يوم المرأة
تكريم السيدتين
ليندا مطر  - حسانة الداعوق
2007/3/8

 
يوم المرأة

كلمة المحامي هيكل درغام

        أيها الأصدقاء،

نحييكم ونرحب بكم جميعاً في هذا الاحتفال الذي اعتادت الحركة الثقافية - انطلياس ان تقيمه سنوياً في إطار المهرجان اللبناني للكتاب وتكرم كوكبة من أعلام الثقافة الذين من مواقعهم المتنوعة أنتجوا واغنوا الثقافة اللبنانية بمعناها الواسع الذي يشمل الجوانب الروحية والفكرية والقانونية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية...، التي تشكل مكمن الغنى والقوة في نسيج مجتمعنا اللبناني.

        اننا في هذا الزمن الصعب مع ما نبذله من جهد نحاول إنعاش الحس الحضاري وإحياء الثقافية لدعم مسيرة الوطن، وترسيخ قيم الإنسان فيه، وذلك من خلال شمولية النشاطات الثقافية المعتمدة في هذه الدورة، منها الاحتفال بيوم المرأة العالمي الذي من خلاله نوجه التحية الى المرأة اللبنانية والعربية والعالمية، ونتوقف عند الدور المييز الذي قامت به وأنجزته وأبدعته المرأة اللبنانية العادية بفضل شجاعتها وتصميمها ودورها التنموي الشامل  خاصة في مجال حقوق المرأة، والرعاية الاجتماعية والانجازات الكبرى التي تحققت في الحقول الصحية والاجتماعية والتربوية والثقافية والسياسية. والتي ساهمت في دفع عجلة إنماء المجتمع والتصدي لمجموعة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

في هذا  السياق يفهم إصرارنا لتكريم السيدتين ليندا مطر وحسانة الداعوق الرائدتين في مجال حقوق الإنسان والعمل الاجتماعي والثقافي الوطني.

السيدة ليندا مطر رئيسة المجلس النسائي اللبناني

انتخبتها مجلة ماري فرنس "واحدة من مئة سيدة يحركن العالم"،

اضطرت الى ترك المدرسة من سن مبكرة 12 سنة بسبب الظروف المادية للعائلة اشتغلت في معمل كلسات، ثم في مصنع للحرير، تابعت الدراسة في مدرسة ليلية، تعمل في النهار، وتتابع دروسها في الليل، تعرفت على لجنة حقوق المرأة في الخمسينات، شاركت في تأسيس العديد من الهيئات النسائية، عضو في قيادة الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، منسقة المركز الإقليمي العربي المنبثق عن الاتحاد، شاركت كخبيرة وباحثة في عدد من المؤتمرات التحضيرية لمؤتمر بكين، انتخبت رئيسة للمجلس النسائي اللبناني، ترشحت للانتخابات النيابية 96/2000 شعارها: "حق المرأة ان تمد يدها النظيفة الى العمل النزيه هو خير مثال للنضال".

مناضلة عصامية واعية شجاعة محبة احتلت موقعاً طليعياً بارزاً في حياة الإنسان في لبنان. حظيت باحترام اللبنانيين وتقديرهم لما تمثله من قيم وما تناضل في سبيله من مبادئ، استحقت عن جدارة شرف تمثيل المرأة اللبنانية - التزمت بقضية الإنسان بالتزامها قضية المرأة، جسدت القضية بسيرتها الذاتية التي عملت وناضلت من اجلها حتى أصبحت مثالاً يحتذى وقدوة لمن يرغب النضال والمعاندة لإحقاق الحق، ورفع القهر، والظلم واللامبالاة.

التحصيل العلمي بالنسبة اليها هو المشوار الأكبر الى المعرفة، هذه المعرفة حررتها وقربتها من جمال الحقيقة وأزالت من طريقها المصاعب والعقبات التي لم تثنها عن المثابرة في الكفاح بل زادتها قوة واصراراً على الاستمرار حتى أصبحت مدمنه على الكفاح. منذ اكثر من نصف قرن وإنسانية الإنسان تختصر العناوين في فكرها وأسلوبها ونمط حياتها وطريق عيشها...

