ندوة حول
رباعية الدكتور شربل داغر في
درس الشعر العربي الحديث
القصيدة المنثورة : نثر من دون قافية وشعر من دون بحر
موريس أبوناضر
لا يمكن قراءة القصيدة المنثورة التي يؤرّخ لها الكاتب اللبناني شربل داغر في كتابه " الشعر العربي الحديث – القصيدة المنثورة " منشورات منتدى المعارف ، من دون العودة الى النهضة في صيغتها العربية ، وفي تاريخيّتها الخاصة بها ، كما لا يمكن قراءة القصيدة المنثورة من دون العودة الى ظاهرة الحداثة بمضامينها المتعدّدة ، ومن بينها الذاتية والعقلانية والعلموية
من المتفق عليه ، أن حركة النهضة ، وظاهرة الحداثة ، نجمتا عن الاتصال بالثقافة الغربية التي بدأت بالانتشار في العالم العربي ، مع وصول نابليون الى مصر عام 1987، ووصول المدارس والإرساليات الى لبنان ، وظهور المطبعة والترجمة والصحافة .
كان لعملية الإتصال عبر الترجمة والاقتباس والاستلهام والتأويل والحوار والنقد، أثرها على النخب العربية التي كان يمثلّها أدبيا الشيخ ناصيف اليازجي، أحمد فارس الشدياق ، يوسف الأسير، جرجي زيدان ، وكان يمثّلها فكريا شبلي الشميل ، وفرح أنطون، وبطرس البستاني وابنه سليم ، وسواهم .
اتخذت النهضة في كتابات هولاء المفكرين والكتّاب منحى رفضيا ، هو عبارة عن ثورة على الأوضاع الإجتماعية والسياسية التي فرضها المحتلّ العثماني ، ومنحى إيجابيا متصلا بالتطلع نحو حياة جديدة يتحرّر فيها النفس الإنسانية ، على الصعيد الفكري من أثقال الماضي ، ويتحرّر فيها الفرد والمجتمع ،على الصعيد السياسي والاجتماعي من أثقال التقاليد الموروثة ، ومن الاستبداد في جميع أشكاله ، كما اتخذت على الصعيد الأدبي توجها نحوترك الأدب اللفظي الممثل بالمقامة ، واللجوء الى أدب الحياة ، أدب العصر بكل تنوّعاته السردية والشعرية .
أما الحداثة فقد اتخذت في كتابات هؤلاء المفكرين والأدباء منحى متحرّرا عبّر عنه في ثلاثة مفاهيم هي الذاتية ، والعقلانية ، والعلموية .
تبدّت الذاتية التي اعتمدها كتاب النهضة ، في أن الإنسان منذ أيام الفيلسوف الفرنسي ديكارت ، أخذ يستمدّ يقينياته من ذاته ، وليس كما كان الشأن عليه في القرون الوسطى من تعاليم العقيدة المسيحية، أومن سلطة أخرى غير سلطة ذاته . ومبدأ الذاتية هو الوجه الآخر لأحد ثوابت الحداثة ، والمتمثّل في إرادة المعرفة الذي يعني الجرأة في اقتحام كل الميادين ، وكل تمظهرات الحياة . أما العقلانية التي عبرّت عن انتصار العقل على التقاليد القديمة ، والاعتقادات الدينية ، فقد جاءت لتؤكّد أن العلموية التي هي من نتاجها ، أظهرت أن لكل شيىء سببا معقولا بذاته من دون اللجوء الى تفسيرات الدين الوهمية .
في هذا المناخ الثقافي كانت ولادة القصيدة المنثورة ، وكان أوّل منظريها على ما يقول صاحب الكتاب ، جرجي زيدان في مقالة له في مجلة " الهلال " عام 1905تحت عنوان " الشعر المنثور" حيث يعتبر أن هذا النوع من الشعر متوافق مع روح العصر . يقول زيدان : "بدأت نهضة الشعر الأخيرة مع نهضة العلم والأدب والإنشاء في أواسط القرن الماضي ( ... )فالشعر في هذا العصر يمتاز عنه في الأعصر الماضية ، كما يمتاز التمدّن الحديث عن سائر ما تقدّمه من ضروب التمدّن " .
يعزو زيدان نشأة هذا الشعر الجديد الى عدد من المميزات سبق أن أشرنا الى بعضها في كلامنا ، عن أثر النهضة والحداثة على النخب العربية ، ومنها أن هذا العصر - عصر زيدان - يمتاز عما تقدّمه بالأبحاث العلمية المبنية على المشاهدة والاختبار ، كما يمتاز بإطلاق الفكر من قيوده القديمة في المبادىء الأدبية ، والآراء الفلسفية ، ويمتاز أخيرا بأن الأحوال قضت على أهل الشرق أن يقتدوا بالإفرنج في أسباب الإرتزاق وسائر أحوال التمدن ، فأخذوا العلم من كتبهم واطلعوا على آدابهم وعلومهم ، ونقلوا الكثير منها إلى لسانهم ، " فاطلعنا في تلك الترجمات ، والكلام هنا لزيدان ، وفي لغاتها الأصلية على كثير من الآداب ، والأخلاق التي لم يكن أسلافنا يعرفونها ويعرفون أهلها " .
يوضح زيدان منبت هذا الشعر الجديد في الغرب الأوروبي ، ويقرن نشؤوه بروح العصر ، ويضع له تاريخا تطوّريا مرتبطا بأحوال المجتمع ، ولا يفسّره أو يقرنه بأسباب متعيّنة في سير الشعراء . كما يذهب الى اعتبار هذا الشعر، يلتفت الى المعنى أكثر من التفاته الى اللفظ ، ويتفق مع شعر الإفرنج الذي يعرفونّه بمعناه ، لا بلفظه ، " وهو عندهم منظوم ، ومنثور ، والمنظوم قد يكون موزونا غير مقفّى ، أو مقفّى غير موزون " .
ويوضح مؤلف الكتاب أن زيدان عمل على تفسير طبيعة الشعر، بذهابه الى القول أنه يطرق الموضوعات التي اقتضتها المدنية الغربية من آداب اجتماعية جديدة ، ووصف للعواطف وتشريحها ، مع الجنوح الى الحقيقة وتصويرها من دون تكلّف ، ووصف الأخلاق وتحبيذها أو انتقادها .
لم تمرّ كتابات زيدان من دون نقاش من قبل كتّاب عصره ومفكريه ، فعيسى اسكندر المعلوف تناول هذا الشعر، وكذلك الياس انجليل ، ورشيد الشعرباف ، وحبيب سلامة ، وكلها كتابات تؤكد على التلاقي بين الجديد والمختلف ، بين الشعر والنثر ، ، كما تؤكّد على قرب المسافة بين الشعر والنثر ، فالعلاقة لم تعد تراتبية ، بل تجاورية . يكتب مصطفى لطفي المنفلوطي بعد سنوات تعليقا على مقالة زيدان فيقول : " إن الكاتب الخيالي شاعر بلا قافية ولا بحر ، وما القافية والبحر إلا ألوان وأصباغ تعرض للكلام ، فيما يعرض له من شؤونه وأطواره ، ولاعلاقة بينها وبين جوهره وحقيقته " ، ثم يضيف " ما كل موزون شعرا ، ولا كل ناظم شعر شاعرا " .
يتابع مؤلف الكتاب جميع المناظرات التي دارت حول القصيدة المنثورة ، كما يستطلع آراء الذين كتبوا هذا النوع من الشعر، من أمين الريحاني الى المعلوف وجبران ، وصولا الى محمد الماغوط وشعراء مجلة " شعر " ، إضافة الى الذين اعترضوا على قرابة هذا الشعر من النثر، كأحمد شاكر الكرمي وغيره من الذين تمسّكوا بأن الشعر لا يقوم من دون وزن وقافية .
ينقل صاحب الكتاب عن أمين الريحاني قوله " انّ هذا النوع من الشعر الجديد يطلق عليه اسم " فار ليبر " وهو آخر ما اتصل اليه الإرتقاء الشعري عند الإفرنج ، وبالأخص عند الأنكليز والأميركيين . فشكسبير أطلق الشعر الإنكليزي من قيود القافية ، وولت ويتمان حرّر الشعر الأميركي من قيود العروض ، كما يلجأ الى التوضيح أن شعراء القصيدة المنثورة لم يباشروا كتابة هذه القصيدة ابتداء من الجاحظ ، وابن عربي ، على ما يظنّ بعضهم ، بل ابتدأ من الحراك التجديدي المنفتح على القصيدة الأوروبية ، والأميركية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر والذي أدّى في تدافعاته هذه إلى القصيدة المنثورة .
حاول شربل داغر أن يؤرّخ لنشوء القصيدة المنثورة ، فجمع في تأريخه مدوّنة غير مجموعة في السابق ، بلغ عدد نقادها وشعرائها سبعين شاعرا وناقدا ، ولقد كان تأريخه مدفوعا برغبة البحث عن نشأة هذا النوع من الشعر، وتطورّه بلورة قواعده . هذا الشعر الذي ما زال مجالا رحبا للنزاع في أحقيّته بالوجود .
لقد وفّق الباحث اللبناني شربل داغر في عمله التأريخي لمسيرة القصيدة المنثورة ، ولا عجب في ذلك فالذين يقرأون كتبه يعرفون أنه يتمتّع بدراية المنظّر العليم ، والخبير في ما هو سائد في الساحة االنقدية والتحليلية من نظريات ، ومناهج عرف كيف يستفيد منها ، لإنجاز هذا العمل النقدي الناجح .
-------------------------------------------------------------------------------------
من موضوعيّة الترابط إلى تأويلانيّة التماسك في "الشعر العربيّ العصريّ"
شربل داغر بين فعاليّةِ خُلُقيّته ومُلاءمةِ كتابه
(د. أديب سيف)[1]
دوماً كانت عندي هواجسُ حُسن التصرُّف والتخلّص متى كان عليَّ أن أحاضر في شخصيّةٍ تستحقّ التقدير وردَّ الجَميل، وأنا لم أُدرِّس يوماً سوى طرائق الدخول إلى النصّ في حدّ ذاته، معتبراً أنّ الإشارة إلى الكاتب هي من باب الأمانة العلميّة لا أكثر. غير أنّ معالجةَ نصٍّ صاحبُه ما زال حيّاً وهو ساكنٌ أَورِدَةَ امتناني، لا بدّ من أن تكون استكمالاً لعملٍ متكاملٍ كنتُ قد بدأتُ به رابطاً الوفاءَ بالأكاديميّة، أو الذاتيّةَ بالموضوعيّة، حتّى يتأتّى من ذلك ما أسميتُه النقدَ الوفيّ أو موضوعاتيّةَ الذاتيّة.
شربل داغر من هؤلاء الذين أحملُ منهم في ذاتي ثِقلاً ثقافيّاً وأخلاقيّاً في آن، فكنتُ أُحسُّ أنّه ينبغي أن أكون مطبوعاً بالأكاديميّة الأخلاقيّة، من ضمن نظرتي إلى الأكاديميّ الذي لا يكون بالنسبة إليَّ أكاديميّاً إلاّ إذا كان أكاديميّاً أخلاقيّاً. وكتابه "الشعر العربيّ الحديث (القصيدة العَصريّة)"[2] في حدّ ذاته يستحقّ التقدير، ولكنّ مُنتِجَه الكامنَ وراءه هو في الواقع يجب أن يكون أمامه.
ومن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزُها وهي أنّ الخطاب عند بِنْفنِيسْت (Benveniste) هو كلُّ تَلفُّظٍ للمتكلّمُ فيه نيّةُ التأثير في المستمع بطريقةٍ ما[3]، فإنّ هذه الـ "ما" العائدةَ إلى "الطريقة"، هي التي آثرتُ إلى التوصّل إليها بقناعتي، من دون أن أقلِّدَ ذاتي في دراساتٍ سابقة عمدتُ فيها إلى ربط الذاتيّة بالموضوعيّة، عِلماً أنّه متى كان للمتكلّم نيّةُ التأثير فيَّ فهذا يعني أنّ ذاتيّةً ما ستنتقلُ منه إليَّ مُتلقِّياً بشكلٍ معكوس. في خاتمة كتابه، يقول شربل داغر: حاصل الدرس انتهى إلى إعادة النظر في شعر النهضة، ما يوجب إدراج عهد شعريّ لاحق على شعر الانحطاط هو الشعر العصريّ، إلاّ أنّ تحديد هذا الشعر واجه، كما أخفى، مصاعب عديدة فنيّة وزمنيّة (ص 585). ومن هنا نلحظ النيّةَ التي أراد أن نتتبّعها في طيّات الكتاب المتدرّجة، وهي الدعوةُ إلى التعاطف معه إزاءَ تأليفه الكتابَ موضوعاتٍ وإثباتات- كما رأينا نحن- وسنوات وخبرات=زمنيّة وفنّيّة.
عندما نقّبتُ عن طريقة جديدة اختلافيّة للذاتيّة الموضوعيّة، وقعتُ على نظريّةٍ في الترابط والتماسك (Cohésion et Cohérence) هي من بين النظريّات التي تتناول هذين المصطلحين ضمن اتّجاهاتِ مدرسة الألسنيّة النَصِّيّة، وهي تتعدّى أن يكون الترابطُ والتماسكُ في علاقة ارتباطيّة لداخل النصّ ولكنْ بطريقةٍ أفقيّة بين الجمل وعموديّة بين المقاطع، لتصل إلى أنّهما قد يكونان في علاقة ارتباطيّة بين داخل النصّ وخارجه، بمعنى أن يكون النصُّ المترابطُ كتابةً، متماسكاً مع العالَم بوصف العالَمِ النصَّ الأكبر بما أنّ كتاب جُون أُوسْتِن (Austin) "How to do things with words" يربط في رأينا تلقائيّاً بين الكلمةِ في النصّ والكلمةِ في العالم، وبين الذي يُعلنُه الكاتبُ في نصّه وكيفيّة تحويله إلى شيءٍ ما على يد المتلقّي الحَذِق.
ومن هنا جئنا لتحليل كتاب شربل داغر بمصطلح "التأويلانيّة" (Interprétabilité) الذي هو نتيجةُ التفاعلُ (Interaction) الثقافيّ والمعرفيّ بين النصّ-في-العالَم ومتلقّيه، أي، فعليّاً، بين كاتب النصّ ومتلقّيه-في-العالم، بحيث يصير هذا النصّ خطاباً بدخولِ النيّة إليه ومحاولةِ كَشفها، وتحديداً خطاباً ناجحاً- موضوعيّاً كما أردناه ذاتيّاً مُسبقاً- في رأي إنْكفِيسْت (Enkvist) الذي يزعم أنّ كلَّ نصٍّ ينجح في إطلاق سيرورةٍ تأويليّة في وضعٍ معيّن، هو من وجهة النظر التواصليّة نجاحٌ في ذاته[4]. والعمل الأخلاقيّ المنبثق من هذا العمل الأكاديميّ البحت المنطلِق من الألسنيّة النصّيّة، يصير متكشّفاً من مفهوم هذا المصطلح الذي من مقاصد رَبْطه بالمتلقّي أن يعمد هذا المتلقّي، بثقافته ومعرفته هاتين، إلى سَدّ ثغراتِ النصّ المكتوب، بتأويلانيّتِه أي قابليّةِ تأويلِ شيفراتِه غيرِ المفهومة أي إفهامِها لعموم الجماهير، أو الصامتةِ غير المعلَنة بحثيّاً، ليُصار إلى الكشف عنها بدقّةٍ علميّة ثابتة، بما أنّ تحليلَ نصٍّ علميّ- بمعنى "العِلميّة" (Scientificité) وليس "العِلم" (Science)- ليس شبيهاً بتأويل شيفراتِ نصٍّ أدبيّ إبداعيّ تضمينيّاً أو براغماتيّاً وهو مبنيٌّ أصلاً في شعريّته على ضرورة هذا المسكوت عنه الذي لا يُسمّى ثغرةً لأنّه من طبيعة النصّ الإبداعيّ الاحتماليّ. وبالتواتر، أصير أنا مؤوِّلاً لنصّ داغر، والجمهورُ، على اختلاف ثقافته، مؤوِّلاً لنَصّي النقديّ، وتالياً مؤوّلاً بطريقةٍ مضاعَفة لنصّ داغر، وهكذا دواليك إلى أن تصير التأويلانيّةُ كاشفةً لكلّ نقصٍ ممكن في نصّ الكاتب النقديّ، بتواتر التأويلانيّة من المتلقّي الأكثر معرفةً إلى المتلقّي الأقلّ معرفةً، حتّى تصلَ المعلومةُ إلى كلِّ فردٍ من الجمهور، سواء كان عالِماً في المجال أو لم يكن كذلك. فكما في أحد عناوينه لفتَ شربل داغر في سياقِ كلامه على النظريّة الشعريّة صراحةً- وهي ضمنيّاً سياقُ كلامه على النظريّة النقديّة بعامّة- إلى عبورٍ من "مجالسة الأحباب" إلى "مجالسة الكتّاب" (ص 171)، فالجمهور يأتي ليَحضر محاضرةً، في غالب الأحايين، بسبب دعوةِ صاحبِ كتاب، فيأتي جمهورُ الكاتب أكثرَ ممّا يأتي جمهورُ الكتاب، أي يأتي الجمهورُ غيرُ المختصّ أكثر ممّا يأتي الجمهور المختصّ، ما يفرض على متلقّي الكتاب الذي يحاضر بشأنه أمام الحاضرين المتلقّين، أن يبنيَ كلامه على تأويلانيّةٍ تفترض ضعفَ ثقافة المتلقّي في الموضوع، قوّةَ الكاتب في الموضوع على غرار شربل داغر المتعمّق في موضوع الحداثة والثقافة عموماً، والثغراتِ ذات الأنواع المختلفة بين مدٍّ وجزر وفقاً للهوّة بين الكاتب والمتلقّي المُحاضِر، وبين المتلقّي المحاضر والمتلقّين من بين الجمهور الحاضر، على اختلاف ثقافتهم أيضاً والتي تختلف بين هوّةٍ وهوّة، وتعود لتنعكسَ على سَير التأويلانيّة ومدى مساحتها في محاضرةٍ ما. فلو لم يكن كتاب شربل داغر مختصّاً، لَما كان من داعٍ لأنْ أحاضر بخصوصه، ولو كان الجمهور عالماً بتشعّبات الموضوع وذا ثقافةٍ شبيهة بثقافة داغر، لَما احتاج إلى سماعِ محاضرتي. ولو لم أُقدِّر الهوّة بين ثقافة داغر الأكيدة وبين احتمالِ انحرافِ ثقافة الجمهور عنها، لَما كانت محاضرتي شفهيّةً قبلَ إعادة كتابتها دراسةً، لجَسِّ نبض هذه الهوّة، وعدمِ إسقاطِ كلامي عليها وكأنّني أُسقط رأيي المُسبَق عنها، وتالياً على الجمهور، ما يصبح في رأيي استخفافاً بهم وإلغاءً لهم- بحضورهم- حينما أقرأ محاضرةً حضّرتُها مسبقاً على طاولتي ولا أحدَ سوايَ في الغرفة التي أعمل فيها.
لذلك فهذه المحاضرة حولَ كتاب شربل داغر هي مشروعٌ يبدأ من جسّ نبض جمهورٍ حاضر، لمراجَعةِ كلامي وسَدِّ ثغراته هو هذه المرّة، في دراسةٍ أوسع، وضمن مشروعِ ما أسميتُه "موضوعيّة الذاتيّة": فإنْ لم تقُم بتأليف كتابٍ عندما تقرأ كتاباً، فهذا معناه أنّ نيّة الكاتب لم تصل إليك، وإنْ لم تقم بتأليف كتاب عندَ سماعِكَ محاضرتي، فهذا يعني أنّ تأويلانيّتي لن تصل إليك، وهذا ما أعمل بنفسي على استكماله، ضمنَ مرحليّة العمر التي إمّا تسمح أو لا تسمح بذلك- باعتبار أنّ "تأليف كتاب" بالنسبة إليّ يعني "مشروعَ" التأليف، انتظارَ التوقيت، انتظارَ القدَر الذي يُتيح لي ذلك.
1-موضوعيّةُ الحُكم الذاتيّ وصوابيّةُ التقييم:
لا يكتفي المتلقّي بالتسليم بأنّ النصّ متماسك أو غير متماسك، إذ عليه أن يجد مخارجَ لذلك يتّخذها على عاتقه، لتكون المحصّلةُ، بدلاً من تماسك النصّ، إمكانيّةَ تماسكه أو عدمَها؛ فالتماسك ليس خاصّيّةً لسانيّة بل نتاج نشاطٍ تأويليّ، حيث المؤوِّل يَهبُ النصوصَ معانيَ ودلالاتٍ، ولا يصوغُ أيَّ حُكمٍ (Jugement) باللاتماسك إلاّ في نهاية المطاف[5]. فبوصفنا معلِّمين فإنّ دورنا لا يكون دورَ القارئ المهتمّ فقط، بل دور المقيِّم أيضاً[6]. هذا الحُكم التقييميّ لا ريب في أن يكون ذا توجُّهٍ ذاتيّ، داخلَ "علم" لغة النصّ بعينه؛ وكم نفاجأ- أو لا نفاجأ في هذه المرحلة "العَصريّة" من زماننا- عندما يأتينا محاضرٌ ليتحدّثَ عن كاتبٍ بدلاً من أن يتحدّث عن نتاجه، فيحوِّل القزمَ إلى مُصارعٍ من دون أن يلتفتَ إلى أنّ حولَه مصارعين حقيقيّين، والجمهورُ واعٍ لذلك، في حين أنّ المطلوب منه كان الكلامَ على كتابٍ لا يرى أحدٌ من الجمهور ما يراه منه سواه، فلا يُدرك أنّ في كلامه مُداهَنةً يستمرُّ في تمريرها بفخرٍ أمامَ الجمهور الذي يدرك بدوره الحقيقةَ اللاحقيقيّة لسذاجتها. ففي إطار التحليل النصّيّ، السؤال الجوهريّ هو فهمُ ما يَجعل سلسلةً من الجمل نصّاً، هذه هي العلاقة بين خصائصِ السطح النصّيّ من ناحية، وحُكمٍ أكثرَ ذاتيّةً حولَ نوعيّةِ الكُلّ المتكامل من ناحية ثانية، ما يعني، بكلمة أخرى، العلاقةَ بين مفاهيم كلٍّ من الترابط والتماسك[7]. لا شكّ في أنّ عمل داغر في كتابه كلٌّ مترابط، وأنا لن أقوم بالتركيز على هذه الناحية وهي لديه غنيّةٌ عن التقييم، الذي إذ ذاك يكون تقييماً موضوعيّاً لأنّه مبنيٌّ على أدواتٍ لغويّةٍ داخليّةٍ مؤطَّرة بحجم الكتاب، في حين أنّ التركيز على التماسك هو تقييمٌ موضوعيّ لذاتيّةٍ ما، ليس لأنّ التماسك في حدّ ذاته مبنيٌّ على أدوات موضوعيّة، بل لأنّ ما يُبنى منه في-ذاته على أسسٍ ذاتيّة هو، في مَقلبه الآخَر، مبنيٌّ على واحدٍ من مناهج الألسنيّة وهي علمٌ بذاته؛ ففي حين أنّ ترابط النصّ يبقى نسبيّاً موضوعيّاً وكَمِّيّاً إذ انّ النصّ بطريقةٍ ما يصير موضوعاً ثابتاً لتحليلٍ شكليّ، ما يميّز بدقّة بين النصّ والخطاب بنظر سْلاتْكا (Slatka)[8]، فها هو كارُون (Caron) يقول إنّ مفهومَ قيمةِ الحقيقة (Valeur de verité) لا يمكن تطبيقُه على الخطابات الطبيعيّة، على طريقةِ تطبيقه في الخطاب العلميّ، حيث انّ الأولى لا يمكن أن تُحصر بالثنائيّة البسيطة صحّ-خطأ[9].
