لقـاء حـول
كتاب "تقيّ الدين الصلح سيرة وكفاح حياة"
تأليف عمــر زيــن
2007/11/27
___________
كلمة عصام خليفة أمين عام الحركة الثقافية - انطلياس
كلمة منح الصلح
كلمة طلال سلمان
مداخلة اليـاس سـابـا
كلمة عبدالله بو حبيب
كلمة عصام خليفة أمين عام الحركة الثقافية - انطلياس
اذا كان ما قاله كارليل، في احد مؤلفاته، صحيحاً: "ان التاريخ العام، تاريخ ما أنجزه الإنسان في هذا العالم هو في أعماقه تاريخ الرجال الذين عاشوا وعملوا في هذا العالم".
وإذا كان ما كتبه وليم جيمس ليس مبالغاً فيه: "ان تقلبات المجتمعات وتحولاتها الفجائية من جيل الى جيل، ترجع في الأساس بصورة مباشرة او غير مباشرة الى الأفعال التي يقوم بها والى الأمثال التي يضربها الأفراد الذين توافقت عبقريتهم مع تلقائيات القوى الاستيعابية للخطة التاريخية توافقاً قوياً".
وإذا كان ما قاله سبنسر غير بعيد عن الحقيقة: "على المجتمع ان يكوَّن الرجل العظيم قبل ان يستطيع الرجل العظيم ان يعيد تكوين المجتمع".
إذا كانت هذه الأقوال صحيحة، فان الرئيس الراحل تقي الدين الصلح الذي تتشرف الحركة الثقافية - انطلياس بالدعوة الى هذه الندوة حوله، بمناسبة مرور مئة سنة على ولادته، وبمناسبة الذكرى الـ 64 لاستقلال لبنان، واستطراداً بمناسبة صدور كتاب المحامي الصديق عمر زين عنه في جزئين وبمناسبة وفاته في 27 ت2 1988، هو الشخصية الاستثنائية وهو "تعبير" وهو "مثل" وهو "رمز".وهو قائد طليعي جسّد وعي شعبنا في تاريخ لبنان المعاصر. وهو الشخصية التي كان لها النفوذ المؤثر في مفاصل واحداث ومواثيق وجّهت مصير الدولة اللبنانية المعاصرة.
في ندوتنا هذه لا نزعم اننا سنفي الصلحي الكبير حقه. كما لا نخال ان الصديق المحامي عمر زين قد قال - من خلال الـ 1350 صفحة التي جمعها حوله - الكلمة النهائية. ان الغنى الاستثنائي لهذا الزعيم القيادي - على كل الصعد الوطنية بالطبع - يتطلب جهداً موسوعياً يجب ان يعكف على انجازه متخصصون أكاديميون ومؤسسات كثيرة.
ان ندوتنا في هذا الزمن الصعب الذي يعيشه الوطن بالذات هي تحية وفاء، وهي نداء لكل الإرادات المكبّلة بمصالح الخارج ان تتمثل بمآثر هذا الرجل الذي يجب ان يكون النموذج والمثال في الأزمات الكبرى، فتعود الى كنف الوحدة الوطنية وتعلى مصالح الوطن فوق الأنانيات الفردية والفئوية وفوق التدخلات الخارجية.
تقي الدين الصلح ناضل على جبهات عدة:
في مجال التربية مارس التعليم، وكان من مؤسسي أول نقابة لمعلمي المدارس الخاصة، وطرح منذ 1948 ضرورة إنشاء الجامعة اللبنانية. ورفع الظلم بإعادة المعلمين المصروفين من الخدمة بسبب اشتراكهم بالاضراب.
وقبل العام 1943 مارس مهنة الصحافة حيث كان له مع كثيرين - وفي طليعتهم النقيب زهير عسيران - النشاط المميز في التهيئة لمعركة الاستقلال وفي تأليب الرأي العام ضد الانتداب (حيث كان المحرر الأساسي لجريدة علام الاستفهام) وانتخب عام 1946 "نقيباً للصحافة".
سماه أمين الريحاني الأديب المسلم - المسيحي في كتابه قلب لبنان، حيث شارك في تأسيس "الجامعة الأدبية" منذ العام 1935. يتقن العربية والفرنسية والانجليزية. يقرأ اللوموند يومياً. كان مؤسساً للكثير من الأحزاب السرية والعلنية، وكان حاضراً في كل موقف سياسي لبناني او عربي. وكان رجل دولة يؤمن بالوطنية والديمقراطية والحرية. وهو من عمر الاستقلال ومن عمر الميثاق الوطني (في منزل يوسف السودا عام 1938، والبيان الوزاري لحكومة رياض عام 1943). يخطط وينظم المظاهرات وينظّر ويخطب في الناس.
الحارس الأمين للميثاق الوطني الذي ليس صيغة تحدها كلمة بل انه روح يلد - حسب قوله - لكل زمن صيغة موافقة. انه الوفاق بين أبناء الوطن في مختلف فئاته وطوائفه على العيش معاً كشعب واحد في وطن واحد. الروح هي اتفاق المسلم والمسيحي على وطن واحد وانتمائه القومي الصحيح ومن دون هذه الروح لا وجود للبنان. والإرادة الجامعة حول لبنان الدولة المستقلة بحسب رأيه ترتكز على قيم إنسانية رفيعة ومنها الحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان. وهي التي تمكنه من ان يعيش سيداً وحراً ومستقلاً.
وجوهر لبنان عند تقي بيك يمكن اختصاره بنقاط أربع:
•- إرادة الحياة المشتركة في نطاق محدد من الأرض، هو حدود لبنان الحالية والمعترف بها دولياً فالمس بحدود لبنان - حسب تأكيده - هو مسّ بالجوهر.
-
- الحريات: فلا معنى للبنان من دون الحرية ولا ضرورة له ولا قابلية له في الحياة. اكثر من ذلك - يقول - ان لبنان بلا حرية لا يمكن ان نسميه لبنان.
-
- الديمقراطية، فلا حرية بلا ديمقراطية. ويمكن تأمين حقوق الطوائف عن طريق المواطنية لا العكس.
-
- موقع لبنان في العالم العربي: فرغم شخصيته المتميزة والمميزة، لا يمكن للبنان إلا أن يتفاعل سلباً وإيجاباً مع محيطه العربي. والعروبة تعطي لبنان المنزلة الأعلى وقد تعطيه المنزلة الأولى والفاعلية الأولى في هذه المنطقة إذا عرف كيف يتحرك.
وبمواجهة خطر إسرائيل، ومنذ نكبة 1948 أكدّ تقي بيك انه لا بد ان نتعلم، وان نعتبر، ونستعدّ، ونبدّل مفاهيمنا وأساليبنا.
اما بالنسبة للعلاقة مع سوريا فيعتبر الصلحي الكبير أنها أمر مصيري وحيوي أكثر من علاقات لبنان بأي بلد آخر عربياً كان او غير عربي. ثمة ارتباط بين مصالح لبنان وسوريا جغرافياً وتاريخياً وقومياً. والحل الذي يراه في هذا المجال:
-
أ- ان الوفاق السوري - اللبناني مهم وضروري مثل الوفاق اللبناني - اللبناني. والوفاق السوري - اللبناني يساعد على قيام الوفاق اللبناني - اللبناني.
-
ب- لبنان يجب ان يعتمد في سياسته الخارجية التعاون والتنسيق مع سوريا لان ذلك مبني على طبيعة الوجود التاريخي والجغرافي والقومي للبلدين.
-
ج- لكن بين الدولتين حدود يجب احترامها ومن حقنا - كلبنانيين - ان نقدم مصلحة لبنان على سواها.
كان تقي بيك يتألم بشدة من السياسة السورية في لبنان ويعتبرها حافزاً لخروج اللبنانيين من العروبة بدلاً من تشجيعهم عليها. وكان خلال الحروب العبثية صوت المقتولين في مواجهة رصاص القاتلين وكان الصوت الوطني الشجاع الذي لا يرضح لترغيب او ترهيب في الدفاع عن قناعاته المبدئية الميثاقية.
لقد كان تقي الدين الصلح دائم الطفر، رغم المراكز الكثيرة التي شغلها. وكان يفخر انه من عائلة أجبرتها السياسة على بيع أراضي أبنائها. وتبيّن انه بعد وفاته كان لا يملك شيئاً سوى بعض الديون التي أعفاه أصحابها من سدادها. وللصلحيين احترام خاص عند باقي الطوائف وبخاصة الموارنة. الم يقل البطريرك المعوشي - عندما كلّف تقي الدين بتأليف الحكومة - "نحن المسيحيين وخصوصاً الموارنة، نشعر بالاطمئنان عندما يكون واحد من آل الصلح في الحكم انهم ضمانة لبنان عند العرب وروح العروبة في لبنان ولذلك ليس في قدرة احد ان يزايد عليهم لبنانياً أو عربياً".