الدكتور كمال حمدان هو ايضاً علم من أعلام الثقافة، والنضال يتمتع بطاقات، ومواهب ثقافية وعلمية، واسعة، أستاذ جامعي، رئيس قسم الاقتصاد في مؤسسة البحوث، والاستشارات في بيروت عمل في مهمات استشارية في العديد من المنظمات الدولية كالبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة UNDP، والبنك الدولي، واليونيسف، والاسكوا، ومنظمة العمل الدولية، أشرف على عشرات الدراسات الاقتصادية والمالية وسوق العمل، واقتصاد الأسرة، واقتصاد الصحة - له العديد من المؤلفات وهو يقدر السيدة المكرمة وسيقدمها ويطلعنا على سيرتها الذاتية الغنية جداً، الكلام له فليتفضل.

يوم المرأة

السيدة حسانة فتح الله الداعوق
 

شعارها الشخصي (ان يعمل الانسان لخدمة أخيه الانسان)

رائدة مميزة  في العمل الاجتماعي - حسانة فتح الداعوق امرأة من بلادي نشأت وتشبعت الثقافة   المقاصدية - والفرنسية (كوليج بوتستانت) وفي معهد الآداب العليا الفرنسة، درست تاريخ الفن الفرنسي والانكليزي في الجامعة الاميركية، تخصصت في العلاقات العامة في الجامعة الاميركية.

سنة 1946 أسست اول فرقة مرشدات كشاف الاسلام في لبنان. انتقلت الى قصر رئيس الوزراء عمر الداعوق بعد زواجها من ابنه حسن 1942. لها أربعة ابناء - جومانة - غالب - اسامة - ماهر، اشتركت بتأسيس لجنة مهرجانات بعلبك 1957 ومهرجانات عنجر 1973، انضمت الى جمعية الشابات المسيحيات، لجنة الكف الأخضر، الاهتمام بالطبيعة، عملت في الصليب الاحمر العالمي 1965 - 1991.

سنة 1970 ترأست جمعية العناية بالطفل والام وقامت بحركة تنموية وطنية فشيدت عام 1972 المركز الصحي (مستشفى - مستوصف - صيدلية - مختبر - طب اسنان - طب عيون).

سنة 1985 شيدت المركز الاجتماعي التربوي الذي يضم (دار الكرامة للمسلمين والمركز الثقافي والحضانة)

سنة 1990 أشرفت على بناء المركز التنموي للتدريب (حضانات أطفال - ممرضات - خياطة - حرفية ورياضة وكمبيوتر).

سنة 1993 ترأست الهيئة الوطنية ليوم الأسرة

سنة 1985 مثلت لبنان في الامم المتحدة

-       انتخبت عضواً في ادارة المجلس البلدي لمدينة بيروت.

-       حائزة على عدة اوسمة منها وسام الارز الوطني من رتبة فارس، ورتبة ضابط ورتبة كومندور.

من الصعب جداً الخوض في تفاصيل التجربة الغنية لسيرتها الذاتية والإحاطة اللائقة بها لإيفائها بعضاً من حقها، يكفي ان اشير الى انها ابنة تلك المدرسة البيروتية الأصيلة التي ساهمت في ارساء قواعد استقلال الدولة اللبنانية وترسيخ المبادئ الميثاقية.

حسانة الداعوق، نموذج للمرأة الناجحة بفضل عصاميتها، وسعيها، وإيمانها، وايجابيتها البناءة، هاجسها المدافعة عن الكرامة - كرامة الإنسان، دافعها الحب، تحب من هم غير محبوبين في هذا المجتمع المتخبط بالفساد الملتوي بالعوز - الشارد بالفراغ الى حد الانتحار.

حسانة الداعوق، قالت لا. وقفت عكس الاهواء حمت كرامة الانسان انقذت حياته، امنت له بعضاً من العطاء لأجل الفرح صارت بنظر الكثير شعلة الامل، والفرح لأن بها وبأمثالها يصبح المستحيل ممكناً، بنت المؤسسات، وفرت الخدمات، والتقنيات هدفها ان يعمل الانسان لخدمة اخيه الانسان..."

جمعية العناية بالطفل والام من المؤسسات الوطنية المهمة في لبنان التي تعني بأبناء بيروت والوطن تضم كماً كبيراً من نخب الاخصائيين الذين يعملون في شتى مجالات الرعاية ويؤلفون فريق عمل متجانس يساهمون في دعم مسيرة استمرار الجمعية مستنيرين بالحكمة والادارة الصلبة للسيدة حسانة التي تمكنت بنجاح ان تجمع حولها هذا الكم من الاشخاص الامناء (مساعدين ومساندين وداعمين) فأستحقت عن جدارة شرف رئاسة الجمعية والحصول على عدة شهادات تقدير واوسمة استحقاق من لبنان ومن الخارج.

