ندوة حول كتاب الأستاذ جوزف أبو رزق

"Le procès de la conscience"

2007/4/24


كلمة الأستاذ نعوم خليفة

كلمة الدكتور جوزف خليل

كلمة الدكتور حكمت خوري

كلمة الدكتورة نوال صفير
  

 

كلمة الأستاذ نعوم خليفة  

أيها الحفل الكريم،

في رحاب الحركة الثقافية - انطلياس وباسمها أرحب بكم متمنياً ان تستمتعوا في هذا اللقاء حول كتاب الأستاذ جوزف ابو رزق "le procès de la conscience" . منذ اقل من شهرين، وفي هذا المكان بالذات، تشرفت بإدارة جلسة تكريم الأستاذ جوزف ابو رزق كعلم من أعلام الثقافة في لبنان، أتشرف اليوم بإدارة هذه الندوة حول كتابه المذكور.

من ثنائية النفس والجسد إلى المادة والصورة والقوة والفعل والجوهر والعرض ، ثم الى البسيط والمركب والباقي والفاسد، الى الكوجيتو والامتداد المادي فالوعي واللاوعي وغيرها من الثنائيات التي اعتمدت، في مسيرة الفكر البشري وعلى امتداد تاريخه، كأسس او منطلقات في محاولات تفسير وفهم هذا الكائن الحي العاقل، وإزالة أي غموض يكتنف وجوده. وها هو جوزف أبو رزق يحاول ان يجد تفسيراً للقلق الوجودي الملازم للإنسان عن طريق طرح ثنائية الوجود والوعي.

        كتاب "le procès de la conscience"، او الوعي في قفص الاتهام كما أحب مؤلفه ان يترجمه، يطرح مسألة الوعي المميز للإنسان والذي هو مبعث القلق والعامل على إزالته في آن معاً. لن أدخل في مضمون الكتاب فهذه مهمة سيتولاها الأساتذة الكرام المشاركون في هذه الندوة. وحسبي انا ان أقدّم هذا اللقاء حول الكتاب موضوع الندوة.

انه السادس في سلسلة مؤلفات جوزف ابو رزق صدر في بيروت أواخر سنة 2005، يتضمن مئة وسبعاً وستين صفحة من القطع الوسط وتتوزع معالجاته على ثلاثة محاور. وكان قد سبقه الى الظهور في العام 1956 "A la recherche de nos valeurs" وفي العام 1965 la feuille de figuier  (رواية) و "Esquisse d'une esthétique" في العام 1979. "Le prince" (مسرحية) في العام 1981 و "Le peuple" (مسرحية) في سنة 1997.

يطرح جوزف أبو رزق في كتابه الأخير "le procès de la conscience" موضوع هذه الندوة أسباب القلق الإنساني الذي يُرد في نظره الى تبني الوعي حلولاً تسمح للإنسان ان يشبع حاجات طبيعتين متقابلتين ومتحدتين وتخيّل طرق لإزالة هذا القلق تتمثل في الأديان والفلسفات والفنون وغيرها...

        فإذا كانت هذه الحلول والطرق التي تبناها الوعي سبباً لوضعه  في قفص الاتهام، فمن وضعه؟ أفليس الوعي هو الذي وضع نفسه فكان في الوقت عينه متهماً ومتهماً؟

لعل في مداخلات الأساتذة المشاركين ما يوضح ذلك من خلال تناولهم تباعاً محاور الكتاب الثلاثة: الدين والفلسفة والفن.

نبدأ أولاً مع الأستاذ حكمت خوري، وهو عنيّ عن التعريف في الوسط الفلسفي والثقافي، فهو ممن ساهموا في إرساء الفكر الفلسفي واغنائه بخبرته الطويلة وطول باعه في تعليم مادة الفلسفة في معاهد ومؤسسات ومدارس متعددة على مدى سنوات طوال، كما رافق المؤلف ولازمه في مراحل عديدة ولفترة طويلة، ولذلك فهو القادر على الغوص في مضمون المحور الأول: الدين، وجلاء أفكاره. له الكلام فليتفضّل.

        أما المحور الثاني في الكتاب أي الفلسفة فيتطرق اليه الدكتور جوزف خليل، أستاذ الفلسفة في جامعة الروح القدس الكسليك وفي عدد من المدارس الخاصة، والذي تربطه بالمؤلف الى الزمالة المهنية علاقات روحيه تسمح بالكشف عن أسباب القلق الوجودي وعن محاولة إزالته عن طريق الفلسفة له الكلام فليتفضل.

الزميلة الآنسة نوال صفير، دبلوم دراسات معمقة في الفلسفة وقد كان موضوع أطروحتها

 La conscience et l'existence dans la pensée de Joseph Abou Rizk  

فهي بالتالي مطلعة بعمق على مضمون فكره عامة وهذا الكتاب بشكل خاص. والآنسة نوال أستاذة مادة الفلسفة في ثانوية الجديدة الرسمية للبنات وفي عدد من المدارس الخاصة، تتناول المحور الثالث في الكتاب وهو محور الفن والقلق الوجودي علّها بفن مداخلتها تزيل عنا بعض القلق. فلتتفضّل.

        أخيراً، أشكر الأساتذة الذين شاركوا في هذه الندوة، الذين أرجو، ان يكونوا بمداخلاتهم القيّمة أسهموا في الإضاءة على هذا الكتاب وفي إيضاح الرسالة التي أحب المؤلف إيصالها، كما أشكر المؤلف على حضوره ومشاركته معنا، وجميع الحاضرين والمتداخلين المهتمين، راجياً ان يكون اهتمامهم مدخلاً لحل جميع مشكلاتنا بطريق التفكير الفلسفي الواعي والهادف وأجدد الترحيب بالجميع على أمل اللقاء في نشاط ثقافي جديد.

كلمة الدكتور جوزف خليل

علَّمتني الفلسفة ان أشكك وأتساءل وأناقش فشككت وتساءلت وناقشت.

علمتني أيضاً ألاّ أسلَِّم بشيء ما لم أخضعه لمجهر العقل وأتفحصْه بميزان المنطق.

وعلمتني كذلك أشياء كثيرة حافظت عليها ولا أزال لأنها طبعتني سواء في نمط التفكير أم في نمط العيش. كيف اكون فيلسوفاً - او على الأقل أستاذ فلسفة - ان كنت أجهل فكر افلاطون وديكارت وكانط وغيرهم من كبار الفلاسفة الذين اغنوا على مرّ العصور تراث الإنسانية وأسهموا في تأسيس حضارات وثقافات حققت تطور الإنسانية وصنعت تاريخها؟

جميل ان تعلمنا الفلسفة التشكيك والمساءلة والتفكير. وجميل ان نطّلع بواسطتها على فكر صانعي الحضارات والتاريخ ولكن ذلك لا يستنفد مهمة الفلسفة وغايتها، إذ ان أهم ما تعلمنا إياه ليس فكراً دخل التاريخ وصنعه، ولا معلومات ونصائح وطريقة تفكير مفيدة في الحاضر وتمكن ربما من استشراف المستقبل.

ان اهم ما تعلمنا اياه الفلسفة ليس حقيقة ثابتة او معلومات اكيدة.

