كلمة الأمين العام للحركة الثقافية - انطلياس

 الدكتور أنطوان سيف

في افتتاح "المهرجان اللبناني للكتاب، التاسع والعشرين"

السبت 6 آذار 2010

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

images/bookfair2010/DSC_6458web.jpg

 

        في واحدة من  دلالاته البعيدة، يُرخي المتشابه الظاهر في دورات التقاويم والروزنامات وتعاقب الفصول والسنوات، وعياً متوهماً تصوغه بالعمق الخشية من التبدُّل، فالاندثار والزوال. عند ذاك تقف الانجازات، التي تُحاك بصفة الجمع المتآزر، وحدها شاهداً تاريخياً، لا على طمر آثار الجهد والمعاناة التي بذلناها معاً، بل على ترجمتها النهائية إلى لغة الفرح والاعتزاز المفارقة. انها غلال نبتدعها ونحتمي بها من عاتيات العبث، غالبيّتها يعصى إدراكه على العيون الحطبيّة، إلاّ أن نهره الداخلي العميق الغور نأمل له مخاواةً لطموحاتنا باتجاه وطن اكثر عدلاً وحرية منفتح بشجاعة وغبطة على ذاته وعلى المدى الإنساني الأرحب. حصيلتها هذه السنة وفيرة أيضاً، مكثّفة في فسحة ضيقة ومنيرة من الأيام القليلة الثرة التي تبدأ في هذه العشية وتنتهي في أول يوم من أيام الربيع المقبل.

        هذا "المهرجان اللبناني للكتاب"، وهو التاسع والعشرون تخطَّى بمحض المصادفة الطيبة مأزق سابقه في أنه، هذه المرّة، يقع لا مراء داخل سنة "بيروت عاصمة عالمية للكتاب"، بين يَومي الثالث والعشرين من نيسان الفائت (2009) والحالي (2010)، وهو على أيِّ حال واحد من أكبر التظاهرات الثقافية التي تجري حالياً على الأرض اللبنانية، وان كان يأتي في أعقاب أحد عشر شهراً منها كاحتفال كبير بنهايتها.

        لقد اهتمت حركتنا، كالعديد من هيئاتنا اللبنانية، المدنية والرسمية المعنيّة، بإبراز هذا الحدث الاستثنائي الذي استدعانا للتفرُّس في مرآة ذاتنا لشحذ الكثير من هممنا الراقدة والمستكينة، الذي نرجو ألاَّ يكون فرصة ثقافية وطنية وامضة وآيلة إلى الارتخاء، بغية تأكيد صحّة حضورنا المركزي والدائم في سياق حضارة الكتاب الذي كانت بيروت، ولا زالت، عاصمة مطبعته العربيّة التي أدخلت ثقافتنا، كما فعلت سابقاً عند سوانا من المجتمعات، في حقبة الحداثة العالمية.

لقد قدّمنا لهذه المناسبة أنشطة ثقافية وطنية بامتياز، إنسانية الرؤى، شمولية تطمح إلى العالمية بمعرفتها أن ذلك لا يتحقق بالفعل إلاّ بالعبور الضروري من صدق تعاملها مع محليّتها ونصاع حقيقتها البلدية.

        وقدمنا لها كتابين، قيّمين في المضمون ومتميّزَي الأناقة في الشكل. الأوّل في بداية هذه السنة العالمية وكافتتاح لها، بعنوان، "بيروت عاصمة الطباعة العربية ورائدة النهضة الحديثة" (آذار 2009)؛ والثاني في أواخر هذه السنة صدر بعنوان: "بيروت رائدة الحريات في الشرق"؛

كتابان هما حصاد عمل جماعي في مؤتمرين منفصلين عقدناهما في مقر حركتنا هنا في انطلياس، شارك فيهما سبعون باحثاً من لبنان والخارج، أحاطوا بمعنى عاصمتنا التي سمّاها الشاعر العربي، غير اللبناني، "ستّ الدنيا"، منوّهاً، وليس من غير حرقة على ما آلت إليه المدينة من دمار بموقعها المميّز في الحياة العربية عموماً والثقافية خصوصاً، وفي العالم.