نوجه التحية الى كل العاملين والمساعدين والداعمين لجمعية العناية بالطفل والام، ومن بين هؤلاء الدكتور فوزي عطوي الذي يشاركنا الليلة في تكريم السيدة حسانة، وهو صاحب مسيرة ذاتية غنية جداً متعدد الاختصاصات د. جامعي حائز على دكتوراه دولة في الحقوق من جامعة ليموج فرنسا ودكتوراه في الأدب من جامعة القديس يوسف بيروت انتسب الى نقابة المحامين، عمل في مهام عديدة درس القانون المالي، الاقتصاد السياسي، الدراسات العليا وكان مستشاراً لوزير التربية وزير الثقافة والتعليم العالي.

عضو مؤسس وعامل في عدة جمعيات

له الكثير من المؤلفات في مجال الحقوق والمال، والاقتصاد، والدستور، والعلوم الادارية، وفي الشعر له أحد عشر ديواناً.

يحمل عدة أوسمة ودروع، وهو الآن يشغل منصب امين عام  للأسره اللبنانية، وهو صديق  للسيدة حسانة يحيّها ويطلعنا على بعض من سيرتها الذاتية في هذا اللقاء الكلام له. 

 

 

كلمة الأستاذ كمال حمدان 
 

أتوجّه بداية بأصدق التحيات إلى الحركة الثقافية - انطلياس لهذا التقليد الراقي الذي كرّسته منذ سنوات طويلة، والقاضي بتكريم المبدعين اللبنانيين في مختلف ميادين الفكر والثقافة والعمل الاجتماعي، انطلاقا من معايير إبداعية ومهنية راسخة وذات طابع وطني. ولا يسعني في هذا الإطار سوى التأكيد على أن الدلالات التي ينطوي عليها التقليد المذكور ودرجة المسؤولية في ممارسته، تميل إلى اكتساب أهمية رمزية أكبر كلما اشتدّت الانقسامات الداخلية في البلد - كما هو عليه راهن الحال - وكلما اتّجهت أطراف النزاع إلى ابتداع معاييرها الخاصة للتكريم، تغدقه بسخاء على من هو على "صورتها"  لحمًا ودمًا.   

ولئن طلب مني أن أتحدّث اليوم عن السيدة ليندا مطر، في مناسبة تكريمها، فانه ينبغي عليّ بداية أن أصارحكم بأني وجدت صعوبة في العبور إلى الموضوع. فكيف لي أن ألخصّ في أسطر وكلمات، مسيرة حياة حافلة امتدّت لأكثر من ثمانية عقود، سبعة منها أمضيتها في معترك العمل المهني والنشاط الاجتماعي ناهيك عن معترك الحياة الأسرية.

