يوم المعلم 9 آذار 2023
كلمة مدير احتفال التكريم الأستاذ جوزف هيدموس
باسم الحركة الثقافية – انطلياس أرحب بكم جميعاً وأتمنى لكم عيداً سعيداً وأياماً هنيئة رغم المآسي التي نعيشها.
نعود اليوم بعد توقفٍ قسري لسنتين، لنحيي مهرجانَنا السنوي الأربعين للكتاب، فالكتاب هو الأزلي الأبدي الدائم، ناقلُ الأحداث والتراث، محفظةُ التاريخ، مؤرخ الحضارة وعماد الأديان.
نحيي هذا المهرجان وشعارنا "ثقافة الحرية والمئوية الثالثة للحضور الأنطوني في أنطلياس" لنؤكد على دور المعلّم في نشر هذه الثقافة، هذا الدور الذي قام به الرهبان الأنطونيون المعلمون، منذ ثلاثماية سنة.
يوم تكريم المعلم، في التاسع من آذار، هو يومٌ ثابتٌ في مهرجاننا، فالمعلّم والكتاب توأمان لا ينفصلان. هذا اليوم هو يوم العِلم والتربية والأخلاق والوطنية، يوم الوفاء والإعتراف بفضل المعلّم الذي على عاتقه تبنى الأوطان وتزدهر، وما الاستخفاف بدورِه في دولٍ تشبه دولَتنا إلا دليلُ التخلّف والفساد والانحطاط.
وهنا يُطرح السؤال : لماذا خرّجنا نحن في لبنان، حكاماً ومسؤولين مُعظمهم عديم الوطنية والأخلاق، لا يهتم إلا بمخالفة القوانين وسرقة الأموال العامة والخاصة؟
الجوابُ سهلٌ وبسيط. :
أولاً : لأنه لا يوجد عندنا استراتيجية تربوية، ونظام تربوي وطني موحّد، لجميع اللبنانيين، بل أنظمة متعددة بتعدد الطوائف في لبنان، فبالإضافة إلى المنهج الرسمي، تُطبق كلُ طائفةٍ منهجاً خاصاً بها.
ثانياً : وهنا الأساس يجب أن تترافق التربية الوطنية، مع قضاءٍ نزيهٍ ومستقل، وأجهزةِ رقابة تُطبق الثوابَ والعقاب. فمُعظم المسؤولين عندنا فوق القانون، لا بل يسخرون منه، ويعتبرون السلطة مطيّةً لهم، فالقانون ملجأُ الضعفاء، والزنود قانون الأقوياء. مسؤولون فالتون على غريزتهم وأنانيتهم سبب الانهيار الاقتصادي والمالي والأخلاقي الذي وصلنا اليه، والخطورةُ في هذا الانهيار، أنه ألحق بلبنان وبجيل المستقبل أضراراً يصعبُ تعويضَها، في العِلم والقيم الأخلاقية، وهجرة الأدمغة.
قيل وقرأتم الكثير، شعراً ونثراً في المعلّم، في الكتب وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، لن أكرره على مسامعكم، وهذا بالتأكيد تعويض معنوي تشجيعي، لكنه لا يُغني عن جوع، حيث صحّ فينا القول "عيد بأية حال عُدت يا عيد".
في هذه الظُلمة التي تُخيم على لبناننا، نكرّم اليوم أستاذين عزيزين يضيئان في هذه الظلمة : الأستاذة كبريال دباس شماعة والأستاذ عبده خاطر.
فالأستاذة كبريال تشرّفت بمعرفتها حديثاً، أستاذة مادة الرياضيات بالفرنسية والانكليزية، في المدارس الخاصة، حيث تُدرِّب الأساتذة على تعليم المادة، كما تُدرِّس منهجية تدريسها في الجامعة اليسوعية.
عضو لجنة الرياضيات لتأليف الكتاب المدرسي وتطوير المناهج التعليمية.
مديرة سابقة لمدرسة International college وحالياً مديرة ثانوية Saint Eliبحمدون.
أعدّت بحوثاً عديدة في الرياضيات وألّفت كتباً للصفوف الأساسية والمتوسطة.
