فـي يـوم المعلّم تكريـم

حــافـظ الشمعـة و افـرام البعلبكـي

 

كلمة الأستاذ منير سلامه

كلمة سناء البواب

كلمة الأستاذ حافظ الشمعة

كلمة البروفسور أهيف سنّو

د.إفرام البعلبكي

 

 

تكريـم حــافـظ الشمعـة و افـرام البعلبكـي

 

 

 

تكريـم حــافـظ الشمعـة و افـرام البعلبكـي

 

كلمة الأستاذ منير سلامه   

 

استهلّ هذا اللقاء اليوم التاسع من آذار بتوجيه أطيب التمنيات للزملاء المعلمين بعيدهم عيد العطاء.

أيها الأصدقاء،

نلتقي معاً، اليوم في رحاب الحركة الثقافية - انطلياس لنكرّم معلمَّين تميّزا بما بذلاه من جهود وتضحيات على مدى عقودٍ قاربت الخمسة.

أيها الحفل الكريم،

هذه المناسبة تجعلنا نتوقف قليلاً لنسترجع معاً ولو بعضاً من مرحلة الزهو والتألق التي عرفها المعلمون حين كانت لكلمة "استاذ" تفتح تلقائياً أبواب الترحيب والتقدير والإعجاب وحين كانت رسالة التعليم تحتلّ أعلى القيم الإنسانية والمجتمعية.

وحين كانت النخب من المتعلمين تتنافس في مباراة يعبر بنتيجتها الناجحون الى جنّة التعليم.

فيما يتردد الكثيرون في هذه الأيام، من أصحاب الكفاءة في خوض غمار هذه المهنة الرسالة بعدما أفقدتها التجاذبات الطائفية والمذهبية والسياسة الفئوية والعلاقة الزبائنية بين بعض المؤسسات التعليمية وبعض الأهالي بالإضافة إلى ضحالة المردود المعيشي.

الكثير من موقعها وحرمتها وهيبتها وقدرتها على إعداد أجيال تعيد بناء لبنان وطناً جامعاً منفتحاً على العالم وعلى الحداثة ببعدها الإنساني وليست ببعدها المادي فقط.

أيها الأصدقاء،

بتكريم الزميلين الصديقين افرام بعلبكي وحافظ الشمعة نستعيد صفحات مشرقة من كتاب المعلّم في لبنان.

وإذا كنا في الحركة الثقافية لا نملك ان نمنحَ اوسمةً لكننا معكم وباسم زملائهما وطلابهما وعارفيهما نقول لكلٍ منهما شكراً منبسطة على مدى أيام بذلهما وعطائهما.

على مدى اثنتين وأربعين سنة، جعل مكرمنا الأستاذ حافظ الشمعة، رفعَ شأن التعليم الرسمي همّه والدفاع عن حقوق المعلمين هدفه.

رجلُ عمل ونضال.

حوّل ثانوية بشامون، بعد أن تولى إدارتها ما يقارب ثلاثة عقود إلى إحدى أهم ثانويات لبنان. وجهزها بأحدث التكنولوجيا (أجهزة كومبيوتر وشبكة انترنت...) وهي الأولى بين الثانويات في هذا المجال.

أما على الصعيد النقابي

فكان حاضراً في جميع التحركات النقابية منذ أوائل السبعينات، وتشهد المكاسب التي تحققت على مدى اندفاعه وإخلاصه وعناده في الدفاع عن حقوق من تولى تمثيلهم سنوات طويلة.

أيها السادة،

قبل ان أعطي الكلام للسيدة سناء البواب في تقديم مكرمنا، لا بد لي من ان استعيد محطة هي الأبرز في تاريخ توحيد العمل النقابي للأساتذة الثانويين وهي إنشاء رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي بعد حلّ لجنة الاتصال العليا التي كان يرأسها الأستاذ حافظ الشمعة واللجنة التنفيذية التي كانت برئاستي وقد شاركنا الأستاذ حافظ وانا وبعض الزملاء وفي طليعتهم الأساتذة حنا غريب، السيدة سناء البواب، جوزف هيدموس وحنا ابو حبيب في وضع نظامها الداخلي بعد مناقشات استمرّت لشهور عديدة.

وفي هذه المناسبة أتوجه بالتحية إليها والى نقابة المعلمين في المدارس الخاصة وبقية روابط المعلمين.

الكلمة في تقديم الأستاذ حافظ الشمعة هي للسيدة سناء البواب الأستاذة والمديرة والوجه النسائي البارز على مستوى الحركة النقابية في القطاع التعليمي في لبنان.

السيدة سناء، هي من هذا الرعيل الذي سعى ويسعى في أي موقع كان، إلى إعلاء شأن التعليم عموماً والرسمي خصوصاً.

وما نجاحاتها اليوم في إدارة ثانوية عمر فروخ الرسمية للبنات سوى خير دليلٍ على إيمانها العميق بأهمية التعليم الرسمي وبمستقبل هذا التعليم.

الكلمة لها فلتتفضّل.

 

 

تكريـم حــافـظ الشمعـة و افـرام البعلبكـي

 

 

 كلمة سناء البواب   
 

تكريم الأستاذ حافظ الشمعة

                                                                          

حافظ الشمعة

مناضل ومدير ريادي : ساهم في تعزيز التعليم الرسمي و تقدمه

قيادي نقابي بارز : مدرسة في الدفاع عن وحدة الحركة النقابية و استقلاليتها

 

الشكر أولا" للحركة الثقافية في انطلياس التي جمعتنا في هذه الأمسية الطيبة لتكريم رمزين بارزين من قيادات الحركة النقابية في لبنان ، في لقاء مع رفاق درب طويل وشاق ، سرناه معا" في أدق الظروف و أصعبها التي عاشها لبنان منذ مطلع السبعينات حتى مطلع الألفين، متحد ين كل العوائق ومتجاوزين كل الحواجز، دفاعا" عن وحدة لبنان ووحدة هيئاته النقابية و استقلاليتها ، ودفاعا" عن الحقوق الاجتماعية للمعلمين و الأساتذة في القطاعين الرسمي و الخاص كما في كل مراحل التعليم من الابتدائي والثانوي حتى الجامعي ، في سبيل تعزيز التعليم الرسمي وتقدمه.هذه المسيرة النضالية شكلت نقاط الضوء المشعة التي تكاد تكون الوحيدة في النفق المظلم الذي زج به الوطن في تلك الحقبة ،حيث استعرت الحرب الأهلية و تقطعت اوصال الوطن و احتدمت الانقسامات الطائفية و المذهبية ، فكانت تحركات المعلمين و الأساتذة الثانويين و الجامعيين و الاتحاد العمالي العام في تلك الفترة ، بتداعياتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، بخطواتها التوحيدية وشعاراتها بوقف الحرب وفتح المعابر و ازالة المتاريس و الحواجز بين المناطق اللبنانية ونبذ العنف بين ابناء الشعب الواحد ، من ابرز التحركات التي أسست لانضاج تحقيق التسوية التاريخيةالمتمثلة باتفاق الطائف التي أدت الى وقف الحرب الأهلية . ونحن اذ نكرم اليوم الزميل الأساتذ حافظ الشمعة ، فاننا نكرم أحد أبرز القيادات النقابية اللبنانية التي لعبت دورا" مهما"و طليعيا" و شجاعا" دفاعا" عن وحدة لبنان ومؤسساته ،ودرء الانهيار الاقتصادي و الاجتماعي فيه . وما كانت تمكنت هذه الحركة التقابية من تحقيق انجازات هامة وطنية و مطلبية في تلك المرحلة لو لم يكن على رأسها قيادات فذة أمثال حافظ الشمعة : قيادة صادقة صلبة وشجاعة الى حد المغامرة بالحياة ،ولاؤها للوطن أولا" و اخيرا"و لوحدة ابنائه، غير متعصبة لمذهب او طائفة منفتحة، ترفض الاستسلام للأمر الواقع و تسعى للاصلاح و التغيير بكل الوسائل الديمقراطية ، متواضعة ، لاتهمها المظاهر و الشكليات ، غير طامعة بمنصب او مكسب خاص، متفانية بعملها شريفة ،انها صفات القائد الناجح الذي نكرمه اليوم، و الذي وان اختلفت معه بالرأي لابد لك من احترامه و تقديره .