الحديث عن ليندا يبدأ من لحظة انخراطها في العمل. التحقت ليندا بسوق العمل في منتصف النصف الثاني من الثلاثينات، وهي في الثانية عشرة من عمرها، إسهاما منها في تأمين القوت لأسرتها، مما اضطرّها إلى ترك التعليم باكرا. ولم تشفع معها في ذلك التاريخ لا التشريعات الناظمة لحقوق الأطفال وعملهم - إن وجدت - ولا تشريعات حقوق الإنسان ولا الرعاية الاجتماعية التي ادعتها سياسات سلطات الانتداب الفرنسي على لبنان آنذاك. ولم تشفع معها كذلك مقاربات البرّ والإحسان الساعية إلى مكافحة العوز والفقر عبر الهيئات الأهلية ذات المنبت الديني أو العائلي التي كانت تنتشر في جبل لبنان وفي العاصمة. ذلك أن تلك المقاربات، التي لا يقصد الانتقاص من دورها، كانت وسوف تبقى، كظاهرات ما دون دولتية، غير قادرة أو غير كافية، في غياب الدولة الراعية، لأن تجسّد وحدها بشكل شامل ولجميع المواطنين، مبدأ الحق في الصحة والتعليم والاندماج الاجتماعي وهو حق ينبع أساسًا من فكرة المواطنة. في مثل هذه الظروف بدأت ليندا عملها في أحد مصانع الحرير في الجبل، إلى جانب 40 فتاة صغيرة وامرأة من أهل المنطقة (من دون سوريين أو مصريين أو آسيويين). وكان العمل يمتدّ لعشر ساعات يوميا في النهار على مدى ستة أيام في الأسبوع،  ليحلّ مكانهم في الدوام الليلي عمال ذكور يخضعون لمدّة العمل نفسها، من دون أن تشمل شروط العمل أيّ ضمانات اجتماعية أوصحية أو أيّ فرص سنوية مدفوعة الأجر. ومن مصنع الحرير الذي عملت فيه مدة سنتين، انتقلت ليندا في الرابعة عشر من عمرها لتعمل في حقل التعليم، في مدرسة الناصرة، حتى سنّ السادسة عشر، مع حرصها على متابعة الدراسة خلال الدوام المسائي. ثم تحقّق الزواج في أوائل الأربعينيات، وهي لم تكمل بعد السابعة عشر من العمر، وما كان لزواجها أن يتّم لو لم تعمد الى تغيير هويتها في سجل النفوس، فتنتقل من الطائفة المارونية الى طائفة زوجها، طائفة الأرمن الأرثوذكس، وتصبح على عهدة هذا الأخير.ومع الزواج حصل انقطاع مؤقت عن العمل، لتتفرغ لمعترك من نوع آخر، معترك بناء الأسرة وتربية الأولاد.

غير أن توقفها عن العمل لم يستغرق سوى الوقت اللازم لاعداد النشء ورعاية أطفالها الثلاثة في المراحل الاولى من عمرهم. فعاودت العمل بدءا من عام 1957 ، كمياومة في وزارة الهاتف، لمدة اثنتي عشرة سنة. وخاضت على امتداد فترة عملها هذا، نضالا مريرا الى جانب زملائها لاستصدار قرار رسمي بتثبيت المياومين وتحسين شروط عملهم. وفي أواخر الستينات نجحت اللجنة العمالية، التي كانت ليندا من ضمن اعضائها، في انتزاع قرار التثبيت، ولكن بالتزامن مع قرار آخر قضى بتسريح أعضاء هذه اللجنة من العمل، حتى يكون ذلك عبرة لمن اعتبر. كان هذا في أوج الحقبة الشهابية التي انطوت على تناقضات صريحة في خياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي موقفها من الحريات العامة. ومع حملة التسريح وما تلاها من مراجعات، جاءها في أحد الأيام مسؤول من الوزارة يهمس في اذنها: يا ليندا، وجّهي كتاب استرحام الى الأمن العام تتعهدي فيه بعدم الانتساب الى الاحزاب وبالامتناع عن أي نشاط نقابي داخل الوزارة، فيتمّ عندها اعادتك الى العمل...فما كان جواب  ليندا الا أن "طبشت" باب المسؤول (قائلة له ربما: بالمشمش)، دفاعا عن كرامتها وحرية معتقداتها.   

كان يمكن لمسيرة ليندا ان تتوقف عند هذا الحد، كما هي الحال بالنسبة للعديد من جيل أمهاتنا، أي في الانغماس الكامل في شؤون الأسرة، على مشقّاتها، و"الانمحاء" من الحياة العامة. ولكن قدر ليندا لم يكن كذلك، ففي الانتخابات النيابية عام 1952، وفيما كانت تواكب العملية الانتخابية - من دون ان يكون لها حق الانتخاب- لحظت شابًا معوقًا تغلب عليه صورة البؤس والشقاء، يُحمل على الأكتاف كي يدلي بصوته في الانتخابات وعلامات التعجب والالتباس بادية عليه، في الوقت الذي كانت مجموعة من النساء المنتميات الى لجنة حقوق المرأة  تجمع بحماس في الركن الآخر من الشارع تواقيع من نوع مختلف، تطالب بإعطاء المرأة الحق في الانتخاب. ان هذه اللحظة كانت اللحظة الحاسمة التي شجعت ليندا على حسم خيارها والإقدام من دون أي تردد، على زواج من نوع آخر، هو الزواج الذي ربطها بالحياة العامة، من خلال انتسابها الى لجنة حقوق المرأة، برئاسة ثريا عدرة، عام 1953. وقرار ليندا لم يكن عرضيًا او وحيد الجانب، إذ اندرج في حقبة زمنية متعددة الأبعاد كانت تعني الكثير بالنسبة لجيل ذلك الزمان: حقبة الاستقلال الطرية العود، مهمات بناء الدولة، القضية الاجتماعية وموقع المرأة فيها، تبعات نكبة فلسطين، انطلاق حركة التحرر العربية، الرد الاستعماري عبر سياسة الاحلاف في المنطقة، انطلاقة الحرب الباردة بين المعسكرين...الخ.

