ صادق، وتصالح ودي، وتعاون مقدام".

ولم يقتصر البروفسور خوري على الطرح النظري فعمل لانشاء مركز للحوار في فيينا (النمسا)، ثم مركز ثانٍ للحوار في حريصا (لبنان). وطّد فيهما معاً قاعدة العمل، وحدد المنهجية، واسهم بخبرته ورؤيته السديدة بتأمين النشاطات الفكرية المختلفة.

ويا ايها العَلَم العلامة،

لبنان وطن الحوار والتعايش مهدد من الطامعين الخارجيين، كما هو مهدد من قبل القوى الداخلية المرتبطة بمخططات ومصالح الخارج القريب والبعيد.

امتناع اهل السياسة عن الحوار والتسامح، والتوصل الى تسوية يكون انطلاقتها الانتخاب الفوري لرئيس الجمهورية، هو موقف يهدد وجود الدولة واسس المجتمع بالانهيار.

لكن مقاومتنا الثقافية المشتركة - وحركتنا على كل حال قامت في ميثاقها التأسيسي على رفض العنف، والالتزام بالسلام العادل، والتأكيد على دور هذا الوطن الصغير في حوار الحضارات - خاصة بين المسيحية والاسلام - نقول ان مقاومتنا الثقافية المشتركة لا بد ستنتصر لأن عالم المستقبل، كما تقولون وتؤمنون "بحاجة الى خدمة المصالح والتصافي" بحيث "تعتبر فيه الثقافات المختلفة غنى وكنزاً".

وان معركة بقاء لبنان الدولة المستقلة، والمجتمع الحر، والثقافة المتعددة، هي نفسها معركة انتصار التقدم والحوار وحقوق الانسان ليس فقط في شرقنا العربي بل على مستوى العالم أجمع.

 

 

تكريم الأب عادل تيودور خوري

 

 

كلمة الأب الياس أغيا البولسيّ   

 

        مقدّمة

        طلب منّي منظّمو حفل التكريم هذا اليوم، أن أقول كلمة. قبلتُ للوهلة الأولى هذه المهمّة بطيِب الخاطر، نظرًا لما يربِطُ الأبَ عادل تيودور خوري بالجمعيّة البولسيّة من صِلات قربى روحيّة وعائليّة وعلميّة وتاريخيّة، ومن صداقة وتعاون راسخَين يدومان منذ عقود طويلة. وقبلتُ هذه المهمّة أيضًا لما تربطني، شخصيًّا، بالأب تيودور من وشائج روحيّة ونفسيّة منذ عرفتُه في الإكليريكيّة البولسيّة الصغرى في بداية الستينات، حين كان مرشدي الروحيّ ومعرّفي، وواعظًا في تأمّلات الصباح، وأستاذًا لرفاقي الكبار وساردًا قصصًا أخلاقيّة عن الدجاجة وعن الأبطال وحين كان ناظرًا في فرص المساء، الخ...

        لكن عندما أكببتُ على تلمّس خيوط الحديث الذي يجب أن أشاطركم إيّاه هذا المساء، وجدتُ نفسي أمام بحر لا بل غارقًا في أوقيانوس من العلوم، بحسب المعنى الأفلوطينيّ، لا يُسبَر غوره، وأمام إنسان عملاق متعدّدِ المجالات والمواهب، تذهب بنا إلى البعيد. فشعرتُ بضعفي ومحدوديتي في الغوص في مجال كهذا، وأردتُ العكوف. ولكن حضرتني جملة في أنشودة زمن الميلاد، نمدحُ فيها كمال السيّدة العذراء وفضائلها، تقول: "أيّتها البتول، إنّه يعسر علينا جدًّا أن ننظم لك أناشيد لائقة بتواتر، لأنّ الخوف يجعلنا نؤثر الصمت، إذ هو أسهل لا خطر فيه (أي لا نغلط فيه)؛ وأمّا الشوق فيولينا نشاطًا، فامنحينا قوّة على مقدار شوقنا إليك"... إنّ محبّتي للأب عادل تيودور خوري وتقديري له، حثّاني على كتابة كلمتي، بالرغم من محدوديّتها، وفضّلت هذا الموقف على أن لا أقول شيئًا بحقّ مَن كان له فضلٌ علي في استمراري في الكهنوت وفي دفع حيويّة جديدة في حياة الجمعيّة البولسيّة في ما بعد.

        واصطدمت آنذاك بصعوبة أخرى هي التعبير عن غزارة الواقع وفورة الأحاسيس وتدفّق الأفكار. إنّ تدفّق الكلام في هذه المواضيع يأتي دومًا، كما في اللاهوت والأدب والفلسفة، محدودًا ناقصًا مشوّهًا، وبخاصّة عندما يعبّر عن إنسان عظيم، متعدّد الأبعاد، مثل الأب عادل تيودور خوري، الذي نكرّمه هذا المساء.

        فاقبلوا كلمتي التي أسوقها، ليس بدافع امتلاك الموضوع والغوص فيه بكلّ ارتياح، بل بدافع محبّتي وتقديري للأب الذي نكرّمه غارفًا ممّا أعرفه عنه، وممّا عشتُه معه في سني حداثتي، عندما كان رفيق دربي ومثالي الأعلى في الحياة والكهنوت، وممّا أعيشه معه كلّ يوم، إذ يقيم في "صومعته" بالقرب منّي في ديرنا في حريصا.

        سيرة حياة:

من هو الأب عادل تيودور خوري، الدكتور والبروفسّور ذو السمعة العالميّة؟

        إليكم ما تقول سيرته الذاتيّة بخطّ يده:

        وُلد في 26 آذار سنة 1930 في تبنين، لبنان الجنوبي. أتمّ دراسته الابتدائيّة والثانويّة في المدرسة الإكليريكيّة الصغرى للآباء البولسيّين، حريصا-لبنان. ثمّ تابع دراسة الفلسفة واللاهوت في المدرسة الإكليريكيّة الكبرى للآباء البولسيّين، حريصا. سيم كاهنًا في 8 شباط 1953.

        تابع الدراسات الجامعيّة العُليا في المعهد الفرنسيّ العالي للدراسات في بيروت (وهو ملتحق بجامعة ليون - فرنسا). حاز على ليسانس في الفلسفة سنة 1959. ثمّ درس العلوم الشرقيّة في معهد العلوم الشرقيّة بجامعة القدّيس يوسف اليسوعيّة، وحاز على ليسانس في العلوم الشرقيّة سنة 1960.

        من سنة 1960 إلى سنة 1963 كان مدرّسًا للفلسفة والموسيقى الكنسيّة في إكليريكيّة القدّيسة حنّة، القدس. 1963 - 1966 التحق بمعهد علوم الأديان في كليّة اللاهوت الكاثوليكيّة بجامعة مونستر - ألمانيا لمتابعة أبحاثه العلميّة وإعداد أطروحتَي دكتوراه الدولة بجامعة ليون - فرنسا.

        سنة 1966 حاز على دكتوراه دولة في الآداب بجامعة ليون - فرنسا.