 

حافظ الشمعة منذ كان شابا" يافعا" طالبا" في دار المعلمين الابتدائية -بئر حسن - كان مناضلا" مندفعا" بحماسة بارزة ،أسس الروابط و اللجان الطلابية و لعب دورا" قياديا" فيها بتحركاتها المطلبية مع مطلع الستينات، التي ابتكرت اساليب الاعتصام ليلا" و نهارا" في المؤسسات حتى تحقيق المطالب. وتصدت باصرار و جرأة لقرارات طرد اعضاء الرابطة الطلابية(و هو كان من بينها) من قبل وزير التربية آنذاك في العام 1963، وذلك بتصعيد الاضراب ، حتى تم كسر قرار الوزير. كان منذ ذلك الوقت يرفض التراجع و المساومة على المطالب ، حتى و لو بقي وحيدا" مع زميلين معه في الاعتصام الليلي في المدينة الرياضية بعد دخول قوى الأمن الى دار المعلمين و اخراج المعتصمين منها.

طموحه كان كبيرا" لتحقيق المزيد من الترقي الاجتماعي بواسطة العلم و الثقافة،ما دفعه لمتابعة دراسته الثانوية -وهو معلم ابتدائي- لنيل الشهادة الثانوية العامة و من ثم الاجازة الجامعية التعليمية في مادة الجغرافيا و نيل دبلوم الدراسات العليافيها، ليلتحق بالتعليم الثانوي الرسمي في 1969 متنقلا" من ثانوية الحدادين في طرابلس الشمال الى ثانويات الجبل، قبل ان يعين مديرا" لثانوية عين دارة العام 1972 ومن ثم مديرا" لثانوية بشامون الرسميةالعام 1976 حتى تقاعده في آخر حزيران 2005 .

كان حافظ الشمعة مديرا" رياديا" صاحب رؤية وطنية تربوية تقوم علىتحقيق ديمقراطية التعليم ، بتعزيز التعليم الرسمي و تأمين جودته ،ليستقطب أبناء الوطن بصفته خيارا" مفضلا" لهم و ليس اجبارا"بسبب ضيق الامكانات الماديةالتي لا تسمح اقساطها بدخول المدرسة الخاصة. لذلك تفانى في عمله و أعطى ثانويته كل وقته و جهده ،ووسعها في دوامين قبل الظهر و بعده، أشرف عليهما من دون أي مقابل اضافي . لم يكن ينتظر قرارا" من مدير التعليم الثانوي أو من وزير التربية لتحسين ثانويته، بل كان يبادر من نفسه لاستثمار كل ما لديه من اندفاع و حماسة و استخدام كل ما لديه من علاقات عامة و امكانات ،لجعل ثانويته ثانوية نموذجية و متقدمة ، حتى أضحت تنافس أرقى المدارس الخاصة . فخره انه كان أول مدير لمدرسة رسميةأدخل اليها الوسائل التكنولوجية الحديثة (الكومبيوتر)في التعليم و في مكننة الأدارة المدرسية منذ العام 1986 اى منذ اكثر من عشرين عاما" . بينما لاتزال حتى اليوم في العام 2008 معظم المدارس الابتدائية تفتقر لكومبيوتر واحد تدخل به العصر من بابه الضيق .                                            

كان الاستاذ حافظ يتوق دوما" الى تحقيق الاصلاح و التغيير السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي، لذلك غاص في التجارب الحزبية  مارا" في ثلاثة احزاب يسارية ، وجدها قاصرة عن تحقيق طموحاته، بسبب التناقضات الكامنة بين ايديولوجيتهاو طروحاتها من جهة و ممارساتها من جهة أخرى .هو على الصعيد الوطني متشبث باستقلال لبنان و حريته وسيادته وبتحرير ارضه مهما بلغت الصعوبات ،رافض لأية وصاية سواء أتت من الشرق أو من الغرب ، من الأقربين أو من الأبعدين .(أذكر الألم الكبير الذي سكنه الى حد الاحباط حين شاركت بعض الدول العربية مع اميركافي الحرب على العراق بعد اجتياحه الكويت ، كان شعاره لا لأميركا و لا لديكتاتوريات الانظمة العربية) . هو دائما ينبذ الطائفية و المذهبيةبكل اشكالها و تجلياتها في كل المياديين و المؤسسات .

من هذه المنطلقات الوجدانية و الوطنية و الديمقراطية و السياسية استطاع لعب دور بارز و ثابت في تاريخ الحركة النقابيةعلى مدى ثلاثين عاما" و نيف منذالعام 1970 . ساهم في تأسيس وتفعيل الهيئات النقابية لأساتذة التعليم الثانوي الرسمي و في قيادة نضالاتهاو تحقيق مكتسبات هامة لها .  فهو من مؤسسي رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي العام 1992 ، وقبلها لجنة المتابعة (لجنة ابو غوش) العام 1970 و اللجنة التحضيرية لاساتذة التعليم الثانوي الرسمي العام 1972 و لجنة الاتصال العليا لاسانذة التعليم الثانوي الرسمي-في المنطقة الغربية-العام 1980 قبل ان تندمج مع اللجنة التنفيذية لاساتذة -المنطقة الشرقية-لتشكيل اللجنة الموحدة التي مهدت لرابطة اساتذة التعليم الرسمي .و هو من مؤسسي مكتب المعلمين في العام 1981 (هيئات الاساتذة و المعلمين الرسميين مع المعلمين في القطاع الخاص). وهو ايضا" من مؤسسي هيئة التنسيق النقابية(مع اساتذة الجامعة اللبنانية) و من مؤسسي لجنة التنسيق للعاملين في القطاع العام . ومن مؤسسي المؤتمر النقابي العام وهيئته المتابعة( مع الانحاد العمالي العام و هيئات اخرى) التي خاضت اهم التحركات الوطنية و المطلبية خصوصا" التظاهرة الشعبية الكبيرة في 7 تشرين الثاني 1987 لوقف الحرب ووقف انهيار الليرة اللبنانية و تصحيح الاجور و انتخاب رئيس وفاق وطني للجمهورية (وليس رئيس توافقي يتوافق عليه السياسيون لادارة الازمة الوطنية و لايضع حدا" لها). وكلها هيئات توحيدية تشمل جميع المناطق و مختلف التلاوين الطائفية والحزبية جاءت في زمن الانقسام الحاد و كأنهاتقول بان بين اللبنانيين ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم اذا ساد العقل على العصبية و تغلبت المصلحة الوطنية و المصلحة العامة علىالمصالح الفئوية الضيقة وكانت الارادة الحرة المستقلة .

كما كانت للأستاذ حافظ مواقف مشرفة حين قاد حركة رفض قوية و ناجحة ضد قطع رواتب الاساتذة و المعلمين في بعض المناطق في زمن الحكومتين( الحص و عون )

و الاستاذ حافظ الشمعة الحزبي كان يسعى و يجتهد ليكيف موقف حزبه وسائر الأحزاب لصالح الحركة النقابية، ولا يجير تحركات الحركة النقابية في خدمة الفئوية الحزبية و تغذية التجاذبات والصراعات السياسية التي تشرذم وتفرق على حساب وحدة النقابات واستقلالية تحركها،لان هذه النقابات تضم افرقاء من كل الاحزاب و المذاهب و الطوائف و المناطق، و التي لايجمعها الا المصلحة المشتركة و المصلحة الوطنية الواحدة .وهنا مكمن قوتها وفعاليتها .بل كان ومعه بعض القياديين الحزبيين الشرفاء (من احزاب مختلفة)يخالفون احيانا" قرارات احزابهم لصالح الرأي العام السائد في اوساط المعلمين ومصالحهم (اذا ما تعارضت المواقف).