أمّا الأستاذ عبده خاطر فهو أخٌ وصديق منذ أكثر من أربعين سنة، درّس ونسّق مادة الرياضيات في الثانويات الرسمية والخاصة، عضو لجنة الرياضيات في الامتحانات الرسمية، وألفّ كتباً في الرياضيات للصفوف الأساسية.
رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي ما بين عامي 2015 و2017، رئيس مجلس إدارة ومدير تعاونية المنار ثم أمين سرها حتى تاريخه، رئيس رابطة آل خاطرالخيرية.
لا يسعني أن أقول أكثر في المكرّمَين، فالأستاذان انطوان سلوم وشربل شربل خيرُ من يقوم بهذه المهمة.
الأستاذ شربل شربل الزميل الصديق منذ أربعين سنة، أستاذ اللغة العربية و آدابها،شارك في وضع المنهاج الجديد للغة العربيّة سنة 1996، وفي التدريب على المنهجيّة الجديدة، كما شارك في تدريب مدرّبين ومسؤولين تربويّين وأساتذة في الخارج.
ألّف كتباً عديدة في اللغة العربية لجميع المراحل التعليمية، كما ألّف في الرواية والقصّة والمقالة والدراسة الأدبية، ونقل إلى العربية كتباً متنوعة وسلسلة كتب للأطفال.
له عشرات الأبحاث والمقالات والقصائد الشعرية.
والكلام للأستاذ شربل شربل.
الأستاذ انطوان سلوم يحمل إجازة تعليمية في علم النفس، وإجازة تعليمية في الفيزياء، يدرّس وينسق مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء منذ أكثر من 35 سنة في المدارس الخاصة، منها اثنان وثلاثون في الليسه الكيرى الفرنسية، كما درّس في الجامعة اليسوعية.
عضو لجنة الرياضيات ولجنة الفيزياء لتأليف الكتاب المدرسي وتطوير المناهج التعليمية.
__________________________________________________________
كلمة الاستاذة كابريال شماعة
السيدات والسادة الحضور،
أيها الحفل الكريم،
أصدقائي الأعزاء،
إيمانا منّي بأهمية ما تلعبُه الحركةُ الثقافيةُ من دورٍ جامعٍ للمعرفةِ وحولَها عمتْ أصداؤه مساحةَ الوطنِ، اسمحوا لي أن أخبرَكُم عن مدى فخري وتشرفي بالتحدث الآنَ لأقدمَ صديقةً لي ولو مع شيءٍ من الإشادةِ.
إنما نحنُ اليومَ في مناسبةٍ غيرِ اعتياديةٍ،
إنها ههنا بيننا،
ونحن،
قد أتينا جميعا لنشهدَ تكريمَها.
هي صاحبةُ البصماتِ التي تكادُ لا تُحصى،
هي المتميزةُ في شتّى ميادينِ التربيةِ، لعلَّ أبرزَها التعليمُ والتأليفُ والتدريبُ والإرشادُ والتنسيقُ والإدارةُ واللائحةُ تطولُ وتطولُ.
إنَّها الزميلةُ والصديقةُ السيدةُ غابريال دباس شماعة.
فمرحبًا يا صديقتي غابي.
من الصعبِ العثورُ على الكلماتِ المناسبةِ لوصفِ شخصيتِها ولتعدادِ مواهبِها، فالكلماتُ صغيرةٌ صغيرةٌ والإنجازاتُ كبيرةٌ كبيرةٌ فكيفَ إذن لهذه أن تتكلمَ عن تلكَ.
لدي الكثيرُ من الصورِ والذكرياتِ والأعمالِ والمحادثاتِ التي تجعلُني أفكرُ بها،
ربّما هذا هو سببُ صعوبةِ التعبيرِ عنها.
أتذكر أولَ لقاءٍ لنا بإحدى مراحلِ دأبِها، وما أكثرَها من مراحلَ، كانَتْ محطةً مميزةً في حياتي المهنيةِ، حيثُ كانتْ بصددِ تأليفِ كتابِ الرياضياتِ للتعليمِ الأساسيِّ المتوسطِ بمعيةِ عددٍ من الأساتذةِ، كان لي خلالها دورٌ خجولٌ مَعها.