انه سؤال يمكن صياغته كالآتي:

كيف يكون الانسان لكي يتمكن  من الفلسفة؟

او بصياغة أخرى: من هو الانسان القادر على الفلسفة؟

او بصياغة أفضل: من هو الانسان؟

وحيث ان السؤال يولّد بشكل بديهي رغبة في الاجابة، كانت الاجابة العفوية التقليدية التالية: ان الانسان هو الكائن الواعي أي الكائن الذي يتمتع بالوعي ويتميز بالتالي عن سائر الكائنات الحية. فالوعي هو نقطة انطلاق الانسان والشرط اللازم للفلسفة وللتطور وللتاريخ استقرت الفلسفة - وهي نقيضة الاستقلال - على تلك الاجابة وراحت النظريات والأنظمة الفلسفية تبنى انطلاقاً من انسان يمتاز عن غيره بالوعي ويبحث عن معنى لوجوده وعن تحقيق لذاته.

وتنوع مفهوم الوعي بتنوع الفلاسفة. فسقراط مثلاً عَرَّف عنه بالحكمة، وديكارت وباسكال بالعقل، وهوسارل بالقصد الخ...

ولكن الجميع متفقون على ان الوعي حدثٌ مصيري يضع الانسان إزاء العالم ويدفعه الى اتخاذ موقف منه. فبالوعي لم يعد الانسان كسائر الكائنات الحية التي هي جزء من العالم، بل أصبح متميزاً عنها وفي مواجهة معها ومع العالم. اصبح له وجودان - كما يقول هيغل - "وجود فوري كما الاشياء في الطبيعة، ووجود ثانٍ يضعه في حضرة ذاته ويمكنه اولاً من وعي ذاته، وثانياً عن معرفة ذاته عبر مواجهته مع الخارج وتغييره له.

وهكذا يكون الوعي قد ميز الانسان عن سائر الكائنات واعطاه القدرة سواء على معرفتها وفهمها وتغييرها أي اعادة خلقها، او على معرفة ذاته، بالأحرى على البحث عن ذاته.

مع هذا الكمّ الوفير من المعلومات والنظريات الفلسفية، وبالنظر الى مكانة الفكر الفلسفي وأهميته  على مرّ الاجيال وتأثيره العميق في تراث الانسانية وتاريخها، حَسِبتُني قد فهمتُ الفلسفة وأحطت بكافة جوانبها وسلكت الطريق الذي يوصلني الى غايتي المنشودة الا وهي تحقيق ذاتي وايجاد معنى لوجودي.

وكان يوم التقيت فيه بجوزف ابو رزق وكانت عندئذِ فلسفة جديدة، تهدف الى استعادة الوجود عن طريق "تعطيل نشاط الوعي وإحياء الشعورية".

أفهمني جوزف ابو رزق ان الدين والفلسفة والاخلاقيات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والقضائية ليست سوى محاولات تهدف الى تهدئة القلق الوجودي عند الانسان، وان ذلك بالذات كان هدف الفلاسفة امثال افلاطون وديكارت وكانط وكيركيغارد ونيتشه وهايديغر وسارتر. في رأي جوزف ابو رزق لا يتحقق هذا الهدف عن طريق الوعي لأن الوجود ليس اثباتاً عقلانياً بل اختبارٌ شعوريٌ وعلائقي.

من يتعمق في هذه الفكرة يجد ان العقلنة لكونها انفصالاً وابتعاداً عن الواقع المعاش بهدف النظر اليه بشمولية والحكم عليه وفهمه انما تفقدنا بديهية هذا الواقع المعاش وعفويته وبساطته. 

ان نظرتنا الى ما حولنا - الى الانسان والعالم على السواء - تتأثر بتصوراتنا الثقافية والاكاديمية والتقليدية للموجودات. يقول اوسكار وايلد: "الأشياء موجودة لأننا نراها. وان ما نراه وكيف نراه على ارتباط بالفنون التي أثرّت فينا"

-    أوَ لا يخشى على الانسان والحالة هذه ان يبتعد عن الوجود العفوي وان ينظر الى ذاته من بعيد عبر الوعي الذي يحول بينه وبين ذاته لأنه ابتعاد عن الشعورية والعفوية؟

-                            هل بغير الوعي الذي يميز الذات الانسانية يلج الانسان الى ذاته؟

-                            هل تكون الذات انسانية اذا كانت شعورية عفوية وعلائقية ليس إلا؟

-                            ام ان على تلك الصفات ان تقترن بالوعي خشية ان تكون هي بدورها في قفص الاتهام؟

علمتني الفلسفة ان اشكك واتساءل واناقش،

 فشككت وتساءلت وناقشت

كلمة الدكتور حكمت خوري

        ها هي المحكمةُ قد التأمت وتوافدَ الشهودُ ونبحث عن متّهمٍ، كان من المفترض أن يساق مكبلاًً أو وارء القضبان ولا نجده، فنعرف بداية ان المقصود بقفص الأتهام هو قفص آخر نحمله في الصدر فيكون كلّ واحدٍ منا قد خبأ المتّهم أو بعضاً منهُ داخلَه وهكذا نكون في هذه القضيةِ الشهودَ والمتّهمين على حدِّ سواء.

        وببقى موقف أبو رزق ملتبساً. فليس من عادته تخويفُ الناسِ والكلامُ عن قفصِ اتهام. فما باله يبدّل من نهجه؟ فعن أي دور يبحث في هذه القضية : أهو المدّعي العامُ، أم الشاهد الملكُ، أم المحرّضُ يحرّضنا على الوعيِ حتى يحرّضنا تجاه أنفسنا.

        ربما كان كلّ هؤلاء مجتمعين. ولكن في الحقيقةِ يذهبُ فكرهُ الى أبعد من ذلك. فهذه الأدوار لا تستهديه. إنه من خلال هذه الصورةِ التي وضعنا في إطارها يريدُ أن ينفذَ الى موقفٍ فلسفي يقضي بطرح أسئلةٍ كيانية تطال هذا الحيوان القلق، هذا الكائن الذي يحمل التناقضَ في ذاتِه، هذا الكائن الحرّ الذي يطمح الى الاستقرارِ في وجوده، ولكنه غالباً ما يفشل.

        فشلٌ مصدرُه طبيعةُ الانسان التناقضيّة، سببُه هذا التأرجحُ بين الوجود والعدمِ، هذا التناقضُ بين حاجاتِ الانسانِ الوجوديّةِ وحاجاتهِ الجسدية. فالانسانُ يحمل سرَ التنازع بين غريزةِ الحياةِ وعريزةِ الوجود. هذا التناقضُ هو الذي يشغل بالَه وهو الذي يشكل في فلسفة ابو رزق النقطة المحورية.

        لقد سبق لجوزيف أبو رزق وكتب عن الوعي في أكثر من مكان في مؤلفاته. لقد فضحَ أمرَهُ واتّهمه كفايةً، فلماذا العودةُ إليه مجدداً ؟ ولماذا يريدُ أن يسوقَهُ مكبلاًً هذه المرّة؟ وهل بتركيزه على هذا الدور الذي يلعبه الوعي جاءَ ليكرّرَ ما كتبَه من قبل.

        نحن نعرف أن الكتابة تُرهقُه، لأنه يكتُب بأعصابِه لا بقلمِه. فمن غير المعقول أن يُرهقَ الانسانُ نفسَه محبّة بالتكرار. لقد كتَبَ جوزيف أبو رزق "الوعي في قفصِ الاتهام" لأن  العِقدَ لم يكتمل والمذهب لم يصل بعد خواتمه.