حافظ الشمعة القائد النقابي كان صلبا" صادقا" و صريحا" يكره الانتهازية و الانتهازيين والمزايدة و المزايديين ، يدين الصفقات و يرفض المساومات على المطالب ، لكنه في نفس الوقت يتقبل التسويات المشرفة التي تفرضها الظروف و التوازنات و الامكانات المتاحة . و كان يقدم عليها من دون خجل او شعور بالذنب و الانهزامية بل بوعي وحس نقابي متقدم .وهو صاحب القول المعروف له لانهاء اي تحرك : أريد مخرجا" نقابيا". مواجها" بقوة المزايدين والساعين لتجيير التحرك خدمة لذاك السياسي او ذاك المسؤول .

كان في نهجه التوحيدي الواضح يحرص على جمع الشمل و تمثيل مختلف القوى الممثلة في اوساط المعلمين رافضا" اية شروط في العدد او السياسة حرصا" منه على تأمين اوسع مشاركة ديمقراطية فعالة .

وهو شغل بالانتخاب الديمقراطي منصب الرئاسة في هيئات الأساتذة الثانويين سنوات عديدة متتالية و في دورات متعددة. و في المرة التي لم ينتخب بها عضوا" في الهيئة الادارية للرابطة فبسبب اصراره على تجديد الرئاسة الدائمة لهو في ظل رفض قوى طامحة لتبوء هذا المنصب : فكانوا بذلك و اياه ضحايا ضعف الصيغة الديمقراطية للانظمة الانتخابية و ركاكتها السائدة في بعض المؤسسات النقابية حيث لاتنص صراحة على ضرورة تداول المسؤولية الرئاسية بعد فترة زمنية محددة (باستثناء نقابات المهن الحرة). ولم تكن هذه مشكلة حافظ الشمعة وحده، فالقيادات التي خلفته لم تسع الى اجراء التعديل الديمقراطي المتقدم رغم المطالبات العديدة بذلك ، لانها تتمسك هي ايضا" بالتجديد اللامحدود للرئيس لنفس الفرد او لنفس القوة السياسية مهما طال الزمن ، الأمر الذي يثير الخلافات و النزاعات اكثر حول تقاسم المناصب و يفسح المجال بعقد التحالفات الانتهازية الوصولية على حساب البرامج و القيم .

هذه المسيرة التوحيدية الأصيلة لحافظ الشمعة لم تكن تخلو من خوض المغامرات الى حد المخاطرة بالحياة خدمة لمصالح المعلمين ( أذكرعبوره خطوط التماس ليلا"مع سناء البواب و محمد قاسم من المنطقة الغربية -راس النبع-الى عين الرمانة في المنطقة الشرقية ب"حماية"الزميلين جورج مغبغب وبول جلوان - في زمن الخطف على الهوية و التوترات الأمنية-من أجل تأمين عقد اجتماع لصياغة ورقة مطلبية موحدة.

ان من قام بهذه الجهود المميزة في بناء المؤسسات والدفاع عن وحدة الهيئات النقابية و استقلاليتها كالأستاذ حافظ الشمعة ليؤلمه اليوم ما يشهده من انفراط لبعض الهيئات التي ساهم بتأسيسها كمكتب المعلمين و هيئة التنسيق النقابية ،بسبب الخلافات الحزبية المحتدمة بين قياداتها الحالية . كما يحزنه بعمق ضعف الاتحاد العمالي و اضمحلال قاعدته العمالية و الشعبية بسبب فقدان مصداقية قيادته ،جراء انغماسها الجامح في زج الاتحاد في آتون التجاذبات السياسية المدمرة.

و حافظ الشمعة اليوم و معه سائر المربين الشرفاء يشعرون بالأسى و بالفشل الذريع كلما طغت الطائفية و المذهبية بين التلاميذ و الطلاب ، وكلما طغت العصبية  الجامحة و الغرائزية على لغة العقل و المنطق. ويحسون بخيبة الأمل عندما يقال بان مستوى التعليم في لبنان في كل مراحل التعليم في هبوط مستمر، ويشعورون بالحزن العميق لهذه الاخفاقات الخطيرة متسائلين اين مسؤولية أهل التربية المدرسية في التصدي لهذه الموبقات؟وهل هم مقصرون في مواجهة هذه التحديات ؟أم ان الأمر يفوق قدرات المربين ؟ اليأس ممنوع علينا و لن نيأس لاننا شعب ثبت انه ينهض دائما" من تحت الانقاض . على أمل بزوغ فجر جديد .

و أختم بالقول :

 - سيبقى حافظ الشمعة في ذاكرة زملائه و رفاقه :المناضل الريادي و القيادي الصلب الصادق و الوفي .

- وسيدون اسمه في السجل الذهبي لتاريخ حركة المعلمين في لبنان و الحركة النقابية العامة .

- لك منا كل آيات الاحترام و التقدير .

- ستبقى الشمعة التي تضيىء بتجاربها الغنية دروب النقابيين في مسيرتهم النضالية .

-انك لتستحق بالفعل احسن التكريم .

وحسنا" فعلت الحركة الثقافية في انطلياس بتكريمك اليوم فأصابت الهدف بتكريم الشرفاء و المبدعين .

فشكرا" لها و للقيمين عليها لهذا الدور النبيل .

 

                                                               سناء البواب العيد

                                                 مديرة ثانوية عمر فروخ الرسمية للبنات

 

 

 

كلمة الأستاذ حافظ الشمعة   

 

ايها السادة

 

شرفتني الحركة الثقافية - انطلياس بهذه اللفتة الكريمة والنبيلة حيث رأت في المسيرة التربوية لشخصي المتواضع ما يقتضي التنويه. فكرمتني  بوضعي (مع الزميل الكريم الدكتور افرام بعلبكي) على اللائحة. شكراً الحركة الثقافية - انطلياس.

فالحركة الثقافية - انطلياس زيادةً على كونها عنواناً ثقافيا رائداً فهي ايضاً عنوان وطني متقدم  في لبنان، حيث يتجلى ذلك في مختلف النشاطات والمساهمات والبرامج التي تقوم بها والتوجه الوطني العام الذي تتمحور حوله هذه الأعمال. فكأنها بنظري تستلهم روح "العامية".

وفي مناسبة عيد المعلم، اسمحوا لي ان أتذكر هذه الرحلة الطويلة التي استمرت لخمسة وأربعين سنة من العام 1960 في دار المعلمين في بئر حسن الى العام 2005 حيث تقاعدت سالماً.

ففي دار المعلمين كانت التجربة الأولى لي في النضال والمواجهة خارج الأطر المحلية او المناطقية. فالحركة المطلبية تكون بطبيعتها وطنية وتكرس التلاقي والنضال المشترك وقد تم تحقيق جملة من المطالب المهمة مرفقة بقرارات فصل قيادة التحرك التي كانت عضوا فيها صدرت عن وزير التربية في حينه وتم كسرها طبعاً.

اما في التعليم الابتدائي فكان العمل التعليمي والنضال السياسي هو الغالب ولمدة ستة سنوات. وانتقلت الى التعليم الثانوي في العام 1969 حيث قضيت مدة تزيد على خمسة وثلاثين سنة منها ثلاثة وثلاثين سنة كنت فيها مديراً، هذه الفترة كانت غنية بالنضال كما كانت شاقة بسبب الأحداث اللبنانية.