ايها السيدات والسادة،
في هذه الأيام الكالحة حيث نلمس الخطر الداهم على الاستقلال، وعلى وجود الدولة اللبنانية، وعلى الميثاق الوطني. وحيث تصل وقاحة المتدخلين - الاقليميين والدوليين - ومنفذي إراداتهم في الداخل إلى ترك الدولة بدون رأس لتسويغ تمرير التسويات، ربما، على حساب الأرض والشعب والسيادة والاستقلال. وحيث نلاحظ بألم قيام أكثر من طرف يبضرب الركائز الأساسية التي أرساها كبار هذا الوطن أمثال تقي الدين الصلح ويوسف السودا ورفاقهم، لا يسعنا إلا ان نشكر الصديق المحامي عمر زين على الجهد الذي بذله في إصدار سيرة حياة وكفاح الصلحي الكبير في جزئين (1350 صفحة). آملين في المستقبل ان يستمر العمل لتجميع تراث هذا القائد والزعيم الاستثنائي (المكتوب والمرئي والمسموع)، ليكون هذا التراث منهلاً لكل باحث في كيمياء اللبنانية/العروبة في مفهومها الإنساني الحديث.
ونكرر مجدداً باسم الحركة الثقافية - انطلياس اعتزازنا بالأصدقاء المحاضرين وترحيبنا بجميع الحاضرين، مؤكدة التزامها الثابت، من خلال ميثاقها النظري ومن خلال ممارستها العملية، بالقيم الكبرى التي دافع عنها جيل الكبار من بناة الوطن وفي طليعتهم تقي الدين الصلح طوال حياته المديدة.
الشكر لثقافية أنطلياس على مبادرتها الموفقة والمحبة في مواكبة الحدث الثقافي والسياسي الهام، بصدور كتاب الأستاذ عمر زين عن تقي الدين الصلح سيرة حياة وكفاح. كالعادة، نجد هذا المنبر الأسرع في الحفاوة بجهد علمي وأدبي صادق يلقي الضوء على حياة سياسي ومفكر ورجل دولة أعطى الحياة الوطنية اللبنانية والعربية أكثر بكثير مما يعطيه عديدون من هواة السياسة ومحترفيها. كان دائماً في صلب مواقع الانتاج السياسي والفكري والأدبي والقرار الوطني، في لبنان والعالم العربي، يؤثر أكثر مما يظهر، ويفعل بالحركة والكلمة والمثال فعل الرواد السباقين، قدّمه الكتاب وحقا اننا الان في يوم لبناني وعربي بهي.
من أمانة علمية وجهد بحثي متعمّق، ومن إعجاب ومعرفة لعمر بتفاصيل حركة تقي الدين الصلح السياسية وماضيه الاستقلالي وخلفيته المدنية والوطنية والقومية، خرج هذا الكتاب الذي شاءت حركة أنطلياس أن تحتفي به، هي المنصفة المعتزة بثروة هذا الوطن المعنوية وبكل جهد ينير للبنان طريقه الى المستقبل. فالتهنئة لها وللصديق العزيز الامين العام لاتحاد المحامين العرب، السياسي الناشط والمحامي المثقف عمر زين بهذا اليوم وكل ما وراءه من معاني في تقدير كبار لبنان وباني مجده في كل آن.
نهج عمر زين في التأليف نهجاً علمياً وفنياً راقياً بالاحاطة بجوانب متعددة من عالم تقي الدين وقائع واحداثا وتطلعات عززها بجعله تقي الدين يدلي هنا وهناك في الكتاب برأيه المباشر بالرجال والأحداث وسبل العمل ما حرص عمر على اعادة نشره من كتابات الراحل السباقة في مواضيع كثيرة. فهذا هو تقي الدين الرجل العام المنشغل بمصير وطنه يدلي برأيه في القضايا ويحاور غاندي في سفرة له الى الهند وغيره من رجال زمنه، ويدرس راصدا بألمعية نفّاذة من خلال ديوان شعر بالفرنسية للشاعر شارل قرم تطورات العقل السياسي المسيحي ازاء السلطة الانتدابية والشريك المسلم في الوطن الواحد .
مرة سمعت احد الفتوات من المحيطين به ينصحه بنزع الطربوش فسأله العم لماذا قال كرامة خاطر اخواننا المسيحيين يا بيك فانهم يفضلون البرنيطة، ضحك تقي الدين قائلاً بالعكس فآباء هؤلاء المسيحيين الذين تتحدث عنهم وخاصة من أبناء الجبل كلهم مثلي من لابسي الطربوش وللطربوش عز في الجبال ليس له عندنا في بيروت وصيدا وأضاف مبتسما لا تنسى أن الطربوش نمساوي، ألا ترى حبيب أبو شهلا كيف يصر على لبس الطربوش من أجل كسب ناخبي المصيطبة من أبناء محلته.
عندما ألف حكومته الشهيرة وكانت فضفاضة كثيرة العدد سأله عمر زين والتلفون في يده الصحفيون يسألون عن الاسم الذي تطلقه على الحكومة وهم على الخط فأجاب لتكن "حكومة كل لبنان" وهكذا وبهذا الاسم عرفت بعدها الحكومة الواسعة الكبيرة العدد وقد أشار غسان تويني بالامس بمحبة الى تلك التسمية على انها نوع من الحدس السياسي المبكر أو حس ما قبل الوقوع في معرض التحية لنوعية فكر بعض الاقدمين المفتقد حالياً، الموحي بأن توسيع الطربوش أولى مبدئياً من تكبير الرأس. وقد أثبتت المحنة اللبنانية استحالة انتهاء الازمة الراهنة على غير طريقة حقيبة السامسونايت المعروفة فاما أن تنغلق الازمة بالكامل من كل جهاتها مرة واحدة أو تبقى مفتوحة للرياح من كل الجهات ما دامت تنقصها جهة. وهذا ما تجلى على أوسع نطاق في الازمة الاخيرة كشبه حرب أهلية نفسية كادت تتحول الى عمليات مدمرة للوطن أكثر مما هو الآن لم ينفع في دفعها لا قلم غسان تويني ولا قلم رفيقنا على المنبر هنا، الصديق الحبيب طلال سلمان.
في هذا الكتاب ومن خلال متابعة عمر زين نشاط تقي الدين الصلح الطويل وحياته العامة يبرز انشغال لبنان ذلك الزمان شعبه ونخبه بقضيته كوطن عمل بنجاح على استرداد سيادته من الرعاية الانتدابية الفرنسية وكساحة عربية رئيسية للنضال والتقدم في المنطقة. سعى لتحرر العالم العربي كله وخاصة بواسطة نخب وطلائع سياسية واجتماعية مهمومة جديّاً بانجاح وحدة لبنان الوطنية وتحويل تعدديته الى بيئة طليعية رائدة في المنطقة العربية المطموع بها من القوى الخارجية ولا سيما إسرائيل. كل ذلك ملخصا ومرموزا اليه في هذا الكتاب بنضال رجل سياسة وفكر عاش المجتمع اللبناني بكل أطيافه في علاقاته بعضه مع بعض ومع العرب وخاصة سوريا ذلك الزمان ومصر.
خالط تقي الدين البيئات اللبنانية المختلفة كما لم يخالطها الا قلة فكان الاديب المسلم المسيحي كما سماه الريحاني ممارساً العيش اللبناني الواحد كما لم يفعل أحد حتى ليبدُ ماثلاً كل لبنان في كتاب عمر عاصمة وجبلاً وجنوباً وبقاعاً فتقي الدين عاش الاربع منها بعمق لصلاته الشخصية والعائلية والسياسية. منذ فتّوته تعامل مع لبنان كواحد موحد ، ومع الوطن العربي كذلك . وكان ابن عمه الكبير رياض يسميه مصرلوجياً لنظرته الى مصر كأساس في تطلعات المنطقة لا يسبقها الى قلبه وعقله إلا لبنان. وبالمناسبة، كان رياض الصلح في هذا الموضوع من رأيه، بل من رأيه ونصف، كما كان تقي الدين يقول بحب وذكاء.
بين مجموعة المناضلين الصادقين والناشطين ضد الانتداب كان تقي الدين على جذريته في النضال أوسعهم أفقاً وأسلمهم أداءً. ذلك أنه انطلاقاً من معرفته باليسوعية تلميذاً، وخاصة معهد اللايك استاذا ومن قبل تلميذا، عرف فرنسا الاخرى ، فرنسا الانسان والبعد الحضاري فالاحرار بكل معنى الكلمة من أبنائها ليسوا استعماريين حتى ولا انتدابيين وقبل وبعد الاصطدام بين لبنان والوجود الفرنسي كان تقي الدين وظل صديقا لفئات منهم يساريين وغير يساريين كمكسيم رودنسون الذي عينه هو استاذا للفرنسية في مقاصد صيدا وكالكاتب المستشرق أو الكوموندان لوسرف الذي ترجم الى الفرنسية بمعونته غزليات رشيد نخلة الشعرية وغير هؤلاء كثيرون جاؤوا الى لبنان أثناء الحرب العالمية بل وقبلها وكانوا مناصرين لقضية لبنان وخطّأوا علناً اقدام السلطات الفرنسية على مصادرة النزعة الاستقلالية واعتقال الزعماء في راشيا.