        لا يكفي أن نصوغ بالحدسِ بداياتٍ نشرحُ على أساسها الفنَّ ونقولُ هذا لوحده يفهمنا الانسانَ في كلِّ أبعادِه.

هناك في الحضارةِ عناصرُ لا يختزلها الفن. لذا يحاولُ صاحبُنا، كما يقولُ في مقدمتِه الموجزةِ والواضحةِ أن يوسِّعَ حلقةَ البحثِ لتطالَ كلَّ المواقف التي فرضها على الانسان وضعُهُ التناقضُي محاولاً أن يبيّنَ ان الدينَ والفلسفةَ كما الفنُ وكذلك الأخلاقُ والمؤسساتُ الاجتماعيةُ والسياسيةُ وحتى الثوراتُ، والحروبُ ليست سوى محاولاتٍ تهدفُ الى التخفيفِ من قلقِنا الوجوديِّ.

        فمن "البحث في قيمنا" الى "الوعي في قفص الاتهام" مروراً ب"أوّليات في علم الجمال" فكرٌ تترابطُ أجزاؤُه بشكلٍ محكم على الرغم من تبدّلِ مجال تطبيقاته، فمن البحثِ في طبيعةِ الانسانِ التناقضية، الى دراسةِ الفنِ في حاجاتِه الوجودية، الى الفلسفة كموقفٍ معبّر عن قلقِ لا نهايةَ له الى الدين كحلّ ممكِن لهذا القلق، محطاتٌ تتكامل بغية الإحاطة بهذا الكائن من كل جوانبه.

هذا ما يعطينا الحقَّ باعتبار ابو رزق ليسَ فقط مفكّراً أو باحثاً أو ناقداً فنّياً بل فيلسوفٌ أي مبدعٌ لنظامٍ فكريٍّ متماسك، شبيهٍ بتلك العمارات من الاسمنتِ المسلّحِ التي، إمّا أن تبقى شامخة أو تنهارَ بكلّيتها. والانهيار لن يحصلَ الاّ اذا تغيرت الطبيعةُ الانسانيةُ وتوصّلنا الى حلٍ نهائي لقلقنا الوجوديِّ.

وهذا التغيير يتم إما بالانحدار الى مستوى الحيوانية او الارتفاع إلى مصاف الملائكة وهذا لن يحصل وان بقيَ الحلّ الأوَّلُ هو المرجّحُ.

        إن مقياسَ الحقيقةِ عنده ليس جمالَ الفكرةِ أو حداثتها أو مردودها العمليّ أو سهولة استيعابها بل مطابقة الفكرِ لبداياتِهِ أي التماسكُ الذي يربطُ نقطةَ الانطلاقِ بالنتائجِ والحدس بالتفكير والمسلمات بتجسيداتها التاريخية.

        يُعدّد أبو رزق في المقدمةِ المحاولاتِ التي تهدِفُ الى التخفيفِ من قلقنا الوجوديّ ولكنه يتوقف صراحةً عند ثلاثٍ منها: الدين والفلسفة والفن. وسأتوقف عند الأولى أي الدين.

ولكن التطرق إلى الموضوع سأتوقف عند النتائج التي توصَّل اليها المؤلف في "أوليات في علم الجمال" وسأكتفي بأهمّها أي تلك التي تسمح لنا بفهم الدين موضوع هذه المداخلة.

-        الوجودُ ليسَ الحياةَ حتى وإن كان الجسدُ هو هذه الخشبة التي نعتليها للغطس في بحر الوجود. فلو كانت الحياة بمعناها البيولوجيّ مساويةً للوجود لأمكنَ القولُ بعضهم على طريقة إن كلباً حيّاً ينبح أو يعضّ أفضلُ من ملك ميت ٍمسجّى أو محنّط.

-        الوجود هو الحرية هو هذه الحالةُ من الطمأنينةِ والاستقلاليةِ والاستقرارِ التي نصِلُ اليها بفضلِ التجاذب الشعوريِّ العاطفي. 

-        إن للوعي وظيفةً من شأنها تأمين الإستمرارِ في الحياة وكذلك الاستمرار في الوجود ويتم ذلك بتحويل العلاقاتِ الشعوريةِ علاقاتٍ اصطلاحيةٍ.

-        الفن الذي يهدف الى تشتيتِ الوعي محكومٌ بضرورةٍ وجودية.

-        غالباً ما يؤدي تطور الوعي الى ابتلاع العاطفة وتشويهِ الوجود.

        وانطلاقاً من هذه النتائج يحاول أبو رزق طرحَ مشكلةِ الدين في ضوء فرضيّةٍ يعتبرها أساسيةً ويستقرىء التاريخ للبرهانِ عن صحتها.

        ففي هذا القسم من الكتاب يبدو جلياً أن جوزيف ابو رزق لا ينشُر الألحاد، فالدينُ هو أهم المحاولات التي يتبنّاها الانسانُ للتخفيفِ من قلقِهِ الوجودي.

        وإن لم يكن ملحداً، فجوزيف أبو رزق ليس مبشرّاً ولا داعيةً و لا لاهوتياً أو عالِم كلام. عندما يتعرض للدياناتِ القديمةِ أو الحديثةِ أي المسيحيةِ والإسلامِ لا يجهَدُ في البحثِ في تعاليمها أو في اختلاف مصادر الوحي عندها، إنه ببساطة يبحث في ماهية الدين كحل مقترح يدفع بالانسانِ للاستمرارِ في وجوده.          

 إنها محاولةٌ تشبه الى حدٍّ بعيد البحثَ في أية ماهيّة من الماهيّات كالبحث في ماهية  السياسة مثلاً على طريقةِ فروند Julien Freund فليطمئنَّ المتديّنون لأنهم سيزدادون ايماناً ولا مشكلة عند المتطيِّفينَ فالموضوعُ لا يعنيهم.

        يقول في مقدمة كتابه "ماهيّة السياسة" L'essence du politique : للسياسة ماهيّة. أي أننا نجد في كلّ تجمع بشري، أيّاً كان، من دون أن نستثني أحدها، ثوابت وحقائق لا تتغير ترتبطُ بطبيعتها وهذا ما نسميه "السياسي" Le politique. إنّ هذه الثوابتَ تبقى مستقلةً عن تقلباتِـها التاريخيةِ وتبدلاتِها المكانيةِ والزمانيةِ ومستقلةً عن أنظمتِها وأساليبها المتغيّرة.

        يمكن القولُ عن الماهية اذن إنّها علاقةُ مفهوم ما بالذاتِ، اذ تختلفُ عن معنى العلاقةِ التي تقيمها هذه الماهيةُ مع غيرها من الماهيّات كالعلاقةِ بين الدينِ والسياسةِ أو العلاقةِ بين الدينِ والأخلاقِ أو علاقةِ الدين بالعلم.

        لقد سبق لجوزيف أبو رزق أن درسَ الفنَّ في ماهيّتهِ الوجودية. وها هو، استناداً الى المنطلقات ذاتها، يحاولُ أن يفسّر "الدينيّ" le religieux باعتباره حلاً لهذا القلق الوجودي الذي نعانيه والمسؤول عنه هذا الذي في قفص الاتهام.