شهد التعليم الثانوي قبل انتقالي اليه تحركا يتيما العام 64/65 ومنذ العام 1969 شاركت في جميع تحركات هذ ا القطاع مع مجموعة من الزميلات والزملاء المناضلين، فكانت الرابطة، والقانون 22/82 وسلسلة الرواتب الجديدة، وإدخال التعويض في صلب الراتب عند نهاية الخدمة، والتناقص وغير ذلك الكثير من المطالب ما يهمني هنا الإشارة ليس الى المطالب بل الى الاجواء الروحية التي لازمت تحركاتنا.

وهذا يعني لي الكثير، فرغم غياب الاداة النقابية الرسمية ورغم الأحداث التي مزقت البلاد استطاع القطاع التعليمي ان يتوحد على الصعيد الوطني وقد لعب التعليم الثانوي دوراً قيادياً ومركزياً في هذا التوحيد ومن منا ينسى درج وزارة الصحة حيث كانت الاجتماعات واللقاءات وحيث كان يتم الاتفاق فيما بيننا بالإجماع على المطالب وخطط التحرك وإصدار التوصيات. وهذا ما ساعد في نجاح معظم التحركات وشكل نموذجا للقطاعات الأخرى وقد كانت القيادات النقابية تعترف بدور قطاع التعليم الأساسي في جميع التحركات المشتركة. لقد كان القطاع التعليمي وخاصة التعليم الثانوي رأس الحربة في معظم التحركات النقابية في هذه المرحلة.

ان النضال التوحيدي كان اكثر الأهداف اهمية في توجهات التعليم الثانوي، ذلك ان القيادة النقابية كانت تدرك دور هذا القطاع كما كانت تعي بفضل حسها الوطني الرفيع ان النضال التوحيدي في تلك الفترة يؤدي الى غايتين مهمتين غاية سياسية وطنية في وجه الواقع التقسيمي الذي كان سائداً والرد عليه. وغاية نقابية لأنه في واقع الامر كان لا يمكن تحقيق أي مطلب ما لم يتم التوحد حوله.

لذلك بادر التعليم الثانوي من البداية الى سلوك السبل الكفيلة بتوحيد المعلمين على الصعيد الوطني. فكانت "الهيئة الموحدة لأساتذة التعليم الرسمي في لبنان" ثم الاتصال واللقاء مع روابط التعليم الابتدائي. ثم التنسيق مع نقابتي المعلمين في القطاع في القطاع الخاص، فكان، "مكتب المعلمين في لبنان" الذي اعد برنامج عمل مستند الى لائحة مطلبية موحدة. ثم بدءنا التوجه نحو موظفي الدولة، وأنشأنا ما عرف بـ"لجنة التنسيق المشتركة للعاملين في القطاع العام، والتي جمعت التعليم الرسمي بقطاعيه مع موظفي الدولة.

ويبقى العمل الأبرز والاهم وهو المتمثل في قيام "هيئة التنسيق النقابية المشتركة" وضمت: الاتحاد العمالي العام ومكتب المعلمين والجامعة اللبنانية ومجموعة من اللجان والهيئات المنتخبة في المجتمع الأهلي.

وأصبح البرنامج المطلبي لهيئة التنسيق النقابية بمثابة مشروع وطني نقابي سياسي توجه معظم التحرك من اجل تحقيقه وساهم في إعادة اللحمة للشعب اللبناني الذي أنهكه التشرذم، وكانت مؤتمرات هيئة التنسيق اقرب ما تكون إلى المهرجانات الشعبية، كما كانت المظاهرات تضم عشرات الألوف من المواطنين من مختلف الفئات. هذا ما همني الإشارة إليه في هذه الكلمة المختصرة على صعيد النشاط العام.

اما على الصعيد الوظيفي فلم انظر يوما للعمل الوظيفي الا واجبا وطنيا ومسؤولية أمام الضمير والمواطن فلم أسأل عن نهاية دوام فكان دوامي ضعف الدوام القانوني دون لقاء، وألزمت نفسي انجاز برنامج تطوير مهم في الثانوية التي أدرتها كما حاولت جاهداً مواكبة التطور في عملية التربية والتعليم. ووضعت نصب عيني ان اقدم خدمة تعليمية لتلاميذ المدرسة الرسمية الفقراء ومتوسطي الحال تفوق ما يحصل عليه أبناء الطبقات الميسورة ولقد نجحنا في ذلك بمساعدة وتجاوب الزملاء.

أخيراً اكرر شكري للأخوة في الحركة الثقافية في انطلياس على بادرتهم اللطيفة وأخص بالذكر الوميل المناضل الأستاذ منير سلامه الذ لعب دوراً قيادياً بارزاً في مسيرة نضالنا المشترك، كما اشكر كل من شاركنا هذا اللقاء. ولا بد لي من التوجه بالشكر والامتنان لعائلتي الصغيرة زوجتي وأبنائي الذين تحملوا انصرافي الى العمل العام ولم يتذمروا ابدا.

ويبقى شكري الخاص وتقديري للزميلة العزيزة المناضلة الأستاذة سناء البواب رفيقة درب النضال الطويل من اجل رفع مستوى التعليم في لبنان ومن اجل نيل المعلمين حقوقهم.

       

أيها الأصدقاء،

متميّز بطلّته وحضوره، عميق بفكره، آسر بحديثه وغزير بمعلوماته انه الزميل العزيز الدكتور افرام بعلبكي الذي يعتبر احد أهم الباحثين في الفلسفة العربية والإسلامية ومن ابرز أساتذتها.

هو في طليعة من عمل على بناء حضارة مسيحية - إسلامية مشتركة، هو الإنسان المنفتح على الثقافات والحضارات الإنسانية ورجل الحوار بامتياز.

هذا بالإضافة إلى كونه من مؤسسي نقابة المعلمين في المدارس الخاصة ومن الذي شاركوا في وضع أنظمتها وفي الدفاع عن حقوق المعلمين وفي تأمين موقع متميز للنقابة في الحركة النقابية في لبنان.

وفي تقديم مكرمنا الدكتور افرام بعلبكي.

الكلمة لسيد من أسياد اللغة العربية وآدابها، ارتبط اسمه ومنذ سنوات عديدة بمعهد الآداب الشرقية في جامعة القديس يوسف. وكان له دور بارز في تطوير الدراسات العليا في الفكر والفلسفة والأدب بحيث اصحب هذا المعهد مقصد الطلاب من لبنان ومن مختلف أنحاء البلدان العربية.

الكلمة للدكتور أهيف سنّو.

 كلمة البروفسور أهيف سنّو   

إفرام البعلبكي : أُستـاذًا جامعـيًّا

 

جاء في الحديث الشّريف : "ليسَ مِنّا مَن لم يرحَمْ صغيرَنا ويَعْرِفْ شَرَفَ كبيرنا"[1]. فالحمد للّـه الذي قَيَّضَ لكُبَرائنا الحَرَكةَ الثقافيّة - إنطلياس، تُكرّمهم وتَرفعُ رايتَهم، بعدما عَزَفَ غالب المؤسّسات المعنيّة عن القيام بدوره، أو اختزله بوِسامٍ يَتيم يُمنح وقد قُضِيَ الأمر، وفات الأوان.

ومن الأيادي البيضاء التي تُحْتَسَبُ لحركتنا الثقافيّة تكريمُها المعلِّمَ في يوم عيده، وهو ذلك القريب المهمَّشُ المستبعَدُ إلى ظلال العَتَمة والصمت. ولا فَرقَ ههُنا بين مُعَلِّمٍ ومُعَلِّمٍ، سواءٌ أكان انتماؤه إلى مؤسّسة مدرسيّة أم مؤسّسة جامعيّة، لأنّ الغاية القصوى واحدة، وإن اختلفت البرامج والتخصّصات والدرجات والمستويات.