يا لها من مناسبةٍ!
دونْتُها في سجلِّ سيرتي الذاتيةِ لما أتاحَتْ لي أن ألمسَ لدى هذه السيدةِ من عمقِ المعرفةِ وقوةِ المنطقِ وحسنِ الأداءِ والإلمامِ بالأساليبِ النشطةِ للتعلّمِ والتعليمِ الفريدةِ من نوعِها، فصرْتُ معها المعلمَ المتعلّمَ.
لكن،
على الرغم من أهميتها،
لن أتوقفَ عند عمقِ المعرفةِ وقوةِ المنطقِ وحسنِ الأداءِ لما كانَ عليَّ من وقعِ اكتشافِ الأساليبِ النشطةِ لتعليمِ الرياضياتِ، الفريدةِ من نوعِها حقاً، ومدى إلمامِها بها.
كيف لا؟
وهي من الذين عاصروا الأستاذَ الملهمَ فكتور لحود رحمَهُ اللهُ، رجلُ الرؤيا الثاقبةِ والرائدُ في الحقلِ التربويِّ، وانتسبوا في أوائل السبعينات من القرن الماضي الى مركز تعزيز تعليم الرياضيات CEPREM، واستحدثوا معه الأساليبَ النشطةَ في التعليمِ التي تؤكدُ على نشاطِ الطلابِ والتفاعلِ مع بيئتِهم في عمليةِ التعلّمِ،
وآمنوا بأهميتِها وسطَ محيطٍ معادٍ،
فأصروا على تطبيقِها وأظهروا فعاليتَها وسعَوْا إلى نشرِها أوسعَ انتشارٍ،
فأتتِ النتائجُ رائعةً ومقنعةً.
لذا شهدْنا، مع مرورِ السنينِ، على تبنّي الأسرةِ التربويةِ اللبنانيةِ بمعظمِ أطيافِها لهذه الأساليبِ، وذلك ليس في الرياضياتِ وحسب بل في مختلفِ الموادِ التعليميةِ أيضا.
ففي التأليفِ، استطاعت غابي صقلَ تلك الأساليبِ في إطارٍ أوضحَتْ من خلالِهِ كيفيةَ العثورِ على المعلومةِ وتطويرِها وتنظيمِ الأفكارِ لتسهيلِ عمليةِ التعلمِ.
أما في مجالِ التدريسِ، فلا بدَّ من التنويهِ بخبرةِ غابي ومعرفتِها لهذه الأساليبِ التي مكنَتْها من مساعدةِ الطلابِ على انتقاءِ المعلومةِ الملائمةِ لفعلِ التعلُّمِ وتطويرِها وتنظيمِها بالإضافةِ إلى كيفيةِ مراجعةِ وتعديلِ العملِ وجعلِهِ أفضلَ ما يمكنُ فتنتقلُ حالةُ المعلومةِ إلى حالةِ معرفةٍ.
من ناحيةٍ أخرى، على صعيدِ تدريبِ المدربينَ وتنسيقِ مادةِ الرياضياتِ في عددٍ من المدارسِ، فبالإضافةِ إلى مهاراتِها في هذه المادةِ وفي طرقِ تدريسِها، إنها تتمتعُ بمعرفةٍ جيدةٍ للمناهجِ المدرسيةِ، فمشاركتها بتطوير المناهج مع المركز التربوي للبحوث والإنماء خير دليلٍ على ذلك، ولديها قدرةٌ لا يستهانُ بها على العملِ الجماعيِّ ضمنَ فريقٍ، وموهبةٌ في التواصلِ مع الآخرينَ، مما جعلها محطَ أنظارِ عددٍ من أصحابِ الشأنِ التربويِّ في البلادِ فراحوا يستعينونَ بها في شتّى المناسباتِ لتدريبِ المعلمينَ، نذكرُ منها الجامعةَ اليسوعيةَ لا للحصرِ ولكنْ على سبيلِ المثالِ.
