شــهادة
بقلم: د.صادر يونس
بيروت في 2013/11/2
مئة سنة مرَّت على ولادة رئيف خوري في قريةٍ متواضعة يعتاش سكانها من الزراعة على أنواعها. وكانت العاصمة بيروت وبعض البلدات المحيطة كبرمانا وبيت مري مراكز لتصريف المنتوج الزراعي وهذا ما سمح بظهور نمط من العلاقات الرأسمالية البدائية. تؤكِّد على دور التعليم في حياة الأفراد والجماعات. كان من حظ رئيف أن أنشأ والده نجممدرسة ابتدائية تحضر التلامذة القادرين مادياً إلى دخول المدرسة الإعدادية في برمانا. ويبذل أبو رئيف جهجداً كبيراً في توفير الأجواء المناسبة بعملية التعلُّم وفي تشجيع أجيال الشباب الطالع على توسيع آفاق معارفهم.. مع دخول رئيف الجامعة الأميركية بدأت مرحلة جديدة في حياة أبناء هذه القرية وبدأت مسيرة جديدة في الحياة الثقافية والاجتماعية.
كان أبو رئيف يزورنا مرّة كل أسبوع في بيروت ويتنافس مع والدي في أمور كثيرة وأهمها بذل الجهود لإعداد التلامذة إعداداً جيداً وتوفير إطار مناسب لعملية لتدريس كي تشمل الإناث والذكور، وكان أبو رئيف يفضّل تعليم الذكور لا الإناث وكانت هذه نقطة خلاف مع والدي.
الآن وبعد مرور سنوات وسنوات أعتقد أن أبا رئيف وهو الذي يتميَّز بذكاء نادر لم يكن ليختار هذا الموقف لولا الوضع المالي الصعب في تلك المرحلة. فقد وجد أنّه لا يستطيع توفير التعليم للذكور والإناث في آنٍ واحد فكان خياره الطبيعي تشجيع الذكور بانتظار أوقات أفضل. وسنحاول في هذه العجالة التوقف عند بعض المحطّات الرئيسة في حياة رئيف وفي خاراته الثقافية والسياسية.
1 ـ الخيارات الصعبة
لم يطل الزمن حتى تألَّق اسم رئيف خوري في رحاب الجامعة الأميركية. كان التنافس حاداً بين نمطي التعليم الأنغلوساكسوني والنفوذ التقليدي للثقافة اللاتينية وكانت الخيارات متعدّدة أمام رئيف فالقرن العشرين هو زمن بروز الاتجاهات القومية التي تنثلت في أوروبا بالإيديولوجيات الفاشية والنازية والتي انعكست على الصعيد اللبناني بنشوء الحزب القومي السوري بقيادة أنطون سعادة وبتيارات سياسية أكّدت على النزعة القومية كحلّ للمشاكل المزمنة التي عانى منها لبنان والكثير من البلدان العربية. في ظل تلك الأجواء كان رئيف يبحث عن خياراته وعن السبل للخروج من الأزمات المزمنة التي يعاني منها لبنان وسائر البلدان العربية.
ولا بدّ لنا من التوقف عند دور الأقليّات الدينية وإسهامها في تعميم الفكر القومي وفي طرح شعارات متقدّمة كالعلمنة ويعني ذلك فصل الدين عن الدولة وتبني القيم التاريخية والأخلاقية واعتبار شرعة حقوق الإنسان التي أطلقتها الثورة الفرنسية الكبرى هي الأساس في بناء مجتمعات متقدمة وفاعلة ومواكبة لحركة التاريخ. وفي تلك المرحلة وفي إبان الانتداب الفرنسي عرف لبنان نشوء برجوازية صغيرة توعّت اتجاهاتها السياسية والإيديولوجية. وكان رئيف خوري يسعى إلى تحديد مسار نشاطه الفكري من خلال نخب طالعة تتأرجح ميولها وتتباين انتماءاتها وأهدافها، ولم يكن الاتجاه القومي كافياً لإرضاء نهم رئيف للمعرفة بل تعدّى ذلك إلى الاتجاهات الأممية والاشتراكية.