يكاد الفكر الميثاقي يكون هو الجوهر في حركة تقي الدين السياسية. وقد أفسح عمر زين المجال الواسع في كتابه لكل عمل أو كتابة أو فكر يميّل هذا الجانب من شخصية تقي الدين والكتاب مرجع في هذا الباب. اذ فيه من تقي الدين وعنه ما ينير هذه الناحية من أقواله وأفعاله.
كان تقي الدين أول الجديد ولم يكن آخر القديم كما أوحى طربوشه في يوم ما لقلم جورج نقاش. ذلك العقل عقل تقي الدين السياسي كما عقل ابن عمه الكبير رياض المتمسك بالاستقلال والعارف بالتنوع السياسي الفرنسي لم يكن من عناصر الانتصار الاستقلالي فحسب بل من عناصر الرائحة الزكية أيضا لحركة الاستقلال اللبناني في العالم، هذا الاستقلال الذي كان أول استقلال حققه شعب في ما سمي في زمانه بميثالية ما بعد الحروب وقد كان دور تقي الدين كمدير مطبوعات مسؤول عن الاعلام الاستقلالي في تلك الفترة، لا عنصراً من عناصر انتصار تشرين فحسب، بل أيضاً أساساً في انتشار الرائحة الزكية لذلك الانتصار الذي تحقق باضطرار فرنسا للافراج عن الزعماء المعتقلين في راشيا، وأي انتصار هو أحبه البعيد والقريب للوطن الصغير. وحسب كتاب عمر، إنه جاء مليئا بهذه الرائحة الفواحة وبزهو تلك الوثبة التاريخية.
أن تنتصر على فرنسا الخارجة مهزومة عمليا في الحرب ضد ألمانيا قد يكون أمراً غير صعب خصوصاً وقد كان لها حلفاء أكبر قدرة ولكن الاهم كان أن ينتصر لبنان كوطن صغير ويخرج الى الساحة الدولية وهو مفهوم مصدق من العالم محبوبا عند القريب والبعيد مؤهلا لان يبقى بالمعنيين معنى الوطن ومعنى المنارة. وهذا ما تحقق بفضل العقل السياسي لزعماء ذلك الزمان ولمعجزة الوحدة اللبنانية وسحر الوطن المتعدد المشع في محيطه، وفي كتاب عمر زين عن تقي الدين الصلح ملامح من كل ذلك.
كان أبرز ما في تقي الدين، كما نرى في كتاب عمر، نزاهته الفكرية وسعة أفقه ورؤيته للقيم وتمسكه بها، فلا خلط بين ما يجب الأخذ به من ممارسات الغربيين وما يجب رفضه مما هو تعسّف أو تسلط، سواء في السياسة والحكم أو غيرهما. وهذا ما عاشه قبل رئاسة الحكومة حركيا ونقيباً للصحافة ومديراً عاماً للمطبوعات في معركة الاستقلال، ورجل حكم، أستاذاً ونائباً ووزيراً للداخلية. واجه بوضوح نزعة التسلط، سواء عند الفرنسيين أو غيرهم، ولكنه لم يعم عن نواحي التقدم عند الغرب. فأن تكون مع الغرب على حساب السيادة والكرامة مرفوض، ولكن أن تكون مثله في التقدم، فهو الرهان التاريخي! وهذا أكثر ما يجب أن يتمسك به اللبنانيون كطليعة بين العرب. فالحداثة الحداثة قدرة نوعية للوطن الصغير وعامل تقريب بين اللبنانيين وروح العصر كم تحتاجها المنطقة.
في شرق كاد فيه المفهوم الأميري للحكم أي السلطوي التسلطي يكون كل شيء من سلوكيات مسؤوليه حتى في دولة تعتنق نظرياً الحكم الديمقراطي أو الجمهوري، تميز تقي الدين الصلح سباقاً في محيطه الى التمسك بالمفهوم المدني للسلطة والمجتمع، سواءً في تدريسه استاذا أو في مداخلاته نائباً في المجلس النيابي أو في قراراته مديرا للمطبوعات في وثبة الاستقلال وزيراً للداخلية أو رئيس حكومة أو نقيب صحافة أو رئيس حزب أو صاحب أحلام لبني قومه. وإذا كان ذلك قد أثار عليه الكثيرين من ساسة أو غير ساسة، صنفوه أحياناً مستبقاً محيطه ليناً كأصحاب الاقلام أو حتى مفرطاً بهيبة الحكم في نظر السلطويين، فإن الغالبية من المتقدمين أو التقدميين وعامة الناس الطيبين ، رأت فيه دائماً ظاهرة نوعية بين أبناء جيله. ومؤلف كتاب تقي الدين سيرة حياة وكفاح، الأستاذ عمر زين، رأى في تقي الدين ما رآه فيه الكثيرون من نجوم جيله، اذ هو أعطى من روائع أعماله وأدائه أدلّة ساطعة. وكما قلنا، فقد استلهم تقي الدين منذ البدء المفهوم المدني المتطور للحكم المعروف في أوروبا وغيرها، في وجه الآخر التعسفي المنافي لروح العصر ولمصلحة الاستقلال الجديد في لبنان وللتضامن بين العرب.
الا رحم الله صديقه الاديب الكبير توفيق يوسف عوّاد الذي لا تزال صورته ماثلة أمامي حتى اليوم من احدى اطلالاته النادرة الاخيرة في التلفزيون اللبناني الجديد يومذاك وهو يثني على قلم صديقه تقي الدين بأنه وحده بين أصحاب الاقلام سُميت كلماته السياسة الرائجة المنتقاة بالصيغة وهي حقاً من بين ثروات لبنان الذهب الخالص.
كان الفكر السياسي واضحاً عنده في خيار الاستقلال الكامل الناجز لوطنه لبنان ولامته العربية ، كماً في استمرار العلاقة الأخوية مع العرب ومع سوريا ومصر خاصة عندما أرادتا الوحدة، ثم لم يخاصمهما عندما أرادت سوريا الانفصال، وكان موقف تقي الدين القريب من الرئيس فؤاد شهاب في فترة ما ولخيار اللبنانيين بعامة واضحاً دائما في هذا الشأن، فلكل قطر عربي أن يختار الطريق الذي تريده الكثرة من أبنائه، وإنه درس أعطته اياه خبرته كنوع من الرجال مميز قيل فيه أنه صنع من قبله ومن بعده.
كان يؤنسه من قديم من مطلع عهد الانتداب ويجذبه بقوة ويطمئنه على المستقبل اريج كلمة جديدة تابع انتشارها منذ البدء في أوساط محددة من المحامين خاصة منهم يوسف السودا هي كلمة الميثاق استخدموها هكذا في البدء كاعتراض فقهي حقوقي على تحريف فرنسا والمتأثرين بها من اللبنانيين لمعنى كلمة الانتداب فهي لا تعني بالاصل ولا يجوز أن تعني حق فرنسا في التفرد في القرار بل هي يجب أن تفيد المشاورة مع أهل البلاد والالتزام بالعهد ولما لم تفعل فرنسا ذلك بشكل مؤسساتي، لم يبق امام اللبنانيين الا أن يمضوا مع بشارة الخوري ورياض الصلح الى ميثاق وطني صارم فيما بينهم هذه المرة مختلف ومسدد الهدف يوحدهم وراء حقهم بالاستقلال التام الناجز. وقد جند تقي الدين لذلك كمدير للمطبوعات في معركة الاستقلال عام 1943، فرق من الزجالين يطوفون بالجبل اللبناني يدعون الى الاستقلال ويزيلون المخاوف التي نشرها هناك بعض انصار فرنسا من عدم قدرة لبنان المستقل على أن يحكم نفسه بنفسه. وقد سمعت بأذني المستشرق الفرنسي الكوموندان لوسرف يتحدث ويكتب في صحف فرنسا عن الاثر الكبير الذي تركه الزجالون اللبنانيون المهرة في زعزعة صورة فرنسا المحبوبة تقليديا في الجبل حتى درجة غفران ذنوبها ومن غير تقي الدين كان سيفكر بمواجهة فرنسا بفرقة شحرور الوادي وروائع عمر الزعني كما حصل بالفعل..