        وها نحن نضيف إلى هذين الانجازين هذا المهرجان الذي يقف على مشارف عقده الرابع ضاماً حوالي المائة من الأدباء والعلماء والباحثين والفنانين منخرطين في خمسة وثلاثين لقاءً ثقافياً، وأكثر من خمسين مؤلّفٍ يوقعون في احتفالات متفرقة في رحاب المعرض مؤلفاتهم الصادرة حديثاً. غير ناسين بأن ثمة "حضوراً" آخر للمؤلفين والمؤلفات الجديدة منها أيضاً يستأثر فعلاً بكامل المعرض.

        المحاور الكبرى لهذا اللقاء الثقافي الواسع باتت أبواباً ثابتة في معرضنا، ومنه انطلقت كنماذج تُحتذى لتشمل معارض كثيرة أخرى:

الأول: تكريم "اعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي". وفي معيتنا هذه السنة علَمان ثقافيان كبيران هما العلاّمة الأستاذ شحادة الخوري من سوريا، رئيس اتحاد المترجمين العرب ، والمفكر الفيلسوف الدكتور فتحي التريكي من تونس. وأعلام آخرون من لبنان هم الاستاذ محمد السماك، والاستاذ جورج جرداق، والدكتور بشاره صارجي، والدكتور شفيق المصري، والدكتور فؤاد سامي حداد، والأستاذ برج فازليان، والأستاذ حسن جوني، والسيدة نينا جيدجيان.

الثاني: إبراز بعض الإصدارات الجديدة لدور النشر اللبنانية التي تعالج مسائل وطنية راهنة كتهديد الأمن، والعبث بالبيئة الطبيعية وإهدار طاقاتها... وغيرها من الموضوعات العامة...

والثالث: توفير مناسبات للقاء القرّاء بالمؤلفين في احتفالات التوقيع خصوصاً، أو في رحاب المعرض.

والرابع: إفراد مساحة ثابتة فيه للتلاميذ والأحداث، وذلك بتنظيم أنشطة خاصة بهم، صباحية، تجمع معاً الحث على المعرفة وطلب العلم، والترفيه...

والخامس: إصدار سنوي ثابت لمنشورات هامة، في هذه المناسبة، منها: كتاب "المهرجان السنوي" الذي يضم البرنامج الحالي للمهرجان، ولكنه يضم بخاصة أنشطة الحركة الثقافية - انطلياس كاملةً للسنة المنصرمة. وهو على الحقيقة ذاكرة الحركة الثقافية وأرشيفها، وذاكرة قسم هام من ثقافتنا العربية الحديثة في مجلّد من حوالي سبعماية صفحة؛

وإصدار الكتاب الخاص "بأعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي" الرعيل الخامس والعشرون؛ وقد بات موسوعة مفصلة نادرة عن هؤلاء الاعلام على مدى ربع قرن.

وينضمّ إلى هذين الإصدارين كتاب خاص بالعلاّمة اللبناني الكبير الراحل توفيق فهد الذي قدّم أغنى الأبحاث حول التاريخ الحضاري للشرق، ونشر في "الموسوعة الإسلامية"، وهو المسيحي، أكثر من سبعين بحثاً علمياً، وذلك في ظاهرة لا مثيل لها لدى أي باحث آخر في هذه الموسوعة العريقة.

        هذه الإصدارات جميعها توزعها حركتنا بلا مقابل على المهتمين أفراداً وهيئات...

والسادس: هو أنه لقاء شعبي واسع حول الثقافة، وحول رمز هو الأسطع من رموزها والدائم والمتجدّد الذي هو الكتاب: لقاء يندرج، شأنه في ذلك ما كانه في الأساس أيام الحروب المشؤومة وضدّها، يرسم نموذجاً لكل لقاء وطني يتجاوز الفئويات والانتماءات المتقوقعة، ليؤكد أن التعدد والتنوع في الوحدة والمساواة الإنسانية هو اسم آخر لحريتنا، وواحدٌ من الحرّاس المجهولين لديمقراطيتنا المنشودة، وتحدياً لكل دعوات الشرذمة والتفتيت والآفاق المغلقة.

