تحية الى كمال عبد الصمد
كلمة عصام خليفة
كلمة انطوان كرباج
كلمة وهيب بتديني
كلمة عبيدو باشا
كلمة نجاة نعيمة ناصيف
كلمة يوسف رستم الخوري
كلمة هبة عبد الصمد
نظمت الحركة الثقافية ندوة بمناسبة مرور سنة على وفاة المسرحي والرسام والأكاديمي كمال عبد الصمد وقد حضرها مئات من القادرين والمثقفين والأهل وأعضاء وأصدقاء الحركة الثقافية - انطلياس وذلك في قاعة المسرح في دير مار الياس - انطلياس وكان ذلك بتاريخ 17 كانون الثاني 2007.
وهذا نص أبرز الكلمات التي ألقيت بهذه المناسبة. مع العلم ان الحركة أصدرت كتيّباً عن الراحل وزعته مجاناً أثناء الحفل.
في غرّة الحرب العالمية الثانية ولد في كنف والدين فاضلين في حاضرة عماطور الشوفية. من مدرسة الأستاذ بولس لطيف مروراً بدير مشموشة وبالمدرسة الرسمية والمقاصد الإسلامية وصولاً الى الأكاديمية اللبنانية، كوّن كمال عبد الصمد ثقافته الفنية والإنسانية. ثم مارس التعليم وشارك في الفرق الفنية. وأغنى ثقافته بالسفر الى ايطاليا وفرنسا حيث نال الشهادات الأكاديمية العالية.
اخرج مسرحيات كثيرة لا تقل عن 15 مسرحية. أنتج مئات اللوحات الفنية المتميزة بأسلوب رسم فريد من نوعه وكان له معارض متعددة في مختلف المناطق اللبنانية. كتب المسرحيات والمقالات الصحفية وكان له سلسلة من قصص الأطفال. فكّر بالحبر فأنجز ما يمكن تسميته بالأيقونات التوحيدية تناولت الله والتصوف والتقمص وحدود العقل والحدود الخمسة وتوالد الحضارات وغيرها.
وكان أستاذاً مميزاً في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية حيث درّس التأليف المسرحي والإلقاء وساهم في تخريج أجيال من الشبيبة التي حملت شعلة الإبداع في مجتمعنا.
كمال عبد الصمد ابن البلدة الشوفية التي كان لها ولا يزال الموقع المميز في مجال الدين والثقافة والوطنية. البلدة التي كانت ولا تزال رائدة في التعايش الأخوي بين مكوّنات أهل الجبل وكانت واستمرت النموذج في اعلاء الروح الوطنية على العصبيّات الطائفية.
البلدة التي كانت ولا تزال مقلع الرجال في خدمة الوطن والإنسان.
المرحوم الفنان كمال عبد الصمد الرسّام، المسرحي، المؤلف، الأستاذ الأكاديمي والإنسان الذي تحتفل الحركة الثقافية - انطلياس بالذكرى الأولى لرحيله، هو من الأعلام الكبار الذين قدّموا للثقافة جهداً حضارياً مميزاً.
في 21 آذار 2006، وبعد معاناة طويلة مع المرض العضال، رحل بتواضع الكبار. ولان الحركة الثقافية - انطلياس تجد من واجبها ان تبرز انجازات اللبنانيين الكبار الذين أعطوا الوطن قيمته على الصعيدين العربي والإنساني، فقد قامت بإعداد ملف عن الراحل وتنظم هذه الندوة حول المناسبة آملة ان تستمر عماطور مع غيرها من حواضر الوطن العريقة منبتاً لأهل العلم والثقافة والوطنية الذين يشكلون الدرع الحقيقي للبنان بمواجهة كل الأخطار والتحديات.
اخواني في الحركة الثقافية، ايها الحفل الكريم.
هذه الحركة الثقافية المباركة كانت وما زالت وستبقى نوراً بهياً يسطع كلما خيّم الظلام مجالات حياتنا الثقافية والفنية في هذا الوطن. فتحية اكبار واعتزاز الى كل العاملين فيها فرداً فرداً.
نحن هنا الليلة لنستذكر فناناً رحل عن هذه الفانية وبقي حضوره طاغياً في ضمير زملائه الفنانين وضمير الناس الذين احبوه خلاّقاً مبدعاً من مبدعي هذا الوطن، عنيت به أخي وزميلي كمال عبد الصمد. وكمال كان احد طلابي اللامعين في الجامعة اللبنانية ليصبح في ما بعد زميلاً افتخر به وأعتز، لانه ينتمي الى دوحة الفن الاصيل المبني على موهبة راسخة متسلحة بتواضع على كبر لا تكبّر، ونكران للذات في سبيل المجموع.