ولعلّ الدكتور إفرام البعلبكي هو خير مَن يُمثّل التداخُل هذا، بل وحدةَ الحالِ هذه، لجمعه على طول المدى بين نَمَطَي التعليم. ولكنّي أراني قاصرًا عن أن أُوفّيه حقّه مُعلّمًا مدرسيًّا ونقابيًّا، خصوصًا بعدما قِيلَ فيه. فحسبي أن أقتصر على شيءٍ ممّا عرفتُه منذ ثلاثين سنةً من المُزاملة الجامعيّة، كاشفًا النقابَ عن بعض مقوّمات شخصيّته العلميّة.

وفي مثل هذه الحال يَرى المتكلّم نفسه أمام طريقَين متعاكِستَي الاتّجاه : فهو يستطيع أن يَتتبّع شريط الأحداث تاريخيًّا، فينطلق من تنشئة المحتَفَى به الفكريّة إلى إنجازاته الجامعيّة، ليتبيّن ما يصل بينها من تفاعُلٍ، أو هو يَعكِس شريط الأحداث فينطلق من حصيلة إنجازاته الجامعيّة اليومَ، ليصلها بتنشئته الأُولى. وفي الطريق الثانية شيء من تِقنيّة العودة إلى الوراء (flash-back) قد تُعفي المستمع من رتابة العَرْض، وتُعيده إلى الأُصول المؤثِّرة شيئًا فشيئًا، فيُمسك بذاك الخيط الرفيع، ويُدرك ذلك الرابطَ الثابت بين مجريات الحياة.

لقد التحق الدكتور إفرام البعلبكي سنة 1977 بمعهد الآداب الشرقيّة التابع لجامعة القدّيس يوسف، أُستاذًا لمادّة تاريخ الفكر العربي؛ ثمّ تفرّغ فيه للتدريس تفرُّغًا جزئيًّا ابتداءً من خريف 1990، فمتفرّغًا تفرُّغًا كاملاً منذ خريف 1994. وفي مرحلةٍ أُولى أَلقى محاضراته في تاريخ الفكر العربي، والفلسفة العربيّة، متناولاً كبار الفلاسفة الذين كَتَبُوا بالعربيّة، والقضايا الكُبرى في الفلسفة العربيّة والإسلاميّة، وتحليلَ النصوص الفلسفيّة، ومنهجيّة البحث الفلسفي. وفي مرحلةٍ ثانية، أُضيف المجالُ التربوي إلى ما تقدَّم، فَعُهِد إليه بتدريس التربية مفهومًا ومنهجيّات، وبتدريس فلسفةِ التربية، والتقويم التربوي، وتحليل النصوص التربويّة...

وفضلاً عمّا تقدَّم عُيِّن منذ 1996 مستشارًا للمعهد، تارةً لشؤون الفلسفة العربيّة والإسلاميّة، وتارةً لشؤون الدراسات الإسلاميّة (الإسلاميّات)؛ زِد على ذلك إسهامَه الفعّال في دورات الدراسات العُليا التي نظّمها معهد الآداب الشرقيّة في الأردن لطلبة الدول العربيّة، طَوال ثماني عشرةَ سنة، منذ صيف 1983 حتّى صيف 2000، بعدما تعذَّر عليهم الحضور إلى لبنان، نظرًا إلى الأوضاع الأمنيّة التي سادَت فيه آنذاك. ولعلّ المجال الأبرز الذي يَكشف النقاب عن توجّهاته، وخصائصه العلميّة، والفكريّة، والتربويّة، إشرافُه بكفاءةٍ عالية على رسائل الطلبة وأطاريحهم. وقد رَفَدَ ذلك كلّه بمنشورات متنوّعة، منها بالإسبانيّة أجزاء من أطروحته، وبالعربيّة كتابُه : منهجيّة في النقد : مدخل إلى تاريخ الفكر العربي، ومقالاتٌ ودراساتٌ كثيرة في مجال اختصاصِه.

وتجدر الإشارة إلى أنّ جامعة القدّيس يوسف قد استندت إلى ما تقدّم لتمنحه في 9 تمّوز 2004، ميداليّة الشَّرَف الخاصّة بها.

سيّداتي سادتي،

عزيزي المحتَفَى به،

لقد تسنَّى لي خلال السنين الطويلة التي أمضيتُها في إدارة معهد الآداب الشرقيّة، أن أُتابع من قريب جهود الدكتور إفرام البعلبكي. وأودّ أن أُطلعكم على المجال الأبرز في نشاطه الذي أشرتُ إليه منذ قليل، وهو إشرافه على رسائل الطلبة وأطاريحهم. ولا يَخفى أنّ الإشراف هذا يقتضي تخصُّصًا عميقًا، وبراعةً تربويّة معًا، حتّى يتمكّن المشرف من تمثيل دوره على أكمل وجهٍ في تنشئة طالبه العلميّة، وإيصاله إلى شاطئ الأمان؛ ولا يخفَى أيضًا أنّ الموضوعات التي يُشرف عليها الأستاذ تنمّ على خِياراته الدفينة.

فإذا تأمّلنا الرسائل والأطاريح التي نُوقِشَت بإشراف الدكتور إفرام البعلبكي منذ سنة 1982 حتّى نهاية 2007 (أي خلال خمسٍ وعشرين سنة) ألفيناها تبلغ ثمانيًا وثمانين رسالة وأُطروحة. وهي تنتمي إلى ثلاث مجالات كُبرى : الفلسفة العربيّة والإسلاميّة، والدراسات الإسلاميّة، والتربية.

أمّا المجال الأوّل، أي الفلسفة العربيّة والإسلاميّة، فلا يُهمل الفلاسفة الكبار كأبي زيد البَلْخي (322/934)، أو أبي حامِد الغزالي (505/1111)، أو فلسفتَهم التربويّة كما هي الحال مع الغزالي أيضًا، وابن عبدالبرّ النَّمري (463/1071). ولكنّ هَوى الدكتور إفرام البعلبكي يَميل بوضوح إلى الفكر الفلسفي الحديث وما يتّصل به من قضايا.

فالبارز عندَه هو الفكر العربي الإصلاحي انطلاقًا من إخوان الصفاء إلى خير الدين التونسي (1810-1890)، وعبدالرحمن الكواكبي (1849-1902)، وإسماعيل مَظْهَر (1891-1962)، وفي ذلك نَجد الفكرَ السياسي والاجتماعي كما يتبدَّى من خلال آثار وليّ الدين يكَن (1873-1921) وأمين الريحاني (1876-1940). واللافت أيضًا هذا الاهتمام بالجدليّة بين التسليميّة والعقلنة في فكر محمّد عبده (1849-1905) وحَسَن صَعْب (1990) مثلاً، وكذلك بالتوفيقيّة لدى المفكِّرَِيْن السابقَيْن، فضلاً عن نديم الجِسر (1980)، ومحمّد الغزالي (1917-1996).

ووجَّه الدكتور إفرام البعلبكي طلبتَه إلى دراسة الاتّجاهات الفكريّة المتولّدة في المجتمع العربي المتغيّر إثر اتّصاله بالفكر الأوروبي خصوصًا، فشدَّد على دراسة الاتّجاه العلماني لدى بعض المفكّرين المسلمين في مصر، ودراسة الفكر العلمي انطلاقًا من جذوره في الفكر العربي القديم ولا سيّما في آثار البِيروني (440/1048)، وصولاً إلى شِبلي الشميّل (1853-1917)، وأنطون سعادة (1904-1949)، وإسماعيل مظهر، وزكي نجيب محمود (1905-1993). وتَنتظم في السِّلك نفسه دراسةُ مظاهر الفكر المادّي في آثار شِبلي الشميّل، وسلامة موسى (1887-1958)، وإسماعيل مظهر، وعبّاس محمود العقّاد (1889-1964)، ودراسة المذهب النشوئي كما يبدو في فكر شبلي الشميّل وأنطون سعادة.