من هذا المنطلق يحرّم المؤلف على نفسه الولوجَ الى لعبةِ المنافسة أو الدعايةِ أو التبشير أو الولوجَ الى مسرحِ الوعظِ فليسَ في طموحه سوى استخلاصِ خصائصِ الظاهرةِ الدينيةِ كما نتبيّنها في استقراء التاريخ.

        إن كلَّ دراسة في جوهرِ الدين كما في جوهرِ الفن أو السياسةِ ذاتُ طابعٍ انتولوجي، لأنها تحدّد واحدة من اتجاهاتِ الوجود الانساني ونشاطاتِه. فكل ماهية تجد مرتكزاتهاِ في الطبيعة الإنسانية لا خارجها.

        لقد سبَقَ للاهوتيين وللفلاسفة ولعلماءِ الأجتماع وللمؤرخين وعلماء الآثار وحتى للمحللينَ النفسيين ان درسوا الظاهرة الدينية ما أعفى المؤلف من دراستها، من وجهات النظر هذه لينصرف الى معالجتها في حدود نظرةٍ يراها أشملَ وأنفعَ لأنها ترتبطُ بمقدمات فلسفتِه وبوظيفتها الأساسية.

        فمهما يكن من أمر الدين، إن أقرّ بتعدد الآلهة او بالإله الواحد، إن كان تجسيداً لوحي أو نتيجة تخيّل بعض الحكماء إن كان واعداً بفردوس سماويِّ أو أرضيِّ، فهو في كل تجسُّداتِهِ وسيلةُ تحررٍ من اصطلاحاتٍ فرضها الوعيُ واشارةُ تعبّر عن انتصار الوجودِ على الحياةِ، انتصار يتحقق بترميمِ العلاقات الشعوريةِ بين البشر.

وعلى الرغم من الاختلافات الجذريةِ بين الديانات القديمة والديانات الحديثة من حيث مفهوم السعادة والخلاص وان كان ما قالته الكونفوشيوسية والبوذية لا يشبِهُ في شيء ما وعدت بهما المسيحيةُ والاسلامُ يبقى أن الهدفَ واحد : ومرة جديدة هو ترميمُ العلاقات الشعورية كشرط أساسي لاستقرارِ الانسان في وجودِه وحريتِه.

        لقد تنبّهت المسيحيةُ أكثر من غيرها من الديانات للأسباب التي هي في أساس قلق الانسان وبالتالي كما يقول أبو رزق برهان على صحة قناعاته.

فإذا أمكن أن نعطي تعريفاً واضحاً للمسيحية ولحقيقةِ دعوتها، يمكن القولُ إنها دينُ الحب. هذا الحبُّ الذي لم يكتفِ أن جعلَه السيدُ المسيح موضوع موعظةٍ بل أكدّه، ليس فقط بتقديم نفسه للموت فداءً عن البشر، بل أيضاً بالغفرانِ حتى لمبغضيه وجلاّديه.

        فالله في المسيحيةِ محبةٌ، ولكي نتلمَّسه ويبقى الى الأبد مركز تجاذبٍ بين البشر، تجسَّدَ الحبُّ وأخذَ مكانه وصارَ جنَّتنا.

        لا يهمّ في هذا الإطار، أن نعرف كيف تأنّسَ الله، وكيف يمكن لهذا المتأنّس أن يُقيم في جنة ليست مادية. المهم أن المسيحي الذي يتناول خبزَ الذبيحةِ يشعر أن المسيحَ الذي دخل قلبه، دَخَلَ في الوقت نفسه قلوب الذين تناولوه ليشعر أنّه توحّد مع الآخرين في جسدِ المسيح.

        أيّ حلٍّ يمكن أن يشبع هذا الطموحَ بالفوزِ عن طريق ترميم العلاقات  العاطفية أفضل مما تعمله المناولة التي تتم في حالة الطهارة والنقاوة التي نتوصل اليها عن طريق الاعتراف أي الإقرار بأخطائنا والتي تعبِّر عن حسن نيتنا وصدقنا في نيل ثقة الآخرين؟ وأي معنى للجنة ولهذا الاستغراق في التأمل بالله بعد الموت وبالحياة الأبدية ما لم تكن الجنّة محطة انغماس في هذه المباهج التّي حرمنا إياها الوعيُ ؟

        وعلى الرغم من نقاط التمايز والاختلاف مع المسيحية يبقى الاسلام هو الآخر تعبيراً عن هذا الميل الذي يحمل الانسان على ترميم وجوده الذي أفسده الوعي، ترميمه عن طريق تجديد العلاقات العاطفية مع العدد الأكبر من البشر.

        ما هو مصدر هذا النبوغ الذي أوحى للنبيّ بأن يوزّع ثروته على المحتاجين وان يلجأ الى مغارة للنسك والتأمل. من أين أتى هذا الملاك الذي أوحى له بوجود الله الواحدِ الأحدِ الذي به كان الانسان وإليه يؤول. لماذا لم يحتفظ النبيّ بهذه الحقيقة لنفسه  ويخلص لوحده بل شعر بواجب نشرها عن طريق الجهاد والحرب المقدسة. أيُّ مصلحةٍ لله أن يكرِّر المؤمنُ في كل مناسبةٍ "الله أكبر" وأيّ مصلحة أن يأمر اللهُ المسلمُ بالمحبة والصوم والحجِّ. ألا نجدُ في شخص النبيِّ وفي سلوكه كما في الآياتِ التي أوصى بها له، وفي الأوامر ما يدعو الى الاعتقادِ أنّ الفراغ الوجوديَّ الذي أحسَّ به هو الذي قاده الى العمل على سدّ هذا الفراغ بترميم العلاقات العاطفيةِ مع اشباهِهِ الذين ما كانوا على استعداد للاستجابة لدعوته، إلاّ بقدر ما وجدوا أنفسهم يتقاسمون شعوره ودعوته وقبولهم بالقواعد التي يخضع لها هو نفسه؟

        ألا نجد في تشديده على المساعدة وأماتة الشهوات وعلى التقيّد بطقوس الصلاة شروطاً تبيّن ان المؤمنين مرتبطون بالمصير نفسه ومدعوون الى التواصل كطريق وحيد يوصل الى الجنة وبأنهم آنذاك يشعرون بأنهم قد استعادوا الوجود في كل بهائه؟

يُقرّ جوزيف ابو رزق ان الديانات، على الرغم من تشابـهها من حيث انطلاقاتـها الأنتولوجية، فيها الكثير مما يفرقها او يميّزها لكن في كل الحالات  المعيار واحد والطريق سالكة على خطين والجو واحد والوجود واحد.

يتضح ان الوعي الذي هو في اساس القلق الوجودي ليس جامداً. وبقدر ما يتطور يضيق مدى مجال التبادل الشعوري الذي هو الركيزة الاساسية للوجود. فاذا ما أخذنا بعين الأعتبار العوامل الجغرافية والتاريخية والمناخية والنفسية التي تسرَّع او تبطّأ هذا النمو كان ممكناً تفسير الفروقات التي تميّز ديناً من آخر وفهم الاسرار المحيطة بعالم الاديان.

فعلى الدين ان لا يخجل او ان يشعر بإحراج ان دخلت على خط الوحي الذي هو في اساسه عوامل تعطيه الواناً إضافية. ففي الدين بُعد اجتماعي يلوّنه ويغنيه فكيف الحال إذا كان ما يضاف إليه ما هو في اساس كل الابعاد، عنينا به الوجود.