الناس في المجتمعات بصورة عامة فئتان:
فئة الطواويس وفئة زهور الحقل البرية. الطواويس دأبها حب الظهور والكنفشة، تختال بجمال شكلها الفارغ من كل مضمون، وزهور الحقل البرية تتحلى بجمال شكل متواضع لا اختيال فيه وبجمال وغنى في المضمون يتجلى بالعطاء السخي من دون تكلف ومنّة، وكمال عبد الصمد إحدى هذه الزهور.
وكلما طغى الطواويس على زهور الحقل البرية في أي مجتمع، غاب هذا المجتمع في ليل طويل لا نهاية له ويصعب معه بزوغ فجر جديد. اما اذا تفوقت زهور الحقل البرية على الطواويس دخل المجتمع دائرة نور ساطع يستحيل على الظلام والعتم مقاربته.
ونحن اليوم في هذا الوطن نعيش في عصر الطواويس، طواويس في كل المجالات: طواويس في السياسة، في الاجتماع، طواويس في الاقتصاد، في الاخلاق، في الثقافة والفن، طواويس ادخلونا في هذا الليل الطويل الذي لا يبدو معه بزوغ الفجر قريباً. لذلك نحن في عتمتنا هذه نفتقد اقماراً اناروا مجالات حياتنا كافة، وكمال عبد الصمد واحد منها.
وفي الليلة الظلماء، يُفتقد البدر.
من القريب ومن البعيد جئنا الى هذه المدينة العزيزة من لبنان بدعوة من اعضاء مجلس ادارة الحركة الثقافية - انطلياس، لهم منا كل الشكر والتقدير.
جئنا نلقي تحية عاطرة على روح الغائب الحاضر كمال عبد الصمد في يوم ذكراه الاول، الغائب بجسده الفيزيائي والحاضر في روحه الاثيري كحضوره في العقول والقلوب والمشاعر. فهو المخرج المسرحي والممثل والرسام، انه انسان من لبنان. نشتاق اليك يا كمال.
احييك واخاطبك لاسترجع فترة زمانية حلوة حبذا لو استطيع كي نعيد لقاءاتنا واحاديثنا الفنية والثقافية التي كنا نتقاسمها بشغف وفرح كبيرين. كانت كالبلسم الشافي لقلبينا المحبين للحياة والفن والجمال. ما يدفعنا الى القول "ان الموهبة هي كونية ينعم بها افراد قلائل بنسب مختلفة تماماً كنعمة العقل في الحياة البشرية، التي بفعلها يكون التطور والتغيّر. مدركين بأن التصويرية تواكبنا اينما كنا وذهبنا. تلك التي يبدأ الحديث عنها ولا ينتهي خصوصاً اننا نعيش خضماً واسعاً من المستجدات والاساليب وتنوع الثقافات والعلوم الوطنية والعالمية. ففي ساحة هذا الخضم نرى التأثر والتداخل والصراع المادي اكثر مما هو فني وثقافي. حيث يترتب على الفنانين والمفكرين بسائر حقولهم ان يحافظوا على خصوصيتهم الابداعية الذاتية والوطنية.
فالتصويرية التي انطلق منها واحبها كمال هي التي تعكس الشعور والتصور والتفاعل في محيطه الطبيعي والاجتماعي المتجذرة منذ اقدم العصور.
وقبل الدخول الى غرفته نرى على المصطبة الرسوم واللوحات والاحجار الصغيرة المتنوعة التي نحتتها الطبيعة الساحرة والتي جمعها ووضعها الفقيد في فخاريات متشكلة من العطر والحبق والورد والبنفسج. وفي الغرفة تشعر بتصويرية فنية وتراثية متواصلة بالرسوم والاعمال الفنية والاواني المنزلية الخشبية من طاولات وكراسٍ وصناديق مطعّمة بالموزاييك العقيقي مغطاةٍ بشراشف مطرزة بالخيوط الذهبية والفضية وغيرها، تعكس تراث الاجداد في القرية اللبنانية العريقة بتراثها وثقافتها انها عماطور الشوف. لكن الانظار تشدك الى الخارج من شباك قمندولني ذو قنطرتين صغيرتين تتكآن على كتفي عامود نحيل لا يتعب من الوقوف والاثقال. وبجانبه ابريق فخاري يمتص الندى والبرودة والهواء النقي ليقطّره في مائه الذي ينعش مهج العطاش. وتبقى الانظار سائحة نحو البساتين واشجار التفاح والعنب والزيتون وخصوصاً نحو اشجار الحور والصنوبر والشربين التي تحيط بيوت القرميد لتقدم للساكنين هناء الجلوس. كما انها تشكل لوحة فنية لم ترها في نيويورك وموسكو ولندن وباريس وغيرها.