رغم فلسفة بعض الزعامات الشعبية الغاشمة غير المتطورة والقائلة أن الحكم الاجنبي حريق والحريق لا يقاوم بالماء المقطر بمعنى استعمال كل الوسائل حتى الطائفية ضد المحتل الغريب، ظل تقي الدين متمسكاً بالمبدأ وبالحداثة، تلك المنارة التي لا غنى عنها للتقدم ولحركة التغيير في نوع من الشباب الفكري الذي تزود به الثقافة والمثالية بعض رجال الدولة والساسة، وتحصّنهم ضد الوقوع في الاستسلام لفتوى الجمود والخور، ومن وصاياها إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون. فقد استطاع بعض رجال السياسة والحكم الشرفاء أن بيقوا بعيدين عن هذا المنطق، ومنهم تقي الدين، والواقع أنه بسبب من أصالة فكرية وأدبية ومثالية إنسانية وحداثة حافظ على الدعوة اليها حتى آخر لحظة في حياته، كان قادراً هو صاحب الطربوش التقليدي والفكر الحر على الاستمرار في الولاء لحركة التغيير التي أرادها دائماً للعرب كافة، وخصوصاً لوطنه لبنان، كوطن سيادي طليعي رسمه تقي الدين الصلح مع ابن عمه الكبير رياض في عهد بشارة الخوري، رافضاً أن يكون وطنه لبنان للاستعمار مقراً أو ممراً الى أخوانه العرب. فبقي سيادياً عربياً ناصع الهوية والدور، يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب كما جاء في الميثاق الاستقلالي عام 1943 الاستقلال السيادي ورابطة العروبة في المنطقة تلك هي الوصفة التي اقترحها لبنان لنفسه وللمنطقة كلها.
وبالمناسبة، ولماذا لا نقولها، لقد تعودنا على أن ننظر الى هذا المكان ثقافية انطلياس من شبابيك البيعة على أنه قلعة من قلاع الفكر الميثاقي اللبناني المتطور والنامي مع الزمن، فمنذ فترة غير قصيرة وطلائع متكاثرة وفئات مستنيرة تمثل كل الفسيفساء اللبنانية، تتطلع الى هذه الدار ومثيلاتها، إن وجدت، على أنها أرض لقاء لإعادة تجديد الحلم اللبناني الذي لا يمكن أن يتحول الى حقيقة إلا إذا عمل له كل اللبنانيين، بدءاً بصروحهم الوطنية ، كهذا الصرح الذي من تقاليده فتح القلوب والعقول والعزائم بعضها على بعض، بقوة حوار العقول والقلوب وروح السماح والاستعداد للتغيير.
رغم الصعوبات الكبيرة الناتجة عن أن تقي الدين فعل في وطنه ولوطنه أكثر مما أعلن، لم يوقع ترفعاً إلا بعض ما كتب، ولم يعلن زهوا إلا بعض ما أدى، فان جهد عمر وإيمانه الوطني استطاع أن يقدم في هذا الكتاب، ومن هذه الشرفة الثقافية العالمية، نماذج مشرقة من طريقة ذلك المناضل والسياسي المؤصل والكاتب والمثقف العصروي الرؤيوي تقي الدين في نضاله وفهمه قضية لبنان والقضايا العربية والدولية، بما يؤيد العبارة الفرنسية أن الحكم هو أولاً الاستشراف وبعد النظر. إن لبنان محكوم بأن يكون طليعياً وسباقاً في محيطه، لا ليقود المنطقة من بعض الوجوه وينسجم مع تصنيفه العالي لنفسه، بل ليقوى واقعياً على الخصوص بمنطقته العربية وتقوى المنطقة به.
في وقت بعيد من القرن الماضي كان فيه عروبيو لبنان متجهين الى بغداد وغيرها كمحاور للنشاط القومي العربي، اختار تقي الدين من موقع الادراك لتوازن القوى وامكانات مصر القيادية في التقدم أن يعيش سنوات في أهم الاقطار العربية، مصر. عرف جيداً عالمه العربي، وكان في صميم أشواقه وانتكاساته، والذي حركه دائماً طموح حضاري الى عالم عربي يعيش زمانه. نشأ واستمر طيلة حياته شاهداً ومبشراًَ ونذيراً بأن خلاص لبنان وخلاص الأمة العربية توأمان، خصوصاً بعد قيام إسرائيل فالعرب بحاجة الى خوض معركة الصمود تحت راية الحرية والتقدم والتماسك القومي. إن لبنان في رأي تقي الدين لو لم يكن موجوداً، لوجب إيجاده، لا لأن ذلك إرادة أبنائه والعرب أيضا، بل لأن ذلك ضرورة من أجل طليعية لبنان المنبثقة من تعدديته الثقافية والدينية. فإما أن يكون لبنان هو مكان تفاعل الثقافات والحضارات شرط الخروج من ذلك الى الحداثة وروح العصر، أو يستمر الكبير والصغير فيه وفي هذه المنطقة مهدداً بالرجعة التي ما قامت إسرائيل إلا لدفع العرب وأقطارهم إليها.
سئل أحد الفرنسيين الكبار في زمنه من هو صديق فرنسا فكان جوابه البلد الذي هو شرق المانيا . وتقي الدين الصلح كان يقول أن أقرب العرب اليه وأشدهم ضرورة له، هو العربي الملاصق لاسرائيل جنوبا أي مصر.
فعسى أن يكون التأمل في تجربة قادة هذا الوطن ومنهم من نقرأ اليوم تجربته باعثا لعزم عميق وجدي تتحسسه طلائعنا ونخبنا وشعبنا أيضا ولكن مع الامل بأن ترتقي هنا وهناك العقلية والسلوكيات المتبعة الى فجر الطمأنينة على مستقبل هذا الوطن والمنطقة .
وها نحن الان كما ترون في مراوحة لن ينقذنا منها الا نزاهة الفكر وعمق الالتزام وخاصة اقدام الفئات الواعدة المتنورة على أحياء الروابط الجدية بينها داخل لبنان ككل ومن أحق من هذا المكان بأن يحيي الروابط الذابلة بين المؤسسات الثقافية والوطنية وغيرها، ونتعاهد فعلا فيما بينها ومع أحرار العرب على اطلاق دور لبنان الحر المستقل الطليعي في محيطه العربي فتكون بذلك قد أنهت شعور العزلة والقطيعة بين بيئات لبنان ووضعتهم من جديد على سكة لبنان الواحد المحتاج بعضه الى بعض انقاذا لنفسه ومساهمة مع أحرار المنطقة العربية كلها في تغيير الصورة البشعة الحالية التي تتحرك فيها اسرائيل بقوة لانهاء آخر مشكلاتها على ارض فلسطين بينما هي تقيم في وجه لبنان أولا وغيره من البلدان العربية العوائق في وجه التماسك الوطني والانجاز المدني، وأين نحن من تلك الايام التي كان فيها بشارة الخوري ورياض و تقي الدين الصلح وغير تقي الدين شأن ميشال شيحا وابراهيم عبد العال وحسن كامل الصباح وغيرهم من الافذاذ يطرحون النجاح السياسي والاقتصادي والعلمي اللبناني جدارا عربيا مدنياً قويا في وجه دولة الصهاينة وكل طامع أو جائر نموذجا حضاريا سباقا . اذ ماذا يقف سدا لاسرائيل وغيرها اذا لم يكن عمارة التقدم في لبنان والمنطقة ومشهد الجدية والتضامن في أرض العرب فلا نظل في مراوحة طويلة الله وحده يعرف أين توصلنا جميعاً...
خي!. سنستطيع أخيراً، هنا، ومعكم، أن نتنفس ملء الصدور هواء نقياً، نعيد للكلمة بعض اعتبارها فتعيد إلينا بعضاً من احترام الذات، بعدما أخذتنا المجادلات المحتدمة بالمزايدة والمناقصة خارج السياسة، ورمتنا في مستنقعات الطائفية والمذهبية والعبثية التي تداني الانتحار.
مع تقي الدين الصلح وعبر الحديث عنه، سنضطر الى الارتقاء بالكلمة والمعنى إلى مستوى لم يعد مألوفاً، بعدما سيطرت الأمية السياسية والمزايدة بالجهل والجهالة على العمل العام.
تكفي مقارنة سريعة ومرتجلة بين تقي الدين الصلح، بمعارفه ومعلوماته وصلاته وصداقاته وتجربته وخبراته، داخل لبنان ثم في البلاد العربية جميعاً، القريبة منها قرب العين من العين، والبعيدة منها بعد الكف عن الكتف، وبين الكثرة الكاثرة من سياسيي هذه الأيام والمتصدين للقيادة، لنكتشف كم تراجعت حياتنا السياسية، وكم تردت لغة التعبير عن واقعنا المفجع، حتى ليمكن القول بلا خوف من الزلل ان القاعدة، تحت، أرقى ممن يعتلون "القمة" فوق، ثقافة وعلماً ومعرفة وإيمانا بالأرض والهوية.