        لو بقي الوعي في حالته السديمية الضبابيـة، فما كان من ضرورة تجبر الإنسان على ان يخلق له فردوساً، لو بقي همّ الانسان كما عند البدائي تأمين حياته واستمراريتها في عالم عدائي كان له مصدر خوف وقلق اضطره على الاعتقاد بوجود قوى خارقة تلعب بمصيره، لما عرف الأنسان الدين.

        لقد عبد الانسان البدائي الشمس والرعد والبحر وتخيل أشباحاً وسحرة  تعبث بأماكن تواجده في غاباته وجباله كان يتحاشى خطرها بتهدأة خواطرها عن طريق تقدمة القرابين او إقامة طقوس الاجلال والخضوع. ولكن الكلام عن ديانة بالمعنى الحقيقي في هذه المرحلة الغابرة من الزمن واعتبار هذه الطقوس طقوساً دينية، يعني الجهل التام لحقيقة  الظاهرة الدينية التي هي في الأصل حلٌّ لمشكلة وجودية حلاً يريحه من قلقه الذي تسبّبه حالة العجز عن التواصل الشعوري الحرّ مع أشباهه.

        حتى الديانة عند اليونان، هذا الشعب الذي حقق تطوراً فكرياً نوعياً غير مسبوق ليست ديانة بالمعنى الحقيقي، لا لأنـها كانت تؤمن بتعدد الآلهة ولكنها كانت تعتمد حلول الوعي بدل مقاومتها له.

        لا شك في ان المعجزة اليونانية كانت نتاج النخبة التي شعرت بالحاجة الى تنمية ايديولوجية معينة تـهدف الى الاستقرار داخل المجتمع. ومع اعترافنا بأهمية ذلك نرفض ان نسميها ديانة : لأن الاستقرار في المجتمع شيء والاستقرار في الوجود شيئ آخر.

        وهل يعني هذا الأمر ان "الزمن الاول تحوّل" وبأننا حالياً في زمن نشهد فيه موت الدين. قطعاً لا بل على العكس فبقدر ما يتطور الوعي بقدر ما نشعر بالحاجة الملحة الى التفلت من قيوده. "إن العقلانية المتزايدة، يقول نيتشه، لا بد أنـها تضاعف اللاعقلانية حدّة وقدرة". ونقول على طريقة ابو رزق: فمهما فُتٍّنـا باكتشافات الوعي وامكانياته الخارقة ومهما أغضضنا الطرف عن وجودنا وأدمنّا إشباع حاجاتنا الجسدية، سيأتي اليوم الذي سيخفت فيه وهج الوعي لأن اشباع حاجاتنا الجسدية لن يحل مشكلة قلقنا الوجودي بل سيرغمنا قلقنا الوجودي على استعادة محاولتنا للتخفيف من حدة الوعي وسنشهد بالتالي نمواً للديانات المزاولة حالياً.

        ولكن لماذا علينا استثناء قيام ديانات جديدة في المستقبل؟ لأنـها ستكون مختلفة ، ولأنـها مهما كانت ردة فعلها تجاه الوعي قوية فلن تتمكن  التفلّت من رقابته. سيكون مصيرها مصير "ديانة الانسانية" التي تكلم عنها اوغست كومت مع ان المحبّة هي في صلب عقيدتـها . هذه المحبة التي تجمع في "الكائن الأكبر" Le grand Être   كل الاحياء وكذلك الاموات الذين اورثوا ابناء ذريتهم قيمهم الفكرية وثقافتهم وعلومهم. لماذا انطفأت اذاً هذه الديانة مع انـها استجابت لطموح الانسان في ان يستقر في وجوده باحتلاله موقعاً في علاقته مع اشباهه؟ هل فشلت لانـها حاولت توحيد الناس عن طريق العمل؟ ولكن اي ديانة توصي بالكسل؟ السبب في فشلها هو ذاته الذي افشل رؤى ومناهج فورباخ وماركس وفرويد التي تجسد الذهنية المسيطرة على افكار هذا العصر ومجتمعاته. هذه الذهنيّة التي تشيّأت  تحت تأثير الوعي وحولت الوجود الى وجود :انا" مسطحة لا تعبّر عن معنى الوجود الحقيقي.

        كيف يمكن فهم فكرة فورباخ : " الأنسان الفقير يمتلك إلهاً غنياً" او قول ماركس: "إن القيم الانسانية التي انحطت بفعل استغلال الانسان للانسان كان لا بد من تحويلها باتجاه السماء متخذة اشكال اساطير وخرافات دينيّة"؟ لا يكن فهمها إلاّ اذا ادركنا ان الانسان بالنسبة لهؤلاء ليس سوى جسم حيّ يقتصر طموحه على اشباع حاجاته الجسدية او التصدي للآخرين الذين يرغبون في استغلاله.

        هل يرغب الانسان الفقير حقاً ان يكون له إلهاً غنياً كما يزعم فورباخ ؟ هل الرغبة في امتلاك الثروة هي فعلاً الرغبة الجامحة التي تقضُّ مضاجعه وتقلقه دون انقطاع؟ هل الغنى الذي يحلم به الفقير هو الغنى المادي فقط وماذا سيكون امر هذا الاله عندما يبطل ان يكون الفقير فقيراً ويصير غنياً. لا شك ان الفقير يشقى بسبب فقره ويتمنى ألاَّ يبقى في هذه الحالة .ولكن ان يكون هاجسه الوحيد مجابهة الاخطار التي تهدد حياته فهذا امر يعيد الانسان الى حدوده الجسدية الضيّقة.

        والردّ على ماركس مشابـهٌ. ليس الفقر ولا استغلال العمال من قبل ارباب العمل هما في اساس قلق العامل الرئيسي. فقلقه قلق وجودي يبلغ ذروته عندما يجد العامل نفسه محاصراً في عزلته عاجزاً عن التواصل مع صاحب المصنع ومع الانسان مخترع الآلة. ليس فردوس العمال فردوساً يعزيهم في فقرهـم وليست آلهتهم حماتـهم من الاستغلال ولكنه فردوس يأملون فيه إعادة التواصل مع أشباههم خصوصاً هؤلاء الذين يعتبرونهم عصاة تجاه دعواتـهم.

        إن التجمعات العمالية او ما تسمى نقابات التي يعتبرها البعض ادوات تسمح لهم الدفاع عن حقهم في الحياة واشباع حاجاتـهم الجسدية ليست في الحقيقة إلا تعبيراً عن رغبتهم في الالتقاء والالتحاق بعـالم انساني ينقذهم من وحدتـهم ومن العدم. إن فردوس العمال هو الذي يتحقق من جراء تواصلها والذي يجنبهم العزلة التي تـهدد وجودهم وتلصقهم بالعالم المادي.

        الموقف النقدي هو نفسه ينطبق على نظرية فرويد الذي اعتبر ان فكرة الاله السماوي مساوية لشخص الأب الأرضي الذي يؤمٍّن للولد في حالات الضيق الحبّ والحماية. ولكن كيف يمكن تبرير موقف كهذا عندما نعرف ان الشعوب المؤمنة بتعدد الآلهة لم يكن عدد كبير منها محباً ولا حامياً لها. وماذا نقول عن الأولاد الذين لم يكن لهم الحظ بالتعرف على آبائهم.