        سنة 1966 عُيّن مدرّسًا لعلوم الأديان في كليّة اللاهوت الكاثوليكيّة بجامعة مونستر - ألمانيا. وسنة 1970 عيّن بروفسورًا لعلوم الأديان ومديرًا لمعهد علوم الأديان في الكليّة عينها، حيث مارس البحث العلميّ والتدريس والنشر وإلقاء المحاضرات، حتّى آخر أيلول 1993.

        دخل في طور التقاعد في تشرين الأول سنة 1993.

        هو عضو في الأكاديميّة الأوربيّة للعلوم والفنون.

        وعضو في جمعيّة علماء الأديان الألمانيّة.

        وعضو في معهد القدّيس جبرائيل للاهوت الدين في مودلينغ - قرب فيينّا / النمسا.

        منحه رئيس جمهوريّة النمسا وسام الشرف الرفيع تقديرًا لخدماته العلميّة حيال جمهوريّة النمسا.

 

        حقول أبحاثه العلميّة

-        تحليل الظاهرة الدينيّة.

-        علوم الأديان: الهندوسيّة - البوذيّة - الإسلام.

-        حقول التخصّص: الإسلاميّات - العلاقات بين المسيحيّة والإسلام في الماضي والحاضر - الحوار المسيحيّ الإسلاميّ على الصعيد الوطنيّ والدوليّ.

حقول نشاطه التعليميّ والعمليّ

1)     تدريس متواصل في كليّة اللاهوت الكاثوليكيّة بجامعة مونستر من سنة 1966 إلى سنة 1993 ألمانيا.

إلقاء دروس في كليّة اللاهوت الكاثوليكيّة بجامعة بوخم (Bochum) / ألمانيا

إلقاء دروس في معهد القدّيس جبرائيل للدراسات اللاهوتيّة [معهد كاثوليكيّ: مودلينغ / النمسا]

إلقاء دروس في معهد القدّيس بولس للفلسفة واللاهوت (حريصا - لبنان)

إلقاء دروس في كليّة اللاهوت في الجامعة الأنطونيّة (الدكوانة - بيروت / لبنان)

2)     الاشتراك في عدد كبير من المؤتمرات والندوات الوطنيّة والعالميّة، والدورات الاستشاريّة في موضوع الإسلام ووضع المسلمين في ألمانيا وأوربا.

3)     كعضو في معهد القدّيس جبرائيل للاهوت الدين (النمسا)، المساهمةُ في تصميم وعقد أكثر من 14 مؤتمرًا وندوة على الصعيد الوطنيّ والدوليّ، خصوصًا الندوات الإيرانيّة النمساويّة، و"الطاولة المستديرة" في فيينّا / النمسا.

4)     إبداء الرأي في وسائل الإعلام من تلفزيون وإذاعات، ومجلاّت وصحف عن مواضيع تتعلّق بالإسلام وبالحوار المسيحيّ الإسلاميّ.

5)     نشر المقالات في المجلاّت العلميّة والكتب. وإدارة طائفة من سلاسل الكتب العلميّة في ألمانيا وفي لبنان.

6)     محاضرات في الإسلام والحوار المسيحيّ الإسلاميّ والتعاون بين المسيحيّين والمسلمين، وذلك في إطار مؤسّسات مختلفة:

-       جامعات:

 

o       ألمانيا: أوغسبورج، برلين، بون، هانوفر، هيدلبرج، هيلدسهايم، كوبلنتس، ماربورج، مونستر، نورنبرج /إرلانغن، أوسنابروك، بادربورن، باسّاد، توبنغن، فاليندار، فيختا.

o       النمسا: غراتس، إنسبروك، لينتس، مودلينغ، زالتسبورج، فيينّا.

o       سويسرا: بال / بازل، برن، جنيف، فريبورج.

o       إيطاليا: بريكسن (برسونة)

o       سلوفاكيا: بودفايس

o       سلوفانيا: ليوبليانا

o       لبنان: بلمند، حريصا

o       إيران: قُم، طهران

-       أكاديميّات:

o       ألمانيا: أرنولدسهايم، بامبرج، بندورف، بون، برلين، كلوبنبورج، فرايبورج، غوسلار، همبورج، هانوفر، إيزرلون، ماغدبورج، مولهايم على الرور، مونستر، نوردفالده، أولدنبورج، رادولفتسال، سانكت أوغسطين، شفارته، زوست، توبنغن، فيغراتسباد.

o       النمسا: بريغنتس، إنسبروك، لينتس، مودلينغ، فيينّا.

o       سويسرا: سانكت غالّن، تسوريخ.

o       بلجيكا: لوفان

o       إيطاليا: رومة

o       إيران: قُمْ، طهران.

o       مصر: القاهرة

o       مراكش / المغرب: محمّديّة

o       كامرون: ياونده

o       لبنان: مؤتمرات الأب مارون عطا الله، سيّدة الجبل (معاملتين)

 

7)     تلفزيون:

-       ألمانيا: القناة الأولى (ARD)، القناة الثانية (ZDF)، الإذاعة البفاريّة (مونخن).

-       لبنان: تلي لوميار

-       سورية: الفضائيّة

 

8)     راديو:

-        ألمانيا: الإذاعة البفاريّة، الموجة الألمانيّة (Deutsche Welle)

-        لبنان: صوت المحبّة.

 

9)     ترجمة مقالات عديدة وبعض الكتب من الألمانيّة إلى العربيّة، خصوصًا في سلسلة "المسيحيّة والإسلام في الحوار والتعاون"، المكتبة البولسيّة (جونية - لبنان) يديرها عادل تيودوري خوري. وقد صدر منها حتّى الآن   40 عددًا.

 

بعد هذا السرد السريع للسيرة الذاتيّة، أشاطركم كلمتي في أربعة مقاطع رئيسيّة:

1.     الأب عادل تيودور خوري الكاهن والمربّي.

2.     الأب عادل تيودور خوري العالم.

3.     الأب عادل تيودور خوري الفنّان.

4.     وأنهي بالأب عادل تيودور خوري الإنسان.

 

1. الكاهن والمربّي

منذ خمسين عامًا أذكر الأب تيودور حاملاً سواعيّته (كتاب صلاة الساعات للكاهن) كلّ صباح ليشترك في الصلاة الجماعيّة والليترجيا الإلهيّة، ولا يتغيّب مطلقًا عن الصلوات الجمهوريّة. وبعد عشرين عامًا وكنت قد غدوتُ كاهنًا بولسيًَّا دفعتني أسفاري للبقاء عنده أسبوعًا كاملاً في ألتنبرغه في ألمانيا. عرفتُ آنذاك أنّ القدّاس اليوميّ في الرعيّة مع صلاة خاصّة صامتة كانت محرّك حياته والطاقة التي تُعطي معنى لكلّ عمله. واليوم، بعد انقضاء خمسين سنة على معرفتي به، ما يزال، بخاصّة عندما يكون في حريصا، أمينًا ثابتًا على صلاته الصباحيّة في الجماعة، يفتتح بها نهاره، ويجدّد بواسطتها العزم والنشاط لعمل مستديم في خدمة الربّ. وبالصلاة أيضًا يُنهي يومَه. فهو الكاهن المؤمن بكهنوته وبرسالته، ولا يزال يعتمد على صلاته الخاشعة وأمانته لهذه الرسالة، يستثمرها ويفعّلها. وعندما تلتقي به وتتحدّث إليه لا ترى فيه أوّلاً وآخرًا سوى رجل الله الصادق الشفّاف الذي يتلمّس حضوره ويصغي إليه في ذاته وفي الآخرين. لذا تراه متنبّهًا لكلّ شخص يعرفه ويسأل عنه ويتسقّط أخباره ويشجّع كلّ بوادر النجاح عنده، من درس وتأليف وبحث إلخ... وتراه أيضًا يلاحق قضايا ظهورات المسيح والعذراء، سواء أكان ذلك في الصوفانيّة، أم في أماكن غيرها، يستجلي خفاياها ويَسمعُ ما يقوله الروح للناس الذين تَحدثُ لهم هذه الظهورات...