امام هذا السحر الوطني اللبناني لا يمكن لك الا ان تكون شاعراً ورساماً وموسيقياً ومخرجاً مسرحياً. تجلس لكنك تشعر بأن غرفة كمال تتضايق من ضيقها لأحلامه ورؤياه.كان لا يفارقها كالسجين الذي لا يفارق سجنه. لكن سِوَره تتوسع لتسكن اذهان المعجبين وعشاق الفنون واذواقهم. بصراحة انني فوجئت بها بعد عودتي الاولى من اميركا. لكن المفاجأة الكبرى هي برسومه في كتابه (فكرٌ بالحبر) الذي قدمه شقيقه الاستاذ انور عبد الصمد كباقة ورد على صدر اخيه تعبيراً عن حبه له وتكريماً وتقديراً لفنه.
في رسوم هذا الكتاب نرى تشكيلية مبتكرة لم نرها في الفن اللبناني من قبل. فهي تستقل بخصوصية المخرج كمال وبقلمه الحبر الواحد. انني لم ادخل في اطار النقد الفني الاكاديمي وبأصولية الفن التشكيلي، بل اقول "انها رسوم صغيرة تصلح لان تطبق بمشارع كبيرة. كالانصاب النحتية واللوحات الجدارية التي تنفذ بمواد قاسية من الموزاييك والسكرافيت والفريسك والفيتراي وغيرها من مواد الرسم الجداري". واهمية هذه الرسوم انها تصويرية متحلية بوشحها الذهبي اسلوبياً وتأليفياً وموضوعياً.
فالاسلوبية هي تشكيل تجريدي تعبيري حديث، لا يتشابه او يتأثر بغيره من الاساليب لكنه تعبير صادق عن رؤى وافكار خاصة بصاحبها. ان هذا الاسلوب ليس تصويراً لما تراه العين او كما تراه الكاميرا، بل هي تصويرية بصرية مستقلة بملامحها الخاصة تماماً كما يستقل كل وجه من وجوهنا بسماته الفارقة عن الوجوه الاخرى، ما يجعلنا نقول "ان الموهبة تبحث وتفتش دائماً وابداًعن ابعاد وتقنيات ووسائل تنفيذية جديدة لم يتطرق اليها الآخرون.
اما التأليفية في هذه الرسوم تتميز بالتنوع الجريء المعبّر عن اشكال عامودية كالانصاب النحتية والابراج والكتل المركّبة من التفاصيل الصغيرة والكبيرة. كما انها لوحات ذات ابعاد واسعة يتخللها فراغات بيضاء، منها مستديرة واخرى بيضاوية الشكل، صافية لا يلطخها قلم حبر. قصد بها المخرج الفقيد متنفساً للعين والنفس طبقاً لما يُعرف بالريتم الموسيقي وما تفرضه ضرورة الصمت بين التكلم والاصغاء. كما اننا نرى اطرافاً من الرسوم متناثرة في الفضاء تعبيراً عن الحركة والخروج من الضيق والقيود. في كتابة دقيقة لرسم العناصر التي ترافق حياتنا المتكثفة من السلع والهموم.
لكن الموضوعية الاكثر تميزاً في ابعادها الجمالية والمعاني الهامة في رسوم الكتاب وفي تصويرية كمال تلك التي رافقت حياة الاجيال الغابرة شعوب بسائر شؤونها وشجونها. مما يلفت الانتباه الى ان الفقيد كان مفكراً متفاعلاً مع سائر المجتمعات والحضارات وقارئاً لها بحيث برزت عنده الموضوعية الحياتية العامة وموضوع المرأة بشكل خاص. إذ إنه في رسومه لم يرها جسداً مادياً فقط كما رآها الآخرون عبر العصور الماضية، بل صوّرها ركناً كونياً روحياً وفيزيائياً موازية للرجل في كل شيء وأكثر بحيث قدمها لنراها شامخة قائدة متحررة تطالب بتحرير الآخرين شاهرة كفها الى السماء تطالب بالسلام والأمان والمحبة، حاملة المشاعل والشموس حيناً، وحاملة الحمائم والزهور حيناً آخر. كما انه رسمها ملاكاً مجنحاً وجمالاً وأمومة وحباً وصفاء. وقد لبسها تاجاً ملوكياً في ثوب عرشها وفرحها. وفي الرسوم نراها مشاركة للرجل في سائر ظروف الحياة. ولم ينسَ كمال ان يرسمها في مداميك البنيان للمدينة والمدنية، مما يدل على انه كان مدركاً دورها التاريخي منذ العصر الحجري عصر الامومة، حيث عبدها الرجل وقادة الجماهير حسب ما جاء في تاريخ الحضارات. كما يدرك معناها الجوهري الكوني وابعادها الحياتية الحقيقية. وما يلفت الانظار في الرسوم اننا نرى فتاة ترفع فتاةً أخرى. يُستدلّ بأنها ترفع ذاتها بذاتها الى العلاء والتحرر. في حال عدم وجود الرجل الذي يحررها ويساعدها على النهوض من اجل تحقيق طموحاتها وتوصلها الى رفعتها وغايتها الحقيقية.