ولم تكن المرأة غائبةً عن الحقول هذه، فعُولِجَت حقوق المرأة منذ أيّام قاسم أمين إلى أيّامنا، وموقف منصور فهمي (1886-1959) من حقوق المرأة، وخُصّصت دراسةٌ لنقد المنهج في الفكر النِّسائي العَرَبي.

وممّا يتّصل بالمجال الفلسفي الآنف الذكر مجالٌ ثانٍ هو الدراسات الإسلاميّة، وإنْ لم يكن له هنا ما للسابق من تنوُّع واتِّساع. ففي هذه الدراسات نجد الإصلاح ماثلاً أيضًا مع ابن قيّم الجوزيّة (751/1350)، واهتمامًا ببعض خصوصيّات العقائد الإسلاميّة كدور العقل عند الأشاعِرَة، ومفهوم العِلم اللدني عنذ الغزالي. ولكنّ الأمور العمليّة في الإسلام هي التي استرعت اهتمام الدكتور إفرام البعلبكي أكثرَ من غيرها، عباداتٍ، وسياسةً، وعقوباتٍ، كالحجّ، والبَيْعة، ونظام الحكم في الإسلام، والسرقة وعقوبتها، والفَتاوى وعلاقتها بالتشريع المدني الأُردني.

وأمّا المجال الثالث والأخير فأربَى على ما سبقه، وخصَّص له الدكتور إفرام البعلبكي منذ أواسط التسعينيّات جُلّ وقته تدريسًا وإشرافًا، خصوصًا بعدما تراجَعَت سوق الفلسفة في لبنان والعالم العربي لأسباب لا مجال لبسطها الآن. فانصرف الدكتور البعلبكي انصرافًا واسعًا إلى الأبحاث التربويّة، يُسدِّد خُطى مُعِدّيها.

فنُلاحظ أنّ جهوده في الإشراف طالت أوّلاً أُسُسَ التربية ومنطلقاتها؛ ونُدرجُ في هذا السياق : فلسفةَ التربية والقيمَ التربويّة، والتشريع التربوي، والنظام التربوي اللبناني. يُضاف إلى ذلك ثانيًا، المحاورُ الكُبرى في العمليّة التربويّة، ومنها الإدارة التربويّة والإدارة المدرسيّة، والإرشاد التعليمي والإشراف التربوي، والأساليب التربويّة وأساليب تدريس بعض الموادّ (كالرسم والحاسوب...). ومن هذه المحاور التقويمُ التربوي وما يتّصل به من قضايا التحصيل الدراسي والتأخّر الدراسي، ومراكزُ مصادر التعلّم والمكتبةُ المدرسيّة، والوسائل التربويّة التي يستفيد منها المتعلِّم كخدمة الإنترنت والألعاب ووسائل التسلية.

وفضلاً عمّا تقدّم، تناولت جهوده ثالثًا القضايا الأساسيّة في التربية، ولا سيّما ما يتّصل منها بالتاريخ والمجتمع. فعلى المستوى التربوي التاريخي يَلفِتنا اهتمامه بالمبادئ التربويّة في منهج البلاغة، وبدور علماء جَبَل عامل التعليمي منذ القرن الرابع عشر حتّى القرن الثامن عشر، وإسهام بعض الشخصيّات في التربية، كالسيّد محسن الأمين (1867-1952)، وطه حُسين (1889-1973)، في كتابه : مستقبل الثقافة في مِصر.

وعلى المستوى التربوي الاجتماعي نُلاحظ اهتمامه بالتربية الاجتماعيّة، وتكافؤ الفرص التعليميّة، وإلزاميّة التعليم للحدّ من ظاهرة تشرّد الأطفال، وبعض النواحي الدينيّة كدور المسجد التربوي، ودور الجمعيّات الدينيّة التربويّ أيضًا. وتبرز في هذا المستوى ستّة محاور أقتصر على الإشارة إليها وهي :

1- محورُ التربية والمرأة، وفيه إعداد المرأة اجتماعيًّا لممارسة دورها السياسي، والدورُ التعليمي للجمعيّات النسائيّة، وصورةُ المرأة من خلال كتب اللغة العربيّة، أو القصص المصوّرة المنشورة في بعض المجلاّت العربيّة.

2- محور تعليم الكبار ومحو الأميّة، وفيه تقويمُ بعض برامج تعليم الكبار، ومحوُ الأميّة في مجتمعات معيّنة.

3- محور إعادة التأهيل، وفيه برامج إعادة تأهيل المعوّقين سمعيًّا، وتقويم النظام التعليمي في بعض المؤسّسات الإصلاحيّة كسجن رومية.

4- محور التربية والصحّة، وفيه دراسة التربية الصحيّة في المدارس، أو الواقِع الصحّي فيها.

5- محور التربية والبيئة، وفيه التربية على احترام البيئة، والتوعية عليها.

6- محور التربية والإعلام، وفيه الإعلام التربوي، والمؤثِّرات الإعلاميّة كدور التلفزيون في تربية الطفل، أو تأثيره فيه...

سيّداتي سادتي،

عزيزي المحتَفَى به،

هذا غَيْضٌ من فَيْض الدكتور إفرام البعلبكي، نظَّمتُه في لوحةٍ رسمتُ خطوطها العَريضة لأرجِع أدراجي، كما وَعَدْتُكم، متلمِّسًا ذلك الخيط الرفيع الذي يَصل بين الأستاذ الجامعي، وتنشئته الجامعيّة.

فتَعالوا معي لنُرافق إفرام البعلبكي، ذلك الشابّ ابن الحادية والعشرين، الذي تلقّى دراسته الأُولى في بلدته كفرذبيان، ففي معهد الرسل (جمعيّة المُرسَلين اللبنانيِّين) بجونية، وقد انحدَرَ سنة 1958 من بلدته في أعالي كسروان، تاركًا وراءه آثار البيوت اللبنانيّة القديمة، ومعاصر الزيتون، ومطاحن القمح، وهو يَنوء بأمتعته، إلى بيروت، ليركب باخرةً تُقِلُّه إلى عالمٍ جديد، فيُلقي رَحله في سَلَمَنقة، هذه المدينة العريقة، في شمال غرب إسبانيا، هذه المدينة التي فَتَحها موسى بن نُصير (سنة 712) واستردّها الإسبان بعد ثلاثة قرون ونيّف (سنة 1055). وها هي جامعتها تفتح له ذراعَيها، وهي أقدم جامعات إسبانيا، إذ أنشأها ألفونسو التاسع سنة 1218، وهي رابع جامعات أوروبا قِدَمًا بعد جامعة بولونيا (إيطاليا)، وجامعة باريس، وجامعة أوكسفورد.

ولكنّ اندهاش الفتى من تلك المعالم لم يَحُل بينه وبين الانصراف إلى دراسة الفلسفة واللاهوت، في جامعتها الحَبريّة هذه. وفي أثناء دراسته اهتمّ بالإسلام دِينًا وحضارةً اهتمامًا واسعاً، مُؤمِنًا بالتآلف والحِوار بين الحضارات. وجاءت أطروحته (1967) تتويجًا لاتّجاهه هذا، فكان عنوانها : مِن أجل حوارٍ ممكنٍ مع المسلمين. وقد شدَّد فيها على إمكانيّة التلاقي الحضاري الإسلامي والمسيحي، مع الاختلاف في العقائد بين الديانتَين. وفي النطاق نفسه، أنشأ في سَلَمَنقة مع فريق من الباحثين المتخصّصين، مركز يوحنا الثالث والعِشرين المسكوني، وأسهم فيه خلال سنوات أربع بعدَدٍ كبير من ندوات الحِوار التي ضمّت ممثّلي المذاهب والتيّارات الدينيّة والفكريّة على اختلاف مشاربها.

