نظّمت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس" ندوة حول كتاب الدكتور شربل داغر "الشعر العربي الحديث"، منشورات منتدى المعارف، شارك فيها كل من الدكتور أنطوان أبو زيد والدكتور محمود حداد والدكتور جورج طراد وأدارتها الدكتورة نايلة أبي نادر.

         اعتبرتالدكتورة "نايلة أبي نادر" أنّ الرغبة بالقصيدة أشعلت كيانَ الدكتور "شربل داغر"بنار لا تخلّف رماداً بل شغفاً لا يُطفئه ضجر، وإبداعاً لا يؤطّره نسق، وتحليقاً لا يحدّه أفق. القصيدة محركٌ قائمٌ بذاته، لها أن تقوم بما يحلو لها. تقوده إما الى كتابتها، أو الى البحث فيها والتنظير في كيفية انبثاقها. من الصعب أن نجد له مجموعة شعرية خالية من الكلام على القصيدة وفيها. إنها المحور. إنها "جسده الثاني"، تقوله، تفضحه، تبوح بعطر أنفاسه، هي التي تكتبه، إنها الفاعل، وهو المتلقّي. وإذا توقفتَ عند نصه، لا تعثر على بصماته فحسب. فالبصمات آثارٌ يُستدلّ بها على غياب صاحبها. "شربل داغر" مقيمٌ في نصه، أشعراً كان أم نثراً هل هذا الرجل "يعيش لكي يكتب؟ أو يكتب لكي يعيش؟" نادراً ما ينصهر فِعلا العيش والكتابة على هذا النحو يحطّ شربل داغر الرّحال بعد جهد سنين عند "الشعر العربي الحديث" في رحاب "القصيدة العصرية" تحديداً. إنشغل منذ فترة طويلة بالبحث فيها، في تكوّنها، في كيفية صدورها، في تبدّلاتها وما آلت اليه. همّه المعرفي قاده الى سبر أغوارِ ما كُتب شعراً في الزمن الحديث. وفضولُه المتأججُ جعلَه يمدّ اليد ليقطف ما يحلو للنظر من قصائد موقّعة بختم الإنتظار.إنتظار عيون لوّنتها شهوة اللقاء.

يشتغل باللغة وفيها.العربية مداه الرحب، ألفاظها أجنحة تقوده الى ما هو أبعد، تستنفِره لكي يعصُرَ تراكم السنين في كؤوس المعنى. اللغة بالنسبة اليه لا تُستعمل بل تُكتب. إنها مكان التجدّد والنتاج الدائم. اللغة والفكر والتاريخ، محاور ثلاثة تحرّك دراسته للشعر الحديث، ولمفهوم الحداثة على وجه الخصوص. تكمن نقطة ارتكاز كتابه في التوقف مليّاً عند دراسة فكرة "التبيئة" من خلال التثاقف، بين المجالين الغربي والعربي.