اخيراً اقول باختصار "إن هذه الجمالية التي نفتش دائماً عنها، هي فوق حقولنا ولا نراها الا في مرآة نفوسنا. لكن تصويرية المخرج كمال عبد الصمد الحاضر في روحه الاثيري ستبقى الوسيط الذي يطرق ابواب الاجيال الطالعة.
انت حاضر فينا ومعنا يا كمال. نعدك بأننا سنبقى مع ذكراك ورؤياك وأفكارك. وما بقيت الحياة. رحمه الله وابقاكم جميعاً.
ثمة ما يبقى وثمة ما يزول. تقع السيرة بين البقاء والزوال. لا تبسيط ولا ابتسار ولا رغبة بالتحوير. غير ان ليس ما يبقى هو الباقي وليس كل ما يزول زال. كمال عبد الصمد صديقنا يقع في الصنف الثاني. أي صنف الزوال الباقين. حيث " كل من عليها فان" ولا يبقى سوى وجه ربك الكريم.
لم يتنطح الرجل لكي يستجيب الى المتطلبات التاريخية أو شواغل العصور. أخذته البساطة، أخذته بساطته الى الخروج على كل النظريات السوسيولوجية الى الحياة. الحياة الحقة . وليست تلك المصنوعة من الاغتراب عن الذات في سلوكها طريق التشييئ.
على مدى خمس وعشرين سنة في النقد المسرحي بقيت أتذكره وهو يسعى خلف نفسه ، خلف صورته في منأى عن "المنعرج الايتيقي للجمال" الذي أنجزه نيتشه داخل " المنعرج الاستيتيكي للفلسفة". أحسب أنه سخر دوماً بروحه الاختزاليه ، من متداولي الجمل هذه والمصطلحات. ولو أنه اعتبر ان الشغل الحقيقي يتعلق بانقاذ الماضي المهدد. وباسماع الآخرين صوت التاريخ المخنوق وسط سعار الحروب الاهلية المتتالية في لبنان. صالح نفسه مع نفسه بذلك. بدون أن يرتفع جسده أو بصره الى حيث يمضي الآخرون.
ثمة من يصنع هالته . وثمة من يترك عبقه . على هذا النحو سعى الرجل الطيب الى دورة تفاعل هذا مع ذاك في طابع سحري بسيط معروف عنه. هوصاحب الطلات العابرة. ولكن المعبرة . بدون ان يتغافل أو يغفل عن الاصيل والاصلي . وبدون ان ينزلق في الاصولي أو الى الاصولي. ولعل قوة النقد ، لعلها لو وضعت في خدمة الروح الاجتماعية والبدن الاجتماعي والثورة الاجتماعية، لعلها أنصفت كمال عبد الصمد غير الميال كثيراً الى المنهج البريشتي القائم على المزاوجه بين التنظير والجدل والعمل. انه كذلك ، لأنه ولد أو ولد نفسه فوق أرضية صلبة ، تكونت فوقها ذاته في طريقه الى كتابة قراره الذي سيغير من واقعه الثابت- السكوني- في صالح واقع خفاق، متدحرج، متغير. ولو أن هذا يصلح في أية دولة ، لأية دولة، الا في لبنان. حيث بمستطاع الطبقة السياسية ان تلعب بأي شيئ: من صراع الطبقات الى الاثر الفني. ومن الفرح البسيط الى الفاجعة والمأساة.
أحسب ان كمال عبد الصمد اشترى فرحه الصغير بتحرر ذاته من كل الثوابت اللبنانية في مجاله. لم يتعاط مع الشأن العام بوصفه شأناً خاصاً. حيث وجد ان ضعف ثقافة الشأن العام في المجتمع العربي والمجتمع البناني واحد من الاسباب الرئيسية التي تحد من جدوى الاعتراض على الفساد وتوريث السلطة ونفي المعارضة والتضليل . وحين وجد ان الحضور هو غير الغياب وان الغياب ملك وملك وضد مصلحة الحكم والحاكم غاب. هو الغائب بقياس الغياب على شروط الحضور السائدة.