فَرُبّ سائل يقول الآن : لَعَمْرُكَ أين الرابط بين إفرام البعلبكي هذا، وإفرام البعلبكي ذلك؛ بين من رَحَل في طلب العِلم ونَهَل من جامعة سَلَمَنقة، ومَن انصرف مثلاً، إلى تلك القناطير المقنطرة من الرسائل والأطاريح التي حدّثتَنا عنها ؟

غالبُ الظنّ أنّه لولا التنشئة الأُولى في مدرسة البلدة ومعهد الرُّسُل بجونية، ولولا التنشئة الثانية في جامعة سَلَمَنقة خُصوصًا لَما كان ابن كفرذبيان ما هو عليه اليوم، ولما اكتَسَبَ هذه الخصائص الشخصيّة والفكريّة والعِلميّة التي ميّزته في نظر زملائه وطلاّبه.

فأوّل ما يلفِتُك فيه تنوُّع اختصاصه فلسفةً، ودراساتٍ إسلاميّة، وتربيةً. وليست هذه التخصُّصات مرصوفةً رصفًا في ذهنه، بل تجمع بينها وشائج تُؤدّي إلى تفاعلها، وإلى استفادة كلّ تخصّص من الآخَر، حسبما تقتضيه أُصول تنوّع الاختصاص (pluridisciplinarité). فقد رأينا في الفلسفة اعتناءه بالفكر الفلسفي الحديث، وتشديده على الاتّجاه الإصلاحي دينًا واجتماعًا وسياسةً، وعلى الجدليّة بين الدين والعقل والعِلم، ومقامَ المرأة في ذلك كلّه. فإذا انتقلنا إلى الدراسات الإسلاميّة وَجَدنا الإصلاح ووجدنا ما هو في الإسلام أقرب إلى الممارسة والاجتماع أي الأمور العمليّة، ومن شأن النظرة الفلسفيّة تأمين المعالجة العميقة لهذه الحقول. وإذا يمّمنا وجهنا شطر التربية، وجدنا الفلسفة التربويّة، والقضايا التربويّة الكبرى المتّصلةَ بالمجتمع، ودور المرأة في هذه الحقول، ومن شأن النظرة الفلسفيّة تأمين البُعد النقدي لهذه الدراسات فضلاً عن غيره من الأبعاد.

وما وراء تنوّع الاختصاص نلاحظ بسهولةٍ سَعَة ثقافة الرجل، فهو يتجاوز المجالات التي حدّدناها، ليخوض مَعَك في شؤون اللغات القديمة، وشجون العربيّة وآدابها نثرًا وشِعرًا، وما يتّصل بذلك من أحداثٍ تاريخيّة. وهو يُطعِّم معارفه تلك بما خَبَرَه من الحياة.

وقد نتساءل : كيف تمكّن الدكتور إفرام البعلبكي من مُماشاة التطوّر في الميادين المذكورة على اختلافها، ومن الإشراف على رسائل وأطاريح على ذلك القَدْر من التنوّع؟

فيحضُرني الآن قولٌ قديم ما أحرانا اليوم باعتماده، أرى أنّ الدكتور إفرام البعلبكي عَمِلَ بِمَغزاه : فقد "كان يُقال : لا يزال المرء عالِمًا ما طَلَبَ العِلم؛ فإذا ظنَّ أن قَد عَلِم فقد جَهِل"[2]. نعم، إنّ عهدي بالمحتَفَى به البحث المتواصل، والتعلُّم المستمرّ، فما زال طلبُ العِلم دأبَه ودَيْدنَه على مرِّ الأيّام.

وقد مُورِسَ ما تَقدَّم من تنوُّع اختصاصٍ، وسَعَة ثقافةٍ، وتَواصُل اطِّلاع، في جوٍّ رَحب الأُفق، منفتحٍ على الآخَر. فقد طَبَعه ما نُشِّىء عليه في جامعة سَلَمَنقة, وما تَناوَله في أُطروحته، وما عَمِل له هُناك، بطابَعٍ حِواريّ خاصّ، فإذا به يَعِيش في الحِوار عَيشًا، مع زملائه، وطَلَبته، وفي أنشِطته الأكاديميّة. فهو يُقبل على الآخَر إقبالاً، ويَحترمه على ما هو عليه، لأنّ اختلاف الآخَر عنه هو إغناءٌ له. فهذا هو حِوار الحياة، وحوار المُمارَسة، لا حِوار اللسان والتكاذُب. وحَسْبي للتدليل على ذلك أن أرسُم لكم الحدود المكانيّة الرَّحبة التي يَتحرَّك فيها طلبته انتِماءً، وبحثًا : فلا عَجَب أن يأتي لبنان في المرتبة الأُولى بعاصمته بيروت، ومناطقه كإقليم الخرُّوب، وصيدا، وجبل عامِل، وسائر الجنوب اللبناني، وغير ذلك. ولكن تَمتدّ أمامنا مجموعةٌ كبيرة من الدول العربيّة كالأُردن، وفلسطين بضفّتها الغربيّة، فبلدان الخليج، ومنها الكويت، وقَطَر، والبحرَين، وعُمان، والإمارات العربيّة المتّحدة (دُبيّ والشّارِقة خصوصًا). وهل غير الحِوار يُمكنه أن يُحسِن الجمع بين ابن كسروان وهؤلاء الطلبة الذين تنوّعت بلدانهم وانتِماءاتهم؟

وأَخذ الدكتور إفرام البعلبكي على عاتقه تنشئة هؤلاء الطلبة تنشئة جامعيّة متكاملة. فتحصيل المعارف والشهادات أمرٌ مُهمّ، ولكنّ الأهمّ منه تنشئة الطلبة على أخلاقيّات العِلم، من موضوعيّة، ومنهج، وحِسّ نقديّ. فبصبرٍ وأناة نراه يَبذل قُصارى جُهده لِيزرع في نفوسهم هذه القِيم العِلميّة، ولِيَجعلهم يُدركون أنّ الشكّ طريق اليَقين. فكأنّي به ذاك  المُشتغل بالحديث، إذ قال له بعضهم مُتعجِّبًا : "ما أكثرَ شكَّك! فقال : مُحاماةً عن اليًقين"[3]؛ أو مَن سَأل أحد العُلماء عن حديث، فقال العالِم : "أشُكّ فيه"؛ فقال السّائل : "شَكُّكَ أحبُّ إليّ من يَقيني"[4]. وإذا تَأمّلنا الرسائل والأطاريح التي أشرف عليها وجدنا بعض العِبارات تَتواتَر في عناوينها، وهي تَنُمّ من هذا القَبيل، على اتِّجاهات مَن أشرَف عليها؛ ومن هذه العِبارات : "مَنهج" و"منهجيّة"، و" نَقد " و"تَقويم"، و"عَقْل"، و"عقْلَنة"، و"عَقلانيّة". فهكذا يَتَكشَّف لنا المُرَبِّي الذي يُقوِّم الذهن، إلى جانب الأستاذ الجامعيّ السّاهِر على البَحث وأُصوله.