ومع أنّ مفهوم التماسك يستتبع حُكماً حَدْسيّاً (Jugement intuitif)[10]، فإنّ مظهرَي شَرطيّةِ الإنتاج النصّيّ لحظةَ إعادة صوغ النصّ، ومسألةِ الذاتيّة الحاضرة بقوّة في تأويل نصٍّ ما، هما داخلان كلاهما في تعريف لفظة "نصّ"[11]. ولعلّ الإشكاليّةَ التقييميّةَ الحُكميّة مختلفةٌ في جوهرِها ومنطلَقِها بيني وبين داغر، إذ هو يَحكمُ على المتحدَّث عنهم منطلِقاً من حشدِ معارفَ حولَ المعرفةِ عنهم- أي من داخلِ موضوع الكلام ولكنْ من خارج النصّ- ، فيما الحُكمُ عندي على مُجمَلِ "موضوع الكلام+حشد المعرفة حوله" منطلِقٌ من نظريّةٍ ألسنيّة من خارج موضوع الكلام ولكنّها تعتمد على مؤشّرات من داخل النصّ.
2-بين النصّ والخطاب: حجمُ الكتاب تجريدٌ لجمهورٍ محسوس
في القسم الأوّل من الكتاب ("الأدب" والخطاب)، نتساءل: لماذا "الأدب" وحدَه بين مزدوجين؟ وأين نظريّاتُ تحليل الخطاب الحديثة؟ من هنا فتأويلانيّتُنا هي أوّلاً للتمييز بين الأدب والخطاب، بين النصّ وتحليله، ولسَدّ هذه الثغرة النظريّة والتطبيقيّة في ما خصَّ الخطاب، كما للإضاءة على مصطلح "الخطاب" وكأنّنا، حين نقوم بتحليله وبالتركيز عليه، نكون قد أثَرْنا التكامل بين مزدوجَي الكاتب ومزدوجَي المحلِّل.
بين الموضوعيّةِ والذاتيّة، وموضوعيّةِ الذاتيّة، نبقى في حالةِ تجاذُبٍ بين الترابط والتماسك ما أسمَته فَرْنانْدِيز (Fernandez) الألسنيّةَ النَص-خطابيّة (Linguistique textalo-discursive)[12]، بين النصِّ الذي هو شيءٌ شكليٌّ مجرَّد، والخطابِ الذي هو تطبيقٌ اجتماعيّ محسوس، على أنّ تحليل الترابط يبقى تحليلاً لسانيّاً بحتاً للعمل الداخليّ للنصّ، في حين أنّ التماسك يستدعي العوامل العائدة إلى وضع التلفّظ (Situation d’énonciation) أو إلى الدرجة التداوليّة (Pragmatique)[13].
إنّ الجمهور الذي كُتب له هذا الكتاب، كان بلا ريب في ذهن ِكاتب الكتاب؛ فداغر، وهو أستاذ جامعيّ ورئيس دائرة اللغة العربيّة وآدابها في جامعة البلمند، يعي فعليّاً الواقعَ المرير الذي تمرُّ به أزمةُ المصطلح "حداثة"، وازمةُ الشعر في عصرنا، وأزمة الجمهور بين الرغبة في السهل والرغبة في فكّ الصعب، بين الثقافة والتسطيح. وشربل داغر يعي تماماً أنّ كتابه الكبير، من بين رباعيّةٍ في "درس الشعر الحديث"، لَما كان أن يكون بهذا الحجم لو كان الجمهورُ لا يحتاج إلى مِثل هذا التثقيف، وإلى مثل هذا الحشد الهائل من المعلومات التي أعتقدُ أنّ داغر افترضَ أنّ جمهوره متباعدٌ عنها. وكلّما زادت ثقافةُ المتلقّي وتأويلانيّتُه بالتالي، صغُرَ حجمُ كتاب داغر التثقيفيّ المعرفيّ، وارتاح الكاتب إذ انّ نيّته هي أن يصيرَ الجمهورُ عارفاً بتلك المعلومات الحاشدة اصطلاحاتٍ وتواريخَ ووقائعَ وشواهدَ وآراء. وداغر يعي الوضعَ التعليميّ الذي لايخفى أيضاً على جمهوره أو جمهور كتابه من حيث المناهج التعليميّة الحديثة، كما يعي وضعَ سوءِ القراءة النقديّة بين التقليد والإغراق في التجديد، إلاّ أنّ معرفةَ الوضع بوعيِ معرفتِه ليست كمعرفة الوضع بمعرفةٍ واعية. ولَكم آلمَني أن يكون ديوان الشاعر يوسف غصوب بألف ليرةٍ لبنانيّة، وفي الدار التي نشرَته وليس على الطريق حيث وقعَ بيَدِ جاهلٍ لم يَدرِ ما الذي يقوم ببَيعه...
لذلك أطلقَ شربل داغر على الندوة عنوانَ "درس الشعر العربيّ الحديث"[14]، متوجّهاً بالتالي بشكلٍ صريح في ورقة الدعوة إلى جمهورٍ يتوق إلى التعلّم أو يتوق هو إلى تعليمه، في كتابٍ يَنشدُ ضمنيّاً هذا التوجّهَ التعليميّ الإفهاميّ الذي، متى ارتبطَ بورقة الدعوة، فهمَ المتلقّي أنّ الكتاب هو ضمنيّةُ الدعوة، فاقتضى التأويل بدعوةٍ من المؤلّف وبالتقاط هذه الإشارة من لَدُن المتلقّي.
3- الترابُطيّةُ صِلةُ وصلٍ بين الترابط والتماسك:
إذا كان الترابط يعني مجموعةَ الوسائل اللسانيّة التي تؤمّن الصِلاتِ الداخل-جُمليّة والمابين-جمليّة في النصّ وتنظيمَهاكما يقول العديد من علماء الألسنيّة[15]، فإنّ هذه تعود إلى المستوى الصرفيّ[16] والنحويّ[17] والتركيبيّ والصوتيّ[18] وأحياناً الموضوعاتيّ[19] والدلاليّ بشكلٍ جوهريّ[20]، بما لكلٍّ من مصطلحَي الترابط والتماسك وفي ما بينهما على حدٍّ سواء، من إشكاليّةٍ اصطلاحيّة، نظراً إلى أنّ تحليلَ ترابطِ نصٍّ ما لا يمكن تحديدُ جوانبه بسهولة ما دام مصطلحَا الترابط والتماسك في علاقةٍ تداخُليّة واسعة[21]. ونظراً إلى هذه الأزمة الاصطلاحيّة التشعُّبيّة والتخالُفيّة أحياناً في آن، فإنّ المهمّ هو تنظيم المستويات اللغويّة- ولكنْ ما يمكن من جديد أن يجعلنا نقع في إشكاليّةِ اصطلاح "الأسلوبيّة". غير أنّ الوقوف عند الإشارة إلى هذا التنظيم حدّدَته الألسنيّةُ النصّيّة بمصطلح "الترابُطيّة" (Connexité) الذي أحياناً أُضيفَ إلى المصطلحين الأساسيّين السابقين كما جاء عند شارول (Charolles) وآدم (Adam)[22]، أو جُعلَ من معايير مصطلح الترابط عينه، ولكنْ بالانطلاق بخاصّةٍ من الروابط والضمائر وأزمنة الأفعال[23]. على أيّ حال فإنّ راينهارت (Reinhart) قد أسمَت هذا التنظيمَ اتّساقاً (Consistance) يعني اللاتناقض (Non-contradiction) عند بِيللِّير (Bellert) وشارول للفصل بين الربط اللغويّ والربط الدلاليّ بين الجمل الذي بات يُسمّى تكريراً (Répétition)[24]. ولا شكّ في أنّ داغر يُتقن هذه المستويات اللسانيّة جميعاً لخبرته في ميدان التعليم والتأليف والكتابتين الشعريّة والسرديّة، ما يجعل المؤوِّلَ الموضوعيّ يُقدِّر هذه الملَكات الأساسيّة للقاعدات اللغويّة[25]، ليبنيَ بعدَها دعامةَ الذاتيّة المبنيّة بدورها على موضوعيّةٍ ملموسة. على أنّ داغر لا يَعرض قدرته الكتابيّة التقنيّة، فيبقى بسيطاً في إيصاله المعلومات، مركِّزاً على إيصالها وليس على إيصال عُروضه اللغويّة المميَّزة، وهذا جانبٌ تربويّ لافت، إذ انّ الإغراق في إبراز القدرة التقنيّة الكتابيّة، إلى جانب الحشد الهائل من المعلومات المعروضة، يجعل للترابط مفعولاً عكسيّاً: فقد يكون الترابط سبباً للاّتماسك متى استُخدمَ فوقَ الحدّ، أو متى أُسيءَ التعاملُ مع علاماته[26]. يقول داغر بشكلٍ متواتر، معتمداً على الربط الصرفيِّ (صيغة الجمع: الأفكار × 3 ¬أصول-أساسيّات-سبُل-تآليف-تعريفات-تحاليل-متون-أسباب-عمليّات-اصطلاحات-مفاهيم-قيَم ؛ صيغة "تَفْعيل": تصويب-تحوير×3-تبديل ؛ صيغة "افتِعال": اعتداء-اختطاف-ابتداع)، والنحويِّ (كثرة المنصوبات)، والتركيبيّ (العطف بالواو خصوصاً-الجرّ بالحرف "في")، والصوتيّ (التوازنات: / بما يتيح درس نشأة / كما يتيح درس تطوّر / - / في ما كان عليه في أصله / وفي ما انتهى إليه من تحوير / ؛ صوتا السين والصاد خصوصاً أنّ هذين الصوتين هما حَدّا صوت "الثاء" الذي يقع بينهما لحماية صوت "الحداثة" التي يتكلّم عليها الكاتب (ليست-أساسيّات-سبل-لدرس-درس-درس-استمرار-نسق-أسباب-سريعة) (النصاب-الصحيح-صولها-تصويب-النصاب-الصحيح-الخاصّة-نصابها-الصحيح-أصله-صيغته-أصولها-اصطلاحاتها)، والدلاليّ اللاتناقضيّ المبنيّ على التكرار الواضح في الشواهد التي سبقَت، وعلى الإضافة الاستدراكيّة الدلاليّة (كما) وشَرْطات الجمل الاعتراضيّة التي تتخلّلُها أداةُ تفسير (ذلك أنّ) استنتاج (لو) أو تعارض لا تناقضيّ (بل-إلاّ أنّه)، والزمانيّ (هيمنة المضارع)، لموضوعة "الفكرة/الحداثة": لا يعني النصاب الصحيح [...] إرجاعَ الأفكار إلى أصولها في حركة قريبة من الأمانة الأخلاقيّة: مثلُ هذه الأمانة ليست من أساسيّات الفكر أبداً، عدا أنّ قوام الفكر اعتداءٌ واختطاف ومناقضة وتصويب وتحوير؛ بل يعني النصابُ الصحيح العملَ على وضع سبُلٍ تاريخيّة لدرس الأفكار، بما يتيح درسَ نشأة هذه الفكرة أو تلك على أنّها ابتداع، كما يتيح درسَ تطوّرها اللاحق أي حياتها الخاصّة واستمرار عيشها في الكتابة المحلّيّة. كما يعني وضعُ الأفكار في نصابها الصحيح تبيُّنَ نسق المبدع في ما كان عليه في أصله، وفي ما انتهى إليه من تحوير وتبديل في صيغته المحلّيّة. ذلك أنّ القارئ يقع في التآليف العربيّة على تعريفات أو تحاليل عن الحداثة مقتطعة من أصولها، من متونها، ما لا يُظهر أسباب بنائها، إلاّ أنّه يقوى- لو شاء- على إجراء قراءة، ولو سريعة وجزئيّة، تكشف حقيقة عمليّات الأخذ والتحوير التي نشأت عليها الحداثة العربيّة في اصطلاحاتها ومفاهيمها وقيمها المروّجة لها (ص 35).
ولكن إذا كانت الترابطيّة تربط بشكلٍ خجول بين الترابط والتماسك بما أنّها تبيّن التتابعَ الدلاليّ والتداوليّ بين الملفوظات[27]، فإنّ داغر في الشاهد السابق قد عرف، أيضاً، كيف يربط بين وضعين تداوليّين (=لا تُحوِّروا+أنا أُصوّب)، وبين وضعٍ من مجموع الوضعين التداوليّين ووضعٍ تداوليٍّ في زمن العالم العربيّ الخارجيّ للكتاب (تصويب التحوير يصوِّب نحوَ جمهور اليوم: المجتزئ+المروِّج).
ولتطوير هذه الرؤية المنفتحة للترابط نفسه، نتعمّق في الجانب التداوليّ الذي يفترض تأويلانيّةَ المتلقّي، باعتبار آدم قد ذكّرَ بأنّ النصّ لا يُحكَم عليه بالتماسك لمُجرَّدِ أنّه يقدِّم علاماتٍ من الترابطيّة والترابط[28].
4- تفاعُلُ الترابط مع التماسك ºتفاعلُ إدراكيّةِ الكاتب مع تأويلانيّة المتلقّي:
إنّ مفهوم التماسك يفترض التنظيمَ المنطقيّ للفكر إزاءَ نيّةٍ شاملة، عائداً بذلك إلى المستوى الدلاليّ للخطاب[29]، مطوِّراً هكذا المستوى الدلاليَّ للنصّ الذي أبانَته الترابطيّة، إلى حدّ الدلالة الموضوعاتيّة التداوليّة[30]. من هنا فإنّ التماسك الذي لا يمكن أن يُعمَل على نيّته وتداوليّته بدون مُتلَقٍّ يَعمل على كشفهما، لهُ ما لَهُ من تأويلانيّة النصوص[31]. وبما أنّ التأويلانيّة تفترض ذاتيّةً ما، وبما أنّ ما من تماسكٍ يمكن بناؤه إلاّ على قاعدة الترابط الموضوعيّة بالعبور من البُعد الجُمليّ (Dimension phrastique) إلى البعد النصّيّ (Dimension textuelle) المرتكز على تماسكِ مفاهيمَ مستندةٍ إلى وسائلَ مترابطة مناسبة كما عند بْرانْدي (Prandi)[32]، طالما أنّ كلّ نصٍّ هو نتاجٌ ترابطيٌّ، مترابطٌ، متماسك[33]، وأنّ الجميع يعمدون إلى مقابَلة التماسك في علاقته بتأويلانيّة النصوص، بعلامات الصلة بين الملفوظات ومكوّناتها كما يشير إليه شارول[34]، تنطبع فينا آليّةُ موضوعيّة الذاتيّة، بين علاقتنا بالنصّ وعلاقتنا بكاتبه، إذ انّ النصَّ المترابطَ إلى حدٍّ كبير والممتلكَ بنيةً داخليّة حيث صلاتُ الترابط قابلةٌ للانكشاف بسهولة، يعطي القارئَ أدواتٍ ثمينةً تُسهِّل عمليّة التأويل[35].
وإذا كانت لدى الكاتب نيّةٌ ما، فمحتوى كتابته البراغماتيّ ينبغي أن يَكشفَ عنه محتوى متلقّيه المؤوِّل. ونظراً إلى علاقة البراغماتيّة بالصعيدِ الإدراكيّ[36]المتعلّقِ بالصعيد التأويلانيّ الذي هو بدوره لدى فافارْ (Favart) على علاقةٍ بالتمثيلات الإدراكيّة (Représentations cognitives)[37]، كما نجد عند داغر حين يقول ممثِّلاً الشعرَ بالصورة ومُطلقاً إشارةَ الحواسّ المختلفة، باستناده إلى كتاب "مبحث في التصوير": مثلما أنّنا خلصنا إلى القول إنّ الشعر يتوجّه مبدئيّاً إلى ذكاء العميان والتصوير إلى ذكاء الصمّ، فإنّنا نولي أهمّيّةً أكبر إلى التصوير بالمقارنة مع الشعر، إذ انّه يعمل في خدمة معنًى أفضل وأكثر شرفاً. وهذا الشرف قيمته ثلاثة أضعاف من ذلك الذي للحواسّ الأخرى... (ص 224) ؛ فإنّ الاستتباع الدلاليّ والبراغماتيّ الذي هو أساسُ التماسك النصّيّ لدى كْوِيرك (Quirk)، يتحوّل إلى تأويلانيّةٍ عند شارول إذ لا يمكنه أن يَتمّ بدون التماسك كما فهمَه لِيفينسون (Levinson) على أنّه المعلومات المتقاسَمة (Connaissances partagées)[38]: لذلك نجد صيغة "تفاعُل" أو "مفاعَلة" للفظة "الثقافة" في بعض العناوين الفرعيّة دلالةً على التبادل الثنائيّ: الحداثة العربيّة تثاقُف ومناعة (ص 22) ؛ الحداثة في منظور تثاقُفيّ (ص 34). هذا التبادل هو بين الكاتب والمتلقّي، وبين المتلقّي الأوّل وباقي المتلقِّين، وهو في علاقة تعاكُسيّة بين حجم المعلومات لدى المتلقّي وحجم كتاب المؤلّف، وبين حجم المعلومات في محاضرة المتلقّي وحجم المعلومات عند المتلقّي الثالث ومَن يليه، فرداً أو جمهوراً، بسبب اعتبار التماسك شكلاً من تلقّي الخطاب (Réception discursive) يصير مبدأً للتأويل وإعادة التأويل (Réinterprétation)، على أنّ التأويل ليس خاصّيّةً للنصوص إنّما هو حاجةٌ لها كما يذكّر شارول[39]، ما يعني، على أرض الواقع، أنّ كاتب النصّ هو بحاجة إلى متلقّيه، لسَدّ ثغرةٍ له في نصّه أو لسدّ ثغرةٍ في نصّه بالنسبة إلى حجمِ فهم المتلقّي. فإنّ فقرة "الحداثة بين المعاينة والتعيين" (ص 12) منذ عنوانها تضعُ مصطلح "الحداثة" بين التعريفِ الاصطلاحيِّ العلميّ والملاحَظةِ الإدراكيّة بالتجربة، وهي إذ بذلك تُشكِّك في تسميةِ عصر النهضة المتعارَفِ عليها من جهة، وفي تسمية المصطلح البديل في حدّ ذاته من جهة ثانية، فإنّ العمليّةَ الاصطلاحيّة وكذلك العمليّة التجريبيّة لم تُسفِرا عن قناعةٍ باستخلاص النتيجة الفصل، بما أنّ الكاتب ما زال يتساءل عن مصطلحٍ بديلٍ آخر، بأسئلةٍ مباشرة بدهيّة، محتاجاً، ضمنيّاً، إلى تفاعل القارئ في تأويل التباسه المتشعّب هذا، في لحظة "ماقبل المعرفة" التي تسبق الإجابة، على طريقةِ ماقبل الوعي في علم النفس: فماذا يعني هذا الشعر العصري؟ [...] فماذا فيها؟ فما هي؟ (ص 306-307). لذلك فالقارئ عند داغر، وقد وضعه بين مزدوجين في عنوان:الكتاب لـ "القارئ" (ص 87)، ليس هو الذي يعرف القراءة بل التأويل، وهو، براغماتيّاً إذ ذاك، المتلقّي. وإذا كان الكاتب قد جمعَ النظريّات الشعريّة الإدراكيّة:هي حاجات متعاظمة لحفظ الشعر وتوابعه ومتعلّقاته من أخبار العرب وأنسابها، سواء لأغراض السمر والثقافة العامّة [...] أو لتأديب الأولاد بها، بعد أن ولدوا وترعرغوا بعيداً عن بيئات آبائهم وأجدادهم في الجزيرة (ص 383)، فإنّ هذا "القارئ" سيحتاج إلى تأويل النظريّة الشعريّة الإدراكيّة: يتبيّن في هذه الأبيات الثلاثة وجود امتداد نحويّ بين البيت الأوّل والبيت الثالث، اقتضاه بناء المعنى المبنيّ على ما اقتضته الترجمة نفسها. وهو ما يظهر في أبيات أخرى مثل هذه [...] وهو ما يتكرّر في مواضع عديدة في القصيدة عينها [...] احتاجت هذه القصيدة، في أكثر من موضع، في عدد من أبياتها، إلى ما يجمع بينها جمعاً نحويّاً ممتدّاً، مُخلّةً بذلك بمبدأ "وحدة البيت" واستقلاليّته على جميع الأصعدة (العروضيّة والنحويّة والمضمونيّة). وهو الامتداد عينه الذي باتت تحتاجه القصيدة إذ تطلب الحكاية مادّةً من جهة، وتشكّلاً لازماً لها من جهة ثانية (لا جديد يدون اصطلاحت البنيويّة) (ص 550-551). فنحن هنا لم نكن لنخوضَ في تحليل الكاتب للأبيات الثلاثة، بل في تحليل طرائق النظريّة التي اعتمدَ عليها لإيصال نتيجته: فمن الطبيعيّ أن يكون ثمّة امتدادٌ نحويّ في الأبيات الثلاثة، وليس هذا عائداً إلى فعل الترجمة، بل إلى طبيعة التركيب اللغويّ للّغة العربيّة، كما من الطبيعيّ أن يكون هذا الامتدادُ بين البيت الأوّل والبيت الثالث طالما أنّ الأبيات هي ثلاثةٌ أصلاً، أي هي قليلةٌ ليس بين أوّلها وآخرها الكثيرُ ليُحسبَ مساحةً بين حَدَّين. وبدلاً من أن يستكمل التطبيق، أوقفَ تلك العمليّةَ وعاد إلى حشد الأمثلة، مبيّناً لنا ما أدركَ في معايناته، ولكنْ من دون التوقّف بعمقٍ عند أيٍّ من المعاينات. ثمّ هذا الامتداد النحويّ كيف له أن يرتبط بالعروض والنحو والمضمون، كأنّ العنصرَ النحويَّ هو الجزءُ والكلّ في وقتٍ واحد، أو كأنّه مرادفٌ لمصطلحين من مستويين آخرَين؟ هذا الموضع هو من المواضع القليلية التي تَبرز فيها مدرسةُ الكاتب النقديّة بين الشكلانيّة والبنيويّة، غير أنّه لم يتكلّم عليها صراحةً، والقارئُ المثقَّفُ نقديّاً يمكنه أن يستكمل هذا التحليلَ المتماسك للمستويات اللغويّة، إمّا بامتداد المستوى الواحد على طريقة الشكلانيّين، وإمّا بتضافر المستويات الممتدّة على طريقة البنيويّين.
5- الأخلاقيّةُ والثقافة ºفعاليّةُ الكتاب وملاءمةُ المتلقّي:
الفعاليّة والملاءمة هنا هما أبعدُ من "التعبير الكتابيّ" المدرسيّ، إذ ليس "الكتابُ" كتعبيرِ طالبٍ يُسأل سؤالاً لإجابة؛ لذلك فالملاءمة في الكتاب هي للوضعيّة التي كأنّها سؤال ضمنيّ. المطلوب للتلاؤم مع وضعية الكتاب وضعيةُ "المثقّف "العصريّ" ناقداً" (ص 186)، أي المُواكب للتقدّم، وليس بالضرورة التابع للمرحلة العصريّة في اصطلاح داغر الناقل للمعلومة الاصطلاحيّة، بحيث انّ اصطلاحَ داغر الصريح يجب أن يتحوّل إلى مفهومٍ ضمنيّ هو صراحةً تأويلانيّةُ المتلقّي.