طلتان في المسرح المحترف اذكرهما لكمال عبد الصمد. طلتان صغيرتان ، طلتان بسيطتان، طلتان طيبتان في "الامير الاحمر" و"المهرج" . صغيرتان ، بسيطتان ، ولكنني لا أزال أذكرهما في حين لا أذكر لآخرين أدواراً تبدأ من سطر المسرحية الأول ولا تنتهي في سطرها الأخير. هو ابن معهد الفنون في زمن الوحدة . أو في زمن اللا قسمة. وفي زمن الاكاديمية الحقة. بقي في هامشه الصغير ، الضيق، الشخصي، لأنه لم يشأ ان يشارك في أطوار الانهيار ولا في أنظمة الحكم عبر الشريعة والتشريع الخاطئ . ولا في عمليات مقاولات قمعية أشرفت عليها دائماً بعض استطالات دولة مخلعة الاركان ، متعددة الرؤوس ، كثيرة الاذرع، متنافرة الادارات ، متنوعة العقلانيات . دولة أهلية لا تمثل حلاً للحرب الاهلية. بل تمثل أحد وجوهها واستمرارها . عد معاصي الدولة واسقطها على الاصغر. لم يختلف الامر عليه حيث انعكست في مرآته صور المجزرة والمقبرة والبلد المخمرة والخطف والقتل بالمفرق أو بالجملة في زمن أخذ بالانبساط أمامنا بلا غفلة. الامر يقتضي تبديلاً في منظورات ومنظومات المثقفين الديمقراطين الحقيقيين العاجزين عن ذلك. عجزهم أمرضه ، عجزهم قتله، عجزهم سحبه الى عالم الخصيصة في المجتمع المغلول. لم يتعام عن شيئ . بل واجه كل شيئ. قدم روحه كضحية على عكس ما فعله الاخرون، حين قلبوا صورهم من ضحايا حقيقيين الى أبطال وهميين.
ترك أشياء صغيرة ورحل. حفر أشياء صغيرة ورحل. أشياء تشبه التفاصيل. وفي التفاصيل يكمن الشياطين . شياطين ابداعه. هذه تقديرات مشؤومة . ولكنها محتمله بقوة بسبب ضعف الحركات الاجتماعية والاحزاب السياسية والقيم العامة والوطنية في المشرق. قواه ذلك على كل شيئ . قواه حتى على موته. ولأنه أقوى من الموت ذهب اليه كمنقذ أول من عطب أول وممثل أول وكاتب أول ورسام أول والى آخره.
أعترف بأنني ترددت كثيراً بالقبول بالمشاركة . أعترف بأنني فكرت بالاعتذار لكي لا أقع في بيانات اليأس وها انا أقع في واحد منها. غير انني عدت وكتبت لكي أقول: أشهد أللهم انني بلغت.
دراسة تأملية في 120 لوحة خطتها يد الفنان كمال عبد الصمد بقلم الحبر الناشف.
هذه الرسوم هي بمثابة ايقونات توحيدية تتناول مفاهيم روحية من مثل:
- تجلّي الالوهية
- القوى الالهية الفاعلة: العقل النفس الكلمة
- عالم الأجرام السماوية التام
- عالم الأجسام البدنية التام
- التقمص وحلول الروح في الاجساد
- توالد الحضارات
- ادوار المعرفة ورسالات الانبياء
- الترقي الى التوحيد
- المشاهدة
هذه الرسوم الفذّة هي مقاربة فريدة ابتدعتها يد فنان متصوف خبر العشق الالهي وبحث في الغاية الاسمى لوجود النفس البشرية.
أيّها الأحبّاء،
الصدفة، القدر أم ارادة الله، لا أدري ما جمع بيننا في دورة واحدة في قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة العام 1967.
عصاميّان، أنت و أنا يا كمال، وكلانا كان مدرساً في وزارة التربية آنذاك، وكان المسرح يشدنا، فانتسبنا الى معهد الفنون وهو في بداياته ولم يكن قد مضى على تأسيسه سوى سنتين اثنتين.
لماذا ولدت بيننا نحن الاثنين هذه الصداقة وفي دورتنا العديد من الرفاق الطيبين؟ الجواب سيتوضح في الأيام القادمة.