  أمّا عن التربية، فحدّث ولا حرج، إذ إنّه "لا يَكسُر القصبة المرضوضة، ولا يعلو له صوت في الساحات" على حسب قول الكتاب المقدّس، ولا يؤمن بمنطق سوى منطق العقل والإرشاد والمعاملة بالحسنى، لا بل بالتي هي أحسن. ولا يتوقّف عند عمل سلبيّ، بل يستفيد منه ليقوّم اعوجاجًا ويوضح الرؤية إلى الأمور، بصوت منخفض وحزم محبّ. وقد استفدتُ أنا شخصيًّا حتّى الآن من بعض توجيهاته التي كان يقولها لي منذ صغري.

 

2. الأب عادل تيودور خوري العالم والبحّاثة

يكفي ما سمعتم في السيرة الذاتيّة عن كلّ الدروس التي أنجزها في لبنان وفرنسا وألمانيا حتّى وصوله إلى درجة البروفسّور ومدير لمعهد الأديان في مونستر. وعن حقول أبحاثه العلميّة وحول نشاطه التعليميّ في الكليّات وعن اشتراكه في المؤتمرات والندوات، وعن دوره في تحضير للمؤتمرات العالميّة، وعن المحاضرات التي ألقاها في الإسلام والحوار المسيحيّ الإسلاميّ في جامعات وأكاديميّات منتشرة في كلّ معظم بلدان أوربا والشرق الأدنى، وفي التلفزيون والراديو. أضف إلى ذلك لائحة من حوالي 300 عنوان بين بحث وكتاب ومقالة تمتدّ على ستّة عقود من الزمان...

إنّما أتوقّف عند نقطتين تجب الإشارة إليهما:

1)     طواعية في التأقلم على مختلف الأوضاع: عُيّن مرسَلاً في رسالة مرمريتا، وكان التدريس في مدرسة القدّيس بطرس هناك بعضًا من مهامه. أمّا مدير المدرسة فكان الأب جبرائيل فرح. فرأى الأب عادل تيودور المديرَ منهمكًا في إعداد برنامج الدروس، حائرًا... وبقي ساعات دون أن يخرج بنتيجة. لاحظ الأب عادل حيرتَه، فسأله ما المشكلة؟ فأجابه: "البرنامج". فطلب منه أن يترك له المجال لإعداد البرنامج. وخلال ربع ساعة كان الأب عادل تيودور قد أعدّ البرنامج جاهزًا مكمّلاً! وكان لبُّ الحلّ أن أخذ الأب عادل تيودور على عاتقه كلّ الساعات التي تسبّب معضلة! وانحلّت عقدة البرنامج. عندما رأى الأب المدير هذا، قال له: "كن أنت المدير، فذلك يريحني"!  وذلك أنّ الأب عادل تيودور كان مجلّيًا في كلّ المواد الأدبيّة والرياضيّة والعلميّة، بدون استثناء، ولا تنقص علاماته إلاّ نادرًا عن حدّها الكامل، في الأدبين العربيّ والفرنسيّ، وفي الرياضيات والعلوم والفلسفة والفنون... الخ. وكأنّي به من كبار العباقرة، المتعدّدي المواهب، يذكرهم الناس عادة في ناحية واحدة لنجاحهم العظيم فيها كالنحت أو الفلسفة أو غيرها، ولكنّ التاريخ يذكر أيضًا كلّ المجالات الأخرى التي أبدعوا فيها.

2)     قد نتساءل عن سرّ غزارة إنتاج الأب عادل تيودور الفكريّ، إذ لا تقلّ الإصدارات في السنة الواحدة عن ثلاثة كتب، وقد تزيد عن عَشَرة. الجواب نجده في المثابرة ساعاتٍ وساعاتٍ كلّ يوم، جالسًا إلى مكتبه، يبحثُ وينقّب ويقمّش ويقرأ ويكتب وينقّح بجدّ وثبات وبدون كلل أو ملل. كان بعض الناس، زمن الفيلسوف الألماني كانت، يصحّحون ساعاتهم على وقت مروره أمامهم في الشارع، نظرًا للدقّة  المتناهية التي كان يتقيّد بها. ولم يغيّر مساره، على مدى أربعين سنة إلاّ مرّة واحدة، عندما حدثت ثورة. في حياة الأب تيودور كثيرٌ من دقّة كانت. وإذا أردتم الاطّلاع الأوسع على ما فعل الأب عادل تيودور خوري فافتحوا من باب الحشرية أداة البحث google تحت اسم عادل تيودور خوري فتجدوا تحت عنوان مقالات articles حوالي 23،000 معلومة وتحت عنوان professeur 16.900 معلومة، وتحت اسم كتب books 1360 معلومة وتحت عنوان TV 937 معلومة، وتحت عنوان Radio 773 معلومة الخ...

 

3. الأب عادل تيودور الفنّان

لئن طغت على الأب عادل تيودور صورة العلاّمة والبحّاثة واللاهوتيّ، المحاور في الأديان والفلسفة والشارح في الإسلام، فإنّ روحه هي روح فنّانٍ أولع بالموسيقى والخطّ وساهم بشكل مباشر في إغناء التراث الليترجيّ الموسيقيّ في جمعيّة المرسلين البولسيّين، وفي كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك. دَرَس البصلتيكا (الموسيقى البيزنطيّة) والصولفاج، وتعلّم المبادئ الموسيقيّة الأساسيّة ومبادئ التأليف الموسيقيّ على نفسه. فكنت تراه يتمرّن على كمان تاريخيّ قديم يستخرج الألحان منه، وتَسمعُه يُنصت مطوّلاً إلى كبار المرنّمين البيزنطيّين اليونان والشرقيّين أمام جهاز الراديو القديم، ليشبع من التراث الأصيل الذي سيساعده مستقبلاً. وبعد أن أصدرت اللجنة الليترجيّة النصوص الجديدة للأعياد في منتصف الخمسينات، عكف الأب عادل تيودور على تنقيح النصوص الموسيقيّة القديمة لتأتي مطابقة للنص العربي الجديد لأعياد الميلاد والظهور، ودخول السيّد المسيح إلى الهيكل، ودخول العذراء إلى الهيكل. ثمّ وضع النصوص الموسيقيّة كاملة لأعياد التجلّي (6 آب) ورقاد السيّدة العذراء (15 آب)، وميلاد العذراء (8 أيلول)، وعيد رفع الصليب الكريم (14 أيلول)، وكذلك النصوص الموسيقيّة الكاملة لصلاة الغروب بألحانها الثمانية، ولقانون البراكليسي في شهر آب وصلاة المدائح (في فترة الصوم) ومختلف ألحان المجدلة الكبرى، وعشرات الترانيم الدينيّة في القدّاس، بألحانها المختلفة، تترنّم بها الجوقات بمختلف الأصوات. ويَحقّ القول أنّ الأب عادل تيودور قد سكبها من قلبه وفكره وفنّه الموسيقيّ المرهف، وخطّها كلّها موسيقى وكلمات، بخطّه الجميل، مدّة ساعات وأيّامًا، جالسًا إلى طاولة خشبيّة في فترات الظهر والمساء وأثناء المناظرات. وكنا نجتمع حوله أحيانًا، نناقشه ونسأله، وأحيانًا أخرى، نرنو إليه من البعيد، محترمين جوّ الإبداع ومحاولين فهم عمليّة الخلق العظيمة التي تجري أمامنا.