وهنا لا بدَّ من أن نأتيَ بالذكرِ على كونِها أستاذةً محاضرةً في الجامعةِ. فبالإضافةِ إلى شغفِها بالرياضياتِ، إن طريقتَها الفريدةُ لعرضِ الأشياءِ وقدرتَها على نقلِ المعرفةِ بوضوحٍ وكفاءةٍ، وسهولةِ تكييفِ تعليمِها مما يتلاءمُ مع احتياجاتِ الطلابِ، تجعلُ المفاهيمَ ووسائلَ البحثِ في متناولِ أيديهم ما يتيحُ لهم كلَّ فرصِ النجاحِ.
علاوةً على ذلك، هنالك العديدُ من الأدوارِ المهمةِ التي لعبتها كما العديدُ من المراحلِ التعلُّميةِ والتعليميةِ. ولعل أبرزَها الإدارةُ المدرسيةُ. نعم، إنها مرحلةٌ أضافت من خلالِها شيئا من المهاراتِ التربويةِ إلى معرفتِها.
فقد شغلت، كما أنها تشغلُ الآن، منصبَ مديرةِ المدرسةِ في عددٍ من المدارسِ.
فهي صاحبةُ الخبرةِ التعليميةِ الواسعةِ التي تؤهلُها لقيادةِ مدرسةٍ بنجاحٍ. لديها معرفةُ جيدةٌ بنظامِ التعليمِ وبكيفيةِ تحسينِ النتائجِ الأكاديميةِ لمؤسستِها.
أضفْ إلى ذلك أنها متحمسةٌ للغايةِ ومتفانيةٌ في عملِها.
لكن، بالرغم من أنها متطلبة كثيرا ما يسبب بعض الإزعاج أحيانا، فإنها تهتمُ دائمًا باحتياجاتِ طلابِها وموظفيها وراحتِهم النفسيةِ ضمنَ إشكاليةِ مشروعِ المؤسسةِ. لذلك يمكنُهم الاعتمادَ عليها لتوجيهِهِم ودعمِهِم من خلالِ استنباطِ التوجهاتِ الاستراتيجيةِ الآيلةِ إلى إنجاحِ المدرسةِ.
منناحيةٍ أخرى، كيفَ لي أن أصفَ شخصيتَها المحبةَ للفنونِ والثقافةِ؟
لا عجبَ إذا لمسْتَ لديْها قوةَ التركيزِ وغزارةَ الإنتاجيةِ، فهي عاشقةٌ للموسيقى الكلاسيكيةِ الراقيةِ.
لا عجبَ إذا لاحظْتَ دقةَ التنظيمِ لديْها فهي حساسةٌ لجمالِ الأعمالِ الفنيةِ وعندها منها ما يحلو لكَ.
لا عجبَ إذا أحسسْتَ بقوةِ العاطفةِ التي يمكنُ أن تطلقَها فهي في انسجامٍ تكافليٍّ مع الطبيعةِ، خاصة اللبنانية منها، فإذا زرْتَ منزلَها ذاتَ يومٍ يخالُ لك عبورَ الجنائنِ المعلقةِ على أدراجهِ وشرفاتِه.
ماذا عساي أن أقولَ عن شخصيتِها المعطاءِ؟
إنها من مؤسسي جمعيةِ "أصدقاءِ فكتور لحود" التي كانت تُعنى بالشؤونِ التربويةِ خاصةً في المناطقِ المحرومةِ فضلاً عن مساعدةِ بعضِ الطلابِ الجامعيينَ في فرعِ التربيةِ والتعليمِ.
كانت عضوًا ناشطًا وسخيًا وإنسانةً ملتزمةً ومستعدةً لبذلِ الوقتِ والطاقةِ ليس فقط لمساعدةِ الآخرينَ بل للتعبئةِ أيضا لتلبيةِ توقعاتِهم. كما أنها مخلصةٌ وقلقةٌ بشأنِ صورةِ الجمعيةِ فبفضلِ مشاركتِها وتفانيها ساهمَتْ في جعلِ هذه الجمعيةِ فعالةً ومعترفًا بها.
صديقتي غابي،
أغتنم فرصةَ اعتلائي هذا المنبر بحضورِ الجمهورِ الكريمِ والحركةِ المحترمةِ كي أعبرَ عن شدةِ سعادتي بالإشادةِ بكِ اليومَ.
شكراً لكِ على كلِّ ما تعنيهِ لي.