من المناسب استبدالُ الزوج التقليديّ ترابط-تماسك، بمجموعةٍ أكثرَ تعقيداً من المفاهيم، منها: ترابطيّة/ترابط-تقدُّم (Progression)وتماسك-ملاءمة (Pertinence)[40]، انطلاقاً من العلاقات بين الجمل وصولاً إلى علاقات هذه الأخيرة بموضوعة الخطاب أو بسياق التلفّظ بحسب شروط رينهارت[41]. فشرط الملاءمة يمكن إحالتُه إلى شروط الخطاب التداوليّة[42]، وفي علاقة هذه الملاءمة بالمتلقّي الذي يفرض هوّةً بين نيّةِ الكاتب وملاءمتِها للمتلقّي، يلتقطُ المتلقّي إشارةَ الملاءمة على أنّها نسبةٌ من نِسب الفعاليّة، وهذا منظورٌ أخلاقيّ آخر إذ انّ المتلقّي الأوّل عملَ مباشرةً على اعتبار الكتاب خطاباً نقديّاً فعّالاً. من هنا فالمتلقّي الأخلاقيّ له دورٌ هنا أكبرُ من دور المتلقّي المثاليّ، إذ انّ المسألة ليست تَبنّي وجهة نظرِ قارئٍ مثاليّ يَعلم كلَّ شيء، وإنّما تقييم فعاليّة النصّ (Efficacité) في سياقٍ دقيق جدّاً[43]، قد يحوّلها إلى فعاليّةِ أخلاق شربل داغر الذي قدّمَ نيّتَه التربويّة والأسلوبيّة في كتابه. هل كانت فعاليّةُ العمل البحثيّ (وجدتُ مناسباً) ستبدو لو لم يتّخذ الكاتبُ بُعداً أخلاقيّاً يحفِّزُ الاهتمامَ بقيمة المرحلة الطفوليّة، ما يتحوّلُ بعداً تربويّاً لدى المتلقّي المتعامل مع الطفل؟: لقد وجدتُ مناسباً العودة إلى ما كتبه الزهاوي بنفسه عن طفولته... (ص 350). وهل كانت ملاءمةُ المتلقّي ستبدو لولا أنّ الصريحَ في إعلان رأي ابن المقفّع هو الضمنيُّ في إعلانِ رأي الكاتب المعمَّم حول كتابه ومن ثمّ النقد بعامّة؟ معاني "أدب" عند ابن المقفّع تتحصّل في تربية أوسع تشمل التعليم، عدا أنّها تتبدّل في دلالاتها الاجتماعيّة كذلك. فمعاني "أدب" تناسب في كلام ابن المقفّع "مجتمع الخاصّة" وتشتمل على ثقافة وسلوك وخصال وغيرها، أي ما للخاصّ أن يبلغه ويتعلّمه ويتمرّس به لكي يبلغ فئة العاقلين. فابن المقفّع يدعو العاقل إلى عدم الانغماس في بيئة الجاهلين بل أن يحترز منهم ويخشاهم: "على العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين" (ص 113). هذه الملاءمة الجارحة بلسان ابن المقفّع جعلَها داغر أكثرَ لطافةً إذ مع أنّه نقلَها بحرفيّتها فهو حوّلَ لسانَه المتوجّه إلى جمهور كتابه، إلى لسان ابن المقفّع الذي به يتوجّه إلى جمهور كتابه، جاعلاً المتوجِّهَ إلى الجمهور من غير زمن الجمهور، فكان ما شرحَه الكاتبُ عن ابن المقفّع هو صراحةُ شرحِ نصّ ابن المقفّع لكنّه ضمنيّةُ شرحِ وجهة نظره في جمهوره اليوم، فكأنّي بداغر مختبئاً خلْفَ كلام ابن المقفّع، وهو إذ نراه على الدوام يحشدُ الكثيرَ من الشواهد بحيث لا يمكن للمتلقّي أن يحكمَ على نصّه على أنّه نصُّه، إلاّ أنّ اختياره لشاهده نابعٌ عن وعيٍ ثقافيّ، وتالياً عن مقصديّةٍ تجعلُ تحليلَ القول المنقول تأويلاً لمقصديّةِ هذا النقل.
هكذا انتقل داغر من صوابيّة الصحّ والخطأ إلى الفعل الأخلاقيّ: أهو تصحيح لنصاب الحداثة بالتالي؟ لا يعني النصاب الصحيح في هذا المجال إرجاع الأفكار إلى أصولها في حركة قريبة من الأمانة الأخلاقيّة (35)؛ ومن ثمّ إلى الملاءمة، حيث لا يمكننا تجاهُل ما جاء على بطاقة الدعوة إلى حضور الندوة "درس الشعر العربي الحديث"، حيث انّها دعوةٌ براغماتيّة لجمهورٍ ليس لمَن لا شأنَ له بالتعلّم أن يأتيَ.
6- الوضعيّةُ الدقيقة والشَخصانيّةُ المُوثَّقة:
بُغيةَ دراسة العلاقات بين مفاهيم الترابط والتماسك، من الضروريّ إعادةُ مَوضَعَة النصّ في سياقه الخطابيّ؛ فبإمكاننا تعريفُ الخطاب بوصفه وحدةً أوسعَ من النصّ الذي لا يُقصي أخْذَ التجلّيات الشكليّة للتنظيم الداخل-جُمليّ بعين الاعتبار، ولكنّه إضافةً إلى ذلك يفرض أخذَ العوامل الوضعيّة والداخل-شخصانيّة بعين الاعتبار على حدّ قول فرنانديز[44]: الالتفاتة ظريفة، إلاّ أنّها تشير- وبسبب خفّتها- إلى شيء أبعد منها، وهو أنّ الشعر بات ينحو منحًى مختلفاً تماماً، صوب "مشاهد الحياة" نفسها... (ص 362)
من هنا فالعلاقة الشخصيّة بيني وبين داغر لا يمكن إلغاؤها ضمنَ وضعيّة التقدير الأخلاقيّ المتبادل، كما لا يمكن إلغاءُ وضعيّة الجمهور الذي يستمع إلى محاضرتي أو يقرأها، في سياقِ وضعيّة الجمهورِ العربيِّ الأوسع، والغربيِّ الأوسع بما أنّ مصادر بحثي مُستقاةٌ من العالَم الغربيّ.
7- من ثقافة الكاتب-النصّ إلى معرفة المتلقّي/المتلقِّين/العالَم-النصّ ºمن المَحَلّيّ/الشامل إلى الشامل/الأكثر شموليّةً:
إنّ بلوغَ حَدّ الجمهور الأوسع استباقاً من دون مُلاقاته، هو احترامُه وهو لمّا يكن موجوداً بعد. لذلك فالنصّ-الكتاب هو الحلقةُ الأضيَق إذا ما قيسَت بحلقة التلقّي النقديّ أو المسموع أو المقروء. لذلك فكلُّ موضعيٍّ هو أشملُ من درجةٍ تأويليّة سابقة، وكلُّ شاملٍ هو موضعيٌّ إلى حين إحاطته بجمهورٍ أو وضعيّةٍ أكثرَ شموليّةً، وبهذه الطريقة تتفاقم الوضعيّاتُ وتتلاقح. بْرُونِيرُون ولارُّوك (Preneron, Larroque) زعما أنّ مفهوم التماسك واللاتماسك في خطابٍ ما هو مفهومٌ نسبيّ بما أنّ كلَّ تأويلٍ لنصٍّ ما يرتكز في أحد جوانبه على معرفة الكون الخارج-لسانيّ (Univers extra-linguistique) الذي يتقاسمُه المتكلّمون[45]. من هنا ينبغي العبور من البنية النصّيّة المَحَلّيّة (Structure locale) إلى البنية الشاملة (Structure globale)، على أساس التمييز بين الترابط والتماسك[46]، حيث انّ كلَّ قارئٍ/مستمع، في طَورِ قراءته/سماعه، يُوصل إلى نشاطٍ من إعادة التأويل الشاملة للنصّ (Réinterprétation globale)[47]. من هنا ينتقل ما نراه شمولاً- جزئيّاً إذاً- إلى شمولٍ أشملَ يجعل الشمولَ الأسبقَ محلّيّاً، ويصل إلى الشمول المطلَق الذي هو العالَمُ أي النصُّ الأشمل للنصّ المحلّيّ، بحيث يقترح النصُّ نفسَه منجَزاً بترابطٍ وتماسكٍ خاصَّين به داخلَ نصٍّ أكبر (Macro-texte) يُسهمان في فَتحه على الدوام[48] وتُسهم العلاقاتُ بينهما بتحويله خطاباً ينبني كوناً دالاًّ (Univers significant)[49] انطلاقاً من أنّ الألسنيّة الصغرى (Micro-linguistique) تمثّل النصَّ فيما تمثّل الألسنيّة الكبرى (Macro-linguistique) الخطاب[50]. داغر يستخدم لفظة "المحلّيّ" بطريقةٍ ينبغي أن يُدركَ أنّها طريقةٌ يستحقّ عليها التنويه، إذ انّها مصطلحٌ يصبّ في خانة الألسنيّة النصّيّة وهو متكرّرٌ عنده، في شاهدٍ سبقَ ذكرُه، لصِفةٍ مُدهشةٍ خاصّة بالكتابة والصيغة الكتابيّة في سياق الكلام على الفكرة وأنساقها (الكتابة المحلّيّة، الصيغة المحلّيّة).كيف عبَرَ من المحلّيّ إلى الشموليّ؟ من الموصوف "كتابة" إلى "الأدب" الذي بدون صفة؛ ففي الفصل الأوّل من القسم الأوّل عنوان: الكتاب، "الأدب" والقارئ (ص 55)، نتساءل فيه لماذا أبقى فيه داغر على المزدوجين حولَ لفظة "أدب" فقط، مع أنّه وضعهما للفظة "القارئ" في موضعٍ آخر؟ نظنّ أنّ الغاية من ذلك هي توسيعُ المساحة الأدبيّة، كما تمَّ توسيعُ هالةِ القارئ، ضمن النصّ المقروء الذي احتلَّ شموليّةَ العالَم، واجتازَ لحظةَ "العصريّة" التي قال بها الكاتبُ بنفسه، نحوَ لحظة اللحظة الشموليّة، إذ انّها في الألسنيّة لحظةُ التزامنيّة، التي لا تنفكُّ تتكرّر وتتكرّر- باختلافاتها- إلى ما لا نهاية، سواء مع القارئ عينه أو بين عددٍ لامُتناهٍ من القرّاء. فالنصّ المتماسك هو النصّ الذي يضع قيدَ الصِلة، بطريقةٍ صريحة أو ضمنيّة، أفعالَ العالَم الذي يمثّلُه، بألفاظ السببيّةِ والشرطِ والنتيجة والجمع والتعارض وما إلى ذلك[51]. اكتشافُ هذا الضمنيّ هو من عملِ المؤوّل، سواء عنى به غيرَ المصرَّح به لنقصٍ في المعلومة، أو غيرَ المصرّح به لنقصٍ في فهم المتلقّي أو لنيّةٍ قصدَها الكاتب. وهذا العمل الأكاديميّ يندرج ضمن الأخلاقيّة الواعية، إذ انّ القارئ، بمواجهةِ سلسلةٍ من الجمل غير الواضحة والمبعثرة، يحاول استدراجَ معارفه، ليس إزاءَ الوضع اللغويّ المباشر ولكن إزاء وضع التلفّظ في العالَم الخارجيّ للنصّ بهدفِ إعادةِ تأويلِ تماسكٍ أو بنائه[52].
8- من التتابُع إلى التدرُّج: التوجّه/التوجيه التَشَكُّليّ
انطلاقاً من مبدأ سْلاتْكا، فإنّ النصّيّة يمكن أن تنماز بمعاييرَ أربعةٍ منها التماسك والترابط والتقدّم الموضوعاتيّ (Progression thématique)[53] بحيث يَظهر النصّ في الوقت عينه متحرّكاً (التقدُّم) وثابتاً نسبيّاً (التكرير)[54]، على أنّ التماسك النصّي يعكس التقدُّم الموضوعاتيّ[55] أو التركيبيّ للنصّ- في مقابل الاكتفاء بالتتابع (Continuité) على مستوى الترابط[56]- بدءاً من الموضوع (Thème) وصولاً إلى خبرٍ (Rhème) يَبرز في نهاية الجملة كما يشير كُومْبِيت (Combettes)[57]، بدءاً من اسم الجنس أو حتّى اسم العلم المفيد للتوثيق، أو من معلومات قديمة وصولاً إلى معلومات جديدة في النصّ (Propos)[58]، على أنّ هذا المفهوم للتوجيه التشكُّليّ (Orientation configurationnelle) يسمح بالتفكُّر في معايَنةِ تأويل النصّ في كلٍّ متماسك[59]، من دون تناقضٍ بحيث لا يقدِّم النصُّ أيَّ عنصرٍ دلاليٍّ يناقض محتوًى مطروحاً أو مفترَضاً سابقاً[60]. إذا كان هذا التوجّهُ التشكّليّ اللامتناقض في نصّ الكاتب أصلاً كان توجُّهاً صريحاً، وإلاّ احتاجَ الكاتبُ المتلقّيَ الأخلاقيّ لتأويلانيّةٍ تصبح توجيهيّةً. من النموذج الأوّل تسلسلُ المصطلح في مفاصل الكتاب: الحداثة في المقدّمة=المصطلح الموازي الأعمّ-العصرية في الوسط=اعتماد المصطلح المخصوص بعامّة (ص 307)-الشعر العصريّ في الخاتمة=تخصيص التوجّه (ص 584) ؛ ومن النموذج الثاني عباراتٌ في موقعٍ واحد، ربّما كاتبُها لم يَعِ أهمّيّةَ كتابتها بالتشكّل الذي وردَت فيه، فاقتضى علينا التنويهُ بذلك.
فمن أنواع التقدُّم[61]: التقدّمُ بموضوعةٍ ثابتة (Progression à thème constant)، حيث الموضوعةُ لا تتبدّلُ بين ملفوظٍ وآخر (ضمائر الغائب المتّصلة والمنفصلة والمستترة العائدة إلى اسم العلم-موضوع الكلام): أتقن الخوري العربيّة نثراً ونظماً، ودرس الفرنسيّة والتركيّة على أستاذ خاصّ، وكتب الشعر في وقت باكر، إلا أنّ شعره المنشور اشتمل على ما كتبه بعد الثامنة عشرة من عمره فقط. فكتب ما هو معروف في زمنه [...] ومع ذلك فهو يُعدّ [...] مؤسّس الشعر العصريّ... (ص 306) ؛ التقدّمُ الخَطِّيّ (Progression linéaire)، حيث الخبرُ يتحوّلُ موضوعةً بين ملفوظٍ وآخر (العصريّة-معنى العصريّة السياسيّ ¬معنى العصريّة السياسيّ-ما يمثّله ¬ما يمثّله-انطلاقة ما يمثّله): العصريّة هذه عنت [...] دلالة سياسيّة، تتمثّل في مواكبة النزعة العصريّة، التي انطلقت من استانبول نفسها، مع السلطان عبد العزيز، وفي استكمال وتسريع لما شرعت به السياسات الإصلاحيّة الموسومة بـ"التنظيمات" منذ العام 1830 وما بعده. وهو ما ينبّه إليه خليل الخوري، منذ الأبيات الأولى في مجموعته الثانية "العصر الجديد" التي يفتتحها بالقول... (ص 307) ؛ التقدّم بموضوعةٍ انفجاريّة (A thème eclaté)، حيث الموضوعة تتحوّل إلى فئاتٍ دُنيا تتحوّلُ بدورها إلى موضوعات بين ملفوظ وآخر (على هيئة نقاط أتى كلٌّ منها بدلاً جزئيّاً): يمكن للدارس أن يعدّد دلالات العصريّة في شعر الخوري: - التنبّه إلى تغيّرات العصر، والماثلة خصوصاً في اكتشافاته واختراعاته العلميّة وغيرها –الدعوة إلى الإصلاح بأوجهه المختلفة – طلب مواكبة الأدب للتمدّن [...] الخروج من الشعر الديوانيّ... (ص 308) ؛ التقدّم الشامل (Progression globale)، حيث الملفوظُ بكامله تعادُ موضوعتُه (اختزال السابق بالضمير المنفصل مع واو الاستئناف "وهو"، في نهاية المثال الذي أوردناه في التقدّم الخطّيّ) ؛ التقدّم عن مسافة (Progression à distance)، حيث إعادةُ تنشيطِ موضوعةٍ شاحَت عن النظر خلالَ تمدُّد النصّ (إعادة ذِكر "العصريّة" من بعد أداة التعارض "إلاّ أنّ"، بعدَ كلامٍ كثير أشرنا إلى كثرته بعلامة حذفٍ فاصلة بين الملفوظات): ما وجب التنبّه إليه، بدايةً، هو أنّ العصريّة هذه عنت [...] إلاّ أنّ هذه العصريّة اكتسبت في هذه المجموعة دلالات أخرى، أشدّ تعييناً [...] يمكن للدارس أن يعدّد دلالات العصريّة... (ص 307-308) ؛ التقدّم التلفُّظيّ (Progression énonciative)، حيث الربط بشأنِ معلومةٍ في الذاكرة يَتمّ بطريقةٍ ضمنيّة: "تكلّمتُ كالماضين قَبلي" عنوانٌ فرعيّ هو تضمينٌ من شعرٍ لاحق مُثبَت لمحمود سامي البارودي (ص 308)؛ لم يكن سهلاً التفريقُ بين ضمنيّةِ المقصود من الظرف الزمانيّ "قبلي"، وضمنيّةِ التأريخ من طرف الشاعر، لعلّةٍ كرّرناها في كتاب داغر هي الحشدُ التأريخيّ الذي يمثّلُ ذاتَه، وربّما يمثّلُ ذات الكاتب الذي هو المسؤولُ عن اختيار شواهده، فكان رأيُه هو في اختياره التاريخيّ، ولكنّ محتوى اختياره التاريخيّ ليس بلسانه. لذلك نعتبرُ العنوانَ ضمنيّةً تضمّنَها بيتُ الشعر الذي قالَه البارودي، فباتَ ما بين المزدوجين، وفي العنوان تحديداً، مقصودَ الكاتب لا الشاعر.
9- نوعُ النصِّ ونمطُه @اختصاص المتلقّي-الجمهور:
إنّ صعوبةَ تَلقّي النصّ تنجم عن نوعه ونمطه، وتالياً عن حجم اطّلاع المتلقّي على هذا النوع أو ذاك النمط. الكاتب يقول فيالفصل الثالث من القسم الأوّل : من "مجالسة الأحباب" إلى "مجالسة الكتّاب" (ص 171)، ثمّ يُردف: الشعر، حسب النقد (ص 171)، ويعني بذلك أنّه يرمي إلى أن ينطبق ما لقارئ الشعر على قارئ النقد في سيرورةِ نقد النقد، ما دام نقدُ الشعر نتيجةً للشعر- بما يعني أنّ نقدَ النقد هو نتيجةٌ للنقد، بالتواتر.
النوعانيّة (Générécité) تتوزّع بين البسيطة والمعقَّدة، بخاصّةٍ أنّ نصَّ شربل داغر هو نصٌّ إبلاغيّ وأدبيّ في آن[62]، وخطابٌ ذو اتّجاهٍ متشعّب بين التأريخِ والنقدِ والحضارة والمجتمع وفلسفةِ اللغة الشعريّة، لوجودِ وظيفةٍ شعريّة فيه إلى جانب الوظائف الإفهاميّة والإقناعيّة والمرجعيّة. فإنّ تناوُلَ الزوج ترابط-تماسك يُبرز تعاضُدَه مع زوجِ الألسنيّة النصّيّة-أسلوبيّة الأنواع الأدبيّة (Stylistique des genres) وزوجِ أسلوبيّة الأنواع-البراغماتيّة[63]. فمع أنّنا "لا نعرف" ما إذا كان نوعُ نصّ الكتاب هو نوع نصّ الكاتب أو نوع النصوص المنقول عنها، إلاّ أنّ النوع الطاغي على الكتاب هو التأريخ: ما يجعل مهمّة كتابة تاريخ شعريّ واحد أو جامع إشكاليةً في حد ذاتها (ص 586). فثقافة الكاتب جعلَت اتّجاهاتِه متعدّدةً، على صورةِ ما جاء في اتّجاهات الكتاب على مستوى الشواهد، بين الفلسفة والعلوم، لا بل أكثر- وهذا الأكثر (على سبيل المثال+وغيرها=يبقى ما هو أبعدُ من هذه الأنواع) هو الذي يحتاج إلى تأويلانيّة قد تصل إلى كلِّ علمٍ قد يخطر على بال المتلقّي، إذ هو من ثقافة الكاتب في تمييز النصّ من الخطاب (خطاب الفلسفة الوضعيّة): هذا ظهر، على سبيل المثال، في تشدّدات كرنيليوس فان ديك العلميّة [...] وهو ما يجد أصوله [...] في خطاب الفلسفة الوضعيّة عموماً [...]كما يمكن ذكر أعمال كتّاب فرنسيّين آخرين وإنكليز [...] وهؤلاء عملوا مثل سابقيهم [...] على تفسير تطوّر الفكر الانسانيّ انطلاقاً من تطوّر العلوم الوضعيّة مثل الرياضيّات والفيزياء والكيمياء وغيرها (ص 575).
ولأنّ النوع الأدبيّ هو ما يَصِلُ النصَّ بالخطاب على ما يقوله راسْتيِيه (Rastier)[64]، ولأنّ فُوكُو (Foucault) يُشكِّك في قبوليّةِ استخدام الاختلافات المميِّزة بين أنماطِ الخطاب وأشكالِه وأنواعه التي تصلُ إلى حدِّ مُعارَضةِ واحدها مع الآخر[65]، فإنّ التأويلانيّة تصبح ضروريّة في خطابِ داغر الثقافيِّ المتشعبِّ بالمعارف، لربط المحتوى بالنوع والنمط إفهاماً للمتلقّي، ولمحاولة إيجادِ محصّلةٍ مُسهِّلة لهذا التشعّب، أو لإيجاد قاسمٍ مشترك بين هذه الأنواع أو الأنماط لجعل المتلقّي أكثرَ فهماً عبْرَ توجيهه.
ولكنْ قبلَ حَلِّ معضلة نوع النصّ ونمطه، أي حلِّ إحدى علامات التماسك، ينبغي استكشافُ الروابط وتواتُرها على مستوى الترابط، إذ انّ هذا الأمر يختلف بحسب أنواعِ الخطابات وأنماطِها[66]، ما يربط بين الترابطِ الموضوعيّ والحُكمِ النابع من الموضوعيّة.
فما انْ يُعاد تَمَوضُعُ الشيء المجرَّد "النصّ" في سياقه الخطابيّ، حتّى ينبغي تضمينُ أيِّ حُكمٍ بشأنِ فعّاليّته مسألةَ النوع، فتناسُبُ النصّ مع وضعٍ تواصليّ ما يَتمُّ تقييمُه وفقاً لاحترامِ نمط النصّ[67].