        هذه الطموحات الكبرى لن تحملنا الى أوهام حول قدراتنا، ولا إلى إغفال وقائعنا المترهِّلة والمتراجعة في لبنان والعالم العربي التي تذكِّرنا بها كل يوم الاعتداءات الإسرائيلية، وانتهاكات امننا وحريّتنا، والتطاول على دولة القانون بالتسلّط الفئوي والفساد والتبعثر والتناحر الطائفي. ولا ننجرّ في هذا المقام إلى التبحُّر في ملفات تقارير التنمية العربية التي نبهتنا بالأرقام عن مدى تخلُّفنا، ولا إلى النسَب المئوية المرعبة للأميّة العربية التي يقف الكتاب، كتابنا الأعزل والمتقلّص الانتشار، في مواجهتها؛ أو لتلك الأمية المموَّهة التي تزيدها الأرقام والنسب تفاقماً، وهي "الأمية الأكاديمية" التي تترجَم بتراجع القراءة، وبالتالي تقهقر الطبع والنشر الى مستويات حضيضية مخيفة، كما تظهر أيضاً في الصعيد المعيشي الاجتماعي، وفي استشراء البطالة، أو تفشِّي الأعمال غير المتخصصة وغير الإنتاجية لملايين من القوى الشبابية. واسم هذه الظاهرة الخطيرة كلمة واحدة هي: التخلّف. وأسبابه المباشرة تكمن في انعدام الرؤى السياسية على مستوى السلطات الحاكمة، والاسترسال في تنفيذ مآرب فئوية قاصرة، وفرض الهيمنة والتسلّط، واستبعاد الديمقراطية والمشاركة الحرّة الواسعة للمجتمع المدني في مجالات الشأن العام.

        حسبنا أننا، باحتفالنا العلني بالثقافة ومختلف دلائلها ومواكبها، نهزّ وجداننا، ونفتح نوافذ لوعينا على وقائعنا المؤلمة والواعدة على حد سواء.

        وعن سؤال: ما الذي تقوم به هيئة ثقافية كحركتنا بتنظيمها سنوياً هذه التظاهرة الثقافية الكبرى تحت اسم "المهرجان اللبناني للكتاب"؟ وما تُرانا فاعلون على الحقيقة خلال هذه المهمة التي نمارسها تبرُّعاً وترسلاً على مدى العام؟

        أَستلّ ملامح إجابة من كلام للمفكّر اللبناني علي حرب قاله من على هذا المنبر بالذات عندما كرّمناه كعلم ثقافي في مهرجاننا السنة الماضية. كلام على حقيقة دور المثقفين عموماً في مجتمعاتهم وكأنّه يقصد "حركتنا" بالذات، يقول:

"نحن لسنا صفوة البشر وعقولَهم الباسقة. وانما نحن وسطاء في المجال العمومي، نسهم عبر أفكارنا ومواقفنا بخلق وسط للمحاورة والمداولة والمفاوضة، سواء بتحريك الأفكار أو إطلاق السجالات، أو تحليل الظاهرات، أو تسليط الضوء على المشكلات. وهذا معنى الوسطية، من وجهة فلسفية، استخدام الناس التوسطات في ادارة علاقاتهم واختلافاتهم، باستثمار الامكانات التواصلية للغة والمسوّغات المفهومية للمحاججة العقلانية. فمن غير وسط أو وسيط أو وسائط وتوسُّطات. تسود الحكومات الديكتاتورية والأنظمة الشمولية والحركات الجماهيرية الشعبوية".