وعلى امتداد أكثر من عقدين -ما بين 1953 و1978- تدرّجت ليندا في جميع المواقع داخل لجنة حقوق المرأة، من عضو عادي الى مسؤولة فرع فإلى مسؤولة منطقة ثم الى أمانة السر لتنتخب رئيسة للجنة عام 1978، ويجدد انتخابها في هذا الموقع منذ ذلك التاريخ، على ما في ذلك من دواع للثقة وربما أيضًا للمساءلة. وبصفتها هذه انتخبت ليندا رئيسة للمجلس النسائي اللبناني لمدة اربع سنوات عام 1996، وحظيت بقدر كبير من الإجماع على صفاتها الريادية والقيادية في صفوف قريناتها من قادة الجمعيات النسائية اللبنانية. كما انتخبت في أول مجلس اقتصادي اجتماعي في البلاد، ونالت أنواعًا شتى من الأوسمة والتكريم، عرفانًا بما اختزنته مسيرتها الكفاحية الطويلة المميزة بالإرادة والثبات والتفاعل الايجابي مع الآخر.

خلال أكثر من نصف قرن من انخراطها في لجنة حقوق المرأة، تنوعت المعارك والنضالات التي خاضتها ليندا مطر، في بلد صغير وشديد التعقيد وعرضة للمنازعات المتكررة. بل ربما من الأصّح القول أن لا معركة أساسية، على طريق التقدم والتحرر والتغيير، الا وكانت ليندا في طليعة صفوفها. فمن النضال في سبيل تحسين أوضاع المرأة والتشريعات الناظمة لحقوقها، الى المعارك المطلبية الجزئية والوطنية، الى النضال السياسي الذي يستهدف بناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية ومكافحة الطائفية، الى الكفاح المتعدد الأشكال ضد كافة أشكال السيطرة الأجنبية، وبخاصة الغزوات الإسرائيلية المتكررة... في هذه المواجهات كافة، وقفت ليندا في الموقع الطبيعي أي الصحيح، دفاعًا عن قضايا المرأة والعمال والفقراء ودعمًا للحريات الشخصية والنقابية والعامة، ومن اجل ان يكون لبنان وطنًا حرًا سيدًا مستقلاً، ومندمجًا من دون عقد في بيئته العربية ضد الغذوات الاستعمارية القديمة والمتجددة، مع حرصها الدائم على التمييز داخل تلك البيئة بين ما يشدّ الى الاستبداد والتخلف والسلفية وما يدفع في اتجاه الحداثة والتقدم والانفتاح الحقيقي. ولم تكن ليندا في هذه المواجهات وحيدة بل وقف الى جانبها آلاف بل عشرات الآلاف من الرفاق والاصدقاء، ممن كانوا وما يزالون يحلمون ببناء لبنان جديد، أكثر حرية وتقدما وعدالة، وأكثر تحررا من حكم الملل والطوائف والعائلات ومن عصبياتها التي ما برحت تتحكّم بالسلطة أو تتوارثها منذ دهور.

 

  

كلمة السيدة ليندا مطر
 

في مثل هذا اليوم من كل عام، الثامن من آذار يوم المرأة العالمي، يستحضرني تاريخ طويل من النضال بمواجهة القهر والعذاب والاستغلال والشهادة. تاريخ محفور في ذاكرتنا وفي ذاكرة من سبقنا. وسيبقى هذا اليوم رمزاً للنضال والحق والعدالة.

في العام 1856، وبتعتيم إعلامي شامل وقع عدد من العاملات في معامل الألبسة الجاهزة في نيويورك ضحايا لمجرد مطالبتهن بتخفيف ساعات العمل (كانت 16 ساعة في حينه) وبزيادة الأجور. الرد كان رصاصات كافية لاسكاتهن.