وليس تشهيراً بالذات أن نقول: أن معظم من يحكم اللبنانيين أو يتحكم فيهم اليوم لا يعرف لبنان، لا بواقعه ولا بتاريخه، ومن باب أولى انه لا يعرف سوريا ولا يعرف فلسطين، ولا يعرف بالتالي حبل السرة التي يربط بينها، قبل أن نصل إلى مصر ودورها المتصل في هذا المشرق الذي يشكل بوابة أمنها القومي بقدر ما تشكل ترس الدفاع عنه وحمايته، وقبل أن نندفع باحثين على العراق، ولا عراق، ومن ثم فلا عروبة للخليج أما السعودية فتجهد لصياغة دور سياسي من ائتلاف النفط والإيمان فإذا هو محكوم تارة بشروط السوق وتارة بالغيب وكلاهما خارج اليد والقدرة على اتخاذ القرار.
أيها الأصدقاء
في زمن البؤس صار الاستقلال ذكرى موجعة حتى ليصعب الاحتفال به. بل لقد وجد من يستولد من الأول استقلالاً ثانياً، وها نحن نسمع عن استقلال ثالث، وكأن انتصار إرادة التحرر موضة يتفنن المبتكرون في تحديثها، بالحذف والإضافة، بين الحين والأخر، حتى تلائم الذوق، في حين أن مصدرها الوجدان وان طريقها المستقبل.
والاستقلال في لبنان مطعم بقدر من الصلحية، سواء في نسخته الأولى، استقلال الدولة، أو في نسخته الثانية دولة الاستقلال... وفي هذه وتلك بعض من نفحات تقي الدين الصلح ولمساته، سواء في الميثاق الوطني الذي أعد ليكون البيان التأسيسي، لحكومة الاستقلال الأول، أو في خطاب العرش الذي اتخذه منه الرئيس اللواء فؤاد شهاب دليل العمل لبناء دولة الاستقلال.
ومع الاستقلال الذي يفتقد عيده، ورجاله، تحضر كوكبة من الصلحيين، لكل مجتهد منهم نصيب، ويسعدنا أن يكون كبير منهم معنا، هنا اليوم هو أستاذنا منح الصلح.
وطالما دخلنا خانة الحديث الحميم فلقد طالما أسعدنا تقي الدين الصلح بزياراته شبه الأسبوعية في " السفير"، حيث كان يلتف حوله أركان الأسرة يسألون ويستوضحون ويستفسرون ويجيب بذهن متوقد، فإذا الماضي يفسر الحاضر، وإذا الجغرافيا تفسر التاريخ، وإذا الماضي والحاضر والتاريخ والجغرافيا تفسر معاً المستقبل.
لكأنها ميزة صلحية هذه المعرفة الموسوعية بالمنطقة وأهلها: أسرأ ملكية حاكمة، وضباطاً ثوريين، عشائر وقبائل وأعراقاً وروابط مصاهرة وصلات نسب ممتدة جسوراً بين ما كان وما سيكون.
ولقد سمحت لي تلك اللقاءات المتكررة بأن أقترب من موقع الصديق لهذا الكبير الذي كان يفاجئنا دائماً بسعة إطلاعه، وبمتابعاته الدقيقة، وبقدرته على الربط بين ما يحدث من حولنا وما يحدث او سوف يحدث لنا وعندنا، فالمنطقة اشبه بأوان مستطرقة ما يفيض في بعضها الأعلى سيندفع في مساره الى بعضها الأدنى. ولفلسطين حضور دائم. والخطر الإسرائيلي جرس تنبيه يقرع باستمرار حتى ولو تظاهر بعض القادة بأنهم لا يسمعونه، او ان بعضهم الأخر راهن عليه انتهازية وتسلقاً للسلطة.
أيها الأصدقاء
اسمحوا لي ان اقتطف بعض ما كتبت عن تقي الدين الصلح في " السفير" يوم 5 آذار 1986، وفي زاوية " المجالس بالأمانات" ففيها بعض ما يستحق " دولته". ثم انها تجد لها صدى في وقائع هذه الأيام، التي لا تسر ولا تبشر بالخير، فضلاً عن أنها تلامس موضوعاً دقيقاً وحساساً يعاد طرحه الآن وان اتخذ شكل الفجيعة هو: موقع المسيحيين في السلطة وموقف الشركاء منهم.
كان الزمن زمن حرب، في آذار 1986، لذلك كانت الحرب في السطر الأول:
...لكأنها حرب على الناس عموماً وال الصلح خصوصاً، فهي تكاد تدمر ليس فقط الأماكن الأليفة ومهاجع الذكريات الحميمة بل كذلك معالم ما كانته بيروت قبل أن تتوحش. هذا إضافة الى الأنماط المألوفة والمعروفة في العمل السياسي، وإضافة الى تراث الميثاق الوطني أو ما كان يسمى الصيغة الفريدة، وفي لغة بشير الجميل المدموزيل فريدة.
لهذا فتقي الدين الصلح يدور كالهائم على وجهه هذه الأيام. يفتقد في بيروت بيروت (والبيارتة). ويفتقد في لبنان الصيغة وحكم الصيغة ( وأهلها). ويفتقد التواصل الذي يعتبر انه كان آخر من حققه في حكومة كل لبنان الشهيرة العام 1973.
على هامش سيرة اللغة لا بد من الإشارة إلى أن تقي الدين الصلح الذي عمل في كل شيء. العمل الدبلوماسي، إدارة الدولة، التدريس، تأسيس الأحزاب العلنية والسرية، قبل أن يصل النيابة( بالنفوذ وأصحابه وليس بالأصوات) ثم الى الوزارة فرئاستها. قد عرف الصحافة مبكراً فأسس في ربيعه الحادي والعشرين جريدة النداء سنة 1930مع شقيقه كاظم، وهي الجريدة التي كانت نواة الحزب الذي ظهر بشكل أولي العام 1937، الميثاق القومي، وكان بين قيادييه إضافة الى الصلحيين يوسف السودا والدكتور سليم إدريس ثم ظهر مرة أخرى كأول مولود استقلالي، وتحت اسم النداء القومي سنة 1945.
ولرياض الصلح في دنيا تقي الدين الصلح مجلس دائم لا ينفض سامره ولا يتوقف ذكره. حتى ليخيل اليك أن الرجلين روح في جسدين، وأن الباقي هو امتداد للراحل وان منحاً هو امتداد العم- بعد العمر الطويل- وان أولاد الأشقاء او حفدتهم سيكملون رسالة العائلة التي فرعت نفسها كأنما بقرار بين دمشق وصيدا وبيروت.
وبين النوادر المروية على لسان تقي الدين الصلح أن احد وجهاء بيروت (المرحوم عمر بيهم) كان لا يفتأ يذكر بان آل الصلح جاءوا من صيدا بينما آل بيهم كانوا في بيروت. فكان رد تقي كنا في دمشق لما كان الوالي في دمشق، وصرنا في صيدا لما صارت مقر الوالي، فلما صارت بيروت ولاية جئنا بيروت. انتم الولاية ونحن الولاة.
وبعد اللغة القيافة. المميزة بالطربوش الذي يكاد يصبح علامة فارقة في الحياة السياسية اللبنانية. ثم العباءة المغربية شتاءًً، مع ربطة العنق الكلاسيكية المعتقة مع حمام الورد للوجه والصلعة، بعد الحمام الصباحي.
ولهذه القيافة مجالس مجالس وشروح لماذا هذا ومتى ذاك وبأية نسبة ودور الست فدوى في ذلك كله.
وربما بفضل المعرفة والتجربة والخبرة والتراث. تكتسب لغة تقي الدين الصلح تلك الرنة التاريخية المميزة. ويعكس حديثه عموماً استشفافاً للتاريخ ووعياً به ندر ان تجد له شبيهاً عند محترفي اللعبة السياسية في لبنان.
فوفق المدرسة الصلحية أعط المسيحي من السلطة ما يلغي خوفه من الأكثرية الإسلامية وبالتالي شعوره بالحاجة الى الغرب كضامن او عنصر حماية، وبالطبع فمن حق المسيحي على أمته أن توفر مباشرة هذه الضمانات.