وبرزت النصوص الليترجيّة الجديدة (حوالى 10 كتب) بِحُلّةٍ ولحن جديدين، هما عصارة فنّ الأب عادل في الموسيقى والخطّ وذوقه الليترجيّ. وكان الله قد حباه بموهبة الصوت الجميل الدافئ الذي يدعو إلى الخشوع، فراح يلقّنها بأسلوبه الفطن لكبار الجوقة الذين تذوّقوها ومهروا في أدائها. فلم تمضِ أشهر السنة الأولى إلاّ وكانت الترانيم الجديدة حسب النصّ الجديد تتردّد أصداؤها في معبد الدير القديم، وفيما بعد، تحت قباب الكنيسة الكبيرة، ممجّدة الله والعذراء القدّيسة وكلّ القدّيسين. وغدت هذه الألحان العمود الفقري لتراث الجمعيّة البولسيّة الليترجي المرنّم حتّى اليوم. وقد لبست هذه الألحان، مجدّدًا، حلّة قشيبة تحت إشراف الأب تيودور، مطبوعة حسب برامج الكومبيوتر الحديثة. وهنا لا بُدّ من ذكر عشرات الحفلات الليترجيّة المرنّمة (Concert religieux) التي قامت بها الجوقات البولسيّة المختلفة في حريصا وجونية وبيروت وزحلة ودمشق، تنقل المستمعين إلى أجواء الأعياد وتنتقل بروحهم إلى السماء، كما تقول النصوص الليترجيّة: "إنّنا ونحن واقفون في هيكل مجدِك، نحسب أنّنا واقفون في السماء، يا والدة الإله العذراء"، لأنّ الترنيم يبعثُ على الصلاة مرّتين، كما يقول المثال الساري: "مَن صلّى فقد صلّى مرّة، أمّا مَن يرنّم فهو يصلّي مرّتين". فالأب عادل تيودور هو فنّان أصيل غرف من فنّ الشرق المسيحيّ البيزنطيّ وسكبه في قالب عربيّ أصيل وبخطّ عربيّ أصيل.

4. الأب عادل تيودور خوري الإنسان

إذا عرفت كلّ هذا عن الأب عادل تيودور خوري فلا تظنَّنَّ أنّك ستجد إنسانًا غارقًا في العمل إلى حدّ الانقطاع عن الآخرين، ولا إنسانًا قد ملأه الغرور فتعالى عن الآخرين أو أحاط نفسه بحرّاس شخصيّين يدرأون عنه موجات المعجبين أو الحانقين؛ وإذا اتّصلت به في عمله، فلا يحيلك هاتف إلى شخص آخر وشخصٌ آخرَ إلى هاتف... بل تسمع صوتًا خافتًا يردُّ شخصيًّا على المكالمات، وتحدّثه فتعجب من كلامه العذب؛ وإذا رأيته وبدأت الحديث معه تظنّ نفسك أمام شخص عادي، ولكنّك بعد قليل تشعر بحجمك يصغر أمام حجمه الذي يكبر في عينيك قبل عيون الآخرين. إذا شعرت بكلّ هذا فأيقن أنّك أمام الشخص الصحيح الذي نتكلّم عنه.

أوّلُ ما يلفت نظرك هو اتّساع في المعرفة والحجّة الدامغة، ولكن على نمط غير الذي نعهده عند بعض أهل بلادنا. عنده تواضع العلماء، حسب القول الساري: "قليل من العِلم يُبعد عن الله، وكثيرٌ من العلم يقرّب من الله"، متمثّلاً بالمعلّم الأكبر السيّد المسيح، الذي قال: "تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب". هذا هو عنده مفتاحُ العلاقة مع العلم ومع الناس. فمع العلم، إنّ التواضع والشعور بمحدوديّة المعرفة هي الأساس في الاستزادة من العلم؛ وكذلك في العلاقات مع الناس، فالتواضع هو مفتاح القلوب وبلسم العلاقات المتأزّمة وزيت إصلاح العلاقات المقطوعة... فإذا ما حادثتَه صمتَّ وتركته يتكلّم هو كما كان سقراط مع تلاميذه... وتخرج من عنده كبيرًا في عيني نفسك، إذ أخذْتَ منه شيئًا لحياتك.

 

المحاور

        إذا استعرضت مؤلّفات الأب عادل تيودور خوري يستلفت انتباهك حالاً غزارة العناوين التي تشير إلى الآخر، وإلى الأديان الأخرى. وتدلّ على السعي للغوص على ما يفكّرون فيه، وبخاصّة تتردّد كلمة الحوار.

        أبدأ من العناوين الأخيرة لبعض كتبه ومقالاته.

263:    مع يسوع في لقاءاته (2004)

264:    الظاهرة الدينيّة، نشأة الخلق (2004)

265:    مدخل إلى الأديان الخمسة (2004)

260: إبراهيم بركة للشعوب في التراث اليهوديّ والمسيحيّ الإسلامي (2004)

258:    الحوار المسيحيّ الإسلاميّ، مشاكله وإمكانيّاته (2003)

257:    هل القرآن وحي إلهي من وجهة النظر المسيحيّة (2003)

256:    حسم الخلافات والتصالح (2003)

253:    خواطر في القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحيّة (2003)

249:    نقاط خلاف عقائديّ بين المسيحيّة والإسلام (2002)

261:    القرآن عربي - ألماني، ترجمة وتفسير، 813 صفحة (2004)

  القرآن عربي - ألماني، ترجمة وتفسير علميّ، 12 جزءًا على امتداد 12 سنة (1990-2001)

205:    هويّة المسلمين في بلد غير إسلاميّ (1996)

210:    الحقيقة الدينيّة والتسامح (1996)

189:    الإسلام يسائل المسيحيّة في شؤون اللاهوت والفلسفة (1994)

132:    اليهود والمسيحيّون والمسلمون في حوار (1986)

 

إنّ شخصيّة الأب عادل تيودور خوري مبنيّة على الحوار وعلى الإصغاء للآخر وعلى محاولة فهم لبّ المشكلة، مذ كان صغيرًا. إنّ السؤال البديهي الذي يطرحه عليك حين تكون في حديث معه: "وين المشكلة" هو سؤال إنكاري ليقول أنّ لا مشكلة على الإطلاق، وأنّ كلّ شيء ممكن حلّه بالحوار والتفاهم. بعد أن فَطِن لأهميّة العنصر الدينيّ في المجتمعات أظنّ أنّ هدف الأب عادل تيودور هو:

1.     درسُ الظاهرة الدينيّة في المجتمعات وفي الأديان الأخرى (خمسة أديان كبرى)

2.     تقريب القارئ إلى هذه الديانات لفهمها من داخل (236: أخلاقيّات العمل في منظار الأديان العالميّة)

3.     إبراز المفاهيم والأشخاص المشتركَين في مختلف الأديان (إبراهيم مثلاً)

4.     تفسير الإسلام للمسيحيّة والمسيحيّة للمسلمين، لتقريب الأفهام، (ترجمة القرآن وتفاسيره للألمانيّة...)