10- لاتماسُكاتُ الكتاب ºخبرةُ–أخلاقُ المتلقّي
إنّ تأويلَ نصٍّ ما هو سيرورةٌ ناشطة؛ وبافتراضنا المسبق أنّنا سنضع تماسكاً ما قَيدَ المعالَجة، فإنّني، قارئاً، سأفعل كلَّ ما بوسعي لإنشاء هذا التماسك. وفي حال لم يَبدُ لي النصُّ متماسكاً تماماً، فسأبحث عمّا يجعله متماسكاً بزيادة معلوماتٍ ناقصة عليه، بارتكازي على خبرتي الشخصيّة[68]. هذه وسيلةٌ داعمةٌ لذاتيّةٍ موضوعيّة، إذ انّ البحث عن نواقصَ في التماسك لرَدِّ اللامتماسك متماسكاً، إنّما هو بحثٌ عن نواقص الكاتب في كتابه لرَدِّها مكتملةً بأخلاقيّةِ المتلقّي وخبرتِه الكامنَين خلْفَ عملٍ ألسنيٍّ تقنيّ. فاللاتماسكات البارزة يَتمُّ تجاوزُها بالسيرورة التأويليّة للقراءة التي تَكشف عن وسائلَ إدراكيّةٍ لإيجاد حَلِّ للاّتماسك، على أنّ اللاتماسك يمكن أن ينوجدَ بسبب تأثيرِ التخفيف من التماسك (Hypocohésion)، كما ظهرَ عند داغر في بدايةِ أحد المقاطع المتّجهة يساراً بعدَ بياض: وهو ما يمكن التنبّه إليه، بدايةً، في مناخات ثقافيّة تأثّرَ فيها أكثر من طالب، ثمّ كاتب، بأجواء واعتقادات أعداد من المستشرقين، ممّن التقوا بهم، أو تتلمذوا عليهم، هنا وهناك في الولايات العربيّة (ص 575): فهذا المقطع يبيّن انحرافاً عن قوّة السبك التي عوّدَنا عليها الكاتب في مواقع أخرى من كتابه (أكثر من طالب، ثمّ كاتب)، بدءاً من استهلاله على غيرِ ما يُستَهَلُّ به (وهو ما يمكن...)، بالْتباسٍ عدديّ (ممّن) ومكانيّ (هنا وهناك) لاحق؛ أو أن ينوجد بسبب المبالغة في هذا التماسك جماليّاً على سبيل المثال (Hypercohésion)، ما يزيد من حَدِّ سيرورتنا التأويليّة[69]، كما جاء في فقرة "احتياج الشعر إلى النثر": هذا ما جرى تناوله أعلاه في ما جرى تعداده من موادّ تناولها الشاعر العصريّ كموضوعات للشعر [...] جرى الكلام أعلاه، في أكثر من فصل وفقرة، عن علاقات ناشئة بل قويّة بين الشعر والجريدة (ص 550-553): فتكرار الفعل "جرى" يبيّن تماسكاً إلى حدّ التكريرِ غيرِ المستحبّ، وإلى حدّ التذكير الذي يفترض أمامَه قارئاً ساذجاً، وربّما جاء ذلك مقصوداً تماشياً مع لفظة "دَرْس" التي هي غايةُ مجموعته في الشعر العربيّ الحديث.
فإنّ سيرورتَي التأويل وإعادة التأويل الضروريّتين لمبدأ التماسك، تقودان إلى بناء علاقاتٍ لا تكون حاضرةً في المُعطى النصّيّ[70].
هكذا فالتنظير في مفهومِ موضوعة الخطاب هو العبور من العلاقة الخَطّيّة للترابطيّة الجُمليّة إلى العلاقة اللاخَطّيّة للترابط-التماسك التي يقوم بإبرازها المؤوِّلُ انطلاقاً من عناصرَ مُنقطعةٍ في النصّ (Discontinus)؛ وللإشارة إلى ما يَجعلُ للنصّ وحدتَه الدلاليّة، نقترح الكلام على البُعد العَمَليّ أو التشكّليّ (Dimension pragmatique ou configurationnelle)[71].
ولأنّ ثمّة بُعداً براغماتيّاً في هذا المقام، فإنّ مفهومَي الصريح والمُضمَر سيَحضران إلى الواجهة؛ من هنا فرّقَ رينهارت بين النصوصِ المتماسكة صراحةً (Explicitement cohérents) والنصوصِ المتماسكة ضمنيّاً (Implicitement cohérents)، والمقصودُ هنا ليس هو المَدروكيّة النهائيّة للنصّ (Intelligibilité finale) وإنّما أنماط السيرورات الإضافيّة الضروريّة من جانب المتلقّي لإنشاء هذا التماسك[72].
من هذا المنطلق فإنّ عملنا لا يعود سدَّ نواقص بقدْر ما يكون آفاقاً إضافيّةً مبنيّةً على ثقافتنا ومعرفتنا وخبرتنا في مجال كتاب الكاتب، وفي مجال كاتب الكتاب، لنُظهرَ الكتابَ والكاتبَ بحُلّةٍ أبهى من الواقع البَيِّن، فيبدو ساعتئذٍ ما في الكتاب نقصاً بمقابلته بتلك الآفاق، ما يمكن أن يدلّ على أنّ الكتاب ليس ناقصاً في ذاته، أو أنّ الكتاب، على الرغم من صفحاته والزمن الطويل الذي استغرقَه الكاتبُ لكتابته، لا يمكن أن يكون مكتملاً.
11- من محتوى اللغة إلى أفعال اللغة:
إنّ الغاية من وَصْل النصّ بالفعل (Action) يستتبع مؤشّراً حولَ الطريقة التي بها على النصّ أن يُجعلَ مفهوماً-مؤوَّلاً، وذلك بدون أدنى التباس[73]. من هنا فالتأويل في عملنا حولَ نصٍّ علميّ نقديّ هو نقدُ النقد، ما يجعلُ التأويلَ مرادفاً لإفهام المتلقّي- ولا نعني بذلك الإفهامِ التفسيرَ لأنّنا لا نخلط بين مصطلحَي التأويل والتفسير- ، بمعنى أنّ الإفهام لا يعني تفسيرَ كلِّ سطور الكتاب بشكلٍ خطّيّ، وإنّما إفهام المتلقّي ما لا يَفهمُه، وبما أنّ هذا المتلقّي لا يكون حاضراً عند كتابة الكتاب أو عند كتابة البحث بشأنه، وفي حال كان حاضراً في المحاضرة فهو يَسأل بعدَ إنهاءِ المُحاضر محاضرتَه، هذا إنْ أُتيحَ له إنهاؤها أو أتيح للسامع أن يَسأل- ، فإنّ المتلقّي يتّخذ دورَ الإفهامِ الممكن، أي التفسيِر المحتمَل، وتالياً التأويل. وطبعاً هذا الأمر يختلف عن تأويل نصٍّ أدبيّ، إذ انّه حينذاك يكون فكَّ رموزٍ وتضمينات، ونالياً عمليّةً احتماليّة لامتناهية قد تكون بعيدةً من الواقع ولو كانت منطقيّة لأنّها في دائرة التصوّر والصورة، فيما تأويلُ النصّ النقديّ العلميّ يمكن أن يكون احتماليّاً بالنسبة إلى القارئ ولكنْ يجب أن يبقى ذلك في دائرة الواقع لأنّه أصلاً واقعٌ في دائرة العلم والتعليم.
ومن هنا أيضاً، كي يخفِّفَ الكاتبُ من تأويلانيّة المتلقّي الأوّل إزاء المتلقّين المتتابعين، فعلى واحدٍ من أهدافه، في نصّه العلميّ، أن يكون مَنْعَ الالتباس، ليأتيَ المتلقّي الأوّلُ بمهمّةٍ غيرِ شاقّة ويمنعَ الالتباسَ نهائيّاً، غيرَ أنّ هذه الغاية لا يمكن أن تكتمل لأنّ المتلقّيَ الثالث ومَن يليه من المتلقّين يكونون على درجةٍ مختلفة من الاستيعاب. تفكيرُ الكاتب في المتلقّي الأوّل من جهة، وتفكيرُ المتلقّي الأوّل في المتلقّي الثاني من جهة ثانية، يحوّلان اللغةَ على مستوى الترابط إلى فعلٍ على مستوى التماسك، إذ انّ الهدف من اللغة سيكون فعلَ الإفهام، تناغماً مع الإدراكيّة والبراغماتيّة والتواصل. فعبارةُ وِتّْغِنشْتاين (Wittgenstein) "لعبة اللغة" أُعيدَ صوغُها بعبارة شْمِيث (Schmidt) "لعبة الفعل التواصليّ" (Jeu d’agir communicationnel)[74]، ويصيرُ النصُّ الذي تمّ الحُكمُ عليه بأنّه متماسك، فعلاً تواصليّاً أكبرَ (Macro-acte de communication) مُعطياً الدور للتعبير عن نيّةٍ إبلاغيّة (Intention informative)[75]، وتالياً عن وظيفةٍ إفهاميّةٍ ذاتِ نمطٍ تفسيريّ مقرونٍ بنيّةٍ نتائجُها احتماليّة تُحوّلُه مباشرةً إلى طبيعةٍ تأويليّة. فلعبة الفعل التواصليّ تتجلّى في الفعل الذي يعطيه الكاتبُ للمتلقّي، وكأنّه فعلٌ مُنجَز بصيغة المضارع في كلّ زمانٍ مستمرّ (يتحقّق)، وفي هذا نيّةٌ واضحة من ثقة الكاتب بنفسه وبمعلوماته، ومن تشويق المتلقّي بالمشاركة الضمنيّة في عمليّة الإبلاغ: يتحقق الدارس كذلك من بروز فئة أخرى من الشعراء (ص 240). وهكذا إلى فعل التحقّق يضيف الكاتبُ لفظة "فعل" نفسها، محوّلاً نوعَ الخطاب إلى فعلِ نوعٍ: [...] من دون أن تتحقّق المناسبة بين الإضمار والقول، وأساساً بين الفعل التاريخيّ الاجتماعيّ الاقتصاديّ والقول الفلسفيّ الثقافيّ الإبداعيّ عنه (ص 12). وفي الإطار الأشمل، ها هو الكاتب يلفظ صراحةً عبارةَ "فعل الكتابة" بدلاً من الكتابة، وفي إطارٍ أخلاقيٍّ مُوازٍ: إنّ فعل الكتابة كان مخصّصاً في ذلك العهد، كما هو معروف، لأفعال جليلة وسامية... (ص 380)
12- ذاتيّةُ التوجُّهِ الحجاجيِّ الشامل والموضوعيّةُ المنطق-دلاليّة:
إنّ الحُكم على التماسك بالنسبة إلى كارُون (Caron) يصير ممكناً بالكشف أخيراً عن توجُّهٍ حجاجيٍّ شامل (Orientation argumentative globale)[76] لمتتاليةٍ تَجعل ممكناً بناءَ صلاتٍ بين الملفوظات التي تَنقصُها الترابطيّةُ و/أو الترابط و/أو التماسك و/أو التقدّم و/أو الملاءمة الوضعيّة السياقيّة[77]. إنّ هذه المحاولة لإيجاد هذه المتتالية البرهانيّة هي نيّةٌ ذاتيّةٌ مبنيّة على موضوعيّة المنطق للوظيفة الإقناعيّة لتدعيم الكتاب ولإظهار الكاتب بالموقف المتماسك والمسوَّغ. ربّما في الآتي وجدنا تلك المتتاليةَ المتركّزة برهانيّاً بأدوات استنتاجٍ أو تعارض متواترة ثنائيّاً إلى حدّ المبالغة في ترابطيّة الحجاج المنتظم (إذا، لو - بل، إلاّ أنّ) ولكن بمستوًى معجميٍّ مترابط أيضاً يبيّن علاقةَ الترابط الشكليّ بالتماسك مع عالَم القارئ تمثيليّاً؛ وفي إيجادنا إيّاها، نكون قد أوّلنا الكتابَ في منطقٍ برهانيّ أصغر، واحتوينا حجمَه وقرّاءه في آن، على سبيل التسهيل (=مسألة إشكاليّة الحداثة مصطلحاً ونقداً ووأصولاً وبناءً كتابةً وقارئاً وتشارُكاً): إذا كنت أثرت أعلاه مشاكل تعيين لفظ "الحداثة" الاصطلاحيّ، زمنيّاً ومفهوميّاً، في محاولة لتفقّد أصوله ولنقده، فإنّ ذلك لا يخفي أنّ هذا العرض لا يقدّم القليل أو الكثير، في ما يتّصل بموضوع هذا الكتاب. وإذا كان لي من مسعًى مناسب في هذا المجال فهو لا يتحقّق، مثلما فعلت أعلاه، في تتبّع لترحالات هذا المفهوم في أوروبا، بل في التحقّق من محلّيّة هذه الحداثة أي نشأتها أو حدوثها العربيّ [...] لهذا قد يكون تاريخ الحداثة في الكتابة العربيّة أحوَج ما يكون إلى قراءة تاريخيّة تفكّك هذه الكتابات، وإلى قراءة تناصّيّة تُظهر أسباب الاتّصال بين النصّ ومصادره، على أن تنظر هذه القراءة إلى هذه التآليف بوصفها أثر مثاقفة [...] ذلك أنّ القارئ يقع في التآليف العربيّة على تعريفات أو تحاليل عن الحداثة مقتطعة من أصولها، من متونها، ما لا يُظهر أسباب بنائها، إلا أنه يقوى-لو شاء- على إجراء قراءة، ولو سريعة وجزئيّة، تكشف عمليّات الأخذ والتحوير التي نشأت عليها الحداثة العربيّة في اصطلاحاتها ومفاهيمها وقيمها المروِّجة لها (ص 34-35).
من هنا يتحوّل النصّ من البنية الدلاليّة الكبرى (Macro-structure sémantique) إلى التوجّه الحجاجيّ[78] بما أسماه بُوغْرانْد الشروط المنطق-دلاليّة (Conditions logico-sémantiques)[79]، عن طريقِ مفهوم التماسك الذي يستتبع التنظيمَ المنطقيّ للفكر حولَ نيّةٍ شاملة[80]، ما يسمّى منطق الخطاب (Logique du discours)[81]، بالعبور من الاندماج الجُمليّ إلى المنطق النصّيّ[82].
13- العنوانُ من ذاتيّة التماسك التأويليّ للمصطلحات إلى موضوعيّةِ البنية الدلاليّة الكبرى:
إنّ عنوان كتاب "الشعر العربيّ الحديث القصيدة العصريّة" يبيّن منذ اللحظة الأولى تلازُمَ المصطلحين الشائعِ والموظَّف، ما يبيّن أنّ الكتاب بمُجمله قائمٌ على متشاكلةٍ اصطلاحيّةٍ مركزيّة اختزاليّة. يمكن في الغالب تلخيصُ نصٍّ دلاليّاً بعنوانٍ جاهز أو قابل للاستخلاص؛ نتكلّم هنا إذاً، كما يقول إِيكو (Eco)، على البنية الدلاليّة الكبرى (Macrostructure sémantique) أو على الموضوعة-موضوع الكلام في الخطاب (Thème-Topic)، على أنّ ذلك هو فرَضيّةٌ متعلّقة بمبادَرة القارئ لاقتراحِ عنوانٍ مبدئيّاً، وبقراره إنجازَ درجةٍ من التماسك التأويليّ (Cohérence interprétative) تُسمّى مُتشاكلاً (Isotopie)[83]، على سبيلِ تماسك المصطلحات عند داغر. ولكنّ التباس هذا المُتشاكِل (معجميّاً: حداثة-نهضة-تقدّم-نهوض ؛ ترابطيّاً: لو=عدم إنجاز إجراء الإحصاء التثاقفيّ لاستصدارِ نتيجة الاعتماد على المصطلح ؛ عدم البت: صيغة الجمع "المراتب" لا تتناسب مع احتلال ما كان ينبغي أن يكون مرتبةً واحدة) - بدلاً من أن نقول "المصطلح"- حوّلَ هذا المصطلح إلى ذلك "الوجود الطيفيّ، المتحقّق والمتقطّع في آن، لقلتُ عنه بأنّه المضمر الذي يلابس الأحوال العربيّة في الوجود كما في الكلام بل أجد- لو أجريتُ بين المثقّفين العرب جردة إحصائيّة لألفاظ العصر المنقضي الدالّة- أنّ لفظ "الحداثة" يحتلّ المراتب الأولى فيها (ص 12).
ولَكنتُ أتمنّى أن يَدمجَ شربل داغر عنوانَ كتابه بلفظة "تاريخ" أو "آراء" في أوّله لأنّ كتابه حشدٌ من المعلومات حول الشعر وليس تحليلاً شعريّاً كما يعتقد القارئُ من العنوان.
أمّا لفظة "عصريّ" فهي، وإن أصرَّ داغر على أنّها استخدامٌ تاريخيٌّ وارد في الحقبة الزمنيّة التي يتناول الشعرَ فيها، فهي في رأينا تحمل نيّةَ التسويق، إذ انّ الجمهور لن يَعلمَ من هذه الكلمة سوى استخدامِها الدلاليّ المتطوّر زمنيّاً، وما معناها المستخدَم في الكتاب سوى ثقافةٍ مختصّة يعمل عليها الكاتب، وعليه توضيحُها صراحةً وعدمُ تَرْكِ التباسٍ بشأنها بين استخدامها الأصيل واستخدامها المتطوّر، باعتبار الجمهور وزمانه، تماماً كما انّ لفظة "سَلْبي" على سبيل المثال كانت تعني عكسَ الإيجابيّ في حين أنّها اليومَ تعني اتّجاهاً فكاهيّاً غريباً ذا فَرادة.
14- نيّةُ تساؤلاتِ الكاتب في الكتاب الأَكْمَد ºطرح الإشكاليّات عند القارئ:
كما حَشْدُ معلوماته، هكذا حَشدُ أسئلةِ شربل داغر في كتابه، فهو يبدأ بالأسئلة والمساءلة من الصفحة الأولى في إطار مصطلح "الإشكالية" ص 11؛ فنصُّ النقد بذلك مفتوحٌ أصلاً عنده، وبما أنّ عملنا هو نقدُ النقد بتأويلانيّة التماسك، فقد بات هذا النوعُ من النصوص، وهذا النوعُ من الدراسات، على غير عادة، يحتاج كلٌّ منهما لإعادة تأويل، أو قُل لاحتمالِ إعادة تأويل، وكأنّنا، في النتيجة، أمام نصٍّ أدبيّ.
ولا بدّ من أن تتحوّلَ التساؤلاتُ بالنسبة إلى القارئ الأوّل، كما مصدرُ إطلاقها بالنسبة إلى الكاتب، إلى إشكاليّات بما أنّ الإشكاليّة تُصاغ على هيئة سؤال؛ فمايِر (Meyer) يقول إنّ فهمَ نصٍّ هو الْتقاطُ النيّة التي يعبّر عنها، وبما أنّه يُعتبر كُلاًّ فإنّ فَهمَه يَفرض على القارئ أن يستخرج إشكاليّةً ما (Problématique)، في تفاعلٍ يجعلُه يُعيد طرحَ سؤالِ أسئلة النصّ (Question des questions)[84]. هكذا فالنيّة هنا تأتي على شاكلةِ سؤالٍ لا يجيب الكاتبُ عنه لنيّةٍ "ثانية" ما، وعلى القارئ الأوّل الإجابةُ عنه للكشف عن تيك النيّة، ومن تلك النيّة تتكشّف لديه نيّاتٌ إضافيّة عندما يصير سؤالُ الكاتب موضعَ تساؤلٍ عند القارئ أي أسئلة جديدة غير مطروحة، وليس فحسبُ موضعَ إجابة. وتتعدّد الإشكاليّات بين الكاتب والقارئ، بين مصدرِ النيّة المنتظَرة وتأويلِها الاحتماليّ أو المختلف، لتصيرَ النيّةُ بدورها إشكاليّةً، واحتمالُ الإجابة عنها فرَضيّةَ حلٍّ متى لم تكن حلاّ واحداً. فقراءةُ-فهمُ (Lecture-compréhension) النصّ قد يَتمّ التفكّرُ فيها تحت جناحِ حلولٍ لمَسائل. من هنا تنشأ مُشادّةٌ بين النصوصِ الشفّافة إلى حدٍّ ما (Textes transparents)، والنصوصِ الكَمداء إلى حدٍّ ما (Opaques)، على أنّ بنيةً نصّيّةً ثابتةً تماماً هي غيرُ مَرجوّةٍ لا بل غيرُ ممكنة على ما يبدو. فما من نصٍّ بالنسبة إلى بُوغْراند بإمكانه جعلُ صِلاته جميعِها صريحةً، فكلُ نصٍّ هو بطريقةٍ ما فريدٌ من نوعه، وإنّ أيَّ نصٍّ لا يحتمل سوى مظاهرَ احتماليّةٍ إلى حدٍّ كبير، لَهوَ نصٌّ لا يتمتّع بقيمة كبيرة، وقرّاؤه سيصرفون النظر عنه بسرعة[85]. لذلك فإنّ مُحاضراً آخرَ، أمام الجمهور عينه، قد يضع علامةً لنصٍّ في كتاب، ولكنه لا يستطيع أن يضع علامةً لكتاب، إذ انّه، قبْلَ ذلك، عليه أن يفتحَ آفاقَه الضمنيّة، وليس أن يكتفيَ بالتعليق على ما يراه صراحةً. ولا يمكنه أن يقول إنّ الكتاب شفّاف، مستنداً إلى قراءته لبعض نصوصه الشفّافة، فيما بعضُ نصوصه الأخرى غيرُ شفّافة تستدعي التأويلَ ومن ثمّ الحُكم، أو مستنداً إلى بعض أسئلته المباشرة البسيطة، فبما هي نفسُها تنتظرُ أجوبةً من القارئ معمَّقةً، وأحياناً بعيداً من أجوبة الكاتب نفسه متى كانت هي نفسُها مباشرةً بسيطة. فكتاب داغر ليس كتاباً شفّافاً "أو" غيرَ شفّاف، بل هو مزيجٌ من الاثنين، لمهمّةٍ تربويّة وشخصيّة في آنٍ واحد، في كتابٍ شخصيّتُه هي المثقَّفُ غيرُ الشفّاف، ونيّتُه المُربّي الشفّافُ للإفهام، وعلى المتلقّي الثاني أن يكشف عن هذين المظهرين.
15- داغر/شْميث ووظائفُ الكلامِ التواصليّةُ بين الإثبات والتوجيه والأدب:
إنّ التفاعل بين الكاتب والمتلقّي إذ يتحوّل كذلك من فعل التواصل، وإذ ينبني على قدرةِ توصيلِ أفكار الكتاب بنوع النصّ ونمطه المناسبَين، وعلى قدرة المتلقّي على تَلقُّف هذا النوع أو ذاك النمط من النصوص، بلُعبةٍ تواصليّة تُحوّل اللغةَ إلى أفعالٍ براغماتيّة وإدراكيّة، فإنّني أرى في شربل داغر زيجْفريد شْميث (Siegfried Schmidt)، وهنا يكون التطرُّقُ إلى الكاتب بمقابلته بمنظِّرٍ ألسنيّ نصّيّ تداوليّ، وتالياً إلى الذاتيّ بمنظور الموضوعيّ. فما أسماه شميث "لسانيّات التواصل"[86]نشأ منأنّ المخاطِب يسعى دوما إلى التأثير فيالمخاطَب بصورٍ وأشكالٍ إبلاغية متنوّعة بتوظيفِ أنماطٍ مختلفة من النصوص وفقَ خططٍ خطابيّةمُحكَمة تختلف باختلاف الوضعيّة التواصليّة البسيطة أو المعقّدة التي يوجَد فيها المخاطِبُ والمخاطَب، ومنثمّ فإنّ النصّ يبدو عنده إنجازاً مادّيّاً عبارة عن مجموعة من التوجيهات المتماسكةموضوعاتيّاَ وسياقيّاً الموجَّهة نحو مخاطَبٍ ما قصْدَ إحداثِ تأثيرٍ مُحدّد لديه. الجمهور بسيطٌ أو معقَّد؟ يختلف الأمر باختلاف الأفراد الذين إمّا يأتون لحضور داغر أو يأتون لحضور كتاب داغر، أو باختلافِ طبيعة المحتوى (الشعر مبتذلاً ص 269).
وفي أنموذج شميث التواصليّ، ارتبطت الوظيفةُ الانفعاليّة أو التعبيريّة بالنصّ الإخباريّ أو الإعلاميّ وما يُفصح عنه من قصدٍ إبلاغيّ، ثمّ ما يَنتج منه في سياقٍ تداوليّ من أثرٍ على سلوك المخاطب التواصليّ أقوالاً وأفعالاً وأعمالاً، ما يعني أنّ ضمائر الأنا لا تكون تخدم شعريّةَ النصّ كما رآها جاكوبسون، ولا تكون عند داغر سبباً نفسيّاً أو تدخُّلاً ذاتيّاً في النصّ، وهذا نوعٌ جديد من تعليل الذاتيّة بالموضوعيّة: إذا كنتُ أثرتُ أعلاه مشاكل تعيين لفظ الحداثة الاصطلاحيّ؛ إذا كنتُ أقع في التآليف العربيّة على طنين الحداثة (ص 34-35).