وهكذا بدأت مسيرة رئيف الفكرية وتوطدت علاقته بالحزب الشيوعي وبالاتحاد السوفياتي. ورسّخ رئيف صلاته بالنخب المنتشرة هنا وهناك وأهمها لقاءات دار المكشوف برعاية الشيخ فؤاد عفيش. ولا بدّ هنا من التساؤل كيف استطاع رئيف أن يجد طريقه وأن يوسع نطاق اهتماماته؟
ولا ريب أنّ الفكر الاشتراكي كان له الأثر الكبير في انفتاحه على قضايا العمال والفلاحين وأصحاب الدخل المحدود. وكانت صلات رئيف عميقة لا سيما بعدد من المثقفين الذين لم يتوفّقوا في الخلق والإبداع وشجعوا على نشوء تنظيمات ثقافية في ظروف صعبة بل مستحيلة.
كانت خيارات رئيف متعدّدة وأهمها الانصراف إلى التدريس بنشاط وحزم وتأهيل التلامذة تأهيلاً جيداً بعيداً عن الكلام الفارغ والعمل لتطوير محتوى التعليم عن طريق ربطه بحركة المجتمع وتوفير إطار مادّي ومعنوي لعملية التعليم.
2 ـ الخيـار القومـي
كان الهمّ الأول لرئيف هذا الانتماء الوطني أي التحرُّر من الانتماءات الطائفية والمذهبية ودخول عالم القوميات والبحث عن الهوية من خلال مقاربة وطنية للأحداث. من هنا كان موقفه الحازم من الانتماءات القومية والعنصرية والتي عبَّرت عنها النازية والفاشية خلال القرن العشرين.
3ـ الخيار الأُممي والاشتراكي
بعد فترة من التردُّد غلبت النزعة الأممية عند رئيف خوري وتقرّب من الحزب الشيوعي معتبراً أنّ الاشتراكية هي السبيل من أجل بناء مجتمع أفضل يولي أبناءه المرتبة الأولى ويعمل على تحقيق المبادئ الكبرى للفكر الإنساني. على هذا الأساس تبنّى رئيف شرعة حقوق الإنسان وشدَّد على حق المواطن بالعمل وبممارسة الحرية سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي. وبالرغم من الأوضاع السياسية المتأرجحة في لبنان وهيمنة قوى الطوائف والمذاهب عمل رئيف مع فريق من المثقفين وفي طليعتهم عمر فاخوري على إبراز خصوصية المجتمع اللبناني في هذه البقعة من العالم، دوره المميَّز كصلة وصل بين الشرق والغرب.
كان عمر فاخوري ورئيف خوري يؤمنان بأنّ لبنان، هذا البلد الصغير المترامي بين ثلوج صنّين وأمواج المتوسط يحمل رسالة في هذا المشرق العربي رسالة عطاء وتمازج وأنّ على اللبنانيين أن يتمسّكوا بتراثهم المميَّز وبديمقراطيّتهم الفذَة. على هذا الأساس اختار رئيف الأممية دون أن يهمل التراث القومي. من هنا موقفه من القومية العربية واعتزازه بالتاريخ العربي. إلاّ أنّ قوميّته لا تقوم على الكلام والشعارات بل هي انفتاح على العالم وتأكيد على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
4 ـ جـرأة رئيف خوري
رئيف خوري مدرسة في الشجاعة وقول الحقّ دون خوف أو وجل ولدينا حول شجاعته أمثلة كثيرة لا مجال للتوقُّف عندها في هذه العجالة. نكتفي بموقفه المشرِّف من النازية والفاشية، وفي عام 1940 ومع انطلاق الحرب العالمية الثانية ودخول الجيش الألماني فرنسا كتب هذا الإنسان الكبير مثالاً أذكر بعض فقرات منه. يبدأ بالتساؤل: أين الذين كانوا ينادون في أحياء بيروت تحيا فرنسا، تحيا فرنسا. أنا اليوم أقول تحيا فرنسا، فرنسا الثورة، فرنسا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. إنّهم قابعون في بيوتهم في حين أن المطلوب هو مواجهة الإيديولوجيات المرتكزة على الاستبداد والتسلُّط.
إننا نعتز ونفتخر بأننا عايشنا رئيف في محطات هامة من حياته القائمة على العطاء والبذل وعلى التفاؤل بالمستقبل. إنّه معلِّمنا ومُلهمنا في الأوقات الصعبة وهو باقٍ معنا إلى النهاية.