5.     طرح القيم المشتركة، لأنّه يشدّد على وجهات التلاقي في الأديان: سلامٌ للبشر (1994)

6.     عدم الخوف من طرح نقاط الاختلاف والخلاف العقائديّة والاجتماعيّة والانتمائيّة: وحدانيّة الله، إله الإسلام (رقم 228)؛ المسيحيّون والمسلمون: مشاكل حوار صعب، 1998 (رقم 222)؛ هويّة المسلمين في بلد غير إسلامي، 1996 (رقم 205)؛ الحقيقة الدينيّة والتسامح، 1996 (رقم 210)؛ قضيّة الأقليّات الدينيّة في الإسلام: حريّة الدين. المسيحيّة؛ والإسلام أمام مطلب حقوق الإنسان، 1993 (رقم 176)؛ المسلم، من هو قريبُه، 1998 (رقم 148).

إنّ المبدأ الأساسيّ في فكر الأب عادل تيودور هو هذا:

لقد قامت العلاقة بين المسيحيّين والمسلمين منذ أربعة عَشَر قرنًا على روح الإقناع الفلسفيّ والحوار الدينيّ القائم على الطعن والذمّ والدفاعيّات (Apologétique) إلخ... وكان الوضع حتّى الآن يتأزّم كلّ مرّة ليصل إلى التصادم حتّى الدامي. فلِمَ لا نُجري مقاربة أخرى تقوم على فهم الآخر من داخل، وإبراز النقاط المشتركة في المعتقد والأخلاق والحياة المشتركة في بناء الأوطان... أظنّ أنّ هذه هي محصّلة فكر الأب عادل تيودر الحواري. وقد نجح في فهم الإسلام والمسلمين إلى درجة أنّ شيخًا إيرانيًّا، في مؤتمر من المؤتمرات في فيينّا، عند التفكير بشخصٍ يبني الجسور بين الإسلام والمسيحيّة، التفت بعفويّة إلى الأب تيودور وقال له: "أنت ابنِ هذه الجسور!"

هذا الفكر المنفتح المحاور، وهذا الإنسان الذي يشعّ منه السلام لم يكن لينكفء على نفسه، بل خلق دومًا حوله شبكةً من الصداقات المتينة الراهنة، في كلّ الأوساط الدينيّة والفكريّة والاجتماعيّة في الشرق والغرب. وإنّ بعضًا منها، كما أعلم، يعود إلى أيّام الطفولة وإلى تبنين بالذات مسقط رأسه، مع جيران مسلمين... وما يلفت النظر أن هذه الصداقة منفتحة وحقيقيّة، يظنّ فيها كلّ واحدٍ أنّه الصديق الأهمّ في هذه العلاقة المميّزة.

لا بُدّ لي من الإشارة إلى فضيلة أساسيّة في شخص الأب المحتفى به وفي فكره وفي بحثه وحواره، ولا ينِي يردّد ذلك في أحاديثه وكتاباته، هي فضيلة الصبر على الذات والصبر على العلم والصبر على الآخر. أمّا الصبر على الذات، فهو عدم التسرّع في تحقيق المرتجى وفي اكتساب ذهنيّة سلاميّة ناضجة للحوار. وأمّا الصبر على العلم، فهو الإرادة الثابتة لاكتسابه بالمثابرة على الجلوس إلى الطاولة في الغرفة وفي الجامعات وفي المكتبات، للمطالعة والبحث والتقميش... وأمّا الصبر على الآخر، فهو الاستماع إليه مطوّلاً لفهم ما يريد قوله ولفهم عمق تفكيره من جهة؛ ومن جهة أخرى ترك المجال للآخر أن يفهم ما أقول وأن يتغيّر ببطء. وفي هذا يحضُرُني مثل الابن الشاطر، ففيه لم يفرض الأب إرادته على الابن، بل تركه يُجري خبرته الخاصّة، وعندما عاد إلى ذاته، كان هو بانتظاره، وحدث اللقاء المرتجى.

لقد بدأتُ بالحديث عن الأب عادل تيودور الكاهن والمربّي، فلا بُدّ من ذكر الأب تيودور رجل الروح والقيم المسيحيّة، التي تخترق كثافة الإنسان، وترتقي به ليكون شعاعًا من حضور الله في هذا الكون. العدالة فضيلة من الفضائل الكبرى في المسيحيّة، وقد قال البابا بولس السادس في "ترقّي الشعوب": "إنّ العدالة هي الاسم الجديد للسلام". ونعرف أنّها القاعدة الأساسيّة التي ترتكز عليها فضيلة المحبّة المسيحيّة، إذ لا محبّة في الأساس دون عدالة حقيقيّة. والأب عادل، واسمه يدلّ عليها، سعى إلى إحلالها في كثير من الكتب والمقالات التي دبّجها والمؤتمرات التي نظّمها. فهي قيمة أساسيّة في تسيير العلاقات بين الشعوب والأديان.

لكن العدالة وحدها أحيانًا لا تكفي، لذا كان للتسامح والصفح حيّزٌ واسعٌ في تفكير الأب عادل وفي كلّ ما كتب وعمل، في سبيل تسهيل الحوار بين الأديان. وفي ذلك يقول كتاب أمثال سليمان الحكيم: "بالرحمة والحقّ يُفتدى الإثمُ وبمخافة الربّ يُحاد عن الشرّ. إذا رضي الربُّ عن طُرق الإنسان، ردَّ أعداءه أيضًا إلى مسالمته. القليلُ من العدل خيرٌ من الغلال الكثيرة بغير حقٍّ" (فصل 16: 7-9).

قد يطول الكلام في الأب عادل تيودور خوري الذي نكرّمه اليوم، ولكن خيرَ الكلام ما قلّ ودلّ، لذا أختم بكلمتين:

الكلمة الأولى هي كلمة اعتذار منكم أيّها الحضور الكرام، علّني أخطأت في بعضِ ما قلت، إذ يأتي الكلام دائمًَا أعجز من أن يعبّر عن كلّ ما يودّ أن يقول، أو بأسلوب قد يشوّه ما يجب أن يُقال.