في العام 1910 حيث كان خطر الحرب العالمية الأولى مخيماً على العالم، عقد اجتماع نسائي في كوبنهاغن - الدانمارك بحثت فيه المجتمعات سبل رفع الصوت عالياً والتضامن العالمي للإعلان عن رفضهن للحرب. اقترحت النائبة الاشتراكية في البرلمان الألماني التي كانت مشاركة في هذا الاجتماع أن يتخذ الثامن من آذار الذي وقعت فيه الحادثة المأسوية يوماً لتضامن نساء العالم من أجل السلام.

وفي الأعوام التي تلت هذا الاجتماع كان عدد ليس كبيراً في بلدان مختلفة يتظاهر من أجل مطالب لها علاقة بحقوق المرأة والمجتمع.

في العام 1945 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي أوقعت ما أوقعت من ضحايا ودمار، تنادت سيدات من الدول الأوروبية التي كانت شعوبها وقوداً للحرب المدمرة، دعت إلى اجتماع عقد في باريس برئاسة الأستاذة الكبيرة المناضلة أوجيني كوتون، تمخض عن هذا الاجتماع تأسيس الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي الذي تبنى ما صدر عن مؤتمر كوبنهاغن إضافة إلى قضايا المرأة والاستقلال الوطني.

ومنذ ذلك التاريخ نحيي هذه الذكرى للاستذكار وللإعلان عن واقع نعيشه نحاول تغييره كما هي الحال اليوم في لبنان.

ان يوم المرأة العالمي الذي أصبح يوماً للنضال من أجل المساواة والديمقراطية لم يعد يوماً للنساء فقط، فالمرأة مواطنة وكما تهمها حقوقها، تهمها أيضاً وبالتساوي حقوق الوطن والمواطن.

فألف شكر للحركة الثقافية في انطلياس التي بإحيائها هذه المناسبة تكرس المسؤولية المشتركة للمرأة والرجل على حد سواء والمهام المشتركة التي أصبحت في بلادنا مهام لانقاذ لبنان من كل الذين يحاولون الاعتداء عليه وتقسيمه، بدءاً بالعدو الإسرائيلي الرابض على حدودنا وعينه على أرضنا ومياهنا وبالقوى العالمية التي تدعمه بالمال والسلاح.

أيها الأصدقاء والصديقات أعضاء الحركة الثقافية في انطلياس،

 

إني أتوجه منكم ومنكن بعميق التقدير والشكر على التكريم الذي جعلتموه في هذه المناسبة بالذات، الثامن من آذار، يوم المرأة العالمي.

لكنني أود أن أشير إلى أن اسم ليندا مطر لم يكن له أن يحظى بأي تكريم لو لم أكن تلميذة على مقاعد لجنة حقوق المرأة اللبنانية التي فسحت لي مجال النضال والثبات والاستمرار وفتحت أمامي أبواب التعرف على العديد من بلدان العالم وشعوبها، ولولا الزميلات المناضلات اللواتي كن وما زلن يقدمن كل ما لديهن من قوة لاستمرار هذه اللجنة وتقدمها.

وإني بهذا التكريم تأكد لي بأن الطريق الذي سلكته في حياتي كان اختياراً صحيحاً وعليّ أن أتابعه بعزم وقوة أكبر.

 

كلمة شكر للسيدة حسانة فتح الله داعوق

 

يسعدني ان أُكرَّم على هذا المنبر الثقافي الكبير العريق والذي يعتبر الواجهة الثقافية المثلى لوطننا العزيز لبنان المضيء بمنابره وعلمائه ومثقفيه وعارفي الفضل فيه.

وان اختيار مناسبة يوم المرأة العلمي لتكريمي وتكريم الصديقة العزيزة ليندا مطر هو تاج على رأسينا الممتلئين حباً بوطننا وبإنسانه العظيم.

والآن ايها العزيز الدكتور فوزي، ليتني امتلك بلاغتك وشاعريتك لأبادلك حلو الكلمات ولكن قلبي بما يشعر به من تقدير وحب واعتزاز بصداقتك وبما اختزن لك من احترام لكل ما قلته وعبرت به في كلامك عني الامر الذي ترك اطيب الاثر في نفسي، فلا يسعني الا ان اقول لك ان الاناء ينضح بما فيه وهذا بعض مما عندك من اخلاق وعطاء وترفّع، فلك مني كل الشكر وكل الدعاء بأن يبارك الله بك ويبقيك ذخراً ثقافياً هاماً للبنان.