أمّا بالنسبة إلى الوظيفة الشعريّة فتتحقّق عنده في النصّ الأدبيّ بوجهٍ خاصّ، حيث يُفصح عن إرادةٍ جماليّة في تجاوزِ قيود التداول المألوف. شربل داغر زاوجَ بين النصّ الإبلاغيّ والنصّ الأدبيّ لنيّةٍ في ذاته هي تشويقُ الكاتب لقراءة كتابه، وفَضُّ غبار الجمود عنه، وإجراءُ التوازن بين النصِّ الشفّاف الصريح والنصِّ الأكمد الضمنيّ: ّطنين الحداثة ؛ درس تطورها اللاحق أي حياتها (ص 35)؛ سوق الشعراء الكاسد (ص 243).
ومن مدرسة فلسفة اللغة الأنجلوساكسونيّة أخذ شميث الوظيفتين الإثباتيّة والتوجيهيّة: فبالنسبة إلى الوظيفة الأولى فهي تُعتبر عنده الوظيفةَ الأساس للنصّ الإخباريّ بما يقدّمه من توضيحاتٍ حولَ مختلف الموضوعات التي يتعرّض لها. الكتاب حاشدٌ بالوظيفة الإثباتيّة لأنّه بطبيعته حاشدٌ بالإثباتاتِ وإثباتاتِ الإثباتات، على مستوى الشواهد (ص 182-183) أو على مستوى الأعلام (ص 12-13).
وبالنسبة إلى الوظيفة الثانية فهي ترتبط عنده بالنصّ التوجيهيّ بما تحمله من توجيهاتٍ صريحة أو ضمنيّة تُلزم المتلقّي بتنفيذها، فترتبط بالوظيفة الإفهاميّة في وضعيّة التفاعل اللغويّ: ما وجب التنبّه إليه+يمكن للدارس أن يعدّد دلالات العصرية (ص 307-308) ؛ بدا لي لازماً لتدبير إجابة ناجعة عن السؤال، التنبّه بل الدعوة إلى طرح سؤالين اثنين (ص 34)؛ وهنا عند شربل داغر يقترن الوجوبُ بالتنبيه، فيتحوّلُ الإيعازيّ إلى إرشاديٍّ موجَّه، بين تقوية الحِمْل وتخفيفه، أو بين تخفيفِه وتقويته (وجب ¬تنبّه ¬يمكن ؛ بدا ¬لازماً) ، لنيّاتٍ شخصانيّة وأخلاقيّة وتربويّة معاً، بينه وبين القارئ العامّ والقارئ الطالب. هذه الوظيفة بالتاليهنا تختلف عن الوظيفة الإيعازيّة عند جاكوبسون، بتسميتها الأكثر لُطفاً التي نرى صداها في لطافةِ هذا الكاتب الأسلوبيّة. الصريح والضمنيّ في قول شميث يعود بنا إلى النصّين الشفّاف والأكمد، وإلى مفهوم التأويلانيّة الذي يرتبط عند شميث نفسِه بإشارةٍ إلى العلاقة بين الترابط والتماسك كما حدّدناهما سابقاً: فهو يميّز بين مصطلحَي السياق والوضعيّةالتواصليّة؛ فالسياقُ ــ بالنسبة إليه ــ هو أن يؤخذَ النصُّ في مجموعه كإطارٍ لالتحامالمكوّنات النصّيّة [=الترابط]، والوضعيّةُ التواصليّة هي التي ترتبط بضَمّ النصّ إلى تواريخ الإنتاجوالتلقّي [=التماسك]. ونستخلص من نظريّة شميث أنّ عمليّةَ تَلقّيالنصّ باعتباره مكوّناً لغويّاً يتضمّن إشاراتٍ، تحتاج إلى تأويلٍ مشروطةً بالسياق التواصليّ،بمعنى أنّ تأويلَ مجموع التعليمات التي يتضمّنها النصُّ لا يمكن تأويلُها تأويلاً مناسبًاخارجَ لعبةِ أفعالِ تَلقٍّ وتواصل، وبالتالي فإنّ هذه العمليّةَ ترتبط بطرفَي العمليّةالتواصليّة: فمن جهةٍ المؤلّف الذي يؤوّل الإمكاناتِ اللغويّةَ المتاحة للتعبير عن اتّصالٍ فرديّ مع الواقع، ومن جهةٍ ثانيةٍ المتلقّي الذي يعمل على وضعِ تأويلٍ مناسب لتعليماتالمؤلف يوفِّق فيه بين تأويلِه الخاصّ والتأويلِ الذي يقدّمه المؤلّفُ بالنظر إلى مقصديّاتالنصّ.
ليَسمحْ لنا أيُّ محاضرٍ آخر، أو أيُّ مُتلقٍّ آخر يعتبر نفسَه محاضراً لاحقاً، أو حتّى المؤلّفُ، في نظرةِ أيٍّ منهم إلى الكتاب أو إلى المحاضرة؛ فإذا كان قارئٌ ما قد أوّلَ نصّاً على أنّه متماسك، فإنّه بلا شكٍّ قد وجد تأويلاً مناسباً لرؤيته إلى العالَم (Vision du monde)، إذ انّ التماسك ليس في النصّ فحسب بل في ما ينتج من التفاعل مع متلقٍّ محتمل[87]. وتالياً كلُّ تأويلٍ هو محتملٌ بما أنّ كلَّ مؤوِّلٍ هو محتملٌ، وبما أنّ كلَّ ناقصٍ أو ضمنيٍّ هو محتملٌ، وبما أنّ الأخلاقيّةَ محتملةٌ وتختلف بين تفاعلٍ وآخرَ بالوفاء، قبلَ أن تختلف بين تفاعلٍ وآخرَ مع المكتوب.
كانون الثاني 2016
د. أديب سيف
[1] أستاذ علوم اللغة الحديثة والدلالة والسيمياء وتحليل الخطاب في الجامعة اللبنانيّة-كلّيّة الآداب والعلوم الانسانيّة-العمادة والفرع الثاني. منسِّق قسم اللغة العربيّة وآدابها في الماستر-العمادة.
[2] شربل داغر: الشعر العربيّ الحديث (القصيدة العصريّة)، بيروت، منتدى المعارف، ط 1 ، 2012
[3]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),éd. Mardaga,coll. Philosophie et Langage,2e éd. ,1990,p.139 ; Emile Benveniste: Problèmes de linguistique générale,Paris,Gallimard,Tome 1, 1966,p.242
[4]Shirley Carter-Thomas: La cohérence textuelle (Pour une nouvelle pédagogie de l'écrit),L’Harmattan,Coll. Langue & Parole,juin 2000,p.17
[5]Ibid. ,p.32
[6]Shirley Carter-Thomas: Langue de specialité (Cohésion,culture et cohérence): Une approche discursive,Actes du 15e colloque du GERAS,1994,p.61-67
[7]Ibid.
[8]Denis Slatka: L’ordre du texte,Études de linguistique appliquée 19,1975,p.31
[9]Jean Caron : Les régulations du discours,Paris,P.U.F.,1983,p.167
[10]Shirley Carter-Thomas: La cohérence textuelle (Pour une nouvelle pédagogie de l'écrit),p.32
[11]Ibid. ,p.28
[12]Ibid. ,p.21
[13]Shirley Carter-Thomas: Langue de specialité (Cohésion,culture et cohérence): Une approche discursive,p.61-67
[14] ندوة "درس الشعر العربيّ الحديث"، الحركة الثقافيّة-انطلياس، 26 كانون الثاني 2016
[16]http://www.analyse-du-discours.com/aracteristiques-du-texte,Critères de textualité,
[17]Anna Jaubert & Autres: Cohésion et Cohérence (Etudes de linguistique textuelle),éd. ENS,2005,coll. Langages,p.77
[18]Ibid. ,p.81
[19]Michel Charolles: Les études sur la cohérence,la cohésion et la connexité textuelles depuis la fin des années 1960, Modèles linguistiques,Tome X,Fasc. 2,1988,p.45-66
[20]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),éd. Mardaga,coll. Philosophie et Langage,2e éd. ,1990,p.109
[21]Shirley Carter-Thomas: Langue de specialité (Cohésion,culture et cohérence): Une approche discursive,p.61-67
[22]Anna Jaubert & Autres: Cohésion et Cohérence (Etudes de linguistique textuelle),éd. ENS,2005,coll. Langages,p.7
[23]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),p.109
[24]Mathilde Salles:Organisation des textes et cohérence des discours(Cohésion-cohérence: accords et désaccords), Cognition,Représentation,Langage,http://corela.revues.org/1426,CORELA, 2006 ; I. Bellert: On a Condition of the Coherence of Texts,Semiotica, 4, 1970,p.335-363 ; M. Charolles: Introduction aux problèmes de la cohérence des textes, Langue Française,38,1978,p.7-41
[25]Shirley Carter-Thomas: Langue de specialité (Cohésion,culture et cohérence): Une approche discursive,p.61-67
[26]Mathilde Salles :Organisation des textes et cohérence des discours(Cohésion-cohérence : accords et désaccords)
[28]Jean –Michel Adam: Cohérence,Dictionnaire d’analyse du discours,Paris,Seuil,2002,p.99
[30]Anna Jaubert & Autres: Cohésion et Cohérence (Etudes de linguistique textuelle),p.81
[31]Michel Charolles: Les études sur la cohérence,la cohésion et la connexité textuelles depuis la fin des années 1960,p.45-66
[32]Michele Prandi: Les fondements méthodologiques d’une grammaire descriptive de l’italien,Langages 167,2007,p.75
[33]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),p.109
[34]Michel Charolles: Les études sur la cohérence,la cohésion et la connexité textuelles depuis la fin des années 1960,p.53
[35]Shirley Carter-Thomas: Langue de spécialite (Cohésion,culture et cohérence): Une approche discursive,p.61-67
[36]Anna Jaubert & Autres: Cohésion et Cohérence (Etudes de linguistique textuelle),p.81
[37]Monik Favart , Thierry Olive: Modèles et méthodes d’étude de la production écrite/Models and methods for the study of writing,Laboratoire langage et cognition (LaCo, CNRS FRE 2725),France,Université de Poitiers,MSHS-Elsevier, Psychologie Française 50 ,27 mai 2005,p.282
[38]Stephen Levinson: Pragmatics,1992,p.51,107,286,288,313-315 ; Randolph Quirk & al.: A comprehensive grammar of the English language,Londres,Longman,1985
[39]Michel Charolles: Les études sur la cohérence,la cohésion et la connexité textuelles depuis la fin des années 1960,p.45-66
[40]Jean-Michel Adam : Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),p.109-111
[41]Tanya Reinhart: Conditions for text coherence,Poetics Today,1980,vol. 1,n° 4,p.161-180
[42]Ibid. ,p.161
[43]Shirley Carter-Thomas: La cohérence textuelle(Pour une nouvelle pédagogie de l'écrit),p.33
[44]Marie Jocelyne Fernandez-Vest: L’analyse contrastive du discours(Bilan et devenir d’une approche pluridimensionnelle),Modèles Linguistiques 10,1988
[45]C. Preneron et C. Larroque (1986,p.113),in Shirley Carter-Thomas: La coherence textuelle(Pour une nouvelle pédagogie de l'écrit)
[46]Anna Jaubert & Autres: Cohésion et Cohérence (Etudes de linguistique textuelle),p.11
[47]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),p.99
[48]Anna Jaubert & Autres: Cohésion et Cohérence (Etudes de linguistique textuelle),p.157
[49]Ibid. , p.10
[50]Shirley Carter-Thomas: La coherence textuelle(Pour une nouvelle pédagogie de l'écrit),p.26
[52]Shirley Carter-Thomas: Langue de spécialité (Cohésion,culture et cohérence): Une approche discursive,p.61-67
[54]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),p.113
[55]Jean-Michel Adam: La linguistique textuelle(Introduction à l’analyse textuelle des discours),éd. Armand-Colin,coll. Cursus-Linguistique,2e éd. ,2008,p.53
[56]Tanya Reinhart: Conditions for text coherence,p.161
[57]Bernard Combettes: Pour une grammaire textuelle(La progression thématique),Bruxelles,De Boeck-Duculot,1983
[59]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),p.50
[61]Ibid.
[62]Jean-Michel Adam: La linguistique textuelle(Introduction à l’analyse textuelle des discours),p.212
[63]Anna Jaubert & Autres: Cohésion et Cohérence (Etudes de linguistique textuelle),p.12
[64]François Rastier: Sens et textualité,Paris,Hachette,1989,p. 40
[65]Michel Foucault: L’Archéologie du savoir,Paris,Gallimard,Bibliothèque des Sciences Humaines,1969,p.33
[66]Jean-Michel Adam: La linguistique textuelle(Introduction à l’analyse textuelle des discours),p.115
[67]Shirley Carter-Thomas: Langue de spécialité (Cohésion,culture et cohérence): Une approche discursive,p.61-67
[68]Shirley Carter-Thomas: La coherence textuelle(Pour une nouvelle pédagogie de l'écrit),p.33
[69]Anna Jaubert & Autres: Cohésion et Cohérence (Etudes de linguistique textuelle),p.142,p.10
[70]Michel Charolles: Les études sur la cohérence,la cohésion et la connexité textuelles depuis la fin des années 1960,p.45-66
[71]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),p.98
[72]Tanya Reinhart: Conditions for text coherence,Poetics Today,p.161
[73]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),p.138
[74]Siegfried Schmidt: Texttheorie,Munich,Fink,1973,p.46
[76]Jean Caron: Les régulations du discours,Paris,P.U.F.,1983,p.149
[77]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),p.110-111
[78]Ibid. ,p.131
[79]Anna Jaubert & Autres: Cohésion et Cohérence (Etudes de linguistique textuelle),p.8
[81]Anna Jaubert & Autres: Cohésion et Cohérence (Etudes de linguistique textuelle),p.12
[82]Ibid. ,p.141
[83]Jean-Michel Adam: La linguistique textuelle(Introduction à l’analyse textuelle des discours),p.183
[84]Michel Meyer: De la problématologie,Bruxelles,Mardaga,1986,p.253
[85]Jean-Michel Adam: Eléments de linguistique textuelle (Théorie et pratique de l’analyse textuelle),p.114 ; Robert de Beaugrande: Text Production (Toward a science of composition),Norwood,NJ,Alex Publishing Corporation,1984,p.358
[86] يُراجع: - محمّد الزميج: التواصل والتلقّي، ملتقى شذرات، 11-6-2012 ، طنجة،
http://www.shatharat.net/vb/showthread.php?t=8523
- نظريّة لسانيّات التواصل لزيغفريد شميث، مجلة علامات في النقد، ج 37، مج 10، 2000، ص 389-414 ؛ إنتاج النصّ في نظريّة زيغفريد شميث،مجلّة علامات في النقد، ج 41، مج 11، 2001، ص 371-401 ؛ مفهوم التلقّي من خلال الأنموذج التواصليّ لنظريّة زيجفريد شميث،عالم الفكر، مج. 35، ع 4، 2007، ص 293ـ334 ؛ عبد الله إبراهيم: التلقّي والسياقات الثقافيّة، دارالكتاب الجديد المتّحدة، ط 1 ، 2000
[87] Shirley Carter-Thomas:La cohérence textuelle(Pour une nouvelle pédagogie de l'écrit),p.32
--------------------------------------------------------------------------
شربل داغر : القصيدة الحديثة "تجربة" وجودياً وجمالياً
بعد الشكر، لـ"الحركة الثقافية"، ومنظمي الندوة، ومديرتها، والمنتدين، والحضور المميز، يعنيني إبداء الملاحظات التالية :
- صدرتْ الكتب الأربعة، موضوع الندوة، في أربع سنوات، بين العام 2012 والعام 2015، ولا تعني صفحات الكتب هذه، التي تعدت 1600 صفحة، أنني كتبتُها في السنوات المعينة، وإنما قبلها بكثير. ذلك أن قسماً واسعاً من مواد هذه الكتب كتبتُها في سنوات بعيدة، ترقى في أقدمها إلى العام 1979. إلا أن ما حال دون صدور الكتب هو عدم توافر جزء من المدونة التي عملت عليها في كل كتاب، ولا سيما في كتابي : "الشعر العربي الحديث : القصيدة العصرية"، و"الشعر العربي الحديث : القصيدة المنثورة".
ومن يَعُد إلى قراءة الكتب المعنية يتحقق من كونها تحمل عنواناً واحداً ومشتركاً :"الشعر العربي الحديث..."، وأنها تصدر عن خطة بحثية، سبقت الخطة التأليفية. وهي خطة قامت على تمكين درس الشعر العربي الحديث من أسبابه التاريخية. ذلك أن ما استوقفني في درسي لهذا الشعر، منذ العام 1976، هو افتقاره إلى سند تاريخي؛ وهو ما سوَّغه في تلك السنوات وبعدها توطدُ المنهج البنيوي، الذي اكتفى بدرس النص في حدوده الداخلية من دون ربطه بما يحيط به ويَفعل فيه.
تعينتُ خطة البحث في مسعى قام على إجراء الدرس الشعري وفق "حقبات" أو "عهود" مميزة وعابرة لهذا الشعر. وهو ما ظهر لي في حقبة مطمورة تماماً من هذا الشعر تعينت بين ستينيات القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى، وتمثلتْ في ما أطلقَ عليه شعراء ونقاد في ذلك الوقت بـ"الشعر العصري". وهو ما أتبعتْه بتحقيب آخر، تعينَ بين الحرب العالمية الثانية وخمسينيات القرن العشرين، ما تمثلَ في ما أطلقتُ عليه تسمية : "كيان النص"، وهو يشير إلى العبور من القصيدة إلى النص. ثم تبينتُ حقبة ثالثة موازية للحقبة المذكورة عن "كيان النص"، وتتمثل في حقبة مجهولة هي الأخرى، وإن بلغتنا بعض أسماء شعرائها ومجموعاتهم الشعرية، وهي : "القصيدة المنثورة"، التي بدأتْ ملامحها مع أمين الريحاني وجبران خليل جبران في السنوات الأولى من القرن العشرين، وانتهت في أواسط خمسينيات القرن العشرين بالانتقال إلى "قصيدة النثر"، كما سموها.
إلا أن ما كتبتُه لا أعده تاريخاً للشعر العربي الحديث، وإنما درسٌ استند – وفق ما تعلمت من دروس "الشكلانيين الروس" – إلى استخلاص "التغيرات البنائية" وفحصها ودرسها، وهي حاجة ماسة، طالما أن السند التاريخي منقوص أو مغيب في بحوثنا. هكذا عملت على التعرف على تقاطيع التغيرات في القصيدة العربية المتأخرة، وعلى إدراج هذه التغيرات البنائية في منظور اوسع وأعقد مما راج في درس الشعر العربي الحديث وهو المنظور العروضي. فدارس الخطاب النقدي عن الشعر العربي الحديث ينتبه إلى أن ما يجمع أسباب هذا الخطاب، في احوال كثيرة، هو فحص مدى ملاءمة القصيدة العربية المتأخرة مع العروض، أو خروجها عليه، أو تخلصها التام منه.
- تعلمتُ الكثير من أساتذتي (كريماس، بنفينيست، جينيت، باختين...)، على تماس بهم أو عن بعد، في بناء المنهج، على أن شاغلي الأول لم يقم أبداً على تطبيق المنهج أو المقاربة بقدر ما قام على توفير أسباب قراءة ناجعة للقصيدة، وفي جميع "مستوياتها"، مثلما تعلمتُ في دروسي الأولى في جامعة السوربون الجديدة. وهو ما تعينَ في جمع بين المنهج اللساني البنيوي والمنهج التداولي، في درس يقوم على استبيان مستويات أربعة في القصيدة (الهيئة الطباعية، الهيئة اللفظية من جهة نحوها وإيقاعها ودلالاتها). ومن يَعُد إلى أطروحتي الجامعية الأولى لنيل شهادة الدكتوراه، والتي نشرتُ قسمها الأساسي في كتابي : "الشعرية العربية الحديثة : تحليل نصي"، يتحقق من كوني جمعت بين المنهجين المذكورين، إذ أقمتُ درس القصائد في المجلات الشعرية المختارة وفق أبنية الضمائر الناظمة لها. وهو مسعى في الدرس يجمع بين تحليل القصيدة النصي وبين كون القصيدة فعلاً اتصالياً، وتداولياً بالتالي.
لهذا تابعت، في كتبي الأربعة التي نتحدث عنها، خطة الدرس المنهجي نفسها، ما يُقدِّم في حد ذاته فرصة للتأكد من صلاحية هذا المنهج، ومن قدرته خصوصاً على درس الشعر العربي الحديث. ذلك أن ما استوقفني في هذا الدرس، منذ ما يزيد على خمس وثلاثين سنة، هو أن المنظور العروضي تحكم في النظر إلى الشعر، من دون أن يُعنى هذا المنظور باستخلاص ومعاينة التشكلات الجديدة لهذه القصيدة؛ وهي تشكلات وجدتُ أنها خرجت من "النظام" لتجعل من كتابة القصيدة "تجربة" بالمعنيين الوجودي والجمالي، ما يجعل كل قصيدة "كياناً" قائماً بنفسه.
- هذا المنظور اللازم والمستجد انبنى أيضاً على سند فلسفي، ما يتضح في كتابي الآخر : "القصيدة والزمن"، إذ سعى هذا الكتاب إلى وضع درس القصيدة تحت مجهر الزمن، أي ما أحدثَه الزمن فيها من آثار وانتقالات. إذ إنني وجدت في الزمن مؤشراً دالاً على مدى بلوغ القصيدة علاقات مفتوحة أو موصدة مع التغيرات الحادثة أو الممكنة، في الوجود، في الإنسان، أي الزمن بوصف الدال الفسلفي على حصول الحداثة نفسها.
- يعايش الشعر في العقود المتأخرة وضعاً صعباً للغاية، حتى إن صوته بات "الأخرس" بمعنى من المعاني، وسماعه معطل، في سيرورة عالمية انحازت بصورة حاسمة إلى "ثقافة الصورة"، بل إلى "صورة اللحظة" مع وسائل التواصل الاجتماعي. هذا يحتاج إلى معاينة مدققة ومتوسعة، وإلى فحص متأن، ذلك أنه يُسقط الشعر من عليائه الجمالية والاجتماعية التي عرفها في ثقافات عديدة، على مدى قرون وقرون. هذه الانعطافة الواسعة تُهمِّش الشعر، كما تُهمِّش درسه، فيما يمثل الشعر أعلى اشتغال ممكن باللغة، ويُمثِّلُ درسُ الشعر الاشتغال في أعقد تراكيب اللغة... في وقت ينزاح فيه النظر صوب الأغنية، صوب الدعاية، صوب المحادثة، صوب الصورة على الشاشتين الكبيرة أو الصغيرة؛ وهي فنون وإنتاجات تقوم على التذوق والاستهلاك الصوري، إذا جاز القول، وتقوم على مقاربات لا تحتاج الكثير من تحليل الخطاب وأبنية اللغة.
---------------------------------------------------
القصيدة والزمن، حفريات في خفايا الشعرية العربية الحديثة
"هكذا لا أمشي بل تتداولني المناكب حتى إن خطواتي نسيت صندالها في الزحام".
"القصيدة لمن يشتهيها.
يخضرّ الأفق هذا المساء ليَلبس لونَ الشعر المنقّح بتباشير ربيع جديد، ورؤية نقدية جادة، وخلاصات تتفتّح تباعاً لتقودنا الى حيث لم يصل كثيرون. لسنا هنا في مباراة، ولا في سباق عدائين، لنتوج من دخل السباق متأخراً بفعل الزمن لكنه بلغ الهدف قبل الآخرين. هذا الذي ترك صنداله على حافة الطريق لكي لا يعيق خطواته المحلّقة بحثاً وتدقيقاً، هو الذي غرق في دوامات تكاد لا تنتهي فصولها، اذ ما أن يكتب خاتمة بحث حتى نجدها تمهد لمقدمات لاحقة، ليعود فيكرر العملية إلى حيث يقوده المعنى وتغريه شهوة اللحاق بالأبعد المتخفي وراء الجهل. يغرف من معجن الحداثة ليقدّم لنا أطباقاً نضجت على نار الاختبار الهادئة، والتجربة المملحة بالتفكر والمدعمة بالدراسة الممنهجة. هذا المتنقل بين المناهج والعلوم الحديثة والمجالات الفكرية المتعددة وكأنها منفلشة أمامه جميعا على صفحة إلكترونية واحدة، لا يزال يفاجئ في ما يقدّمه دارسي الفكر العربي.