ثانيًا، أيّها الأب الحبيب عادل تيودور، عندما رافقتكم من المطار قلتم لي: "عندي أسبوع سأسمع فيه قسرًا كثيرًا  من المديح والإعجاب" وكنت تتقبَّلُ الأمر بسكينة قلب. وهكذا كان. وقد قرأنا في أمثال سليمان الحكيم منذ أيامٍ في صلاة الأقداس السابق تقديسها جملةً تقول: "قَبْلَ المجدِ التواضعُ". وهذا يتحقّق فيكم، لأنّ التواضع عندكم، وليس فقط التواضع العلميّ، هو الفضيلة الأساس التي يرتفع عليها صرحُ شخصكم الروحيّ والعلميّ والإنسانيّ، الذي نكرّمه اليوم عن حقّ. فالكلمة الثانية هي اعتذار منكم، يا حضرة الأب المحتفى به، عن أشياء قلتها، ولا تودّون أن تقال، أو قد تثلم تواضعكم. ولكن للحقيقة والتاريخ يجب أن تُقال، ولو مرّة واحدة، كما فعل يومًا شفيعنا القدّيس بولس الذي مجّد نفسه وافتخر. ولكن يبقى لكم التواضعُ، فضيلةً لا تُنتزع منكم. ونترك قليلاً للتاريخ وكثيرًا لذمّة الله أن يسطّرا كلّ المجد وكلّ الفكر وكلَّ الخير وكلّ التسامح وكلّ الحبّ الذي زرعتموه وتزرعونه في هذا العالم. فنحن اليوم جميعُنا حولكم لنضفي قليلاً من مجد التاريخ على ما تفعلون، فنرجوكم أن تقبلوا هذه الضُّمة من الأزاهر عربون شكر وحبّ وتقدير لوجودكم معنا هذا المساء ولكونكم من أبناء هذا البلد العظيم. والشكر للرابطة الثقافيّة في أنطلياس التي أتاحت لنا هذا اللقاء.

 

 

كلمة الأب عادل تيودور خوري    

 

نحن بحاجة إلى أفكار جديدة ومبادرات جديدة

 

        1. مقدّمة

عالمنا - اليوم وفي المستقبل - بحاجة إلى قلوب جديدة، وأفكار جديدة، وشجاعة جديدة، ومبادرات جديدة.

عالمنا نراه، وللأسف، يزداد تمزّقًا وشللاً بسبب النـزاعات والصراعات العنيفة. عالمنا تهزّه هزًّا يزداد بشدّة الاصطدامات المتكاثرة التي تزداد قساوة. والمتنازعون يفقدون بنوع واضح صبرهم ويهدّدون علنًا باستخدام القسر لتحقيق مصالحهم ومكاسبهم.

هذا ما يزجّ البشريّة في غموض مشنّج حيال أحوال الحاضر وتطلّعات المستقبل. ويصير السلام هشًّا. وتضيع العدالة، وتنحسر بشكل يشتدّ وضوحًا إمكانيّات التفاهم. المستقبل، مستقبل العالم ومستقبلنا في أقاليمنا وبلادنا تنغلق آفاقه، وتطبق عليه العتمة مِمّا يبعث على مزيد من القلق والحيرة.

لكنّ هناك سبيلاً آخر، هو سبيل الانفتاح على الحوار الدؤوب، وممارسة التعاون المثابر.

مع كلّ ما يُقال من تشكيك، ومع كلّ ما يُزرع على الدرب من عراقيل، يجب أن نعكف على ممارسة الحوار، وأن نخوض مغامرة التعاون. فإنّه ليس لدينا بديل عن الحوار والتعاون.

على أساس هذه القناعة نرى بعض الناس، أفرادًا ومؤسّسات، يكرّسون ذواتهم بما لديهم من معرفة وعزيمة لخدمة الحوار. وينطلقون بهمّة لا يخدّرها الخِذلان في الطريق المرتكز على العدالة والسلام والمؤدّي إلى مستقبل أفضل. يمارسون بجهد عنيد الحوار والتعاون، ويحاولون دعمهما قدر المستطاع أينما عزم أناس أن يسلكون هذا السبيل عينه.

        2. ماذا نريد وما هو الهدف؟

        1- أيّ توجّه أساسيّ نتبع؟

        1) نريد ممارسة الحوار وتعزيزه كوسيلة إلى الازدياد في المعرفة، وإلى توطيد تضامن أوسع بين جميع البشر. نريد الحوار سبيلاً إلى مصالحة فعّالة، إلى تصافٍ أوسع، حتّى ما بين الذين كانوا سابقًا أعداء، سبيلاً إلى إقامة ثقافة السلام وحضارة الرحمة والمحبّة.

        2) ونريد إقامة التعاون النـزيه الدؤوب، لإقامة السلام في الزمن الحاضر، وبناء المستقبل بروح الأخوّة. هكذا يمكن عالَمنا أن يضحي عالمًا واحدًا للجميع، عالمًا نكبّ فيه معًا على قضايانا ومشاكلنا المشتركة، ونبحث فيه معًا عن الحلول الموافقة، ونحاول أن ننفّذ معًا تلك الحلول المشتركة.

 

        2- العوائق

        إنّ العوائق الأساسيّة التي تعترض ممارسة مثل هذا الحوار ومثل هذا التعاون هي:

        1) أوّلاً التزمّت والانعزاليّة. التزمّت والانعزاليّة مقبرة الحاضر وهاوية تنهار في ثناياها آمال المستقبل. فمن ظنّ أنّه وحده يملك حلّ القضايا جميعًا، لم يكن على وعي لأبعاد هذه القضايا وتشابك عناصرها. ويتعامى عن أنّ قضايا المجتمع لا تُحلّ إلاّ بمساهمة جميع أعضائه.

        2) الجهل وانعدام الكفاءة. فمن لم يكن راسخًا في معرفة تراثه أو مبادئ اتجاهه لا يصلح للحوار المثمر. فإنّ الجاهل في أمور تراثه يتعلّق إمّا بالقشور السطحيّة، أو بالتقاليد العجاف، خوف الغرق في خضمّ لا طاقة له عليه. ومن لا يعرف تراث شريكه في المجتمع الواحد ومبادئ اتجاهه، لا يُحسن محاورته ومشاورته. فأسوأ ما يمكن أن يصيب دينًا أو جماعة، هو الجهل المتعسّف والتعصّب الجاهل.

        3) الأحكام الطائشة والأحكام المسبّقة العنيدة. هي ورثناها من ماضٍ عكّرته الصِّدامات والعداوات، وتمسّكنا بها في الحاضر في وقفة مكابرة. إنّ من نتاج العدالة تنحيةَ هذه الأحكام المتراكمة والخلوصَ إلى جوّ أشدّ هدوءًا، والحصولَ على استعداد منفتح للحوار وقابليّة للخوض في مجالاته.

        4) عدم الصبر على الفكر. وهذا الفكر يقوم بالتحليل المليّ للأمور في عناصرها ودقائقها، وقرائنها وترابطها. ومن الصبر على الفكر الشجاعة في تقبّل حقائق الأمور، وإن كانت في وضعها الراهن غير مرضية. ومن الصبر على الفكر الإقدام على النقد الذاتيّ، لتنوير الفهم وتصفية القلب والتنبّه للنقائص، لا النقائص التي تعتري الآخرين، بل النقائص التي تعترينا نحن. فنعمل على تقليص حجمها أو تنحيتها. عدم الصبر على الفكر خطبٌ عصيب. والصبر على الفكر مدعاة للأمل باسترجاع العافية والتبصّر المثمر في الأمور.