وبين قواعد العمل عند تقي الدين الصلح: لقد قام هذا البلد على صيغة اذا انتهت تنتهي معها مبررات وجوده، فكيف يمكن لي أن اقبل ببلد غير متمايز يغني المنطقة ويكون عامل إثراء لها؟! عندها لا اجد مبرراً للبلد على الإطلاق. أهمية البلد في تمايزه بنظامه وحرياته وعلاقاته ومستواه الاجتماعي والثقافي. والا فلتكن الوحدة... نحن وحدويون وقوميون في الأساس. لقد قالوا أن الأقليات الطائفية تخشى على نفسها من البحر الإسلامي في المنطقة وكان جواب العام 1943: فليكن على شاطىء هذا البحر الكبير، بيسين، صغير يضيف
الى البحر ولا ينقص منه ويعكر جوه... وهمنا الآن يجب ان يتركز على تنظيف ، البيسين، ومده بالكلور، اذا لزم الأمر لا على الغائه واقتلاع حجارته من الجذور.
أيها الأصدقاء،
عذراً إن كنت قد أطلت، لكن صاحب السيرة يستحق، كما دوره في حياتنا السياسية. ثم ان المقارنة بين ما كان في أيامه وبين ما يجري هذه الأيام يفرض ان يعطى مساحة يحتلها آخرون لا يستحقون.
يبقى أن نتوجه بالتحية إلى عمر زين، الذي تتلمذ على يدي تقي الدين الصلح، وكان من حوارييه، وحول بيته الى منتدى يتلاقى فيه الباحثون عن الأجوبة، بمساعدة المربية الممتازة السيدة عدلا سبليني، التي لولاها لما أكمل " ابو محمد" عمله- الوثيقة، والتي من حقها أن تضع توقيعها الى جانب توقيعه.. وربما قبله، كما كتبت كشاهد في حفل تقديم هذا الكتاب.
أما الحركة الثقافية في انطلياس فهي تضيف الى رصيدها باستمرار، فتعزز دورها كدار لقاء ومنتدى حوار وحافظة لمن وما يستحق أن يحفظ من القيادات والوقائع، في زمن يكاد الزور والتزوير يشمل جوانب حياتنا جميعاً، متجاوزاً السياسة الى المجتمع، والماضي الى المستقبل.
أيها الناس: علينا ان نحفظ ذاكرتنا حتى لا يقتلنا التشويه المقصود، سواء تجلبب بالطوائف ام بالحق الإلهي للقيادات والزعامات التي تكاد تهدم علينا الوطن.
رحم الله تقي الدين الصلح
وليرحمنا الله ونحن نواجه من وما نواجه في زمن السوء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عندما طلب مني الصديق الاستاذ عمـر زيـن المشاركة في هذا اللقاء الكريـم حول المغفور له الرئيس تقي الديـن الصلح، لم اتردد لحظة بالقبول. ذلك لان الطلب يأتي من صديق عزيز ، والموضوع يخص رجلاً من رجال لبـنان والعروبة الكبار، والمكان رحاب الحركة الثقافية في انطلياس !
رغم فارق السـن بين الرئيس الصلح وبينـي، ارغب ان ادّعي ان علاقة وطيدة قامت وترسّخت بيننا. وهي علاقة لم تكن ذات ركيزة سياسية فقط، بل انـها اتسعت لتشمل مجالات اخرى، منها الفكري والادبـي والاقتصادي وحتى الفنـي..... وصولاً، وقد تفاجئون بذلك، الى مجال الاناقة الذكورية.... وكان الرئيس الصلح يدهشني دائماً باطلاعه الواسع على شتى المواضيع الطارئة، وما يتعلّق بالحداثة والتحديث خاصة. وقد يكون تقي بك في طليعة من عرفتهم من رجال السياسة بقدرته على الاستشراف والتحسّب والتحوّط. اما لياقته وظرفه وحضور بديهيته وحسن تعامله مع الآخرين فيشهد له بـها كلّها كلّ مَن سعده الحظ بالتعرف اليه عن كثب. كذلك التزامه العربي والاستقلالي والتوافقي، هذا الثالوث الذي قام عليه الميثاق الوطني والذي كانت لتقي بك يدٌ محورية فيه. وليس صدفةً انه كان رئيس الوزراء الاول الذي قامت علاقة تعاون وثيق ومريح وصادق بينه وبين المغفور له الرئيس سليمـان فرنجيه، الذي اشتُـهر بصلابة الشكيمة وصعوبة المـراس.
في مناسبة الذكرى المئوية الاولى لولادة المغفور له، وذكرى مرورتسعة عشر عاماً على وفاته في السابع والعشرين من شـهر تشرين الثاني (نوفمبـر) سنة 1988، اجد مناسباً، والظروف القائمة في لبـنان اليوم هي ما هي عليه من تأزم سياسي وصل الى حد الانقسام الوطني وفراغ موقع رئاسة الجمهورية، ان اختار بعضاً من اقوال واحاديث المغفور له كمثال على فكره ونـهجه السياسي، وهي كانت قد اطلقت في مناسبات شبيـهة بالتي نمـرّ بـها اليوم. وكأن لبـنان السياسة والسياسيـن عصّي على التطور والتغيـير!
1-في حديث له مع مجلة "الحوادث" بتاريـخ 1/1/1982 (اي منذ اكثر من 25 سنة)، والسنة كانت سنة انتخابات رئاسية كما تذكرون، والخلاف بين اللبنانيـين على اشدّه، بما في ذلك الخلاف حول شخص الرئيس العتيد، وجواباً على سؤال حول احتمـال حدوث فـراغ دستوري نتيـجة تعـذر انتخاب رئيس جديد في الموعـد الدستوري قـال :"... علينا منذ الآن ان نبذل الجهـد للحؤول دون حدوث الفراغ الدستوري ....ويـهمنا بالطبع ان تبنى قواعد المرحلة المقبلة على اساس المحافظة على وحدة لبـنان وعروبته وديموقراطيته، لانـها مقومات اساسية بدونـها يفقد لبـنان كثيراً من المعاني، ان لم يكن من اسباب وجوده". ثـم قال : "وعندما نكون في مرحلة اختيار رئيس الجمـهورية، علينا ان ننظر فيه الى صفات معيـنة بمنظار الوفاق .... إذ يجب ان تتوافر في هذا الرئيس النظرة الوفاقية الصادقة التي شـهدت له بـها حياته الوطنية وسلوكه السياسي في الحقل العام .... اي ان الرئيس بذاته وتكوينه وتفكيره يجب ان يكون وفاقياً"!!! وفي حديث آخر حول الموضوع نفسه قال: "....معركة رئاسة الجمهورية بإعتقادي هي مشروع وفاق وطنـي...." وقال إن المواصفات الدائمة التي يجب ان يتحلى بـها الرئيس ".... تتلخص بالانفتاح على كل التيارات وكل الفئات والبلاد العربية. ذلك لان علاقات لبـنان الخارجية مع كل دولة لـها تأثيـر على الوضع الداخلي...."! (كتاب السيرة، الجزء الثاني، ص. 97.)
2-وعن اختيار الرئيس بشارة الخوري رئيساً للجمهورية سنة 1943 وعما اذا كان هذا الخيار راجعاً الى الصداقة التي كانت قائمة آنذاك بين بشارة الخوري ورياض الصلـح يقول تقـي بك: "طبعاً كان هناك صداقة قوية بينـهما، لكنه (اي رياض الصلح) اختار بشارة الخوري للرئاسة لانه كان كبـير الساسة والزعماء المسيحيـين، والموارنة بصورة خاصة" (كتاب السيـرة، الجزء الثانـي، ص.53). فـهل يذكّرنا هذا الكلام ببعض ما يجـري اليوم؟؟؟
3-وفي حديث آخر مع مجلة "الحوادث" بتاريخ 7/12/1984 سُئِـلَ :"ماذا يعنـي الاستقلال الثانـي؟" فأجاب: "كما يولد الانسان مرة واحدة يولد الاستقلال مرة واحدة.... ومن الغريب ان يتحدث ايّ كان عن استقلال آخر، وكأنه الغى صكّ ولادته. ولبـنان استقل مرة واحدة هي في العام 1943، ولا يزال مستقلاً. وإن بلداً مستقلاً لا يُلغي استقلاله احتلالُ عدوّ لجزء من ارضه اوحتى لكل ارضه، لانك بالاستقلال يقوم حقك في اخراج هذا العدو الذي اعتدى عليك وعلى ارضك واحتلّـها... الاستقلال هو الذي يعطيك هذا الحق...". فـهل من كلامٍ بعد هذا الكلام؟؟؟
4-وبعد ان وقّع لبـنان اتفاق 17 ايار 1983 مع اسرائيل، وفي حديث له مع جريدة "اللـواء" بتاريخ 5 تموز 1983، ورداً على سؤال حول نظرة الشارع الاسلامي الى ابعاد الاتفاق والدور الاميركي خلال وبعد العدوان الاسرائيلي على لبـنان سنة 1982، اجاب: "... الشارع الاسلامي هو الشارع الذي عانى اكثر. وقد تفانينا حتى فنيـنا . والشارع الاسلامي بخير... صورته وحقيقته ظـهرت يوم الحصار على بيـروت وضربـها... المسلمون لا يمكن ان يقبلوا اسرائيل ... المعارضة الاسلامية هي التي تعبّـر عن الاسلام الحقيقي..." ثـم اردف :" ...الشارع الاسلامي لا يغفر لاميركا تعاونـها الاعمى مع اسرائيل ودعمها العدوان على لبـنان... والمسلم اللبناني حاقد على اميركا....". فـهل مازال هذا الكلام صحيحاً اليوم؟ اذا كان كذلك، فهل من يتعّظ ؟؟؟
أُنـهي مداخلتي بمعلومة تُظـهِر سلوك الرئيس الصلح الاعتدالي والوفاقي وبطُرفة تعكس ما اشتهر به من ظرف سياسي.