لقد شهدت تلك المرحلة خلال الستينات ومطلع السبعينات نهضة مسرحية مهمة، حيث برز الكثير من المخرجين المسرحيّين أمثال منير أبو دبس وأنطوان ملتقى وشكيب خوري وسواهم،... والعديد من الممثّلين أمثال أنطوان كرباج وميشال نبعة ورضى خوري ونضال أشقر وريمون جبارة... وكثيرون غيرهم وقدَمت المسرحيات العالمية، اذ لم يكن المؤلّف اللّبناني قد ولد بعد،وشهدت بيروت مسرح شوشو أوّل مسرح يقدّم عروضاً شعبيّة دائمة. وكان لمهرجانات بعلبك الدّوليّة وما قدمته من دعم للفَنّ المسرحي بتأسيسها مدرسة التمثيل الحديث وبتبنّيها لعروض مسرحيّة و فولكلوريّة لبنانيّة خلال فترة المهرجانات، فضل كبير على تنامي الحركة المسرحيّة في تلك الحقبة من تاريخ المسرح اللّبناني الحديث، وهكذا راحت الأعمال المسرحيّة تنتقل الى المناطق بعد أن كانت بيروت المركز الوحيد لتقديم هذه الأعمال؛ وكنّا في جبيل قد بدأنا بتقديم أعمال مسرحيّة منذ بداية الستّينات، وخلال وجودنا في المعهد، رحنا نعدّ لأعادة لأوبريت بياع الخواتم للأخوين رحباني مع الصّديقين شوقي شربل ومرسال خليفة ولعب كمال دور "سبع" في العمل، ثم مسرحيّتي الزّواج و الخابية للكاتب الأيطالي "بيراندللو" Pirandello ولعب كمال دوراً أساسيّاً في المسرحيّتين وكان مجلياً في الأعمال جميعها التي نالت استحسان النّقّاد والحضور على حدّ سواء. وهكذا كان على كمال أن يأتي باستمرار الى جبيل خلال فترة التّمارين، ويقيم عندنا وبيننا؛ ومن ثمّ أصبحت جبيل، وأصبح أصدقاءه في جبيل، محجّةً له، لا هو يقدر أن يغيب عنهم ولا هم قادرون على احتمال غيابه.
وهكذا توطّدت العلاقة بيننا لدرجة أصبح الأهل والأشقّاء يستغربون غيابه عنهم في عطلة نهاية الأسبوع، فلقد أضحى واحداً من العائلة يفتقدونه كما أنا اذا ذهبت في رحلة الى عماطور.
ولقد شارك كمال في معارض الفنون التّشكيليّة التّي أقمناها في نادي حبوب بعد أن ألقت الحرب أوزارها في فترة التّسعينات، وكانت لوحاته محطّ أنظار المشاركين لما تتمتّع به من صدق في التّعبير وتناغم في الألوان وتقنيّة في الأداء. وما تحمل من بعد انساني تفيض به روح فنّاننا الحبيب.
انّ روح كمال عبد الصّمد تضجّ بفيض من الخصال التّي قلّما تجتمع في انسان واحد : الصدق، وضوح الرّؤيا، الحسّ السّليم، الرّغبة في العطاء، النّبل في المشاعر، احترام الآخر، التّعلّق بالقيم النّبيلة يغمر كلّ هذه الخصال المحبّة التّي يفيض قلبه بها على كلّ من حوله من أهل وأصدقاء ورفاق وكائنات.
كان كمال صادقاً مع ذاته ومع الآخرين، لم يكن يعلن الاّ ما كان يضمر، فكلامه وسيلة التّعبير الصّادقة لما يجول في فكره من خواطر فلا ايحاآت ولا خلفيّات: اذا خالف أحدهم الرأي عبّر بوضوح عن وجهة نظره دونما مسايرة أو تزلف، ودون أن يسيء الى مشاعر المحاور: يدافع عن قناعاته ويحترم قناعات الآخر محاولاً اقناعه بوجهة نظره، مقدّماً الحجج والبراهين بكلّ هدوء ودون انفعال، أمّا اذا اتّضح له خلال الحوار أنّ محاوره على حقّ فيسلّم بالأمر دون أيّ احساس بالهزيمة بل على العكس يبدو في غاية السّعادة لأنّ هدفه من الحوار اظهار الحقيقة ليس الاّ.