          وذكر الدكتور "أنطوان أبو زيد"، المتخصص في اللغة العربية وآدابها في جامعة القديس يوسف وفي كلية التربية في الجامعة اللبنانية،  ينطلق الباحث في رحلته البحثية من البدء أي مع تكوين الحداثة في الخطاب العربي. فنراه يقلّب الكلمة على أوجه عدّة ، صرفية دلالية، ذات صلة بحاصل التقدّم الذي أحرزه العرب، مطلع القرن التاسع عشر ، وما تلاه . فيوقن بأنّ الحداثة لدى العرب تعيّنت واقعا بفضل اتّصالهم بالغرب – غرب ما بعد الثورة الفرنسية – علما وتقنية وبنيانا لمؤسسات الدولة ، ومصطلحات نقدية و أدبية وغيرها مما عمل الموفدون في البعثات العلمية ، منذ محمد علي، على ترجمة تقريبية وغير منتهية . ولا يكتفي الباحث بالتعيين المعجمي والمرجعي الأوّل للفظة الحداثة ، وإنّما نراه ينقّب في التّراث النقدي الغربي نفسه عن محصول الحداثة ؛ فينتهي ثانية ، الى أنّ الحداثة لدى العرب، تنطلق من معطى أوروبي في التعيين ، ولا يكاد ينتهي من هذا الإثبات إلاّ بإشباع مرجعيّ. ويكتشف الباحث ، بعد تفحّصه الإطار البيئي الذي اغرس فيه مصطلح الحداثة، مدى هشاشة مرجعية هذه الأحكام النقدية، وضآلة صدقيتها، استنادا الى المدوّنة المستقرأة . فعلى سبيل المثال ، لدى مقارنة الباحث بين بدايات الحداثة الشعرية ، وحصرها بشاعرين هما: بدر شاكر السيّاب ، ونازك الملائكة، وبين المدوّنة الشعرية الغنية التي سبقت هذه المرحلة، يتبيّن له أنّ شعراء كثر سبقوا المذكورين بأربع أو خمس سنوات. ويتّضح له ، من ثمّ ، أنّ الحداثة الشعرية تعود الى أوائل القرن العشرين ، مع محاولات أمين الريحاني (1907) النثرية الشعرية . وعندئذ فقط ، تتكشّف للباحث إشكالية واضحة بشقّين : وهي أنّ النقد العربي التقليدي كان الى حينه يحصر الحداثة الشعرية باثنين ويجزم، في الآن نفسه، بربط الحداثة هذه ببروز الدولة ونموّ حركات التحرّر والاستقلال في العالم العربي. أما التصدّي لهذه الإشكالية فقد بذل الباحث جهده الأكبر لمعالجتها ؛ وأوّل السبيل الى ذلك مقاربة فذّة عمادها البيئة الحضارية –المدنية التي استولدت الشعر العربي الحديث أو غيره. ولا يكتفي الباحث بالكشف عن ركني المثلّث (المجتمع العصري + الشاعر العصري )، وإنما نراه وعلى مدار أكثر من مئتي صفحة من المجلّد ، يقدّم الدليل تلو الدليل ، على أنّ القصيدة العصرية ، وليدة المجتمع والشاعر العصريين ، هي كيان شعري حديث ، استحقّ تسميته لفض اتّساق وبنية تأليفية ،غريبين تماما عن الاتّباعية ، ولا يمتّان بصلة الى تراث الأقدمين. أخرج لنا الباحث الدكتور "شربل داغر"، من مدوّنات المجتمع المدني والتأريخ والشعر والنقد ،مصطلحا نقديا من متاهة الإغفال والإهمال ، وهو "الشعر العصري ". فبات سطوعه ،على يديه ، بعد تمويته ما يقارب المئة وثلاثين عاما ، دليلا صارخا على أنّ النقد الموضوعيّ والجادّ لا بدّ صانع الحدّ بين العلم والبروباغندا العصرية.