شكراً لكِ على كرمِكِ وصدقِكِ.
أنا فخورٌ كوني أجولُ في عالمِكِ.
أما أنتِ أيتها الحركةُ الثقافيةُ،
وأنتمُ يا أعضاءَها الأعزاءَ،
أودُّ أن أشكرَكُم جزيلَ الشكرِ على التفاتتِكم الكريمةِ واستضافتِكم،
أنتم من يتمكنُ من إحداثِ الفرقِ.
كما أشكرُ لكُمْ تفانيَكم وتصميمَكم على المضيِّ قدمًا من أجلِ تعزيزِ انتشارِ الثقافةِ والقيمِ في وطنِنا لبنانَ.
تلخيص
أقامت الحركة الثقافية حفل تكريم للسيدة غابريال دباس شماعة بمناسبة عيد المعلم فأتت الكلمات تعبر عن تميزها في شتّى ميادينِ التربيةِ، لعلَّ أبرزَها التعليمُ والتأليفُ والتدريبُ والإرشادُ والتنسيقُ وتطويرُ المناهجِ والإدارةُ المدرسية.
وتم التنويه بخبرتها وإلمامِها بالأساليبِ النشطةِ للتعلّمِ والتعليمِ خاصة في مادة الرياضيات كما بقدرتها على استنباطِ التوجهاتِ الاستراتيجيةِ الآيلةِ إلى إنجاحِ المشروع التربوي للمدرسةِ، هذا فضلا عن ابعد الإنساني في شخصيتها.
_______________________________________
كلمة الأستاذ عبدو خاطر
أخواتي، إخوتي، أصدقائي، أصحاب المقامات، وكلّكم أصحاب مقامات، أسعد الله مساءَكم.
لما نظر القديس أنطونيوس الكبير في عمق أحكام الله، سأل قائلاً:
يا رب، كيف يموت بعض الناس
في سن مبكّرة، بينما يموت بعضهم الآخر في شيخوخة متناهية؟
لماذا يفتقر بعض الناس ويغتني بعضهم الآخر؟؟
كيف يغتني الظالمون ويفتقر الأبرار؟؟؟
فجاءه صوت يقول:
" أنطونيوس، انتبه أنت لنفسك، لأن هذه أحكام الله ولا توافقك معرفتها."
أخواتي، إخوتي...
ماذا يمكن لإنسانٍ شارف على السبعين، أن يقول غير، "كتر خير الربّ".
كيف لإنسانٍ أهداه الله زوجةً فاضلة وأولاداً صالحين وحفداءَ زيّنوا حياته، أن يقول غير، "كتر خير الربّ".
كيف لإنسانٍ، أعطاه الله أصدقاءَ وإخوةً، اجتمعوا لتكريمه على قيامه بواجباته غير، "كتر خير الربّ".
وعلى رُغم الخسارة العظيمة التي مُنيتُ بها في بداية عمري، بفقدان أحبّ الناس إلى قلبي، أخي الشهيد طوني، سأبقى أقول، "كتر خير الربّ".