عوّدنا الدكتور شربل داغر في مجمل إطلالاته المنبرية، على قلّتها، أن يطرح لنا شيئاً جديداً من خلاصة أبحاثه وتفكره. وكأنه يقدّس الآخر ويجلّ مهاراته الذهنية، فيتوجه مباشرة لمخاطبة القوة العاقلة فيه، فيسعى الى الترقّي بها في اتجاه خرق الحدود وكسر القيود. متفلّت هو من الرتابة، تائهٌ في رحاب المعنى، تسكره القصيدة فينتشي بما تقدّمه على مائدتها. لا يلتقيها كما في مجلس الاعيان، ولا فوق المنصات المزينة، انما في عتمة حميمية غامضة تجمعه بخفايا انسانيته كما بالآخرين. انه " لقاء من يجدد اللغة اذ يستعملها، لا من يكتفي بأن تستعمله اللغة، في نماذجها وصيغها المستقرة، فيما يظن انه يكتبها".(شربل داغر، على طرف لساني، ص147)
منحاز هو للنقد، متيّم بمعاوله على تعددها. هيراقليطي الهوى، يتغيّر مع كل جلسة امام شاشته الالكترونية، حتى انه لا يشبه نفسه، فهو يتعرف على ذاته من خلال ما يكتب، اذ تفاجئه نفسه من خلال تجلياتها المكتوبة. نهِمٌ يذهب بخطى ثابتة للاستقاء من ينابيعه المتجددة مع كل قراءة او مشاهدة او تأمل. جذبه الفكر العربي في الكثير من تجلياته عبر التاريخ: ادبا وشعرا وفنا وفلسفة ورواية. تفرّغ للسكن في خفايا التراث، هو المنغمس في الحداثة منذ زمن تكوّنه الأكاديمي، عرف مكمن الخلل، توجّه اليه مباشرة، ومن دون تنظير، ولا ضجيج: الخلل يكمن: في كيفة درس التراث، في كيفية التعاطي مع الحداثة، في السطحية التي غالباً ما تريحنا، وتسهّل وصولنا الى النجاحات المزورة والمنابر المزيفة، في الكسل والتلاشي والرغبة في لعب دور البصاص الذي يتمتع بما يشاهده عن بعد وهو لغيره وليس له، لكي يتباهى به أمام الآخرين.
لم يُكثر من الكلام حول ما يجب فعله، نهض مباشرة في اتجاه الفعل عينه، وبدأ التنفيذ. من الشعرية العربية، الكتاب المفقود بطبعته الثانية، نظرا الى اعتماده ضمن منهاج الدراسات العليا في المغرب والجزائر، الى القصيدة العصرية، فكيان النص، ومن ثم القصيدة المنثورة، لكي يخلص الى القصيدة والزمن وما سيليها ربما... انها خماسية نقدية، أغنت أذهان من اطلعوا عليها بالكثير، وأفادتهم في مواد بحثهم، نظراً الى ما تقدمه من تصويبات، وطروحات، واستنتاجات تقلب بعض المفاهيم، وتغير بعض التواريخ، وتنير الكثير مما كان مستوراً، وتقدّم قراءة غير مسبوقة للشعر العربي الحديث.
في وطننا، قد يكون قدر المفكر الرصين، والباحث الجاد ان يبقى على الهامش، لأن الساحة تملؤها ضجة أخرى، والاطار تحتله صورة أخرى، والشاشة متلهية بأبطال صنعهم الهباء وهو يفتخر بهم. قد يكون على المفكر النقدي أن يُحصّن نفسه بأدوية مضادة لليأس، ومخفضة لمنسوب القرف، ومخصبة لشهوة التمتع بالوحدة، والسكون اليها، في زمن بات فيه التواصل بين الكائنات البشرية سريعا تقنياً وبطيئاً انسانياً ان لم نقل مستحيلاً. لكن ما هم، ما دام شربل داغر قد اختار ان يسكن في "اللغة بيت الكائن"، كما أشار هايدغر، على أنه لحظ في داخلها "نافذتين جارتين: القصيدة والفلسفة". ومن هاتين النافذتين اخترت ان أقرأ ما كتب في مؤلفه: القصيدة والزمن.
كتاب صدر عام 2015، عن دار رؤية للنشر في القاهرة، يحتوي على سبعة فصول يسائل من خلالها "الزمن في القصيدة"، لكي يذهب الى ما هو أبعد ويسأل عن الانسان "في نطاق وجوده غير القابل للتجاوز او الإخفاء". أراد أن يتكفّل كتابه "بفحص علاقة اللزوم التي يجدها متحققة بين القصيدة والزمن، وهو ما يدرسه في أبنية القصيدة العربية، الحديثة خصوصاً، متبيناً أشكال الترابط بين زمنيتها وبين علامة حداثتها، او "عصريتها" (...)".(شربل داغر، القصيدة والزمن، ص 6)
التوقف عند دراسة العلاقة بين القصيدة والزمن خطوة لا تنتمي الى النقد الادبي والشعري فحسب، انما تنمّ عن قلقٍ فلسفي، وعن ترصّد لمسألة شكّلت محور تفكرٍ غني عبر تاريخ الفكر الانساني. ليس الزمن مصطلحاً عادياً يمكن ان يُقارب في نظرية محددة، او مذهب معين، ويجوز ان نعثر على حدّ واضح وصريح له. ان الامر يتعلق بمحاولة جدية تستحق التوقف والتأمل في مفاعيلها، إذ انها تربط القصيدة بالزمن اي بالتاريخ، والمجتمع، والاقتصاد، وأثر ذلك على عملية انتاج المعنى. انه يحاول ان يدعم الابحاث المتراكمة حول الشعر من فقرها في ما يخصّ الحس التاريخي وتداعياته. ينغمس بالزمن، ويغرق في رصد تردّداته داخل بنية النص الشعري.
ان هذا الانهمام بترصد فعل مرور الزمن وما يتركه من أثر على ما أنتجه الشعراء من قصائد عبر التاريخ كان قد ظهر في كتابات داغر التي انشغلت في السنين الاخيرة بدراسة الشعر العربي الحديث في وقفة اولى مع القصيدة العصرية، وأخرى مع كيان النص، وأخيرة مع القصيدة المنثورة. يبدو ان داغر، تقصّد ككل مرة ان يخوض معركته ضد الجهل والنسيان والاهمال وقلة الاحتراف في مقاربة التراث بأسلحة جديدة، ومفتتحاً مناطق تمّ تناسيها عن عمد أو عن غير قصد. انه يكشف عن رغبة جذورها ضاربة في "ينابيعه الجوفية" حيث يتفجر توقٌ الى التراث بخطى الحداثة، ونبشِ الماضي بأدوات الحاضر، وفتح الافق امام شهوة القصيدة، امام الرغبة في انتاج المعنى. نعم، ان تصفّحنا ملياً معظم مجموعاته الشعرية التي صدرت في السنوات الأخيرة نجد ان القصيدة هي الحدث، انها محط الاهتمام، اذ انها بكل بساطة هي المكان الذي يسكن فيه ويتوق اليه ويسافر منه الى العالم أجمع.
يتحدّث داغر عن معلمين في ما يتعلق بعلاقة القصيدة بالزمن: الاول يسمّيه المرور والثاني الانتقالات. ويقصد بمرور الزمن في القصيدة تلك "الآثار الحادثة والمتعينة فيها، ما يدلّ على زمنها من دون غيره"، ويعني بالانتقالات "ما ترسمه أبنية القصيدة من تغيرات وتشكلات في مستوياتها المختلفة ".(ص6)
ان المَعلم الأول تمّ تجاهله في محاولات عديدة لدراسة الشعر العربي الحديث، ان لم نقل في معظمها. هناك شيء ما قد تبدّل بفعل مرور الزمن. لا يمكننا ان نتعاطى مع القصيدة اليوم كما لو انها هي نفسها في العصر الجاهلي او الاموي او العباسي. الزمن اخترق بنية القصيدة وترك بصماته فيها. اما من ناحية المَعلم الثاني اي الانتقالات فيجد داغر ان هناك تغيراً واضح المعالم قد حدث على صعيد هيأة القصيدة الخطية، وايقاعها. نعرف تماماً كيف تبدّلت كتابة الشعر وكيف تعدّدت أشكالها، حتى ان بعض القصائد باتت تُكتب وفق أشكال هندسية متنوعة، ونجد أمثلة عليها في كتابات داغر نفسه. انه يكشف لنا في دراسته هذه عن ثلاثة أشكال من الزمن فعلت فعلها بالقصيدة: هناك الزمن الاجتماعي، والزمن السياسي، والزمن الفردي. يبغي ان يتوقف على صعيد المنهج عند فحص العلاقة الكامنة بين القصيدة وكل واحد من هذه الأزمنة. ثم يخطو في اتجاه معالجة العلاقة الكامنة بين الفصاحة والحداثة، ليرفق ذلك بخطوة منهجية أخرى تنهمّ بمعالجة وعي الخطاب الشعري لنفسه، ولزمنه، مبتعداً في دراسته عن الجانب التحقيبي من غير أن يغيب المسارالتاريخي فيه. من هنا نجده يشير في المقدمة الى ان هدف الكتاب يكمن في " الوقوف على علاقة الشعر بزمنه التاريخي والاجتماعي والفردي والسياسي، ما يجعل الدرس مقيماً في نطاق تداولي قد يكون تنازعياً في أحوال عديدة. ذلك أن هذه العلاقة قد لا تكتفي بالتتبّع أو المعاينة أو الإخبار وإنما بالإنشاد والتخيّل والتشهّي وغيرها، ما يجعل علامات التجديد نفسها علامات إشكالية بالضرورة ".(ص11-12)
تكمن هنا في التحديد الجدّة التي لمسناها في طيات هذا الكتاب، في هذا الكسر الفاضح والصريح للحدود القائمة بين علوم الانسان واللغة، وبين المناهج المتعددة التي يمكن اعتمادها في دراسة شعرية القصيدة. يمكن ان نرى بوضوح كيف ان داغر قد اخترق المجال الفلسفي والاجتماعي والتاريخي والسياسي على حد سواء. متعدّد الرؤى، لا يكتفي بالتقوقع داخل أطر منهج واحد مهما علا شأنه، ولا يرضى بالسكنى في زاوية معينة مهما ارتفع مقامها. انه مشاغب على أكثر من مقام. ينشد معزوفته النقدية بما توفر لديه من نوتات يمزج في ما بينها ليقدّم في النهاية معزوفة ترتقي بنا الى عالم المعنى الذي يفيد شيئاً جديداً.
البعد الفلسفي لافت في دراسته، اذ ان الجمع بين السؤال عن الزمن في القصيدة لا يعدو كونه " السؤال عن الانسان في نطاق وجوده غير القابل للتجاوز او الاخفاء".(ص10).ويرى ان الزمن في القصيدة يمكن ان يكون متحجراً داخلا في التقليد، ومتجمداًفي أروقته الرتيبة. كما يمكنه ان يكون زمناً متحولاً في شعر آخر، باعتبار انه زمنٌ فرديٌ، معاشٌ بالعمق وفق ابعاد التجربة الانسانية المتاحة في تاريخ ومجمتع محددين. ليس الزمن معطىً "برانيا" او "موضوعيا"، كما جرت العادة على تصويره، وتسميره داخل اطار ضيق. فكما ان الانسان خاضع لعوامل التبدّل والتحوّل والتغيير في كل لحظة من حياته، كذلك هو الزمن المتجلّي في القصيدة باعتبارها نتاجاً انسانياً بامتياز.
ان الجمع بين السؤال عن الزمن والسؤال عن الانسان في دراسة القصيدة هو في حدّ ذاته فعل تفكر فلسفي يذهب بنا الى أبعد ما يقدمه مثلا المنهج البنيوي او السيميولوجي في دراسة النص الشعري. يقول: "اذا كان أرسطو جعل من الزمن "عدد الحركة"، فإن للدارس أن يتوقف ويُعاين أعداد وعلامات الحدوثات الزمنية، التي لا تتعيّن فقط في العيش، او في الوصف، او في الحساب، وانما تتعيّن ايضاً في زمن آخر، تخيّلي، وغير مادي. لهذا يكون السؤال عن الزمن سؤالاً عن الانسان، عن حاصل وعيه بالتغيّر (أو بالجمود). ذلك أن تعيينات الزمن مقرونة بالحركة، بالحراك، فيما قد تتعيّن القصيدة بالثبات، في الاستعادة، في قيافة الأثر، في أحسن الأحوال".(ص10)
القصيدة عند داغر هي في آن معاً: صنيعٌ كتابيٌ وفعلٌ انساني. ان اعتبارها صنيعاً كتابياً يفرض عليها الالتزام بأساليب وقواعد ترتضيها لنفسها، وهي بامكانها ان تحورها او حتى تنقضها في كل مرة تقوم بالبحث عن اساليب بهدف تحقيق بناء جديد. كما ان اعتبار القصيدة فعلاً انسانياً يجعلها تتحرك في أكثر من اتجاه، اذ بامكانها ان " تحاور وتأمل وتنهي وتشجع وغيرها من الافعال التي تومئ القصيدة اليها او تدعو اليها صراحة".(ص11).
اختار داغر ان يبدأ كتابه بدراسة شعر نزار قباني منطلقا من مجموعته الشعرية الاولى "قالت لي السمراء"، في فصل اول عنوانه: "مع نزار قباني، بلوغ القصيدة المدينة". تسلط هذه الدراسة الضوء على الهيأتين اللتين تظهر فيهما القصيدة امام القارئ والناقد على حد سواء وهما: الهيأة البصرية ويقصد بها الصيغة الطباعية المظهرية، والهيأة اللغوية او اللفظية والنحوية. نجده يتحدث عن النقلة من العروض الى "المَوسقة"، وعن "تحيين المعنى" وربطه بالزمن الحاضر من خلال البحث في المحور الجبلي والمحور اللوني والمحور الجنسي ومحور الالفاظ الداخلية او العامية المأنوسة. كما يتوقف عند البنية التخاطبية في نص قباني، وعند ما يسميه بـ"التعالقات" النصية، وهي صلات "تناصية" بين نزار قباني والياس ابو شبكة وصلاح لبكي وسعيد عقل وغيرهم، من جهة، وبين قباني وبول جيرالدي وبودلير، من جهة أخرى.
ويتابع جولته لكي يتوقف في الفصل الثاني عند دراسة كتاب انطون سعادة "الصراع الفكري في الادب السوري" لما يفتحه من مجال للتعرف على آراء عدد من الادباء العرب بخصوص التجديد الادبي، ولما يحتويه من معالجات نقدية يقوم بها سعادة لنماذج شعرية مهجرية بالمقارنة مع ما ينتجه هو، أي سعادة نفسه. كما انه يتوقف في الفصل عينه عند دراسة تردد أصداء نظرية انطون سعادة في ما كتبه أدونيس في نصوص عدة لعل ابرزها مطولة "دليلة". عنْوَن داغر هذا الفصل بـ: "تواشجات الايديولوجيا والحداثة: مبثوث الزمن"، وقدّم له ببحث تنظيري غني حول مفهومي الايديولوجيا والتواشجات، متوقفاً عند ما يربط بين الايديولوجيا والحداثة من تجاذبات.
أما الفصل الثالث فيطرح فيه مسألة العلاقة بين الشعر والنثر، وظهور زمن ما يسميه داغر بـ "القصيدة بالنثر" او "القصيدة نثراً"، كبديل لما بات يُعرف بـ "قصيدة النثر". يتوقف هنا عند رصد زمن جديد، يتجلّى في نمط كتابي مختلف، ولّد من الفعل وردود الفعل ما يستحق الدراسة. "ابتداء الشعر من الشاعر، ابتداء القصيدة من الكتابة"، هو العنوان الذي اختاره داغر لفصله الثالث حيث يبدأ بتفكيك قصيدة لأنسي الحاج مستلة من ديوانه: "ماضي الايام الآتية"، وينتهي الى الاشارة بأن القصيدة باتت "في عهدة الشاعر، يتصرف بها وفق ملكاته وتدبيراته، قبل أن تكون مرتبطة بقواعد او معايير. هي تبتدئ من الشاعر، من دون أن يعني هذا انه يُنشئ القصيدة من عدم، من بداية تدشينية، الا ان هذا يعني ان الشاعر ينصرف الى معالجاته في الكتابة بوصفها تجربة قيد التشكل، و"تتوازن" بنيتها في العمل عليها".(ص202).
في الفصل الرابع الذي يحمل عنواناً جدلياً: "تنازع القصيدة بين فصاحتها وحداثتها"، يعالج داغر مسألة الفصاحة والبلاغة في علاقتهما مع الحداثة الشعرية، مبتدئاً بالمقارنة بين ما قاله الكِسائي في القرن الثاني للهجرة من خلال ما ورد في كتابه "ما تلحن فيه العامة"، وما قاله ابراهيم اليازجي واسعد خليل داغر في نهايات القرن التاسع عشر، وبين كل ذلك وما نشهده اليوم من أحوال راهنة للفصاحة في الكتابة العربية. نجد في هذا الفصل بحثاً معمقاً حول مفهوم الفصاحة وحول أهمية الاحياء اللغوي، من اجل استعادة الفصاحة المفقودة. والملفت انه منذ القرن الثاني للهجرة وحتى اليوم مروراً بعصر النهضة والدعوة قائمة لاحترام قواعد القول الفصيح، والعمل على تنقية اللغة العربية مما أصابها من أعراض مختلفة، على سبيل المثال: دخول بعض الالفاظ الاجنبية، وتسرّب العاميات، والبلبلة القائمة بين المحكي والمكتوب، وغير ذلك. يتحدث داغر عن فصاحتين: واحدة لغوية واخرى ادبية، كان لكل واحدة منهما نشأة مختلفة (نشأت الاولى في القرن الثاني للهجرة، والثانية في القرن الرابع الهجري)، وعلاقة تتراوح بين التداخل والتمايز والتبعية، اذ يشير الى ان الفصاحة الادبية تبعت الفصاحة اللغوية زمناً وتقيدت بقواعدها الفصيحة. كما يتناول بالبحث الرابط القائم بين الفصاحة والبلاغة، لكي يرصد في ما يلي كيفية تحول الفصحى "الى لغة العرب المصطفاة، ديناً وقومية أيضاً".(ص221). وكأن بداغر يشير من خلال هذا الاشتغال على الفصاحة الى أمر مهم يتعلّق بالزمن، وبحركة جريانه. وكأن الغرق في الفصاحة ابطال لحراك الزمن في اللغة. على الرغم من أن الفصاحة قيمة اسلوبية جمالية، وهي القيمة المرجوة والمآل والمرجع، الا انها بذلك تعطل دخول الزمن كعامل في تجديد اللغة وتوليد جماليات جديدة لها. يقول: "ان ميراثاً كتابياً بمناعة الفصاحة لا يمكن تجاوزه او تخطيه بين ليلة وضحاها، ولا خلال عقود من السنوات وحسب، ولا سبيل الى ذلك الا بمدّه بأسباب الحياة نفسها. يكفي للتأكد من ذلك النظر الى قصائد عمودية حالية ذات لغة فصيحة، وتراكيب سليمة المبنى، الا أنها مجوفة تماماً، من دون حساسية أو عصب، مثل طبل مثقوب".(ص235)
يختم هذا الفصل بوقفة ثانية مع انسي الحاج تميّزه عن الآخرين باعتباره قادماً من "لغة مختلفة تتصل في مصادرها بالعامية اللبنانية" وبمصادر اخرى يكشف عنها في سياق الدراسة. كما يبرز التركيب المبتكر لدى انسي الحاج الذي لا يهاب "حرمة" العربية، اذ يجترح "الانتهاكات الابداعية للغة المحروسة" مستخدماً "المحسنات اللفظية"، من دون تكلّف. يلفت داغر هنا الى الدور الذي لعبته لغة الصحافة في هذا التجديد والخروج عن المألوف لدى انسي الحاج وغيره، اذ نجد معه ان ابرز شعراء الحداثة كانت لهم بدايات صحافية. يقول عن انسي الحاج إنه "وليد التجربة اللبنانية في "العربية الجديدة"، بعد أن صفت ورقّت في طراوتها وجزالتها واستمدّت الكثير من المعاني الوليدة والتراكيب المنحوتة-هذه العربية الجديدة التي وجدت في الصحافة منبتها ومختبرها، على ما في الجريدة والمجلة من تعايش للمحكي والمكتوب في أن".(ص236)
يعود بنا داغر في الفصل الخامس الى زمن الشعر العباسي الفصيح لكي يدرس العلاقة الكامنة بين النوع الشعري والزمن نفسه، ولكي يتأكد من صحة ما يُقال بأن بعض الشعر العربي القديم كما الحديث يعكس الزمن الذي كتب فيه، وبأن القصيدة "شفافة لزمنها". من هنا عنوان الفصل: بين النوع الشعري والزمن، وهو يُعنى بـ ما يسمّيه "ما قبل النص"، اي ما يسبق النص نفسه، وما يفعل في بنائه، من " مسودة النص او العمليات الكتابية الجارية فيها، وغيرها مما يدخل في تكوين النص". يشير داغر الى ان الدرس اللساني البنيوي لم يلحظ بالضرورة هذه الامور اذ بقي منهمّاً بحدود النص الداخلية، بمعنى ان التركيز يتم فقط على تشكّلات البناء اللغوي للنص من دون سواها. نجده يتوقف عند دراسة نماذج من ابي نواس، والبحتري، وابن الرومي بهدف "التعرف التاريخي والنقدي على "النوع" الشعري، وأصنافه في المدونة النقدية العربية القديمة". كذلك بهدف "إجراء مقابلة بين الأنواع في هذه المدونة وبين القواعد البنائية لقصائد بعينها، بما يدلّ على التوافق أو الاختلاف او الخروج عليها".
يطالعنا الفصل السادس بالسؤال عن بدء توقيت كتابة تاريخ الحداثة في الشعر العربي، وعن الادوات المستخدمة لهذا الغرض. انه سؤال ملغوم بدفعة عالية من النقد. يبدو أن داغر قد عمد من خلال الفصل السادس الى احداث صدمة في وعي القارئ، وكأن به يقول ان البدايات التي وضعت ليست دقيقة، والادوات التي استخدمت في التأريخ للشعر العربي الحديث، ليست كافية، والمنظور المسيطر عل هذه العملية ينقصه التدقيق والمزيد من الحفر وتوخي الحذر العلمي. تحت عنوان السؤال عن الحداثة في الخطاب عنها يقوم داغر بمراجعة نقدية لمجمل ما كتب حول وضع بداية تاريخية للحداثة في المجال العربي. يفند في سياق دراسته سبيلين تم من خلالهما دراسة الحداثة عندنا، مظهرا اسباب قصور كل منهما، انهما: السبيل الطبيعي، والسبيل الصناعي.