أكرر شكري للحركة الثقافية في انطلياس والقيّمين عليها ولتمتد مهرجاناتها على كل لبنان وهجاً ثقافياً وضاءً يبدد ظلماته.

 

شكراً لكم، شكراً للحفل الكريم - عشتم وعاش لبنان.

 

 

كلمة الدكتور فوزي عطوي
 

        يزدهي مثلي ان يشارك امثالكم في تكريم اعلام لبنان وعلمائه وادبائه والناشطين في مجال الخدمة الاجتماعية فيه، لان التاريخ الوطني والمضيء معاً للحكرة الثقافية في انطلياس يجعل المثقف في هذا الوطن مباهياً بأن كل ما يلقى على المناكب والكواهل من متاعب الدنيا ومصاعبها، وعلى كل صعيد، لم يفقد النخبة فينا، من امثال الاخوة الاحبة في الحركة الثقافية انطلياس وعلى امتداد لبنان، املها بأن الظلمة وان طال مداها لا بد من ان يبددها في النهاية نور الرجاء.

        ولا ري في ان اختيار مناسبة يوم المرأة لتكريم رائدتين من رائدات العمل الوطني والاجتماعي هما السيدة حسانة فتح الله الداعوق والسيدة ليندا مطر، قد جاء اختياراً موفقاً الى آخر حدود التوفيق، لان من يجرؤ على الادعاء انه لا يعرف السيرة الحميدة العاطرة لكل من هاتين اللبنانيتين الجليلتين، او لا يعرف تاريخهما في العمل الانساني عموماً ولاجل نصرة قضايا المرأة بوجه اخص، يكتب بيده شهادة جهله بالفضل، او تجاهله للمكارم والمآثر التي ستظل تشكل السدى واللحمة في ترايخ هذا الوطن الحضاري العريق.

        واني اذ ابادر الى تحية الاخ والزميل الخبير الاقتصادي الثَّبت الدكتور كمال حمدان، مثمناً سلفاً ما سوف يخص به الاخت المناضلة السيدة ليندا مطر رئيسة لجنة حقوق المرأة في هذا الاحتفال البهي، فإني احاول في الكلمات الحيية الآتية ان اوجز  الكلام في السيدة حسانة فتح الله الداعوق التي لا يوفّى فضلها بكل ما قد نطيله من الكلام عليها، وان كنا جميعاً نرتقب بشوق المذكرات القيمة التي تعدها عنها الزميلة الاستاذة الدكتورة فاطمة قدورة.

ايها الحفل الكريم،

        لست ادري على طول صداقتي ومعرفتي واحترامي لاختنا العزيزة السيدة حسانة الداعةق لمَ احاول ان ارى فيها على الدوام وجهاً من وجوه ابن سينا الشيخ الرئيس.

        لقد كان الرجل متعدد المواهب والمزايا والعطاءات فيلسوفاً وطبيباً وشاعراً ومحباً للحياة حبا لا يدانى حتى لقد كان يؤثر عنه انه لما جاءته النصيحة من احد خلصائه بان يترفق بنفسه في اقباله على كل ما يستطيع اداءه من حوله، حرصاً على ان تكتب له الحياة المديدة اجاب تلك الاجابة التي ما يزال غبارها بل ما يزال شذى عطرها يتطاير عبر الازمان مجسداً اسمى معاني الطموح والفعالية والفرادة: "اريد ان اعيش الحياة بالعرض لا بالطول"، ولقد عاشها رحمه الله، بالعرض والطول معاً، وكان الفيلسوف الطبيب الشاعر الخالد الذي ما زلنا الى اليوم نردد قصيدته الشهيرة في النفس الانسانية:

                هبطت اليك من المقام الأرفع           ورقاء ذات تعزز وتمنع

 

        على ان حسانة فتح الله الداعوق المتعددة المواهب والمزايا والعطاءات، لم تدرس الطب ولم تكتب الشعر، ولم تتعرض للنظريات الفلسفية، لكنها لم تكن بعيدة اطلاقاً عن كل هذه المجالات، وذلك بحكم اقبالها كإبن سينا على الحياة اقبالاً منقطع النظير، حتى اني لأعترف امام جمعكم الكريم وامامها هي بالذات، انني كنت اتخذها وسوف اظل اتخذها نموذجاً للمرأة المجاهدة المثابرة المكابرة، على رغم ما قد يداخلها احياناً من الالم والتي تعتقد ان في امكانها بابتسامة حيناً وبغضبة حيناً آخر، ان تختزل كل ما يواجهها على الصعيد الشخصي او على الصعيد العام من مشكلات يقف سواها بازائها مكتوف اليدين، لا يحير جواباً.