"كتر خير الربّ" على كلّ شيء، على وطن احتضننا فأعطيناه كامل محبتنا وخالص وفائنا. لكن أياديَ الشرّ لعبت بالرؤوس الحامية، فحوّلته إلى ما هو عليه من دمار وخراب وحزن وفَقر وعوز؛ إنها أياد مجرمةٌ ما زالت تحاول تدمير ما تبقى منه. غنّته الأيقونةُ فيروز والرحابنة، غنّاه وديع الصافي وصباح وروميو لحود وملحم بركات وغيرهم من الخالدين، قال فيه جبران خليل جبران وميخائيل نعيمه وسعيد عقل والكثير من الأدباء والشعراء المبدعين أجمل الكلمات. أرض القدّيسين، منها انطلق الحرف، وفيها تأسست أول مطبعة في الشرق، وأول مدرسة في الشرق. لكن...أبت أيادي الإجرام والخيانة، إلّا أن تحوّل قطعة السماء هذه، إلى مكبّ للُنفايات، وملتقى الأديان هذا، إلى أرض صراع بين المذاهب، وأوّلَ من نشر العلم في الشرق، إلى وطن تكاد فيه التربية أن تكون على طريق الزوال. نفسي حزينة على تربيةٍ بنيناها مع كل المخلصين، بعرق الجبين، ودمع العيون، وسهر الليالي، بكلّ ضمير حيّ، وطُهرٍ، ووفاء، وإخلاصٍ، ومسؤولية وطنية، تربيةٍ أنبتت رجالات ملؤوا الدنيا في مختلِفٍ المجالات، فحافظوا علينا وعلى كراماتنا في سنوات المِحَن والمَِحْل، حتى جاءت أيادي الشرّ لتلوّثها كما لوّثت أرضنا ومياهنا بأوساخها ونُفاياتها، وتطفئها كما أطفأت منازلنا بحرماننا الكهرباء. نادينا وسنستمرّ ننادي أن، أبعدوا المحسوبيّات عن التربية، ضعوا فيها الشخص المناسب في المكان المناسب، تذكّروا أن الشهادة الرسمية هي هويّتنا التربويّة التي بها نعتزّ ونفتخر، أعيدوا لها سمعتَها التي فقدتها، وضعوا حدّاً للتدخّلات الحزبيّة السافرة فيها من ألفها إلى يائها. كفانا لهواً بندوات من هنا وسفراتٍ من هناك ومؤتمرات من هنالك، واعملوا على استنباط أفكارٍ تجعلنا نتقدّم لنبني النشء، كما فعلنا لا كما هو حاصل اليوم، ولا تنسَوا أن الأستاذ ليس مسؤولاً عن إفلاس البلد وانهياره، والإصلاحات يجب ألّا تكون على حسابه وعلى أكتافه. كفى قهراً له، أعطوه حقّه من طبابة واستشفاء وأمانٍ اجتماعيّ، ليعود مرفوع الجبين، إلى القيام بدوره في بناء الأجيال والوطن، بدل عمليّات هدر الأموال يميناً ويساراً، لأننا بالتربية نبني...
وللمناسبة، أؤكّد لكم، كما الكثيرُ من زملائي المتقاعدين يؤكّدون، أننا ما زلنا جنوداً في مسيرة التربية والتعليم، وعليه نضع أنفسنا متطوّعين لخدمة أيِّ عمل يهدف إلى إنجاحهما.
"كتّر خير الربّ" على مهنة رسالة اخترتها بكل حبّ وقناعة، مذ كنت صبيّاً في الصف التكميليّ الثاني، بدل الهندسة المعمارية التي عشقتها ولم أفكّر في التخصّص بها بسبب صعوباتنا المعيشيّة وقتذاك. وفي أثناء دراستي في دار المعلمين العليا، عَرَض عليّ أحد الأقرباء أن أدرّس مادة الرياضيات للصفّين التكميليّين الأول والثاني. يومئذٍ قرّرت التدريس وِفق مبدأين:
الأول: أن أرى هؤلاء الأولادَ شباباً، وقد أصادف أحدَهم يوماً، فإمّا يغمرُني وإمّا يتجاهلُني...فاخترت الغمرة.
الثاني: أن أكون مستعدّاً لأُجيبَ عن أيِّ سؤال يطرحونه وأقنعَهم بإجابتي...وهذا ما حصل.
لم أكن يومذاك على عِلم بقول سقراط: كيف تريدُني أن أعلّمَه وهو لا يحبّني؟
هكذا بدأت وهكذا استمررت وهكذا أنهيت ثلاثاً وأربعين سنة تعليميّة، مليئة بالفرح والعطاء والحبّ والنجاح...وبعض الفشل أحياناً، فالكمال لله وحده، وها هم تلاميذي، أصدقائي، أحبائي، يملؤون قلبي فرحاً ويرفعون رأسي في كل المجالات.