في اواخر الستينيات، وبعد اتفاق القاهرة، وعلى ابواب الاستحقاق الرئاسي لسنة 1970، انقسم المشـهد السياسي اللبنانـي بين فريق النـهج وفريق الحلف الثلاثي. وخطر للرئيس فرنجيه ان ينحاز الى فريق دون آخر. فأعلن عن دعوته الى تجمّـع شعبي يقيمه في اهدن.شعر الرئيس الصلح الخطر الذي قد يشكله ذلك على حظوظ الرئيس فرنجيه بالرئاسة. وخلال اجتماع سياسي لاصدقاء فرنجيه في منـزل المغفور له الرئيس صائب سلام، فاجأ الرئيس الصلح الجميع بطرحه فكرة قيام تكتل سياسي جديد بين النـهج والحلف اطلق عليه يومذاك تسمية " تكتل الوسط". وهكذا كان. ونجحت الفكرة، وقام تكتل الوسط واوصل الرئيس فرنجيه الى بعبدا !!!
نأتي الآن الى الطُرفة. على اثر حرب العبور في تشرين الاول 1973، وبتاريخ 4 تشرين الثاني من السنة نفسـها، صدر لـي مقال في جريدة "النـهار" تحت عنوان "لا للصلح الاقتصادي" اعبّر فيه عن وجهة نظري القائلة بأن على العرب ان يرفضوا ما سيُعرَض عليهم من مبادلة لبعض الارض العربية المحتلة في مقابل التعاون الاقتصادي الكامل مع اسرائيل (اي التطبيـع). واذكر يومـها وكان يوم احد ان الرئيس الصلح اتصل بـي في الصباح الباكـر جداً، وكان اول المتصليـن، ليـهنأني على المقال وعلى موقفي من التطبيع ولكنه اردف قائلاً ما فحواه :" يا اخـي اليـاس كل ما جاء في مقالك عظيم ومـهم واستراتيجي واستشرافي. ولكن لي ملاحظة واحدة اتمنى عليك ان تأخذها بعين الاعتبار وتعمل بـها. حبذا لو بدّلت عنوان مقالك من "لا للصلح الاقتصادي" ليصبح "لا للسلام الاقتصادي". واكمل حديثه قائلاً بتحبب اشتـهر به : "على علمي ان آل الصلح اصحابك... ومشكلتك هي مع بيت سلام " !!!
رحـم الله فقيدنا الكبيـر. وشكـراً للصديق عمـر زيـن على هذا العمل الموسوعي المفيد. وعسى ان نقتدي بفكر وسلوك الرئيس تقي الدين الصلح.
أود أن أبدأَ بشكر الحركة الثقافية - إنطلياس، بشخص أمينها العام الصديق الدكتور عصام خليفة وجميع أعضائِها الكرام على تنظيمها هذه الندوة ودعوتهم لي للمشاركة في تكريم أحدِ كبار رجالات لبنان الرئيس تقي الدين الصلح.
كما أريد أن أشكر الصديق الأستاذ عمر الزين وأن أستغلّ هذا اللقاء لتهنئته على هذا الكتاب القيّم الذي هو بالفعل مرجع لكلّ شخص يريد أن يتعرّف الى الحقبة الأهمّ من تاريخ لبنان المعاصر وبالأخصّ الى حياة الرئيس تقي الدين الصلح، لما يتضمنه من معلومات وأرشيف واسع عن تاريخ لبنان من خلال حياة رئيس حكومة "كل لبنان".
أعتقد أنني، من بين الأصدقاء المتحدثين، الأقلَّ معرِفة بالرئيس تقي الدين الصلح. لكنني أستطيع أن أقول أنني تأثرت برؤيا تقي بك ووطنيته وبعمق أفكاره وتحاليله التي يجب أن تشكّل قدوة لكلّ لبناني يحبّ هذا الوطن ويريده أن يستمرّ.
نعى الأستاذ محمد جابر آل صفا الرئيس تقي الدين الصلح في جريدة السفير قائلاً: "في أسوأ الأيام، يغيب أفضل الرجال".
وكم يحتاج لبنان اليوم الى شخص تقي الدين الصلح! فلبنان تقي الدين الصلح، ليس لبنان الطوائف والمذاهب والسفارات والشركات. ليس لبنان الفساد والمنتفعين. لبنان الذي عمل تقي الدين الصلح من أجله هو لبنان المتقدم، لبنان العربي، لبنان الصيغة والميثاق، لبنان التعددي، لبنان السيّد، لبنان العيش المشترك، لبنان الشراكة ولبنان التوافق والوفاق.
يحتاج لبنان اليوم الى وطنية تقي الدين الصلح، الى خبرته السياسية، الى حنكته والى أسلوبه في التعاطي مع القضايا الوطنية الكبرى. تقي الدين الصلح هو من الرجال الذين يستعينُ بِهم وطنهِم عندما يعاني من الأزمات. فكيف اليوم والوحدة اللبنانية والعيش المشترك يمرّان بأصعب حالات الإمتحان؟ فالسيادة الوطنية ناقصة والقرار الوطني المستقلّ ضعيف ومؤسسات الدولة مشلولة.
أُحاول أن أتخيّل الرئيس تقي الدين الصلح جالساً بيننا اليوم، يرّد على أسئلة تتردد في ذهن اللبنانيين. أنا واثق أنه لو كان بيننا لقدّم، ولو نظريّاً، حلولاًً شاملة للأزمة التي نعيشها.
ما هو موقف تقي الدين الصلح من التدخلات الأجنبية على الساحة اللبنانية وهو "مخترع لبنان الإستقلالي" كما قال عنه الصحافي الكبير الأستاذ ميشال أبو جودة؟ هل كان بقي صامتاً أمام جولات السفراء والموفدين العلنيين والسريين على القيادات السياسية من أجل إعطائهم آخر الإرشادات؟
أذكر هنا جزءاً من مقال لتقي الدين الصلح كتبه في صحيفة النداء عام ١٩٣٧، جاء فيه: "...في القاهرة وبغداد ودمشق، تُحَلّ أزمات مصر والعراق وسوريا. وأما أَزمة لبنان فأين تُحَلّ؟ في باريس. لماذا يكون الإستقلال ومظاهر السيادة هنا أقلّ مما هي هناك؟ ولماذا يكون الإستقلال هناك شيئاً ملموساً ويكون الإستقلال هنا حبراً على ورق؟ لقد إستقلّ أبناء الشام فإحترم الفرنسيون إستقلالهم الى الحدّ الذي إتفقوا معهم عليه. وإستقلّ أبناء لبنان وشاء الفرنسيون أن يحترموا إستقلالهم ويلزموا الحدّ الذي إتفقوا معهم عليه، ولكن رجالنا ألجأوهم الى تعدّي تلك الحدود. إنّ الرجل الذي يعطّل إرادته سنوات طويلة ينتهي أمره بفقدانها".
لقد عاد بلدنا ساحة للصراع الدولي والإقليمي بين أطراف لم تَخَف يوماً الا على مصالحها. فالتطورات على الساحة اللبنانية منذ إنسحاب الجيش السوري من لبنان، جاءت نتيجة الخلافات الحادّة بين كل من ايران وسوريا من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل ودول عربية من جهة أخرى. تأججت الخلافات والصراعات على الساحة اللبنانية وانعكست على الوضع السياسي والأمني والإقتصادي وأدّى إنحياز الأفرقاء اللبنانيين الى كلّ من طرفي الصراع الى تعميق الهوّة بين شرائح المجتمع اللبناني.