        لقد كان لفرويد الفضل بالمساهمة في اكتشاف اللاوعي وكذلك بشقّ طريق باتجاه اسرار ما بعد الطبيعة .ولكن كان من المنطقي لفهم الظاهرة الدينيّة ان يقرّ ربما بوجود لا وعي آخر غير هذا اللاوعي الخزان حيث تتكدس فيه الرغبات المكبوتة، لاوعي- وجودي اذا صحّ التعبير يصبو الانسان من خلاله الى استعادة طمأنينته والذي يفسّر لوحده سرّ ابداعاته ومعتقداته وتصرفاته وباقي وظائف حياته النفسية.

        لو قدر لفرويد فهم معنى الوجود وما هي المشاكل التي تطرحها علاقته بالوعي لكان ادرك اقلّه ان الوعي النفسي الذي اكتشفه لا يمكن فهمه كاملاً إلا بعلاقته مع اللاوعي- الوجودي ولكان بالتالي برر بشكل منطقي المعتقدات الدينية.

        ففي هذا المناخ حيث تتعزز في الميول النفسية عن طريق التكنولوجيا، في هذا المناخ الذي تجفّ فيه الحياة الشعورية بفعل تدخل الوعي، في هذا المناخ بالذات نجد الاسباب التي أدت الى فشل "دين الانسانية" التي نادى به اوغست كومت.

        ليس تطور الوعي اذاً هو الاساس في نشأة الديانات فربما اورث هذا التطور مفاعيل عكسيّة. ففي كل مرة يلجأ الوعي الى سجننا في عزلتنا او في مؤسسات مصطنعة او دفعنا الى القيام بفروض دينيّة لا تلبث ان تتحول عادات وتقاليد نستدر منها نعمة السماء من دون ان يكون هدفها احتلالنا مركزاً في شعور الآخرين فلن يكون الدين ديناً ولن يكون الوعي في خدمة الدين بل عدواً له.

        لم أجد شخصياً في تاريخ الفلسفة، مع الأقرار بان قراءاتي متواضعة جداً حول الموضوع، موقفاً مطابقاً او مشابـهاً لموقف ابو رزق من الدين.

- فالله عنده لم يمت كما عند نيتشه.

- وليس المطلق هو موضوع الدين كما عند هيغل.

- وليس الدين افيون الشعوب كما هو عند ماركس.

- وليس الدين انفصال الإنسان عن ذاته كما عند فورباخ

- وليس تماهياً مع الاخلاق كما عند كانط.

- وليس الدين كمالاً اجتماعياً كما عند دوركهايم.

- وليس الدين توهماً أو اسقاطاً كما عند فرويد.

- وليس الدين إرثاً منسياً كما يحاول ليبرا ان يبينه في مواقف كثير من الفلاسفة.

- ولا يطمح ابو رزق الى تأسيس دين من دون ديان على الطريقة البوذية.

        كل ما ذهب اليه هو القول إن الدين طاقة، حركة تواصل، محاولة ترميم للعلاقات الشعورية العاطفية والتي أفسدها الوعي هي في اساس الوجود وفي اساس الطبيعة الانسانيّة. هو صفعة في وجه هذا الوعي الذي لا يتوانى عن خربطة هذه العلاقات وتشويهها ولهذا السبب وضعه ابو رزق في قفص الاتـهام.

        في لحظة وانا أقرأ الكتاب ظننت، وفي الظّن كثير من الآثام ، ان جوزيف ابو رزق  خاصة عند كلامه عن المسيحيّة والاسلام على أهبة التركيز، على طريقة بعض الاصلاحيين الذين تشغل بالهم الحياة السياسية او العقيدة القوميّة، على الدور الذي يلعبه الدين في حياتنا اليوميّة بغية التوفيق بين الديانات مما يعزّز نجاح ايدولوجيّة  سياسية او اجتماعية معينة.

        بالطبع ليس هذا هو الهدف او المنحى الذي تتخذه فلسفة ابو رزق في نظرته الى الدين. ربما استفاد البعض من منطلقات فلسفته لصياغة ايديولوجيات سياسيّة تكون في خدمة الانسان والاوطان والمجتمعات. ربما توصلنا بأعتمادها على نبذ العنف والحدّ من الكثير مما يفرقنا. ولكن في الاساس تبقى نظرة ابو رزق الى الدين نظرة انتولوجية مرتبطة بقدرة الانسان او عدم قدرته على الأستقرار في هذا الوجود ومرتبطة بقدرته او عدم قدرته على التواصل الشعوري الذي هو في اساس الانسان وفهم حاجاته الوجوديّة.

        عندما تنسـدُّ أمامَنا كل الطرق المؤدية إلى الآخر ويكون السورُ الفاصل عالياً ونشعر في لحظة ان  الغربة راحت تتآكلنا لا بدّ من التطلع إلى فوق يبقى الأمل بمن هو  فوق  لأنه الوحيد القادر على تأمين عملية التواصل التي انقطعت.

        ليست الحياة بمعناها البيولوجي ولا المحيط بمعناه الاجتماعي ولا الايديولوجيات بمعناها السياسي هي شغل جوزيف ابو رزق الشاغل.

        إن الرؤية الداخلية والمعاناة هما اللتان يطل بـهما جوزيف ابو رزق إطلالة الانسان المتأرجح بين موقف المؤمن المطمئن والمفكر القلق علماً ان هذا التأرجح هو حال الكثيرين منا.

        ليس الحديث عن الدين عنده حديثاً لاهوتياً، فالدين لا تشير الى حقيقته التطوافات ولا كثرة المعابد ولكن الحديث عنه حديث عن هذه العودة المطمئنة الى الذات في تواصلها مع الاخرين، عودة تعطل الغربة والعزلة والدجل والتعصب. إنّه هذا الدفء الذي إن شعرنا به طمحنا الى الاستمرار فيه حتى نستمر في الوجود.

        ليس في الكتاب موعظة ليوم جمعة او ليوم أحد كما ليس فيه دعوة للتخلي عنه بل دعوة الى قيام التواصل به وعن طريقه. وفي الكتاب ما يشعرنا بالخوف من الوعي الذي يعطل تلبية هذه الدعوة والذي قد ينحرف بنا باتجاه التحجر الطقوسي الطائفي لأن هذه الطقوس قبر للحياة الروحية وللعلاقات العاطفية التي ان تحجرت تشيئنا فنصبح آلات تعمل بدقة وتبقينا ربما على قيد الحياة ولكنها تعطل حتماً وجودنا.

        إن هاجس الطائفية تدعيم الفرقة ومبعثها الانزوائية. إنـها استعمال الله لمصلحة الانسان حفظاً لتوازن حياتي زمني يدلّ على ان مؤيديها يفضلون الحياة على الوجود والتلفيق على الصدق والفرقة على التواصل.

        لم ينادِ جوزيف ابو رزق صراحة بالعلمنة ولكنّه مهدّ الطريق اليها في أكثر من مكان من مؤلفاته السابقة لأنّه مقتنع ان الناس عندما يتنبهون الى ان الوجود لا يتحقق إلا بـهذا التواصل الشعوري ، فسوف يطالبون بـها، لأنـهم سيتحسسون بأنـها الاطار الوحيد للكرامة. ان التواصل الشعوري هو الطريق الأقصر ومكان اللقاء الأمثل الذي يلتقي عنده ابناء ديانات مختلفة. وبـهذا التواصل يتم اللقاء بلا لبس وابـهام، بلا خوف او وجل.