        5) عدم الصبر على المغايرة والاختلاف، مع العلم أنّ الزمن كلّه والتاريخ كلّه هو زمن صبر الله علينا، لكي نسعى إلى ردم الهوّة التي تفصل مسلكنا عن توجيهات مشيئته. فما أحوجنا في ما بيننا في هذا العالم إلى احتمال اختلافاتنا في الفكر والقول والعمل.

       

3. مستويات الحوار

هناك مستويات مختلفة للحوار:

-        مستوى التعليم والأنظومات العقائديّة، وأنظومات القيم والقواعد الأخلاقيّة.

-        مستوى التعاون.

-        مستوى التبادل الثقافيّ والتعاون الثقافيّ.

-        مستوى التبادل الروحيّ.

-        مستوى العيش المشترك.

أودّ هنا أن أتطرّق بلمحة موجزة إلى هذه المستويات المختلفة.

 

        1- الحوار الدينيّ في العقائد

        1) لم يعد يفي اليوم بالغرض، كما كان الأمر في الماضي، أن يتوقّف كلّ محاور عند دينه الخاصّ، فيدافع عن حقيقة معتقده ويمجّد جميع نواحي دينه، دون إظهار أو ممارسة أدنى حدّ من النقد الذاتي. ولم يعد يفي بالغرض التحامل على دين الآخر ووصفه بأنّه ضلال تامّ.

        هذا المنهج الذي مارسته الأجيال السالفة، لم يأتِ بنفع، بل سدّ سُبُل الفهم والتفاهم.

        ما نحن اليوم بحاجة إليه هو الاحترام المبدئيّ لقناعات الآخرين الدينيّة، هذا حقّ لهم كبشر. ثمّ يقوم التبادل حول الفروق والتناقضات بين الأديان، في جوّ هادئ يدلّ على أنّ المتحاورين مستعدّون وأهلٌ للصبر على الاختلاف.

        2) هذا يعني أنّ علينا أن نتعلّم قواعد ثقافة الجدال السلميّ ونمارسها. لا تعني ثقافة الجدل السلميّ هذه أن نتغافل عن مواضع الاختلاف أو نحطّ من أهميّتها، بل أن نبحث أوّلاً عن مواضع الاتفاق. هذه الأمور المشتركة هي الأساس الذي يمكّن الأطراف المتحاورة من بناء الجسور التي تصل بينهم، والذي يحمل هذه الجسور.

        3) هذا كلّه يعتمد مبدأ التعاطف الناقد. فالتعاطف هو الذي يمكّن من استقصاء أمور الدين حتّى الوصول إلى لبّه واكتساب فهمه. والجهة الناقدة في التعاطف تبقي العين مفتوحة فلا تغيب عن البصر والبصيرة الأمورُ المتنازع حولها. التعاطف الناقد يمكّن من إقامة الحوار البنّاء، غير الساذج ولا الجامح في متاهات الأصوليّة المتصلّبة.

        4) إنّ مثل هذا الحوار حول العقائد والتعاليم والشؤون اللاهوتيّة لا يكون دائمًا ممكنًا، وذلك بسبب نقص التخصّص في مناهج اللاهوت وعلم الكلام. وحيث يُفقَد هذا التخصّص ترى المتحاورين يأتون بمقولات عامّة عمّا يعرفونه ويمارسونه في نطاق دينهم الخاصّ، دون أن يقدّموا ما يُفترَض الإتيان به من معطيات دقيقة وحجج ضروريّة وبراهين مؤيّدة.

        ومع ذلك، وهنا أتوجّه بالكلام إلى طلاّب وطالبات الجامعات والمعاهد العليا، يمكن اكتساب مناهج الفكر الصحيح التي تساعد على خوض مضمار الحوار الصحيح. أقصد هنا تلقّن منهج العمل العلميّ وتطبيقه، ذلك المنهج الدقيق الصارم الذي لا يكتفي بسماع ما يُقال، بل يسأل ويلحّ في السؤال عن الأسباب التي تؤدّي إلى ما يُقال. لا يكفي أن نعلم ما يقول به الآخر، بل علينا أن نعرف لماذا يقول بذلك.

        ثمّ إنّه يصحّ القول التالي: مَن كَثُر علمه لا يميل بسرعة إلى التكبّر والانقباض على الذات والتزمّت والمواقف المتصلّبة. إن معرفة الدين تشير إلى تعالي الله من وراء معرفة الإنسان، ولا تؤكّد كمال المعرفة البشريّة وصفتها النهائيّة. معرفة الإنسان ناقصة دومًا... الله وحده هو الحقيقة المطلقة.

        5) ينتج من ذلك أنّ كمال الحقيقة التي تلقّاها المسيحيّون حسب إيمانهم أو أتباع الأديان الأخرى حسب معتقدهم، لا يعني أنّ مؤمني هذا العصر من الأديان المختلفة قد استوعبوا هذه الحقيقة بجميع معطياتها وأبعادها وتفرّعاتها. إنّ البحث عن الحقيقة - أي في النهاية إنّ البحث عن الله - عمليّة لا نهاية لها، لأنّ الله لا تُسبر أغواره ولا توصف أبعاده وصفًا تامًّا. فهو العليّ المتعالي، وابتغاؤه مشروع لا ينتهي.

        ثمّ إنّ الحوار في العقيدة لا يشترط في هدفه الأخير شرطًا مطلقًا أن يصل إلى التوفيق الشامل بين العقائد المختلفة والقناعات المتناقضة بين المسيحيّين وغيرهم. فالمُقدِم على الحوار عليه أن يحترم أمانة المتحاور معه لدينه الخاص. إنّ الحوار يساعد على التغلّب على أشكال سوء الفهم وسوء التفاهم التي تراكمت عبر القرون، وعلى إزالة الأحكام المسبّقة المرتكزة غالبًا على عدم المعرفة والتسرّع في الحكم. وهكذا بالحوار الرصين وتبادل الفكر الناضج والبراهين المحكمة والاعتراضات التي تبحث عن مزيد من الفهم والمعرفة، يمكن أصحاب العلم أن يصلوا إلى تحديد دقيق لعناصر الاتّفاق ومواضع الاختلاف في عقائد المتحاورين.

        6) وهناك أيضًا نتيجة لا يُستهان بها لهذا النوع من الحوار الرصين الصافي، وهي إنشاء جوّ تفاهم واستعداد للتقرّب بين المتحاورين. وفي كثير من الأحيان تنشأ بينهم مودّة وصداقة وأخوّة.

 

        2- مستوى التعاون

        1) منهج التعاون يختلف عن منهج الحوار بأن لا يجلس المخطّطون للتعاون على طرفَي الطاولة بعضهم مقابل بعض، بل يجلسون جنبًا إلى جنب ويعكفون معًا على تفحّص القضايا والمشاكل المشتركة.

-        فيسأل كلّ واحد منهم نفسه ودينه عن المساهمة التي يمكن أن يؤدّيها لحلّ هذه القضايا.

-        ويسأل كلّ واحد جاره عن المساهمة التي يمكن أن يقدّمها ليشترك في حلّ القضايا المشتركة.