        ولا ريب انها منذ انتسبت الى جمعية العناية بالطفل والام مع زميلاتها العزيزات الغوالي اللواتي ارى فيهن، بكل صدق وعرفان، اخوات حبيبات مكافحات في سبيل رفعة الوطن، لا في سبيل رفعة مكانة المرأة وحسب، ومنذ ان أنشأت المقر الصحي في مباني الجمعية، قد اولت الطبابة والتمريض والاستشفاء عموماً عناية احسب ان ابن سينا كان سيغبطها عليها لو انه عاش في عصرها.

        واما الفلسفة فقد تعلمتها حسانة الداعوق من مدرسة الحياة الرحيبة، ولطالما كررت على مسامع احبائها واصدقائها واخواتها في مناسبات كثيرة بعضاً مما لقّنتها اياه مدرسة الحياة، اذا ادركت "ان القناعة والطموح لا يتضاربان"، لان القناعة هي رضى النفس والطموح هو الحافز الكبير للسير قدماً في كفاحنا مع الحياة وان الصبر كفيل بمواجهة ما يحمله لنا الزمن من معاكسات ومصائب وخسائر في الارواح والابدان، ويبقى الامل هو السلاح الذي نحتمي به، وما اصدق الشاعر حين قال: "ما اضيق العيش لولا فسحة الامل".

        على ان القلائل يعرفون من فلسفة حسانة فتح الله الداعوق هذا الاندفاع الميمون نحو ترسيخ جذور الوحدة الوطنية في لبنان على رغم ما نحن عليه من تعدد الاديان والمذاهب والمناطق والانتماءات. ولعلها تعذرني ان اضطررت الليلة، وامام هذا الجمع الذي تتمثل فيه داعيت ومدعوين اصفى معاني الوحدة بين اللبنانيين الى الكشف علناً عما كانت تهمس به سراً في اذني، خلال لقاءاتنا في الهيئة للاسرة اللبنانية التي نعتز برئاستها لها، ويشرفني تولي الامانة العامة فيها، اذ كانت بالغة الاهتمام بتحقيق التوازن والتساوي بين الاعضاء المسلمين والمسيحيين في "الهيئة" لكي تأتي على صورة لبنان ومثاله في الوحدة والتآخي والسماح الأسمى.

        اعود ايها السيدات والسادة الى الشعر الذي قرضه ابن شينا ولم تقرضه حسانة الداعوق لكي تتم وجوه الشبه بينهما. الا ان حسانتنا "الحسانة" باطلالتها ومهابتها ونبلها وثمانينها الملأى بالمكرمات توحي بالشعر وتجعلنا نحن الحاذين حذوها في الاقبال على طموحات هذا الكون، نهددها بالتقف عن التغزل بها ان هي لم توقف ممارستها "الديمقراطية" المشهودة جداً في انتهاج نظرية "نفّذ ولا تعترض"، وهي "ديمقراطية" قد نناقشها فيها، وندلي بفلسفاتنا ونظرياتنا حولها، تظرّفاً وتندّراً، لكنها "الديمقراطية" السليمة لمن كان يرغب صادقاً في ان تبلغ الامور خواتيمها السليمة.

         يبقى الوجه المزدوج للشبه بين ابن سينا وحسانة الداعوق: انه "الشيخ الرئيس"، وهي "السيدة الرئيسة". ولقد عاش ابن سينا عمره بالعرض والطول، وهي تعيش عمرها بالعرض والطول، اطال الله في عمرها مناضلة في سبيل الغد المشرق السعيد، ومبروك لها وللسيدة الجليلة ليندا مطر هذا التكريم الذي يتلألأ فلاًّ وزنبقاً وياسمين على منائر لبنان. عشتم وعاش لبنان.