يرى السبيل الاول انه من الطبيعي بعد كل سنين القمع والحرمان والتفنن بالظلم ان ينتفض الانسان ويثور على واقعه ويسعى الى تغييره، وذلك باعتبار التمرد على الامر الراهن امر منسق ومدروس يأتي بشكل تلقائي كما الولادة الطبيعة. انه يحصر التاريخ بالحادثة، بموعد الكتابة، او بالمناسبة الاجتماعية اي السياسية للنص من دون ان يتم البحث في "حقيقة الحداثة في نصابها التاريخي والمعرفي، في وصفها عملية "تناصية" جمعت بين "الانبثاق" و"الافتعال" ترجمة واقتباساً وتحويراًلمتن الحداثة الاوروبية".(ص280)
ويرى السبيل الثاني، اي السبيل الصناعي جاء بمثابة ردة فعل على السبيل الاول، اذ حصر الناقد انشغاله بالنص فقط، بعناصره، وأهمل خارجه، أي مناسبة النص، وعلاقاته باعتبارها تحمل بنيته المتعالية. انه السبيل اللساني الذي "طلب الشعر في صناعته، في مادته، في كونها المعطى الأول والأخير لتعيين ماهية الشعر".(ص281)
ما يلفت نظر داغر في هذين السبيلين ويوحد بينهما يكمن في انهما امتنعا عن فهم دقيق لـ"تاريخية الحداثة"، "اي عن حقيقة كونها عملية تاريخية لها ما يُنشئها في التفتّح المحلي كما في الاحتذاء والتمثّل والتحوير والتلفيق لمبدعات اوروبية في سياق القصيدة الاوروبية في سياق القصيدة العربية".(ص281) يظهر داغر بالأمثلة والبراهين كيف ان الدراسات النقدية بمجملها لم تتفرّغ للحفر في شبكة المفاهيم الظاهرة، ولم تنقّب عن العمليات التناصية الداخلة فيها.
يشير هنا الى انه حتى في تحديد مفهوم الحداثة في اطار الدراسات النقدية جاء من باب ترجمة حمولات هذا اللفظ الدلالية والمعرفية انطلاقاً من المتن الاوروبي من دون أن تؤخذ بالاعتبار الدلالة العربية للفظ الحداثة. يستوقف القارئ هنا ما توصل اليه داغر من ان لفظة الحداثة وردت عند ابن قتيبة في "عيون الأخبار"، وعند المعري في "شرح التنوير على سقط الزند"، وعند الثعالبي في "يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر". ويتابع بحثه في الحداثة من خلال توقفه امام كتاب "البيانات" الصادر عن اسرة الادباء والكتاب في البحرين لكي يستقصي من خلال النصوص المطبوعة فيه عما اذا كان الخطاب النقدي العربي قد تمكن من "معاينة الحداثة وتعيينها، ومن صياغة تاريخية المعرفة". يذكر ان الكتاب يعود الى أربعة مبدعين هم: ادونيس ومحمد بنيس وقاسم حداد وأمين صالح، يعرض نصوصا مختارة يتوقف فيها كل منهم عند تحديد الحداثة. يحلل النصوص وينتقدها بدقة لافتة، وبنظرة ثاقبة تبرز الكثير من الخلاصات الجديدة. لفتني على سبيل المثال ما قام به ادونيس من اعادة طبع قصائده عدة مرات بعد اجراء تعديل عليها في كل مرة، فيتساءل داغر: اين هو العامل التاريخي؟ ما هو دور الزمن الذي يتمّ اخفاؤه والتعالي على مناسبة القصيدة لكي تصبح اكثر تجريداً؟ ثم النقلة النوعية التي قام بها من دفع عجلة الحداثة باعتبارها طاقة قادرة على التحريك، الى نقد هذه الحداثة بالذات واعدامها علناً. يحاول داغر ان يدرس هذا التبدّل المفاجئ من خلال عامل الزمن ويردّه الى الخيبة من اوهام الحداثة بعد قيام الثورة الايرانية، وتأثره بحركة المراجعة النقدية لعقل الانوار التي قامت في اوروبا.
أما الفصل السابع والأخير فيشكل الفصل الذروة حيث يبلغ البحث الى أقصى مداه الفكري والفلسفي. انه يعلن ويثبّت فعل الزمن بالقصيدة في عنوان شربلي بامتياز: "خروج القصيدة من الواحدية الى التمامية". يكتب فيه سفر خروج فعلي من حال الى اخرى، ومن واقع الى آخر، ومن زمن الى زمن مغاير.
يبدأ بنقد الدرس التاريخي للشعر الحديث مظهراً مكمن الخلل فيه مثل:
- خلوص النقد الى اللسانية التي ابقت النص وحده بعد ان جردته من السياق.
- ضعف الممارسة التاريخية التي غلب عليها المسعى الخبري من دون التناول العقلاني.
أما المقاربات الاجتماعية للشعر فهي شبه غائبة من دون ان تُنزل الشعر في منازل العمل الاجتماعي.
من هنا يرى داغر ضرورة "العودة الى وقائع الشعر والبحث عما يوجبها، ولا سيما في تغيراتها، وهي تغيرات لا تقتصر- وان تتعين ظاهريا ووقائعياً- على شؤون تقنية او عروضية او بنائية، اذ تعبّر عن اعتمالات أوسع منها، وفي حراك تاريخي عام. وهو الحراك الذي وضع الشعر، بعد طول احتكام الى مرجعيته المخصوصة، طوال قرون وقرون، في وضعية التغاير التي أوجبتها شروط المثاقفة الواجبة مع اوروبا الغازية والساحرة في آن".(ص306)
لذا يرى داغر وجوب البحث عن "تاريخية لتجديد الشعر العربي تقع في اطار التثاقف، وهو ما تحاشاه كثير من النقاد مكتفين بملاحظة التغيرات الشكلية وحسب في بناء القصيدة العربية".(ص306) يشير في هذا السياق الى ان كثيرين جعلوا من العام 1947 موعدا لبداية الشعر الحديث مع صدور قصيدتين لنازك الملائكة وبدر شاكر السياب يمكن وضعهما في اطار التجديد العروضي. ما يصرّ داغر على تأكيده يكمن في ان هذا التاريخ غير صحيح، هناك بداية اخرى تعود الى ما يسبق هذا التاريخ بحوالي القرن، حيث يشير بالبرهان والدليل الى تجديدات وتغيرات حدثت واقعاً في الشعرية كما في القصيدة. يعود ذلك الى "تجارب القرن التاسع عشر، في قصائد أعداد من الشعراء"العصريين"، من أمثال خليل الخوري ورزق الله حسون وفرنسيس المراش وغيرهم".(ص307)
ها هو داغر يلغي موعداً ليدبر آخر، ويشطب اسماء ليدون مكانها اسماء أخرى، ويدعو الى "تدبيرٍ تاريخي آخر يعيد الى التجارب العربية المختلفة حظوظها المختلفة في السبق التجديدي".(ص307-308). يصر على الزامية العودة الى الوراء "تاريخيا لوضع الحداثة في مدى الحركة التي أوجدتها في اطار المقاقفة، وفي ضلوع الشعر في تعايش مع مرجعيتين: عربية وغربية".(ص308)
يمكننا ان نرصد لدى داغر خطوات منهجية عدة تهدف الى تفادي الاهمال الذي لحق بالشعر "العصري"، والمصير البائس الذي لقيه "شعر الحياة" (اي الشعر الرومنسي)، إذ تمّ إسقاطهما سوياً من تاريخ الحداثة الشعرية. لذا نوجز ما يُفترض القيام به على هذا النحو:
1- التعامل مع القصيدة باعتبارها نصاً منسجماً ومتوافقاً.
2- التعامل مع القصيدة باعتبارها نصاً متفاوتاً ذا مرجعيات متعددة قبل ان تتوافر فيه مختلف مستويات التجديد.
3- النظر في أوجه التجديد في صورة منفردة او متفرقة، والتوقف عند كل وجه على حدة.
4- التأكد من وجود مواعيد مختلفة للتجديد في كل بلد عربي وعدم التمسك بالعام 1947
5- التخفيف من اعتماد التعامل مع التجديد وفق منظور سياسي-جغرافي يرتكز على تأسيس الدولة نفسها.
6- اعادة النظر في قسمة الأجيال التي نلقاها في هذا التاريخ الشعري او ذاك والتي تحدد اسباب الترابط بين هذا الجيل وذاك. بمعنى آخر، عدم اعتماد على خريطة جامعة الدول العربية واهمال تنقلات التجديد نفسه، اي عدم التعويل على الجغرافيا من دون التاريخ.
7- ضرورة تخلي الناقد عن دور "مأمور النفوس" الذي ينهمّ بتسجيل الميلادات مثل الوفيات، ويقيم شبكات مترابطة وفق المواعيد الزمنية هذه، ويجعل منها أساس التجديد الوطني.
8- النظر الى خريطة التأثرات والتبادلات الشعرية وفق منظور آخر، يخرج عن رقابة الامن العام والجمارك وتطلبات التنافس بين الشعراء.
9- ضرورة تبيّن حدود أخرى غير حدود الجغرافيا والدول لأنها لا تفي وحدها بالغرض، وتبقي الدراسة محصورة بتصنيفات خارجية من دون اظهار معالم التجدد في كل تجربة، ومعالم التبادل عربيا واجنبيا.
10- يجب اعادة الشعر الى حيث كان، اي داخل النظام الثقافي والمتعالي، وضمن اطار التداول.
من هنا، وانطلاقاً مما تقدّم يرصد شربل داغر من خلال درسه الشعر العربي الحديث خمسة أشكال لفعل الخروج الذي عاشه النص اثر فعل الزمن فيه، يمكن إيجازها بما سيأتي:
أولا: خروجٌ نحو تنويع القافية يمهّد لخروج الى موضوعات جديدة تبصرها العين في هذا الوجود وليس في الذاكرة والتقليد، مثل التحدث عن "التومبيل" او "التلغراف" او "المغنطيس".
ثانيا: خروج قوامه الابتعاد عن نظام "الواحدية التمامية" الذي ينفي التغير ويركن الى مثال واحد يتم التماهي معه، فيتحكم النظام السابق الجماعي بقصيدة الشاعر وبالحكم عليها. انه خروج يتخذ من الصلة بالزمن علاقة لازمة له، وتعبيرا متعدد الأوجه والتناولات عن الزمن وحمولاته وعن الانسان فيه.
ثالثا: خروجٌ نحو بناء مختلف للقصيدة العربية التي تخلّصت من شكلها القالَبي المحسوب، وفي بلوغها شكلاً متغيراً عند كل شاعر، بل في كل قصيدة. وفي ذلك اشارة واضحة الى ان عمل الشاعر بات واقعاً في الزمن، داخلاً في علاقة معه، لا يعود معها الشعر عملا نظمياً، بل نوعاً من الممارسة الوجودية، من العمل الموقعي الذي يطلب أثراً في الزمن، ومع الآخر.
رابعاً: خروجٌ مبني على اساس قاعدة مادية تطلقه وتتبناه، تتلقاه وتنشره. قاعدة تجعل المدون صنيعاً كتابياً، طباعياً. الامر الذي يجعله بحاجة الى درس وفحص في حد ذاته، وينشأ عنه بالتالي حقلا تداولياً جديداً. انه زمن خروج القصيدة من البلاط الى الكتاب وصفحات المجلات والجرائد. اذ تصبح العلاقة بين الشاعر والمتلقي انفرادية وغير احتفالية، تتوجه اليه بالذات وهي لا تعرفه. انه الخروج من "جمالية السماع الى جمالية القراءة".(ص316). انه زمن القراءة الفردية القابلة للتقدم والتراجع، للإستعادة كما للقطيعة. خرجت القصيدة في زمن الحداثة من القصر الى البيت، ومن لحظة الخطابة الى لحظة "الاستغراق". يقول داغر في هذا السياق: "بات القارئ شريكاً في القصيدة وأُفقا لها: شريكاً مسبقاً في الانتاج على انه ايضاً أُفق مرتجى للقصيدة. هذا يعني ان القصيدة باتت محل انتاج في التواسط الانساني والاجتماعي، في مبثوث المعنى كما في افقه التاريخي ايضا".(ص317).
خامسا: خروجُ القصيدة من شروط المنافسة بين البلاطات والنقاد لكي تقيم في الشاعر نفسه، في ما يعرضه ويقدمه لغيره، اي النقاد والقراء. هذا الخروج اوجد قصيدة، بل قصائد متغيرة، متخالفة، يصعب التفاضل الشديد او المحسوب بينها، وباتت القصيدة عالماً في حد ذاتها، كوناً مقيماً في بنيتها المتخيّلة، الامر الذي اخرجها من الواحدية، ومن التمامية كذلك، الى التباين والتكثر. هذا ما جعل القصيدة موصولة وقائمة على التغير الزمني، مما يظهر التحقق الامثل لعلاقة مفتوحة ومطلوبة مع الزمن، بوصفه منبت التغير والحدوث والتجدد والتفرد ايضا.
هذه هي باختصار، أبرز تجليات حركة الخروج التي تحدّث عنها داغر في كتابه "القصيدة والزمن"، وهذا بالتحديد ما عنى به عندما قال بخروج القصيدة من "التمامية الواحدية" اي من "الاحتكام الى نظام لا يرى الشعر الا في صورة واحدة، تمامية، اي ناجزة وفق نظام موضوع، سابق، فيما هو يعني تقيد القصيدة لا بمثال، بل بمقتضيات يوجبها النظام الثقافي والمتعالي في ضروراته الاجتماعية".(ص318)
ان فعل الخروج المتتالي الذي يشير اليه داغر كانت له مفاعيل عدة، احاول حصرها بأربع نقاط:
أولاً: جعل القصيدة "موصولة وقائمة على التغير الزمني"، ليصبح بذلك تفرد الشاعر وعبقريته ضرباً من "التحقق الأمثل لعلاقة مفتوحة ومطلوبة مع الزمن، بوصفه منبت التغير والحدوث والتجدد والتفرد بالتالي".(ص319). يشير ايضاً الى ان هذه الصلة بالزمن تكفل القصيدة عن طريق جعل "الشاعر قواماً عليها، فتبتدئ القصيدة من ملكته، من تدبيراته، من كون النص صنيعاً بين يديه. وهو بقدر ما يعين الخروج من "واحدية تمامية"، يعين "فردانية قيد التبلور".
ثانياً: ابتداء القصيدة من الشاعر، اذ أصبحت تلعب دور القماشة للمصور، انها نوع من السطح المادي وليس فقط مجرد حامل للتعبير."أي ان الشاعر لا يطلبها لقول ما يريد، وانما بات يعرف كذلك انها حاصل يتدبره بالعمل، اي بما يصرفه للألفاظ والسطور والمقاطع من معالجات وحلول ومصائر".(ص320)
ثالثاً: الاقتراب من "تعطيل قدرة الإفصاح في اللغة، وتبلبل صوابية المعنى"، هذه الصوابية التي كانت تدعيها القصيدة القديمة. بمعنى آخر، لم يعد الشاعر مهتماً بالموافقة بين اللفظ وخارجه، بين اللغة والواقع، انما بات ينشغل بما تقوله الالفاظ أبعد من مراميها الواعية او المقصودة. انه يعمل في اطار تخيّل "مفتوح على التكثير، وعلى تسرّب المعنى، لا على تركّزه". (ص320)
رابعاً: ظهور اجتماعية أخرى للقصيدة الحديثة تبرز في التعليم والصحافة مثلاً، وتأسيس علاقات انطلاقاً من مواقع متغيرة ومتعددة الى حد التخالف. يعطي داغر أمثلة على ما بات يُطلب من القصيدة أن تؤدّي مهاماً مختلفة، فتخرج الى العلن في أصوات متنوعة، يذكر منها:
- صوت يذهب في وجهة ان تكون "وحياً صادقاً".
- صوت يطلب التواصل، وذلك بهدف تأسيس القصيدة على القول الفردي في أساسه، واقامة الحوار بين المتكلم والمخاطب من منطلق تعاقدي، خلافاً لنوع التواصل الذي كان قائماً في السابق بين خطيب على منصة وقوم في حفل جماعي.
- صوت شعري يذهب بالقول الشعري الى جذور وأجواء أخرى، مغايرة لمناسبة الحفل او التظاهرة او الغرفة الحميمة. انه التوجه الى الشارع والمقهى، الى حيّز عام مغاير لما سبق.
- صوت شعري يذهب بالمعنى في اتجاه صفحة الكتابة نفسها، وربما في اتجاه الصفحة الالكترونية نفسها، مناشداً اياها ان تكون "ماثلة وشفافة" ضمن "علاقات معقدة تتراوح بين التغييب والجلاء الانسانيين". هذا ما نجده في شعر داغر نفسه، في مجموعاته المتأخرة على وجه الخصوص حيث تدخل القصيدة في اختبار مميز وجديد يتعيّن في التحاور مع الشاشة الالكترونية، ويصبح الحاسوب ذلك " المجاز المحمول".
انها مجموعة أصوات تتناغم في سياقٍ قيد الانجاز دائماً، لا يعرف السكينة ولا الجمود. "أصوات تطلب الكلام العالي، وبعضها الصراخ، او تطلب المسارة او المكاشفة او البوح او التشكي المستغرق في لججه، او تطلب اطلاق الكلام في اتجاه اصوات خافية...".(ص322)
ان تتحول القصيدة الى صوت هذا يعني انها اصبحت طاقة حرة طليقة يتدافعها الهواء في اكثر من اتجاه، وتتراقصها الامواج نحو آفاق رحبة ومتعددة.الصوت عندما يكتب لا يعرف نفسه، لا يعرف من يكتب من عبر الشاعر. هذا ما عبّر عنه في حديث متلفز قائلاً: " أشعر بتعددية الاصوات. الكتابة تصدر عن ملكة فينا وعن مخزون في الشاعر. هو يحددنا ونحن لا نعرفه وهو يظهر حين نكتبه. ونحن كشعراء او انا على الاقل، لا اتحكم بقصيدتي، فهي التي تتحكمني، وهي التي تسميني واذهب اليها وأقرأها مثل قارئ، على ان لي أفضلية او اسبقية على القارئ هو اني ازورها قبل ان يزورها هو".
هذا الانطلاق نحو الاستسلام للقصيدة هو في حد ذاته تحليق يتجاوز حدود الفصاحة والتمامية والواحدية وحتى الحداثة نفسها. انه فعل تخط دائم للذات امام ذاته، انه سفر متجدد المحطات، لا يحط الرحال الا لكي ينطلق من جديد. انه تدافع المعنى نحو ما لم يتم البوح به بعد...
أختم بنص اخترته من مجموعة داغر الشعرية: على طرف لساني، لكي نتذوق معاً كيفية ممارسته كتابة القصيدة، في نص عابق بـ"مبثوث المعنى". يقول:
"أكتب إذ أحب.
أحب إذ أكتب.
هي الرغبة عينها التي تدفعني، التي تحملني، فيما أظنني أسبقها.
(...)
أكتب فأدفع عني الموت. وأدفع عني الموت فأحب.
هو مداي الحيوي، ما ينقلني وينشرني في ما يستقبلني، في غيمة حانية، في غيمة عامرة بمطر النعمة، على أنه ينبوع جارٍ بين شقوق الجسد.
(...) أدخل الى القصيدة بعد وقت على كتابتها مثل مجهول، مثل غريب في بيته، طالما أن لقائي بها لم يحصل بعد موعد، وانما في مصادفة معتمة وفجائية.
لهذا أكتب اذ أحب... هذا ما لا أعمد اليه، ولا أقصده، وانما يحدث لي بنوع من التواصل الحميمي، ليس لحفظ ما جرى، وانما الى استكماله فوق ألواح أخرى.
لهذا أحب إذ أكتب، اذ انني أتحقق فوق سطور القصيدة من الشوق الذي يعنيني إبلاغه الى غيري، الى قارئ يخرج من العتمة بدوره.
(...) هكذا أقبل على القصيدة مثل فعل وجودي كامل وناجز، وأقيم فيها مثل كيان وجودي دافئ وبهيج: هكذا أكون، وبهذه الكيفية، على أن القارئ ضيف عزيز-ان رغب-،في شراكة حوارية ممتعة وحيوية".
غريبان في عتمة البهجة، على طرف لساني،ص144-146-147-150 (بتصرف)
------------------------------------------------
"الشعر العربي الحديث- كيان النصّ" 2014- 350 صص، للدكتور شربل داغر...
منذ استلامي هذا الكتاب تساءلت عن الجديد الذي يمكن أن يوفّره خصوصا أنّ المكتبات الجامعية اللبنانية والعربية تعجّ بدراسات الشعر العربي الحديث، وبالنقد النصي اللساني الذي تطوّر في السيميائية والبراغماتية. وكذلك، تساءلت عن الجدوى من التمثّل بقصيدتي "المساء" لمطران، و"أنشودة المطر للسياب" اللتين كانتا موضع عشرات القراءات؟! ولتلّمس إضافات الباحث وجديده الأكيدة، قرّرت اتباع خطواته المنهجية، وعرض ما اشتمل عليه كتابه عرضا يتوازى مع أفق تلقيه.
يقترح المؤلّف أن تكون الخطوة القرائية الأولى، الاستهلال بمحيطات أيّ منتج كتابي.. والمنتج الذي نقرأه تعيّن مؤلّفه وعنوانهفي صفحة الغلاف الأولى، واستعيدا في صفحة الغلاف الأخيرة، متصدّرين موجزا كثيفا يختزل ماورد في الكتاب، أشكّ في أنّ أحدا غير مؤلّفه كتبه؛ لأنّه حصيلة تلتقط موضوعات الكتاب، ومفاصله الأساسية، وبناءه.
نفهم من هذا الملخّص أنّ مكتوب داغر، استكمال لمشروع بدأه بدرس "الدورة الثقافية المستجدّة ابتداء من عصر النهضة"؛يشكّل فيها هذا الكتاب قراءة شعرالمرحلة الثانية؛حيث يلحظ تغيّرات بنائية تعيّنت في تكوين الكتب، وظهورها الطباعي، وأبنية النصوص النحوية والوزنية والمعنوية. وتلك التغيرات تفترض قراءة منهجية مختلفة،تقع على ما يقول الباحث "ما بين الشعري والتاريخي، في ثلاثة ميادين: ما قبل النصّ، النصُّ في أبنيته المخصوصة، عبرَ النص أي قصدُه وتفاعله مع خارجه"، وقد استجمعها من انتهاج "اللسانية البنيوية، ومن التداولية، ومن خبرة في القراءة المنهجية تفترض "معاينة القصيدة بوصفها نصا"... وهذا الموجز هو ما نجده أكثر توسّعا في المدخل والخاتمة، ومفصّلا بإطناب وبكثير من الاستعادات، في متن الكتاب...
يكشفالمدخلعن أنّ الباحث يقابل اتجاهين للنقد: اللساني البنيوي الصارم بمرتكزاته، والثقافيالآخذ بانطباعيةالتذوّق الأدبي المتأثر بتفكيكية دريدا، وبعودة التأويلية القديمة، أي العودةِ إلى سلطة الناقد الاستنسابي وتذوّقِه الجمالي.
وفي هذا المدخل، يعلن الباحث انحيازه الصريح إلى اللسانية البنيوية، لكن، بعد سدّ نقصانها؛ إذ يأخذ عليها اكتفاءها بالنص جاعلة منه "العِوَضَ عن الوجود"، وإغلاقَها إياه، وإبعادَه عن إنتاجيته الإنسانية، وإزاحتَه عن العالم (16)... وهي المآخذ نفسها التي يأخذها على القراءة التأويلية الفلسفية، ودليلُه قراءة هايدغر للوحة فان غوغ "حذاء الفلاحة"، إذ يأخذ عليه جعلَ الحذاء هو العِوضَ عن الوجود (17)، فلا تمثُلُ حقيقة الحذاء في الأقدام، بل في هيئته، في مثوله فوق لوحة هي الأكثرُ تعبيرا وتدليلا عليه... ويخلص إلى أنّ الاكتفاء بقراءة النص أو اللوحة بتلك الطريقة تجعل الدارس كأنّه في مختبر، يقرأ ما يقع له تحت المجهر، لكأنما اللوحة أو النص غير مسبوقين ولا مستلحقين بما يقومان عليه... وكذلك، يحدث الأمر نفسه من حيث مآخذه على قراءات فوكو وإيكو خصوصا من جهة تغييب الشراكة الإنسانية والتاريخية عندهما..ويأخذ على دريدا إعلاءه التعبير على التفكير، والكتابة على القصيدة؛ إذ لا منحى له سوى إسكاتِ النص عن الإبلاغ، وقطعِ نقاط التدليل، وإظهارِ عضلاته القرائية الشبه سفسطائية.