كان له من وضوح الرّؤيا ما يجعله يرى الأمور على حقيقتها ويسلك الطّريق الأقصر المؤدّي الى الهدف دون المرور بالتّعاريج والالتفافات، واذا فعل في بعض الأحيان، فليبرهن أن عنده من البراعة وامكانيّة الحوار أن يأخذ المحاور الى حيث يشاء ثم يوصله الى الهدف الذي يكون قد رسمه بوضوح تماماً كلاعب الشّطرنج الماهر، يطعمك ما يشاء من الجنود ليستهدف ملكك استهدافاً مميتاً؛ ولكنّه في بعض الأحايين لا يتورع عن استهداف نفسه متى وجد أنّ عليه أن يقدّم انتصاراً لصديقه ولو كان على حسابه هو ليقينه أنّ انتصار الصّديق ولو عليه يخلق بينهما مناخاً من الفرح المشترك في ظروف معينة.
أمّا رغبته في العطاء فقد خبرتها في مناسبات عديدة، فهو يعطي من قلبه ومن يده كلّ ما يملك قلبه وما تملك يده، ما تعلّق أبداً بأمور الدّنيا كلّ ما كان يشغل باله الحق والخير والجمال وما عمل مرّة الاّ من أجل اشاعة الحق والخير والجمال، كان نبعاً فياضاً حقاً وخيراً وجمالاً، ما نطق بغير الحق وما عمل لغير الخير ولا رأى في هذا الكون الاّ الجمال.
يجالس الكبير والصغير، الكهل والطّفل، المتعلّم وغير المتعلّم ويرى كلّ واحد من هؤلاء قيمة انسانيّة عظيمة، فيحبّ الجميع والجميع يحبّونه: خفيف الظلّ لطيف الكلام واسع المخيلة سريع البديهة اذا تحدّث أصغيت واذا تكلّمت استمع باصغاء وشاركك الصورة والانفعال بعمق فترتاح له وتتمنّى أن تطول المجالسة. ويرى في أشياء الطّبيعة من جماد و نباتات وحيوانات صوراً لأفعال الخالق، ولكم توقّف مراراً أمام صخرة يتأمّل شقوقها وتعاريجها باندهاش يمجّد فيها عظمة هذا الخالق أو أمام زهرة يداعب بتلاتها بعاطفة وحنان كأنّها طفلة يخاف على وجهها أن تخدشه أنامله النّّاعمة، أو أمام عصفورة تحمل قشّة في منقادها لتبني عشّا لها.
وكأن كمال عبد الصمد أبى أن يستمرّ منغمساً في هذا العالم المليء بالتكاذب والتّزلّف والحسد والطّمع وما سوى ذلك من بشاعات كثيرة ناتجة عن أفعال البشر وليس عن فعل الخالق، وقد سمحت له امكاناته الكثيرة التّنقّل بين التّمثيل والتّدريس في الجامعة وقد كان مجلياً في كليهما، أبا أن يستمرّ في هذا وفي ذاك، ربّما لأنّه شعر بأن عليه أن يتنازل عن بعض قناعاته النّبيلة، للمحافظة على قيم بشريّة اجتماعيّة، ما كان ليؤمن بها؛ هذا الانسان الذي أحب أن تكون حياته لوحة لا مكان فيها الاّ للألوان الجميلة، ادار ظهره لقيم هذا العالم الزائفة، حيث لا حقيقة ثابتة يرتاح اليها، فلا التمثيل في الوسط المسرحي السّائد شفى غليله، ولا التّدريس في الجامعة روى عطشه الى الامتلاء من روح الله، فعاد الى عماطور يرسم ويقيم المعارض ويكتب ويدرب الشباب والصبايا في محيطه العفوي النظيف على أعمال مسرحيّة من تأليفه نالت اعجاب الحضور الكبير لصدقيّتها في التّعبير والانتماء.
وفي غمرة هذه الأجواء النّسكيّة حيث راح كمال يجسّد صفاءه الداخلي لوحات جميلة وأعمالاً مسرحيّة تنبع من عمق قناعاته الصادقة يسكب فيها من روحه ومن قلبه الهدوء والسكينة والسلام، ناداه صوت قادم من بعيد فترك قلمه ولوحته ومسرحه ورفاقه ومضى مستكملاً رحلة النّسك في قلب الله الكبير...
دمعتان استذرفتهما محبّتك من عينيّ يا كمال: الأولى عندما رجعت الى البيت غروب يوم من شهر آب من العام 2004 وقالت لي زوجتي جاءك كمال عبد الصّمد ومعه نجاد وانتظراك طويلا وتركا لك هذا الكتاب." منحوتات لونيّة"، ففتحته وقرأت: " أهدي هذا الكتاب الى أخي و صديقي يوسف رستم الخوري "حبوب- قضاء جبيل" تيمّنا بذكرى النّشاطات المسرحيّة فترة السّبعينات." أنت قمّة في حفظ الودّ يا كمال.