        أيها الحفل الكريم،

        في آخر هذه الوقفة، يهم حركتنا بالشكر والتقدير لكل الذين اسهموا، بوسائل مختلفة، في جعل هذا المهرجان قائماُ ومطّرد النجاح سنة بعد سنة وعلى رأسهم فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الذي يؤكد في الآن ذاته رعاية كريمة لمهرجاننا من رئاسة الجمهورية منذ تأسيسه قبل تسعة وعشرين سنة،

ولوزارة الثقافة ممثلة بشخص الوزير الاستاذ سليم ورده التي تعاونا لإنجاح سنة "بيروت عاصمة عالمية للكتاب" في ثلاثة أنشطة بارزة نعتزّ بتميّزها، وهي: اصدار كتاب "بيروت عاصمة الطباعة العربية"، وتنظيم مؤتمر "بيروت رائدة الحريات في الشرق" واصدار كتاب اعماله كاملةً، وهذا المهرجان الذي يحمل عنوان "دورة بيروت عاصمة عالمية للكتاب"،

وللرهبانية الانطونية خاصِّين دير مار الياس انطلياس رئيساً ورهباناً،

ولبلدية انطلياس رئيساً ومجلساً وشرطة وموظفين عاملين فيها،

ولدور النشر العارضة ومكتباتها ومطابعها وكل العاملين فيها، لبنانية وسواها،

والى المؤلفين المبدعين المسؤولين الأساسيين عن مضمون الكتاب وعن جعله اداة معرفية حضارية هي رهاننا الأساس على ولوج روح عصرنا وحداثته ومستقبلنا المنشود، في ظل تحدِّيات التهديدات الاسرائيلية المتمادية، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تجتاح عالمنا، وفي ظل وهننا الذاتي المزمن.

        وشكر للمؤسسات الرسمية من جيش وقوى أمن داخلي وامن عام،

ولبنك عوده الذي يدعم مهرجاننا منذ سنوات،

وللاعلام الحر وأهله، المقروء منه والمرئي والمسموع، الذي يحملون رسائلنا مشكورين الى متّسع رحب، في لبنان وفي العالم.

منوهاً بموظفي "الحركة الثقافية"، وبجهد أعضائها مع أصدقائهم وتآزرهم الذي يستمر سنة بكاملها إعداداً لهذا المهرجان الذي يثبت تكراراً على كونه من اكبر التظاهرات الثقافية التي يشهدها لبنان كل عام ولكل العمّال، في هذا المعرض، آملين ان يبقى، كما نقول دوماً، مناسبة مكثفة لا تني تذكّر بالدور الأساسي للثقافة المبدعة الملتزمة ببناء الانسان والوطن بالحوار العقلاني المنفتح المتكامل مع الآخر المختلف ان داخل الوطن ام خارجه ويؤسس سلامنا الأهلي على قواعد صلبة عاتية على التصدّع، ويعزز نظامنا الديمقراطي العلماني، ويقضي على محاولات استغلاله والالتفاف عليه بالتسلّط الفئوي والطائفي وبالفساد والعنف والتفجيرات المشبوهة أيضاً! مؤكدا على دور لبنان في إرساء ثقافة عربية متجددة هي على جدول أعمالنا وطموحاتنا باستمرار.

        أيها الحفل الكريم،

        أصدقاء الكتاب، أصدقاء الحركة الثقافية - انطلياس، وهما في هذا المقام سيّان.

في رحاب هذا المكان، وعلى بعد امتار قليلة من هنا، كنيسة قديمة لمار الياس شهدت منذ مئة وسبعين سنة لقاءً تاريخياً بات مشهوراً باسم عاميّة انطلياس، أو عاميّة 1840، التي اعطتنا عبرة ثمينة  في تجاوز الفئويات القاتلة والهويات المتلاغية للارتقاء الى الوطن الموحّد، وطنِ الاستقلال والمساواة والعدالة الاجتماعية والأمن هو الاطار الصحي لآمالنا وتطلُّعاتنا المستقبلية الكبرى، وطنِ الثقافة الحرّة والمحرِّرة.    

                                                                         

                                                                          أنطوان سيف

                                                                         الأميـن العــام