        لكن هذه الرؤية تحتاج الى من يؤمن بـها. ولا يكفي ان يؤمن بـها افراد قلائل حتى تتأكد صوابيتها . فكيف للقلة تبديل الواقع. الامر يبقى ممكناً لأن العلاقة بين الرؤيا والواقع علاقة جدلية. والامر يتطلب دوام تربية تتجسد بالدعوة الى التثقيف والى فتح نوافذنا على الآخرين، عندها تتحول المؤسسة الى حركة وهذه كفيلة باقتلاع الافراد من رتابتهم فيتحولون شهوداًً يعملون على إضاءة الجماعة بالفرادة. لأنه من المستحيل ان يقوم بلد على تصنيف لابنائه يعطل وحدتـهم وتواصلهم العاطفي. ولسوء الحظ، كل تصرفاتنا حتى الآن تدل على عدم اعتقادنا بوجود الآخر.

كلمة الدكتورة نوال صفير

فرادة نظرية جوزيف أبو رزق الجمالية

أظهرت دراسات القرن العشرين في ميدان الجماليات بدءا بكندنسكي وانتهاء بميشال هنري، طبيعة العلاقة بين قطاع الإبداع والتأمل الجماليين وسائر أنماط النشاط البشري. وجاءت النتيجة البديهية لتُميزَ بين التجربة الجمالية من جهة والمعرفة الموضوعية من جهة أخرى. فالفن والمعرفة الموضوعية يمثلان جوهرين متباينين تباينا جذريا: الجوهر الذاتي الذي تشكل التجربة الفنية أحد انجازاته المميزة والجوهر الموضوعي الذي ينتمي الى القطاع الفكري لما يتم تمثله. فالفن المنبثق من الجوهر الأصلي للحياة قائم في صلب الواقع ويمثل أحد أشكال الوجود. في حين أن المعرفة الموضوعية تنشط في دائرة لا يتجلى الوجود فيها إلا في إطار المظهر.

هذا التمييز يؤدي الى استنتاج على درجة من الأهمية مؤداه أن الفن يُقصي، من حيث المبدأ، كلَ تصور موضوعي للواقع. فالأثر الفني لا يمكن أن يكون مادة للتفكير، إذ إنه في الأساس "موضوع" تجربة. ونكتشف هنا السبب الذي من أجله عُدت التأويلات التي تسمى بحق "خارجية" والتي تدعي شرح أثر فني بواسطة نموذج نظري مستوحى من الأنظمة الفلسفية أو من العلوم الإنسانية، تأويلات غير شرعية. إذ تحل محل اللوغوس الذاتي الذي هو لوغوس الفن، لوغوسا موضوعيا غريبا عنها في الأصل.

هذه المقدمة تقودنا، في الظاهر، الى نعي كل محاولة لتأويل الفن بما فيها محاولة جوزف أبو رزق، لكن صاحب كتاب "الوعي في قفص الإتهام" لم يدّع يوما القيام بتأويل عقلي للفن بل تحليل الأسباب التي دفعت بالإنسان عامة، والبدائي تحديدا، الى ممارسة الفن، مما أكسب نظريته في الفن شرعيتها.

  وإن كان أصل الفن هو الذي يشغل جوزف أبو رزق ويشكل لب نظريته، يصبح جائزا الاحتجاج بالقول إنه لا ينفرد  بهذه النظرية ما دام أصل الفن المكتنه فطريا هو الذي شكل مادة وحي لعدد لا بأس به من فلاسفة الجمال والفنانين. إنه هو الذي أوحىلبودلير، على سبيل المثال، شرح آثار ديلاكروا، ولإيف بونفوا تأويل رموز جياكوميتي.

  لكن محاولة أبو رزق جاءت أكثر شمولية (وهنا تكمن الأهمية الأولى لنظريته الجمالية): هذه الشمولية لا يمكن الكشف عنها من دون العودة الى العمل الذي يشكل لب نظريته والذي لا يفتأ يحيل إليه في "الوعي في قفص الإتهام" عنينا به "أوليات في فلسفة الجمال". ففي هذا الكتاب، لم يكتف أبو رزق، بخلاف كبار فلاسفة الجماليات مثل هيغل وكانط وهايدغر واندريه مالرو وميشال هنري وسواهم، بتحليل الفن عبر إحالته الى مادة تعبيرية أو رسالة يسعى الى إيصالها والذي يميز مرحلة لاحقة على ظهوره تناولها في كتابه "الوعي في قفص الإتهام". لقد قرن جوزيف أبو رزق إعادة تشكيل أصل الفن بإعادة النظر في الأسباب التي دفعت بالإنسان، البدائي تحديدا، الى تبني هذا النهج التحايلي (procédé artificiel) الذي كان مكلفا الى حد ما آنذاك. فما يهم الإنسان البدائي، بالنسبة الى جوزيف أبو رزق، لم يكن تفريغ شحنة عواطفه بما أن الناحية النفسية فيه كانت لا تزال ضحلة، ولا الشعور بالحنين، أو بالقلق الوجودي، (مصدر الفن في مرحلته التعبيرية) ما دام لم يكن شيء يحول دون انتقاله مباشرة الى الفعل حين كان يشعر برغبة في ذلك. ذاك الإنسان كان يعيش الطبيعة حتى الثمالة وينتشي بالأثر المخدر الذي تخلفه فيه روعتها. أي لم يكن في حاجة الى فن يحرره من كبتٍ ما مهما كانت درجته.

  لم يكن هم الفنان الأول سوى امتلاك الأساليب التي من شأنها وأستشهد بالكاتب "تخليصه من عبودية جسده، ومن أساليب التصرف، بما فيها الكلام الذي هو تعبير عن الحاجات العضوية" ("أوليات في فلسفة الجمال" ص 84).

  لكن لماذا يحاول الإنسان التحرر من عبودية الجسد؟ لأن الجسد الذي يسعى الى المحافظة على بقائه يجد نفسه ملزما على التجرّد من الآخر الذي من دونه لا إمكان لأي وجود. فهذا الوجود ليس سوى ثمرة التواصل الشعوري مع الآخرين. لذا لجأ الإنسان الى الفن أو بالأحرى الى التحايل (artifice). فكل الفنون، في الواقع، كانت في البداية تحايلية، وأساليب لصرف نظر المتأمل عن الوجه النفعي للأشياء. فالفن في الأصل لم يكن سوى لهو مجاني غايته إثبات حسن نيات اللاهي، أي الفنان. الفن واللهو يشكلان نشاطا واحدا أحدا في فكر أبو رزق (وهنا تكمن الأهمية الثانية لنظريته).

لم يصبح الفن تعبيريا، في نظر أبو رزق، إلا إثر تكثف الوعي الذي يعدّ التحويل مهمته الأساسية: تحويل العلاقات العاطفية الى علاقات اصطلاحية والمعنى العدائي للأشياء الى موضوعات بغية التوفيق بين بُعدَي الإنسان: الجسدي والوجودي. فالوعي يعزل الناس بعضهم عن بعض، عبر تأدية مهماته، متسببا بالضرر للوجود.

هكذا تتلاشى العاطفة، يتقلص الخيال ويتراجع التواصل بين الناس. ومن أجل تجاوز هذه الثغرة، بات من الواجب إضافة شحنة عاطفية الى التحايل يكون لها أثرها على شعور الآخرين.