ما كان الموقف الذي سيتخذه تقي بك في ظلّ هذا الوضع المتأزم؟ طالب تقي الدين الصلح دائماً بالإبتعاد عن سياسة المحاور وبإعتماد سياسة الإنفتاح والتعاون السليم مع الجميع دون إستثناء. وشدد مرّة خلال مداخلة في البرلمان اللبناني: "إن لبنان بلد مستقلّ ليس فيه قاعدة ولا إمتياز، ولا مركز ممتاز لأية دولة من الدول...لسنا من دعاة التنسّك الدولي، بل نحن من القائلين بسياسة التعامل، سياسة واقعية إيجابية مبنية على التعاون مع الجميع الى الحدّ الذي لا يمسّ سيادة الوطن وحريته. سياسة تعني أن الدولة تبقى طليقة اليد، تتصرف في كل قضية تطرأ، وموقف يستجدّ، بحسب ما تقتضي مصلحة البلد."
وهل كان الرئيس تقي الدين يرضى بتدهور العلاقات بين لبنان وسوريا كما هو حاصل اليوم؟ لم يَخفِ تقي بك يوماً خلافه مع القيادة السورية على سياستها في لبنان لكنه لم يسمح أيضاً بجعل لبنان ساحة تآمر على سوريا مهما كانت الأسباب والمبررات. فهو كان يدرك أن هذه العلاقات بين البلدين أساسية ومهمة للبنان. فهذه العلاقات، كما قال تقي بك، في حوار نشرته جريدة السفير في ٤ آب ١٩٨٠، "شيءٌ حيوي ومصيري أكثر من علاقات لبنان بأي بلد آخر عربياً كان أو غير عربي".
وهل كان بقيَ صامتاً أمام الصراعات الطائفية والمذهبية التي تأكل الجسم اللبناني وتهدد مستقبله؟ كلا، فتقي الدين الصلح حسب الكثير من المعاصرين والمؤرخين، هو مساهم أساسي في البيان الوزاري الأول لحكومة الإستقلال الذي وضع أسس ما عرف لاحقاً بـ"الميثاق الوطني". جسّد هذا الميثاق كما ذكر خلال حوار أجرته معه مجلّة المستقبل "الوفاق بين أبناء الوطن في مختلف فئاته وطوائفه، على العيش معاً كشعب واحد في وطن واحد وعلى أسلوب العيش في ظل هذا الوطن". فلبنان، حسب تقي بك، لا يستمرّ "ما لم يكن متعدّد العقائد والتيارات والأحزاب والمذاهب والديانات. فإذا كان لونه لوناً واحداً، فليس له مكان أو كيان أو خصوصية على هذه الأرض. لا مبرّر لوجوده إذا لم يكن إسلامياً ومسيحياً معاً." لبنانه هو لبنان "الرسالة" كما وصفه الإرشاد الرسولي بعد أكثر من عقد على رحيل فقيدنا الكبير.
آمن تقي الدين الصلح بصيغة التعايش، بروح الميثاق، بمفهوم الوطنية، بنهائية الكيان، بحتمية الدولة وبقدرة اللبنانيين على حمايتها والدفاع عنها في أقسى الظروف. لم يطلب شيئاً لنفسه. فضّل أن يكون وراء الستار، أن يلعب دور المستشار والكاتب والمناضل والمفكر الساكت، وعندما كلّفه الرئيس سليمان فرنجيه تأليف الحكومة، ألّف "حكومة كلّ لبنان" عام ١٩٧٣. ترأس تقي الدين الصلح أكبر وزارة في تاريخ لبنان في حينه والتي ضمّت ٢٢ وزيراً. لكنه فاجأ الناس بعد سنة تقريباً بتقديم إستقالته لأن الزعيم كمال جنبلاط سحب وزيريه الدرزيين من الحكومة. إعتبر الرئيس الصلح أن خللاً أصاب التوازن الوطني وأنه رغم شرعية حكومته فإن مشروعيتها قد أصيبت بعطب. وعندما لم يحالفه الحظ والوقت والسياسيين في تشكيل الحكومة الثانية، إعتذر لإيمانه أن لا شيء سوى التوافق يمكن أن يخلّص اللبنانيين من التقاتل. هو الذي لم ينفكّ عن مناداة المسلمين والمسيحيين بالتوّحد من أجل إنقاذ لبنان وعن إستعمال لغة المنطق والعقل، شبكةَ الخلاص الوحيدة.
لم يؤمن "صاحب الطربوش الأحمر" بقدرة السلاح على وضع حدّ للخلافات. لم ير سوى العقل وسيلة للحلّ والعقلانية طريقة لفضّ النزاعات. لم يستسلم خلال إشتداد الحرب اللبنانية. لم يقطع إتصالاته مع كل الأطراف، دون إستثناء وهو الذي حاول يوم تكليفه تأليف الحكومة في عهد الرئيس الياس سركيس جمع أقصى اليسار بأقصى اليمين. كان يشترط الوفاق الوطني كوسيلة وحيدة لإنقاذ لبنان.
كان الرئيس الصلح مقتنعاً أَنّ ليس بإستطاعة فريق في لبنان أن يلغي الآخر، وأن ليس هناك قضية في لبنان تنتهي بغالب ومغلوب. لكن اللبنانيين لم، وأخشى أنهم لن، يقتنعوا أنهم محتمّون على العيش معاً وأنهم يجب أن يراعوا بعضهم البعض وأن يقتنعوا أن الآخر يُساويهم من حيث الحقوق والواجبات. إن تقاتل اللبنانيين ورفضهم للعيش سوية أرهق دولة الرئيس. فهو، وأعود هنا لأذكر حديثه المطوّل لمجلّة المستقبل: "إذا قال اللبنانيون إن "الآخرين" هم المسؤولون عن خراب البلد، فإنّ كلامَهم هذا يعني أنّهم يهربون من الحقيقة الأساسية، أي من مسؤولياتهم، وبالتالي يهربون من واجب الإعتماد على أَنفُسِهم، وعلى أَنفُسِهم وحدهم، لإعادة بناء لبنان من جديد..."
لو كان هناك اليوم رجال من طينة تقي الدين الصلح يؤمنون بإستقلال لبنان ويخافون على وحدة لبنان ومصيره، لكان بقي هذا الإستقلال في الأمان والصون مهما تكاثرت عليه المصاعب والشدائد. إن لبنان بحاجة اليوم الى رجال دولة قادرين على إتخاذ مواقف عملية تُنقذ البلاد وتصون الدولة. "إن أصغر رجل"، والكلام هنا للرئيس الصلح، "وأسوأ رجل في إستطاعتِه أن يضع برنامجاً، ولكن القضية ليست قضية برامج بمقدار ما هي قضية رجال ينفذون هذه البرامج. وكلٌّ منّا في إمكانه وضع برنامج مثالي ولكن ليس في مقدور أيّ كان أن يحقق هذا البرنامج".
نريد رجل الميثاق الوطني خاصةّ وأننا بحاجة ماسّة الى روح هذا الميثاق. فمن دون هذه الروح، التي تكوّنت بإتفاق المسلم والمسيحي على وطن واحد، لا وجود للبنان الميثاق والصيغة. إن سرّ تقي الدين الصلح وعائلة الـ صلح في السياسة كان فهم الإنسان الآخر ومحاورته بغية الوصول معه الى جوامع مشتركة تساعد على ترسيخ الصيغة. أين نحن اليوم من هذه السياسة؟ ونحن نخاف الآخر، ونغار منه، ونقلق من نموّه وقوّته ونستقوي بالخارج لمحاولة إضعافه وتحجيمه وحتى إلغائه.
أختم بمقال "تنبؤي" للرئيس تقي الدين الصلح عنوانه: "الأيام التي تسبق إنهيار الدول" الذي صدر في كتابه "في السياسة والحكم" عام ١٩٧٢. كتب تقي بك:
"ماذا تشبه الأيام التي نعيشها إن لم تشبه آخر أيام الدول، أو إن لم تكن بالضبط هي الأيام التي تسبق إنهيار الدول؟
الخوف على الحدود، من الشقيق قبل العدو.
والمؤامرة على الكيان، من الإخوان قبل الخصوم...
الكلام على الخطر الخارجي، وعلى الخطر الداخلي، على الطابور الخامس، أو على الطوابير...
حديث الحماية الأجنبية وطلب الحماية...
حديث المخطط الإسرائيلي لتغيير خريطة الشرق الأوسط وتحويل دول المنطقة الى دويلات وكيانات عنصرية وطائفية...
نزوح الشباب بكثرة، للهجرة...
والصورة القائمة في الخارج، عن الأمن والنظام وكساد السياحة..."
رحل تقي الدين الصلح قبل أيام من عيد الإستقلال، في العام ١٩٨٨، حزيناً على هذا الإستقلال، قلقاً على الأرض والهوية، متخوّفاً على السيادة والحرية، خائفاً على شعب عانى الويلات وأبى أن يستسلم.
لم نحتفل منذ أيّام بعيد الإستقلال. هذا الإستقلال الذي لم نعرف يوماً كيف نحميه.
ونردد اليوم مع تقي بك: "لبنان يذوب كالشمعة فلنتداركه قبل أن ينتهي".