"كتّر خير الربّ" لأنه، إضافة إلى رسالة التعليم، أعطاني فرصة العمل في لجنة الرياضيات للشهادة الثانوية العامة، التي كان لي شرف رئاستها لآخر ثلاث سنوات قبل التقاعد. كانت أياماً رائعة. سهرنا اللياليَ الطوال، وتعرّضنا لضغوط الوقت وتحضير الأسئلة ووضع أسس التصحيح وأعمال التصحيح وإصدار النتائج، وذلك بكل التزام ومعرفة ومحبة وتفهّم ومساواة. وعملت أيضاً في الشأن العامّ من خلال انتخابي رئيساً لمجلس إدارة التعاونية السكنية للأستاذ الثانوي. فتمكّنا بعد مخاض عسير وبمساعدة الله وكل المخلصين، من إتمام بناء مدينة صغيرة فخمة في مَنطِقَةِ الربوة، أوت الكثير من عائلات الأساتذة الثانويين والجامعيين وغيرهم. كذلك أعطاني الله فرصة العمل النقابي الذي أوصلني إلى ترؤس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي في لبنان، في ظروف الفراغ الرئاسيّ والشلل النيابيّ والتفتّت الحكوميّ. فاستطعت بعون الله وكل الزملاء الأوادم، من تحقيق الكثير من الإنجازات التي أفتخر وتفتخر بها التربية.
لكن صدّقوني أنّ أكثر ما أحببتُه من عمل، هو وجودي في الصف مع تلاميذي، محلّقاً في سماء الرياضيات، حتى أكاد أقول: أنا سمكة وتعليم الرياضيات مياهي.
أعزائي...خلال كل تلك السنوات، لقيتُ أشخاصاً أوفياء مخلصين، أصبحوا إخوةً لي، تقاسمنا معاً الخبز والملح، عشنا معاً سنوات صعبة ومارسنا العمل في ظروف قاسية جداً. وما كِدنا أن نتنفّس قليلاً، حتى عُدنا إلى الشقاء والعذاب مجدداً. لكن على رُغم هذا العذاب الذي نعيشه اليوم في وطننا الجريح، سيبقى الأوادم يعملون ويحاولون استرداده من براثن العنف والتطرّف والتزلّف والعصبيّة العمياء، تماماً كما حصل في العام ١٩٧٨ إبّان الحرب الأهليّة، حين تأسست الحركة الثقافية في دير مار الياس-أنطلياس، ونجحت في تأمين الانفتاح في مختلِف الميادين، وبين مختلِف التيارات والاتجاهات، وفي تعزيز قِيَم الديمقراطيّة والحريّة والسلام وحقوق الإنسان.
كل الشكر للحركة الثقافية-أنطلياس، بشخص أمينتِها العامة الصديقة الدكتورة نايلة أبي نادر وكل الإخوة والأخوات الأحباء أعضاء الحركة، لإسهامهم في إضاءة شمعة كبيرة في هذا الظلام الدامس. وأشكرهم على هذه الالتفاتة الكريمة، وأهدي هذا التكريم إلى كل الزميلات والزملاء الذين صنعوا للبنان رجالاً ونساءّ، منهم أوفياءُ كُثُر، لمع نجمهم في سماء الحياة وبقاع الأرض، نفتخر ويفتخر بهم الوطن، وآخرون، ضلّوا الطريق يا لَلأسف، فحكموا وتحكّموا وأفسدوا ونهبوا وعلّموا غيرهم النهب. راكموا علينا المصائب. أسقطونا في فقر مدقع. دمّروا الدولة ومؤسساتها لإخفاء جرائمهم. نحروا قضاء أُمِّ الشرائع. أقفلوا مدارسنا واليوم يهدفون إلى تدمير التعليم بكل أشكاله. لكن لا وألفُ لا، فلدينا الإيمان والإرادة والعزيمة لإعادة الأمور إلى نصابها، فالأرض أرضنا والثقافة ثقافتنا والتراث تراثنا، ولنا العقول والقلوب والسواعد والعزّة والكرامة، لنستعيد للبنان عِزّه وعِزّته، وللحياة جمالها وبهاءها...وسنبقى نواجههم ونعمل حتى الرمق الأخير للتخلّص منهم. لا لليأس، لا للفشل، لا للإستسلام، من أجل أن يحيا لبنان.
عِشتم، عاشت الحركة الثقافية-أنطلياس, عاش المعلّم والتربية، عاش لبنان.
عبده ديب خاطر
الحركة الثقافية-أنطلياس.
الخميس ٩ آذار ٢٠٢٣