-        ويتساءل جميعهم عن المساهمة المشتركة التي يمكنهم أن يقدّموها لحلّ القضايا المشتركة.

-        وأخيرًا يسأل بعضهم بعضًا: أيُّ مساهمة مشتركة يمكنهم أن يقدّموها بعزم مشترك لحلّ القضايا المشتركة.

        2) يرتكز هذا التعاون الممكن على القيم الأخلاقيّة والقواعد المسلكيّة المبدئيّة التي هي في معظمها تراث البشريّة جمعاء، إذ إنّها حاصلة في مقولات جميع الأديان تقريبًا. ومع أنّ هناك فروقًا في تعليل هذه القيم وتطبيقها العمليّ، واختلافًا في بعض تشريعاتها المفردة، فإنّ من الواضح مثلاً أنّ الركائز الأخلاقيّة مشتركة في معظمها بين المسيحيّة والإسلام، انطلاقًا من وصايا الله العشر التي نقرأها في العهد القديم والعهد الجديد من الكتاب المقدّس، كما نقرأها في القرآن الكريم والتراث الإسلاميّ. لذلك يصحّ القول بأنّ السبيل المؤدّي إلى التغلّب على بعض الاختلافات يستند إلى حوار منفتح ودّي، حوارٍ المتكلّمين والسامعين في الوقت عينه، حوارِ المعطين والمتقبّلين، حوارِ المُهدين والمُهدى إليهم.

        3) إنّ تعاون الأديان هو إذن، في وضع طبيعيّ ممكن، وذلك على صعيد النشاط الاجتماعيّ، مثلاً بإقامة علاقات عادلة بين الناس والجماعات، والتربية على السلام، ومساندة المعوزين، والقيام بمشاريع مشتركة. والواقع العمليّ في العالم يوضح أنّ هذا ممكن ويطبّق هنا وهناك بنوع مثمر.

 

        3- مستوى التبادل الثقافي

        1) إنّ التبادل الثقافيّ يقرّب بين الناس، ويفتح النوافذ والأبواب لتقدير القيم والمنجزات الثقافيّة عند الآخرين. وهو يوسّع الآفاق ويقوّي الاستعداد للتعاون.

        2) هنا أودّ أن أطرح اقتراحًا يتعلّق بمشروع له في نظري أهميّة كبيرة. وأختصر في العرض: نحن نعرف بما فيه الكفاية تاريخ نزاعاتنا وعداواتنا، ولكنّا ليست لدينا معرفة - أو هي معرفة ضئيلة - عن تاريخ صداقاتنا. البحث عن علامات الصداقة هذه وتدوينها مرجعًا للجيل الحاضر والأجيال المقبلة، هو في نظري مشروع ذو أهميّة كبرى يقدّم لنا مثالاً لتبديل حاضرنا وتخطيط مستقبل، مستقبل مشترك، يستتبّ فيه السلام ويقوم فيه العدل، ويتّصف بالرحمة والمحبّة.

 

        4- مستوى التبادل الروحيّ

        هناك شكل آخر من الحوار ولعلّه أعمق تبادل بين المؤمنين المنتمين إلى الأديان المختلفة، وهو تبادل الخبرة الروحيّة، وأحوال العبادة والتماس وجه الله... وكم من مرّة ارتاحت نفسي أنا شخصيًّا إلى حديث روحيّ جرى بيني وبين صديق لي من المسلمين الأتقياء، حين كان يصف لي حديثه مع ربّه في صلاته ودعائه. وكم من دعاء بين الأدعية التي جمعتها من التراث الروحيّ الإسلاميّ وترجمتها إلى الألمانيّة ونشرتها، ذكّرتني بنفحات الروحانيّة المسيحيّة. ولا عجب. فإنّ القرابة بين روحانيّة الإسلام وروحانيّة المسيحيّة أوثق ممّا يظنّ البعض، وأشدّ ممّا يتوهّم البعض الآخر.

        5- مستوى العيش المشترك

        العيش المشترك الناجح بين أبناء الوطن الواحد، والمنطقة الواحدة، أيًّا كان انتماؤهم الدينيّ، ينمي لديهم الاحترام المتبادل، والتقدير الرضيّ، ويعزّز الاستعداد للتصافي ولإقامة علاقات صداقة ومودّة. ويدفع عزائم الجميع إلى العمل لخير الجميع بعيدًا عن الأنانيّة والسعي المجحف وراء المصلحة الخاصّة على حساب الآخرين وعلى حساب الخير العامّ.

 

        4. الحقيقة التي يجب عملها

        إنّ الحقيقة ليست فقط الحقيقة التي نؤمن بها ونعبّر عنها ونحاول تركيزها على البراهين والدلائل. الحقيقة الدينيّة هي في المقام الأوّل الحقيقة التي يجب أن نعملها (كما ورد في إنجيل يوحنّا 3: 21). هذا يقتضي أن نتّخذ القيم الأخلاقيّة التي ينادي بها دينُنا قاعدةً لإقامة علاقات طيّبة مع الآخرين وأن نخطّط ونمارس معهم التعاون المثمر.

        إن تمكنّا، مسيحيّين ومسلمين، من توجيه سلوكنا وفقَ القيم المشتركة بين المسيحيّة والإسلام، استطعنا أن نُشيّد نظامًا اجتماعيًّا إنسانيًّا، يرتكز على احترام كرامة الإنسان وتكون ثماره ما يأتي:

1)     إقامة عدالة أخويّة.

2)     تنفيذ الحقوق والواجبات تنفيذًا رحيمًا.

3)     منح الأولويّة لحقوق الضعفاء، وتوجيه الاختيار في العمل لصالح الفقراء والمحرومين.

4)     الاستعداد للمصالحة.

5)     عرض المصالحة عرضًا إيجابيًّا على أعضاء الجماعة الدينيّة الأخرى، أي أن يعرض المسيحيّون على المسلمين المصالحة الشاملة وأن يعرض المسلمون على المسيحيّين المصالحة الشاملة، فيتمّ التصافي بينهم.

6)     إبدال العمل في سبيل التسلّط والحكم على الآخرين بالسعي إلى الاهتمام بالسلام وصيانته وتوطيده

 

خاتمة

إنّ مستقبل العالم وعالم المستقبل بحاجة إلى نشاطكم والتزامكم، إلى أفكاركم الجديدة ومبادراتكم الجديدة.

مستقبل العالم وعالم المستقبل بحاجة إلى خدمة المصالحة والتصافي وإلى الجهود والمتضافرة التي تضمّ الكثيرين في السعي نحو هدف واحد.

بدل عالم متمزّق، يجب أن يطلع علينا وعلى الأجيال القادمة

-        عالم جديد، يسود فيه السلام في القلوب وبين الشعوب.

-        عالم جديد تعتبر فيه الثقافات المختلفة غنًى وكنـزًا.

-        عالمٌ جديد لا يخيّب آمال الأجيال الطالعة.

-        عالمٌ جديد يحلو فيه لنا وللجميع في المستقبل أن نحيا ونعمل.

-        عالمٌ جديد يستقرّ عليه نور الله ويحلّ عليه رضوانه ومحبّته.