وهل من حاجةٍ بعدُ إلى أن أُضيف ما عَهِدتُه في الدكتور إفرام البعلبكي أيضًا من انضباطٍ وجُهوزيّة، وإخلاصٍ وتَفانٍ، وهي صفات أكسَبته ثِقة زملائه وطلبته، وجَعلته خير سَنَدٍ ومُعتَمَد؟

سيّداتي سادتي،

عزيزي إفرام،

لا أَظنّ أنّ الحركة الثقافيّة - إنطلياس تُكَرِّم اليوم أستاذًا جامِعيًّا لِمجرّد امتهانه التدريس الجامعي، أو لإشرافه على عَدَدٍ كبير من الرسائل والأطاريح. فليس ذلك مَدعاةً إلى التكريم في أغلب الحالات.

فما يُكَرَّم اليوم في الدكتور إفرام البعلبكي  هو ابن كفرذبيان، الذي سافَر إلى سَلَمَنقة طَلَبًا لِلعِلم، وبحثًا عن الآخَر، وعاد إلى لبنان وإلى مُحيطه العربي، بعدما وَجَد الآخَر وعَرَف كيف يُحاوَره، وبعدما تَشرَّب من العِلم النافع وقِيَمه ما تَشرَّب.

وما يُكَرَّم اليوم فيه هو هذا الرجل الواسع الثقافة، المُتنوِّع الاختِصاص، المُثابِر على البحث والتحصيل.

وما يُكَرَّم اليوم فيه هو هذا المُتَعبِّد في مِحراب المعرفة، الذي نشَّأ ورَبّى أجيالاً من الباحثين يَخدِمون وطنهم لبنان، وأوطانهم في العالَم العربي.

عزيزي إفرام،

عَرَفْتَني كثير التحفُّظ، قليل الثناء. وأنت تُدرِك أكثر من سِواك أنّ اللوحة التي حاوَلتُ رسمها اليوم لِمُقوِّمات شخصيّتك العِلميّة، لم تأتِ من باب المُجاملة، فكلّ كلمة فيها قابِلةٌ لِلتَّوثيق، ولِلإحالة على مَظانّها.

تَكريمُك يا إفرام، هو تكريم لِلثقافة والعِلم في لبنان، وتكريم لِزملائك الذين أحبّوك وعَرَفوا قَدْرك، ولِطلبتك المُنتشرين في أرض اللـه الواسِعة، بعدما زوَّدتَهم زادًا لا يأسِن ولا يَنفَد على مَدى الحياة.

د.إفرام البعلبكي   

                                كلمة شكر في يوم تكريم المعلّم

 

يوم تخرّجتُ، منذ إحدى وأربعين سنة، كانت تحيط بي لجنة عجنتها الفلسفات حتى كأنّ أفرادها أشباح من الفكر الخالص، تحاصر دماغك وأنت منهمك في الدفاع عن طروحاتك وعمّا تدّعيه من عبقريّة باهتة أوصلتك إليها الكتب التي ابتلعتها، والمؤتمرات التي شاركت فيها، والوثائق العفنه التي سدّت رائحتها نصف رئتيك، وقد سبقها إلى سدّ النصف الثاني الدخان الذي أحرقته في ليالي السهر فوق كتاب أو وثيقة.

 

 أمّا اليوم، وأنا أتخرّج معلما، فتحدق بي كوكبة من الأدباء والمفكّرين والباحثين المثقّفين بعقول نيّرة وقلوب نابضة، لا لتحاصر دماغي بساديّة متعالية، بل لتشهد أمامكم، بفيض من السماح  والمحبّة، على أني معلّم. وأنا إذا طلب إليّ أن أفاضل بين تخرّجي الأوّل بشهادة دكتور، وتخرّجي اليوم معلّما، أفضّل تخرّجي هذا الثاني, ذاك لأن الأول تصل إليه، ببعض السهر والصبر، عن طريق الكتب، وفلسفات الأموات وأرائهم، وبشروح الدكاترة وتوجيهاتهم في جامعة. أما أن يُجمع قومُك على تكريمك معلّما فدرجة لا توصلك إليها الكتب والجامعات، بل عيون تلاميذك وطلاّبك في أوسع مدرسة، مدرسة الممارسة اليوميّة، تتقلّب فيها مع أوجهها الجميلة والبشعة، لتتخرّج معلما من جامعة الحياة المتحوّلة بين يديك، وعلى مسؤوليّتك، من الطفولة إلى المراهقة فالبلوغ، كأنّك شريك الله والأمومة في عمليّة الخلق المستدامة.

 

في التخرّج الأوّل يشهدون لك على أنكّ بلغت مستوى راقيا من الأخذ، أمّا في التخرّج الثاني فيشهدون لك على أنّك بلغت مستوى راقيا من العطاء، وشتان ما بين الفراغ الذي يسعى بالأخذ إلى الامتلاء، والامتلاء الذي يفيض بالطبع عطاء. فهل كنتُ فعلا، في التخرّجين، على المستوى الذي تشهدون لي به؟

 

  أن تكون معلّما يعني أن لا تحتكر شيئا لنفسك، وأن تعتبر الفشل والنجاح والحزن والفرح والبؤس والسعادة حتى الألم ملكا مشاعا، وأن تكون وحيا لمريديك فيحيون كما تشاء الحياة لا كما تريدهم أنت أن يحيوا. أن تكون معلّما يعني أن تتأثّر خطى الأنبياء فتشهد وتبلّغ ويشهد الله على أنّك بلّغت. فهل كنتُ فعلا هذا المعلّم؟

 

 لست أتواضع، ولكنني أتهيّب أمام المشهد بواقعه الصريح. وأراني عاجزا عن شكر الذين دعوا إلى هذا التكريم وشاركوا، بشكل أو بآخر، في إنجازه، فأشكر الصديق البروفسور أهيف سنّو الذي بالرغم من كثرة انشغاله في إدارة معهد الآداب الشرقية في جامعة القدّيس يوسف، تفرّغ ليلقي هذا الكلمة التي فيها من نبله ومن حسن ظنّه بي ما ينمّ على كبر في نفسه وطيبة في معدنه.

 

ثم أشكر الطالبة السيّدة الكريمة جُهينة المشرّفيّة التي رغبت في أن تقول كلمة تعكس بعض ما تراه فئة من طلاّبي في أستاذهم فقالت، مشكورة، الكثير مما يريدون أن أكون عليه، وسأفعل.   

        أما الحركة الثقافية في أنطلياس، فقد تجرّأت وفعلتها كما دائما، فعلتها وفكّّت الحصار الأسود عن العقل اللبناني، وانطلقت تزرع الحياة  في البوار، متحدّية بشاعة يوميّاتنا القبليّة بانفتاح على الجمال الثقف، ومجابهة الدمار الذي تخلّفه الألسنة الخشبية عن منابر الشتم،  بالشاهق من بنائنا الإبداعي الملّون. ولست أظن أن كلمة الشكر تكفي لتفي حق القيّمين على هذه الحركة الثقافيّة حقّهم، وتعترف لهم بضخامة ما يقدّمونه من عطاء ناضج في زمن القحط ودلع اللسان، وقبول الذلّ والبشاعة.

 


 *  نائب رئيس جامعة القدّيس يُوسف للدراسات العربيّة والإسلاميّة؛ مدير معهد الآداب الشرقيّة؛ مدير المعهد العالي لإعداد الدكتوراه في عُلوم الإنسان والمجتمع.

(1) المُنذري، الترغيب والترهيب، ضبَط أحاديثه وعلّق عليه مصطفى محمّد عَمارة، الطبعة الثالثة، القاهرة، مصطفى البابي الحَلَبي وأولاده، 1388/1968، 1/114.

(2) ابن قُتيبة، عيون الأخبار، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1418/1998، 2/134. وقد وردَ على أنّه حديثٌ نبوي، عند ابن عبد ربّه، العِقد الفريد، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الإبياري، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1375/1956، 2/209.

(3) ابن عبد ربّه، العِقد الفريد، 2/216.  

(4) م.ن.، 2/217.