         وقدّم الدكتور محمود حداد، المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا، مقاربة تاريخية للنهضة العربية الشعرية التي هي موضوع كتاب "داغر". فتناول نظرات مختلفة حول التيارات التي ساهمت في ولوجنا إلى العصر الحديث أو عصر النهضة ولو جزئيًا. ويختلف المؤرخون حول تاريخ بداية هذا العصر إلا أنّ هناك شبه اجماع بأن الحملة الفرنسية على مصر أيقظت العرب على ضرورة الخروج من "الاكتفاء الذاتي". وذكر الدكتور "محمود" أنّ الدكتور "داغر" قام بإعطاء لمحة سريعة عن بعض هذه التطورات في مقدمة كتابه الذي يختص "بالشعر العربي الحديث". فتحت مرحلة الحداثة أبوابها الأفكار والأساليب الغربية الحديثة أمامنا وامام الأجيال التي سبقتنا إلا أنّها كانت تشكو من ازدواجية أفكار التنوير وواقع الهيمنة الاستراتيجية السياسية والعسكرية الغربية. واستوطن الفكر التحديثي العربي في البداية مصر وبلاد الشام أو القاهرة وبيروت وظلّ محور القاهرة-بيروت الثقافي هو الفاعل الرئيس الذي رفد باقي المحاور الثقافية العربية. وساهمت عملية الطباعة والنشر في محو الأمية وانقسمت إلى 3 أقسام: الأول ترجمة الأعمال العلمية والأدبية الأوروبية التعليمية وغير التعليمية وترجمتها، والثاني اهتمّ بتبسيط نشر الثقافة الدينية وخاصة بالنسبة لاصدار ترجمات عربية ميسرة للكتاب المقدس بدفع من المبشرين الأجانب، والثالث اهتمّ بنشر المخطوطات العربية في كتب وإعادة احيائها مثل مقدمة ابن خلدون وألف ليلة... ومن موقعه كأستاذ تاريخ، انتقد كل المنشورات التي تتحدّث عن فشل الحداثة العربية أو عن ركاكيتها، كأنّ المجتمع مستقل تمامًا عن بنيته الاقتصادية والسياسية. فإن نود مقارنة انفسنا مع أوروبا ثقافيًا فعلينا معرفة أنّ التطور الحداثوي الأوروبي قد قام على تطور حداثوي أيضًا في البنية السياسية الاجتماعية.

        أمّا أستاذ الأدب العربي في الجامعة اللبنانية الدكتور جورج طراد فرأى أنّ الكاتب ينطلق من ثقافة تراثية راسخة. وتتحاور تلك الخلفية التراثية مع ثقافة منفتحة ومستعدة للقبول والرفض بعد التجريب والانتقاء. فيأتي كتابه مترامي الأطراف والثقافات والأضواء التي تدور حول محورية الحداثة والعصرنة في الشعر وتسعى إلى اختراقها وامتلاك أجزاء منها بغية التأسيس عليها. ويتميّز بأنه يعالج الموضوع من خلال تأملات شخصية ومتابعات حيادية. وتكمن صعوبة قراءة هذا البحث المتشابك المتداخل المتوالد في كونه غير بسيط في جدليته الداخلية. فقد يستعصي على كثيرين إدراك واقع الالتباسات بين الحديث والجديد والحر أو استيعاب دلالات "احتياج الشعر إلى النثر" وانعكاس ذلك على اتساق مستوى الشعرية. ويطرح في كتابه تساؤلات كثيرة وكل تساؤل مقدّمة أو دعوة إلى إعادة التأمل في الأصول والجذور وفي أبجدية الفكر. وختم مقتبسًا عن مقدّمة الكتاب" مهمة كتابة تاريخ شعري واحد أو جامع اشكالية في حد ذاتها"، وليس المطروح مقاربة مدرسية كتبية شاملة مانعة وإنما طرح الآفاق التي يمكن السباحة فيها، كل بأدواته الذاتية وبمهاراته.

أجاب الدكتور "شربل داغر" على أسئلة المتحدثين مشيرًا إلى أنه بدأ كتابة بحثه منذ العام 1995 ولم ينته منه إلا في العام المنصرم، بعد أن كان عليه أن ينقّب عن مرحلة شعرية مغمورة بل مغيبة (1860-1910) من الشعر العربي على الرغم من كونها فاتحة التغيير في الأدب كما في الثقافة. واستعرض في ردوده لحظة الخروج من البلاط إلى المواطن كأفق للشعر، مشدّدًا على أنّ الشعر العصري فتح أبواب التجديد على مصراعيها، سواء في شكل القصيدة أو في أبنيتها العروضية والنحوية والدلالية. كما اعتبر "داغر" أنّ خروج القصيدة عنى في التاريخ نفسه خروج "العوام" إلى الشارع، ما يشكل لحظة أولى في السياق الحالي لخروج العرب اليوم إلى سياق التاريخ. وأكد على هاجس وعمل النهضويين في إطلاق الحريات، ونبّه إلا أنّ هذه الحرية ليست ممكنة إلا بالقدر الذي يستطيع فيه العربي بناء "شرعية" الدولة والمواطن.