كما يلحظ المؤلّف التوسع والتركيز في قراءات الشعر، فيما بقيت دراساتُ الرواية محدودةَ التطلّع المعرفي... وهذا الدرس للشعر، على ما يقول، لم ينحصر بالمتثاقفين، بل تعداهم إلى اللسانيين الحديثين؛ إذ تعاملوا مع القصيدة على أنها خلاصةُ اللغة وكثافتُها النوعية الدالة.. وينسب الباحث هذا التوجّه إلى غريماس الذي جعل من درس الشعر "ومن الشعرية نفسها نموذجا لغيرها من الأجناس والأنواع الأدبية والفنية عموما... وهو ما عرفناه في شعرية الرواية وشعرية المسرح وشعرية السينما وغيرها". 13
وهنا، أظنّ أنّ الباحث يكتب كما لو أنّه يخاطب مختصّين بالنقد من دون سواهم؛ وخوفا من أيّ التباس يمكن أن يحصل عند القارئ غير المختص، يفترض توضيح دلالات مصطلح "الشعرية". إنّ موضوع الشعرية هو الخطاب وليس اللغة، وهي ليست من تقعيد غريماس، إنما هي من متابعات جاكوبسون لأدبية الأدب في الشكلية الروسية والتي استند إلها الباحثون اللسنيون والسيميائيون وعلى رأسهم غريماس، وقد اختصّت بقواعد الشعر وخصوصيته البنائية والجمالية. وباتت تعني علم الأدب، ومضافةً إلى الرواية أوالمسرحية، تعني حينئذ علمَ كلّ منهما، أي القواعدَ والقوانينَ المختصّة بالرواية أو بالمسرحية، وهذا التوضيح يهدف إلى إزالة الالتباس عن القراْ وليس عند الباحث الذي يدركه تماما...
وكذلك، أشير إلى أنّي مع تعدّد القراءات المنهجية، كونَ كلّ منهج يصوّب إلى حقيقة ما مختلفة عمّا يصوّب إليه الآخر، كالمعرفة التي تقدّمها تأويليةُ هايدغر الوجودية في قراءته الحقيقةَ مرئيةً ومتكلّمةً في لوحة فان غوغ؛ حيث يستحضر المقصيّ إلى منطقة المابين ويستنطقه، من خلال النظر إلى ذلك المفتوح المعتم داخل فوّهة الحذاء المثقلِ بالصلصال اليابس، ليصغي إلى نداء الأرض الصامت، وقلق الفلاحة المكتوم، أي إلى نداء الكينونة، الذي استجابت له الفلاحة من دون أن تعي ذلك. وهي حقيقة وضعها Schapiro. Mموضع تساؤل من خلال التبادل الترسّلي الذي جرى بينه وبين هايدغر نفسه، ولا سيّما حول نسبته زوج الأحذية إلى فلاحة ما: فلِمَ لا يكون الحذاء لفان غوغ ؟ ألا تؤدّي الأحذية حينئذ وظيفة مختلفة؟...كما يقرأ دريدا اللوحة قراءة تفكيكية، فيضع قراءات هايدغر وشابيرو، وفيرانتشي الجنسية للوحة موضع مساءلة شكّاكة، فيجعل حقيقتها محور تساؤلاته: أيّ حقيقة؟ الحقيقة بمقاس الحذاء، الحقيقة رسما، الحقيقة تعويضا، أي ثنائية جنسية من مهبل وقضيب... أحذية فنان، أحذية مؤوّل، أحذية سيرة شخصية... ليخلص ممّا تقدّم إلى أنّ الحقيقة، في قراءات اللوحة، هي ممّا لا يمكن حسمه. وهنا، أظنّ كذلك أنّ الباحث قد وجّه النقاداته لتبرير سدّ النقصان الذي يعتور اللسانية البنيوية.
وبعد إيضاح إشكاليات النقد وتعثّره، وليمضي المؤلّف قدما، يكشف عن تلازم إبانة بناء النص الشعري ومنهج قراءته. لذا، يعرض عددا من تعريفات النص ويناقشها، ويخلص إلى الآتي: "إنّ التعريفات الخاصة بالنصوص تربطها من جهة أجناسها وأنواعها، أو من جهة علاقاتها بالإنتاجات الفنية والجمالية، أو من جهة استقبال هذه النصوص، في صورة متواقتة أو مؤجلة".
ولأنّ المؤلّف يعطي أهميةً لمرحلة طريقةِ إصدار النص وموقعِه وتعالقِه، يعود إلى جينيت الذي يميّز النصَّ من الكتاب، والمكتوبَ من هيئته المادية التي يظهر بها؛ ذلك أنّ النصّ لا يَمْثل أمام القارئ عاريا، بل محاطا بجملة من المواد المختلفة، أبرزها محيطاته التي أطلق عليها جينيت لاحقا مصطلح "عتبات"، إشارة إلى بوابة الدخول إلى النص، والخروج إلى القارئ. ومنها الهيئة الطباعية، ودار النشر، وما يرد في صفحتي الغلاف الخارجي... بهدف بلوغ قصديات معينة تأثيرية أو ترويجية أو تعريفية أو تعيينية...
ولا تكتمل دراسة النص من دون الانتباه لعلاقاته التناصية، ولا من دون الوجه التداولي... وهكذا، يلاحق داغر التغيّرات البنائية للقصائد، وصولا إلى ما أطلق عليه "كيان النص"...
يخصص المؤلّف القسم الأوّل إلى ما قبل النص، فيلاحق ما سمّي بتكوينه، وتصحيحه وتنقيحه، اي يلاحق مُسَوّدات النصّ، لتبيان تحوّلاته الصياغية، مميّزا بين النصِّ كمنتج جار إعدادُه، والنصِّ مكتملا، كاشفا عن الحذف والشطب والتنقيح والمحو والزيادات، سعيا إلى "النص الأمثل"، سواءٌ في الشعر العربي القديم، أم الشعر الغربي المعاصر.. ويلحظ داغر افتقار الشعر العربي الحديث إلى احتفاظ شعرائه بمسوّداتهم. في حين أنّ بعضهم يعدّل المدوّنات والمنشورات بعد إصدارها! أو يحذف منها أبياتا ومقاطع من طبعة إلى أخرى كما لو أنّها مسودات، على غرار ما جرى لقصائد السياب "يوم السفر" و"الأسلحة والأطفال" و"جميلة بو حيرد"؛ تبعا لتقلّباته السياسية. وما جرى لمطولة "قالت الأرض" لأدونيس، من طبعة إلى أخرى وهي التي يتناول فيها ملحمة سعادة. حيث لايكتفي بالحذف والتعديل والتنقيح، إذ يطاول تعديله البنى والتوزيع والدلالات، ومناسبة القصيدة وقصديتها، بل يكاد يعدّل القصيدة كليا، وفقا لما انتهت إليه قناعاته الإيديولوجية، معدّلا بذلك موقفه ورؤيته.
كيان النص: المساء وأنشودة المطر
يشدّد داغر على اللفظ أساسا للبناء الشعري، وانطلاقا من ذلك يقترح دراسة القصائد عبر ثلاثة مستويات: الهيئة اللفظية من جهة نحوها، ومن جهة وزنها، ومن جهة معناها، مشدّدا على الائتلاف والتناسب والتماثل.أمّا السبب الذي دفعه إلى اختيار المساء وأنشودة المطر، برغم تعدّد قراءاتهما، فلاعتبار كلّ منهما ذات موقع مفصلي في تحوّل أبنية القصائد.
من هذا المنظور، يعاين الباحث قصيدة "المساء". بداية، يلحظ الهيئة الطباعية التي ظهرت بها، فيكشف عن توزيعها الطباعي على ستّة مقاطع غير متساوية. ويعتبر أنّ الجدة أكيدة: أوّلا، لأنّ إخراج المساء غير متوافق مع القصائد القديمة، ثانيا، لايمكن نسبة مقاطعها إلى تعدّد الموضوعات، ولانسبتها إلى أيّ نوع شعري معروف. ثمّ يتحقّق من العلاقات التي تقيم أشكال اتصال بين أبيات القصيدة ولاسيما ما يتصل بالداء، وبالصبوة والحقل المعجمي الذي يستدعيه كلٌّ منهما. ثمّ يلاحق النحو، فيكتشف أنّ غالب أبياتها يبدأ بكلمة هي نواة البناء بالمعنى النحوي التأليفي، كالمسند إليه في الأبيات الخمسة الأولى، والتكرير الاستهلالي: "نِعمَ" في الأبيات (15- 17)، و"أوَ ليس..؟" في (30-32). أمّا من جهة الامتلاء الوزني والنحوي والدلالي والتقفية، فأبيات القصيدة كلّها ممتلئة وزنا ومقفّاة، إلا أنّ بعضها يخرج على الامتلاء النحوي أحيانا. حيث إنّ الجريان النحوي والمضموني بين بيتين ملحوظ فيها...
وكون المناسبات كانت من مفاتيح قراءت القصائد، وبما أنّ القصيدة مصدّرة بمناسبة قولها: "قال الناظم وهو عليل في الإسكندرية". يرى المؤلّف أنّ مطران قدّم خطاب التشكي والتحسّر على غرار العباسيين لكنه بنى المعنى بناء متداخلا ومتشابها بين الذات والعالم: هو والغروب متداخلان، وذاته والغروب الكوني متناظران، والأبيات تتتابع على قدر من الاستقلالية، وتخلص إلى معادلات وترابطات في ختامها. فهي لا تنطلق من مفتاح معنى كما قصائد النوع الشعري إنّما تنشئ كيان معنى.(224)..
والجدير ذكره أنّ مطران نفسه عدّ شعره عصريا، وقرّاء "المساء" اعتبروها طليعة التجديد والتحوّل، وذات بعد رومنطيقي، وأبرزهم أدونيس في أطروحته. "الثابت والمتحول 3"، وقد بيّن أنّ تجديدها كامن في وحدتها، وفي تركيبتها، وفي بعدها الرومنطيقي. أمّا نأيُ الشاعر عن الرومنطيقية ففي تشغيله العقل إلى جانب العاطفة فيها.
وإذ ينظر المؤلّف إلى "أنشودة المطر"، كما وردت في الآداب، يلحظ أنها موزّعة على خمسة مقاطع. وهنا ينتقد توزيعها ذاك؛ كونه لا يخضع في المقطعين الثاني والثالث لوقفات مبرّرة، أما التحوّل الذي يلحظه فيتمثّل في إلغاء نظام الأبيات ذات الأشطر المتناظرة لمصلحة الأسطر/ السطور، وفي اختلاف التفعيلات وتفاوتها من سطر إلى آخر، فيما تحتفظ القافية بدورها، إذ تشمل سطورَ القصيدة كلَّها، إلا أنها قواف غير نسقية، وأحيانا لا تمثّل القافية وقفة نحوية ولا مضمونية، (150)... وهكذا، بات البياض في نهاية السطور يلعب دورا بنائيا (167). وكذلك، بات للإيقاع حركية لا تتعيّن في السطر وحده، وإنما في توالي الأسطر، وكذلك، في القصيدة نفسها التي بات لها ترتيبٌ موسيقيّ يتعيّن في تبادلات بين مقاطعَ لها وظائفُ موسيقية بعينها... وهنا، يقدّم د. داغر رسم خطّ الموسيقى البياني في "أنشودة المطر" عبر اثنتين وعشرين جملة موسيقية، ولكن، من دون تبرير هذا التوزيع.(193)
ويكمن التحوّل كذلك، من جهة النحو، في تمدّد البناء الجملي أي الجريان المتوسّع، وفي تعالق التراكيب، ومثاله ابتناء المقطع الأوّل من مسند إليه هو "عيناك"، فيما مسانيده عديدة في السطور المتلاحقة. وكذلك القول في الألفاظ "خليج- العراق- المطر"..إذ تسند إليها غالب التراكيب النحوية (149). ويحصل الجريان بتعالق يتعدى السطرين كما بين (24-31) و (23-36)، وفيما يستقلّ كلّ سطر وزنيا وتقفويا، يحتاج نحويا إلى تاليه (226). وهذا يعني أنّ المقتضى النحوي بات يتصدر عملية البناء العام، ما يمنح الشاعر الحرية في بناء الشكل (226) أما من جهة المعنى، فتشكّله يخضع للجريان النحوي في السطور الشعرية، في مقاطعها المختلفة. 226
وإلى هذا، يضيف داغر أن التخاطب في القصيدة لا يفصح عن هوية ثابتة، لذا، يرسم إطارها الزمني (الغروب) والمكاني (الكويت/ منطقة شط العرب) أما الحدث فبسيط، كما لو أننا على خشبة مسرح تجري عليها التخاطبات، لمسرحية تقوم في جوانية الشاعر، في استبطانه لما يقع عليه خارجَها، وفي استدعائه وتحويلِه عناصرَ العالم، وتملّكِها تملّكا ذاتيا.
ومع أنّ داغر لا يستسيغ التفكيك، إلا أنّه أحيانا يستخدمه، إذ يكشف في أنشودة "المطر"عن اللاحسم في التعدّد الدلاليّ، وعن لعب الدوال، أو قيام المفردة الواحدة بأداء معان مختلفة، ومعا. "فالمطر في القصيدة هو:
- الواقعة الجارية المتمنّاة أمام عينيه في الكويت
- العنصر الطبيعي
- العامل الوطني والاجتماعي والسياسي في بلادٍ وأراضٍ في الخليج العربي تشكو من قلّته
- العامل الأسطوري، عامل النماء والخصب في الأساطير الفينيقية والرافدينية...
والضمير المتصل المؤنّث "كِ" هو:
- الحبيبة
- القرية
- المخاطبة الأسطورية
- العراق"...
ويمكن استنتاج الآتي من قراءة القصيدتين:
- البحر موجود في القصيدتين، إلا أنه تام في المساء، وجزئي ومختلف في أنشودة المطر
- القافية واحدة ونسقية في المساء، ومتعدّدة في الثانية
- الوقفة بعد القافية لازمة وذات مدّة واحدة في أبيات المساء، فيما هي مختلفة الوقفات في الثانية، فضلا عن وجود تعالقات بين السطور توجب بناء صوتيا وزمنيا مختلفا يتعيّن في الجملة... 186
- لم يعد النظام سابقا على القصيدة الحديثة، إنما بات تاليا
- عمل الشاعر لم يعد نظميا، إنما بات تأليفيا، أي بات هو يبني النظام
- بات علينا أن نعاين كلّ قصيدة في بنائها ونكتشف نسقها
- لكلّ قصيدة خريطة نصية نحوية وإيقاعية فردية لا جماعية 195
- القصيدة تركيب كلامي، قبل أن تكون وزنا، الوزن تركيب إيقاعي بدوره قبل أن يكون تفعيلات عروضية.
- النتيجة: انتهت القصيدة إلى أن تكون بين يدي الشاعر، بعنايته، وليست بعهدة نظام معياري...
وأعتقد أنّ "أنشودة المطر" ليست النموذجَ الصالحَ للتجريب الإبداعيّ المنتهك العمودية والمحكمِ البناء؛ كونَ كلّ سطورها مقفّاة، وكلّها ممتلئة وزنا، وكون 70 سطرًا منها من مجزوء الرجز، و 14 سطرا من مشطوره، و13 سطرا من مجزوء المشطور، و22 سطرا من اللازمة المتواترة (مطرْ). وهذه الأخيرة هي التي تمثّل جرأة الشاعر في انتهاك التقليد الشعري، أمّا القانون الثالث الأهمّ الذي لا يتوافر في أنشودة المطر فيتمثّل في عدم امتلاء السطور وزنا، ونحوا ودلالة، فضلا عن اقتصار التقفية على نهاية الجمل الشعرية وليس نهايات الأسطر. وهو ما نجده في القصائد اللاحقة، والدكتور داغر يدرك ذلك، ولكنّه من ضمن آخرين يعدّ "أنشودة المطر" طليعة التحوّل إلى النصّ الشعري الحديث-كيان النص..
المقارن والمثاقفة acculturationوالتناص 248
ترتبط المثاقفة بالأدب المقارن مباشرة، وهي حقل يقع في دائرة اختصاصه. والمثاقفة لفظ اصطلاحي جديد يقصد به التفاعل الثقافي بين الجماعات والنصوص، يتطلب درسها تعدّي المقارن إلى التناص الذي يدرج التفاعل النصي بين نصوص واقعة ضمن اللغة نفسها، والثقافة عينها، وفق علاقات قد تكون محاكاة أو تحويرا، أو استعادة جزئية أو كلية...
وهنا، يستعرض المؤلّف مفاهيم الغربيين للتناص، فينقل عن كريستيفا أنّه "التفاعل النصي في نص بعينه"، وعند تناولها التناص في شعر lautréamontتتوقف أمام عمليات التحوير والاختطاف والتحويل التي أقامها الشاعر على نصوص معروفة (253)
ويدرج جينيت التناص في تصنيف جديد للعلاقات النصية يجملها في خمس أحوال: الاستشهاد والسرقة- علاقة النص بعتبة النص- علاقة النص بالنص الجاري الكلام عليه، وبين النص والنص السابق عليه، والعلاقة بالأجناس الأدبية التي يفصح عنها النص.
ويقدّم بوغراند ودريسلر Dresslerتعريفا للتناص يفتح اللسانية على التداولية والتواصلية.
وإذا كان عمل الأدب المقارن ينتظم على أساس المقارنة بين نصين: نصٍّ سابقِ التحقّق تاريخيا هو الأولُ والأصلُ وفاعلُ التأثير، ونصٍّ لاحق هو الثاني والخاضعُ للتأثير... فإنّ التناصَّ يقلب الأساس التفاضلي اللازم في أي عملية مقارنة، ليجعل من النص المطلوبة دراسته بنية بذاتها، حيث إنّ المواد المبنية في النص نحويا ودلاليا هي الوقائع التناصية، وهي وقائع تقوم في تفاعلها وإنتاجها تبعا لعلاقات مختلفة قد تكون الاستعادة أو التذكّر، أو التلميح، أو إيراد الشواهد، أو التقليد، أو المحاكاة الساخرة، أو مما نقع عليه من فنون أدبية بفعل التملّك، أو الاختطاف أو بمفاعيل الذاكرة في أثناء الكتابة (257).
مصادر التناص وميادينه
ويميّز المؤلّف، استنادا إلى راستيي التناص الخارجي (الظروف الحوارية- الأحوال المشتركة- الثقافة المشتركة- التداولية...) من التناص الداخلي intratexteضمن النص الواحد، والتناص الاعتيادي الذي يصل النص بنصوص أو مقتبسات من خارجه، إذ جعل الوظيفة التناصية الداخلية لازمة ومنطلقا للتناص الخارجي (263). والسؤال حول استقلالية التناص بالدراسة أو اعتباره مكمّلا، الجواب هو، استنادا إلى راستيي، أن التناص مكمّل للدراسة اللسانية أو هو جزء داخل فيها، وغير ممكن إنجازه من دون المرور بها...(264)
أما مصادر التناص فيجملها المؤلّف في ثلاثة، أوّلها الموروث العام الشخصي. وثانيها التناص الواقع في إنتاج الشاعر نفسه وفي تكراراته.. و الثالث: الطوعية/ الاختيارية، حيث يختار الشاعر من نصوص مزامنة أو سابقة...(265)
ومجالات التناص كثيرة: تقليد قصيدة- بحر- قافية- موضوع- صورة شعرية- تراكيب- صياغات مناخات- من النوع الأدبي: الغنائية- الرومنسية- الدرامية- الرمزية- القصة- المسرحية- الحكاية- تملّكية الأساطير- اقتصاد الحوار (الوظيفة التملّكية) التخطيط- الاستعادة الاختصار-... الانطلاق من عبارة والنسج على منوالها.
ونموذج "التملّك" عند أدونيس من النفري: "أوقفني في نور وقال لي: يا نور انقبض وانبسط وانتشر فانقبض وانبسط وانتشر وخفي وظهر... ويقول أدونيس في تحولات العاشق: وقلت/ أيها الجسد انقبض وانبسط واظهر واختف/ فانقبض وانبسط وظهر واختفى". وقد حوّل ركيزة المعنى من النور إلى الجسد..(279- 280)
ونموذج "الاختطاف والتحوير" détournementعند أنسي الحاج: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة".تصبح: "فعلى القبر السلام وفي القهر المسرة". أما بطرس الذي ينكر المسيح ثلاث مرات فيصبح: يسوع، ديكك لا يصيح... 278- 281
ومن التناصيات انتقل داغر ليقدّم دراسة شيّقة عن الضمائر، انطلاقا من بنفنيست.
وإذا كان هدفُ الدراسة إظهارَ عبورِ القصيدة العمودية إلى الشعر العربي الحديث/ كيان النص، واختبارَ صلاحيةِ القراءة المنهجية التي اقترحها، فإنّ الباحث يكون قد حقّق هدفه. ولكن، هل هذا هو ما توصّلت إليه الدراسات الحديثة؟
أوّلا، إنّ السيميائية الخطابية والنصية هي التي خصّصت مساعيها لحلّ إشكالية تماسك النص الشعري وترابطه ونموّه، وهي ما كانت مدار اهتمام غريماس وراستيي وفاندايك ومطوّري اللسانيات البنيوية من سيميائيين وبراغماتيين، ولم تستخدم هذه الدراسة أي مصطلح منها؛ كونها ليست من مصطلحات المنهج الذي انتهجه الدكتور داغر، ومن تلك المصطلحات: المتشاكل الدلالي لكلّ خطاب في النص Isotopies- العلاقات العمودية بين متشاكلات الخطابات- المربع السيميائي- وسيميائية الخطاب الأحاديّ التشاكل- التشاكل الجزئي، أي التطابق Congruance- التماسك Cohésion، الترابط -Cohérenceعلاقات القرابة والسلسلة والكتل (من غريماس إلى جاك فونتاني). البنية الجزئية/ البنية الدلالية الكلية/ البنية الفوقية العليا.. النماذج الذهنية والحدثية- نموذج الموقف- السيناريوهات (فاندايك)- وبراغماتية الخطاب واستراتيجياته وأفعاله الكلامية، وكلّها من البراغماتية. فضلا عن البناء الحلزوني، والدرامي والهرمي (هرم فريتاغ). وأيّ نصّ وإن يكن محكم البناء، لا قيمة له إلا بعد إثبات تحقّقِ شعريتِه، ومزيّتِه الأسلوبية، وانزياحاتِه ودلالاتهِ الثانية وتضافر مستوياته.
ومع أنّ كلَّ مباحثِ الكتابِ باتت مألوفة منذ الثمانينيات، وأنّ سجالات كثيرة جرت حولها، بلغت أحيانا حدّ التبادل المهين، فإنّ ممّا لا شكّ فيه أن الكتاب يحمل إضافات ووجدّة أكيدة، وقد استلزم جهدا ضخما، وقد تجلّت أكاديميته العالية في اعتماد الملاحظة والوصف والاستقراء والاستنتاجات المتلاحقة، وفي التزامه منهجا تعيّن بعناية، وفي طرحه ومعالجته عشرات الإشكاليات، وفي توظيفه مهارات التفكير العليا، غير أنّ تعليق الأجوبة عن الكثير الكثير من الأسئلة لتتابع بعد صفحات، والتكريرات التي تجاوزت حدّ المطلوب قد جعلتنا نظنّ أنّ الفصول المخصصة لدرس "كيان النص" هي محاضرات جامعية مونها تفيد المتلقّي، غير أنّها تعيق القارئ عن متابعة الفكرة... ويبقى الأكثر تشويقا وفائدة في الكتاب ملاحقة مباحثه: "ما قبل النص- المسوّدات وتكوين النصّ"- "الأدب المقارن/ المثاقفة/ التناص"- "الضمائر"- "خاتمة الكتاب وخلاصاته"...
أ.د. نبـيل أيوب