و في 22 آذار 2006 رنّ هاتفي الجوّال وكان أنور على المقلب الآخر و قال: يوسف؟ أهلا وسهلا أنور كيف الحال؟ وأردف : كمال ... واختنق الصّوت في الحنجرة ...فشعرت أنّ صخرة كبيرة هوت على رأسي فأصابني ضياع وأيقنت أن لا أمل بعد اليوم برؤية وجه كمال البشوش على هذه الفانية... وكانت الدّمعة الثّانية.
فإلى روحك الطّاهرة يا كمال ألف تحيّة وسلام.
ايها الحضور الكريم، اسمحوا لي بداية ان اتوجه لاكلام الى روح عمي الطاهرة:
"عمت مساءً يا عمي الحبيب، اليوم سأخاطبك في يقظتي وليس كما اعتدتُ في سهادي العميق. اليوم سأقول لك بأننا اجتمعنا لنفيك ولو القليل مما تستحق. اعلم بأنك لم تكن يوماً تحب المظاهر البراقة ولم تكن تنتظر التصفيق، بل كنت دائماً تسعى لأن تكون ذلكالجندي المجهول، فحتى عند انتهاء عروض مسرحياتك لم يكن مستحباً لديك ان تلقى التحية على الجمهور، ليس تكبّراً منك بل تواضعاً وتواضعاً كبيراً لانك تعتبر بأن العمل المسرحي ليس من صنع المخرج فحسب بل من صنع فريق العمل المتكالم.
تواضعك وتفانيك العظيمين علّماني الكثير، اما آراؤك البنّاءة فقد شكلت مدماكاً اساسياً من ثقافتي الشخصية وجعلتني اكثر صلابة وثقة بنفسي وبأحلامي، فقد كنت من الداعم الاساسي لي لاخي ولابي وكذلك لعمتي. حبك للفن كان همك الاول والاخير وكم كنتُ ارى الفرحة بعينيك حينما كنت تمسك بيد اخي وتراقب رسومه بشغف كبير وشوق لان يكبر ذلك الفنان الصغير، وكذلك حينما اخبرتك بأني اريد الدخول الى معهد الموسيقى فتحديت الجميع، باركت مسيرتي ودعمتني الى اقصى الحدود.
حبك لعائلتك فاق المعهود وان لم تكن تعبر عنه بالكلام، لن انسى ابتسامتك لي وانت على فراش الموت تصارع آلامك فقد كنت تودعني بأجمل وأطيب كلمة: "أحبك"... لا لم تغب عنا يا عمي فأنت في كل لحظة معنا تبارك مسيرتنا وتهيم بروحك الطاهرة حولنا. انا اليوم سانام قريرة العين لانني اعلم بأنك بهذا التكريم المتواضع تكون قد نلت ولو القليل مما تستحق ولكن في القلب غصة لان فناني ومبدعي ومثقفي هذا البلد لا ينالون التكريم الا بعد مماتهم.
ولكن نعاهدك يا عمي بأن ننشر فنك للعالم اجمع وكتابك "منحوتات لونية" الذي لم تفرح بإطلاقه بعد كبعه فقد كانت المنية أسبق. وكذلك كتابك الذي اشرف على تنفيذه واصداره اخي نجاد وقد أسميناه "فكرٌ بالحبر"، اما محترفك فسنجعله معرضاً دائماً للوحاتك الخلابة الأخاذة".
في النهاية اتوجه باسم عائلتنا الصغيرة، وباسم اهلنا جميعاً في عماطور، واتقدم من الحركة الثقافية - انطلياس ومن امينها العام الدكتور عصام خليفة بأسمى آيات التقدير وعرفان الجميل على هذه اللفتة الكريمة، كما اتقدم باالشكر من المؤرخ والباحث والصديق الوفي الاستاذ نايل ابو شقرا تقديراً للجهود التي بذلها في الاعداد لانجاح هذه الندوة. كذلك اتقدم بالشكر من حضرات المنتدين الكرام، وهم اخوة لكمال، على الايضاءات التي قدموها حول مسيرته، كما نشكر جميع الذين لبوا دعوة الحركة الثقافية لحضور هذا التكريم. ونقدم شكرنا لكل من ساهم في الكتيّب الذي اصدرته الحركة الثقافية - انطلياس كتابةً واعداداً، والذي يشكل بالنسبة الينا ولمحبي كمال عبد الصمد سفراً ثميناً وهدية غالية من هذه المرجعية الثقافية، آملين ان تصبح الثقافة في وطننا الغالي جسراً نعبر عليه من ضفة الخوف واللااستقرار الى ضفة الأمن والسلام. عشتم وعاش لبنان.