لكن هذه الشحنة العاطفية يجب ألا تصرفنا عن سبب وجود الفن، بحيث نحيله الى مجرد وظيفة تعبيرية  (كما يقول الكاتب في الصفحة 142 من "الوعي في قفص الإتهام")، فهذه الشحنة لا تكتسب معناها إلا بقدر ما تتيح للإنسان وأستشهد بالكاتب "الشعور بأنه مقيم في الآخرين، متشبث بالعالم الإنساني الذي يسلخه عن طبيعته الجسدية الملتصقة بالعالم المادي ليجعله وجودا حرًّا" ( نهاية الاستشهاد).

  وفي الإطار نفسه، يرفض جوزيف أبو رزق اعتبار الفن مجرد سبيل للتهرب. فهذا التهرب لا يكتسب معناه إلا حين يتحول تهربا من الوعي الذي يستعبد الإنسان ويسجنه في حلقات اصطناعية. الفن ردّ فعل عفوي للكائن الواعي، لكنه لا يزهر إلا حين ينفصل هذا الكائن عن وعيه. عندئذ يُنجز قطع صلاته وينطلق في رحلة تحمله الى مطارح جديدة، مطارح الوجود الحقيقي. إن بلوغ الوجود لدى الإنسان الواعي، لا يتم إلا عبر الفن أي عن طريق الإرتقاء الذي هو تجاوز الوعي عبر توهج العاطفة. هكذا يتحول الفن تلك النار المطهرة التي تلوّن الإنسان بألوان الحقيقة الرائعة. غير أن الفن لم يكن الحل الوحيد الذي لجأ إليه الإنسان للتحرر من وعيه واستعادة وجوده. فالدين والعلم والفلسفة وجدت للغاية نفسها غير أنها لم تستطع الصمود أمام ضربات الوعي الملحّة. وحده الفن، بوصفه تحايلا، كان في إمكانه الصمود أمام الوعي. لم يكن في الإمكان جعله أسير أساليب الوعي لأنه لم يحاول مرة اللجوء الى التصنيفات الخاصة بهذا الوعي لتشييد عالمه. وهكذا، فالإنسان المدموغ بوصمة الهم الوجودي الدائمة، يجد نفسه بفضل الفن وبواسطته، انعكاسا مستقبليا ضروريا بغية التشبث في الوجود، لعله يجد هنا فرصته الوحيدة للخلاص.

  هنا تتجلى بكل وضوح الأهمية الثالثة لنظرية جوزف أبو رزق الجمالية: الوظيفة الخلاصية للفن. ولم تكن مجرد مصادفة أن يثير أبو رزق موضوع الفن في القسم الأخير من كتابه "الوعي في قفص الإتهام". فالوظيفة الخلاصية للفن قائمة في جوهره بوصفه قدر الإنسان في بحثه عن وجوده. هذا الوجود الذي لا ينفك الوعي يهاجمه عبر ممارسة وظائفه التحويلية. وما دام الوعي هذا يستمر في تأدية وظائفه لن يعرف الفن نهاية ولن يزول.

  هنا يعلن جوزيف أبو رزق في "الوعي في قفص الإتهام" ص 150، اختلافه عن هيغل في موضوع الموت المحتم للفن. هيغل المنتمي الى الخط الأفلاطوني الذي يغتني بالبعد التاريخي يرى أن الجمال الفني هو التجلي الحسي للفكرة. والمضمون المادي للفن ليس التعبير الحقيقي والنهائي للفكرة، إنه لا يعبر عن الحقيقة الكاملة بل عما يمكن أن يُتمثل في المحسوس فحسب.

لهيغل جدليته كما لأفلاطون. وفي حين تشكل جدلية أفلاطون ارتقاء شخصيا ومسارا روحيا لنفس تتوصل عبر محطات متتالية من الإنفعال الجمالي الى امتلاك الفكرة الخالصة، تحلّ لدى هيغل فلسفة التاريخ محلّ ارتقاء الفرد. طريحة الفن الرمزي تقابلها الطريحة المضادة للفن الإغريقي. وتأتي المحصلة عبر الفن الذي يسميه هيغل رومنطيقيا. سوى أن روائع هذا الفن لا تمثل الإمتلاك النهائي للفكر المطلق الذي تمثله الفلسفة خير تمثيل. فاعتبار الفن تعبيرا مقنِّعًا للفكرة أتاح لهيغل الحديث عن موت الفن أمام الفكر.

جوزيف أبو رزق لا يرى الأمور من هذا المنظار. فالوعي القادر على التهجم على الإيديولوجيات والحط من قدرها يجد نفسه أعزل أمام الفن الذي يبدو أصلب بكثير وأكثر مناعة ما دام لا يرتضي التحول الى مفهوم أو موضوع. فالفن في جوهره ليس سوى ردّ فعل ضد الوعي.

  وما دامت وظيفة الفن خلاصية وما دام هذا قدر الفن، فان جوزيف أبو رزق "ينعى في الصفحة 145 من "الوعي في قفص الإتهام" الإتجاهات التي تخلت تماما عن التصوير واتخذت الخطوط والأشكال والألوان وسائل تعبير من دون أن يكون ثمة رابط يشدها الى الواقع سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة".

  تجدر الإشارة الى أن أبو رزق لم يشكُ مرة الفن الكلاسيكي حيث يتمّ تمثيل الواقع بأمانة في كل أشكاله. هذا التمثيل هو تجريد للعالم من جانبه النفعي، وسلخ للواقع من أجل تمثيله في موقع آخر، على صخرة مثلا أو على رقعة رسم. فالرسم، بالنسبة إليه، تقليد في الأساس ولم يتحوّل تغييريا لصورة الواقع إلا لاحقا، وتحديدا حين تطور الوعي مانحا معنى موضوعيا للصورة التي لم تكن في الأصل سوى طريقة لنفي الواقع وإقصائه عبر تجريده من نفعيته.

  هنا يختلف أبو رزق عن اندريه مالرو ويلتقي مع هيغل باعتبار أن الرسم الكلاسيكي بالنسبة الى مالرو ليس سوى مجرد تقليد للطبيعة في حين أن شرط الفن الأساسي أن لا يكون تقليدا. والتقى مع هيغل باعتبار أن الكلاسيكية محطة مهمة في تطور الفن. الفن الحديث ما كان ليبلغ ما بلغه اليوم لو لم يمرّ بالصورة الكلاسيكية التي حوّلها الوعي لاحقا الى موضوع. في هذه المرحلة فقط ثار الفنان على التمثل الأمين للواقع المادي محاولا تأسيس نظام متماسك يفرغ الفن من محتواه الموضوعي. وهكذا نلاحظ أن تغيير الواقع وتشويه صورته يتلازمان مع تطور الوعي ويستجيبان للتطلعات الوجودية للإنسان. ولهذا السبب تحديدا لم يرفض أبو رزق في كتابه "الوعي في قفص الإتهام" ميول الفن الحديث الى تغيير الواقع، ولا الى البحث في الأشياء المستهلكة وسائل تعبير يعتمدها الفنانون.

  إن ما أثار اهتمام جوزيف أبو رزق، هو ما أشرنا إليه آنفا: الإتجاهات التي تخلت تماما عن التصوير. وهنا تكمن الأهمية الرابعة لنظريته الجمالية: لقد نقد هذه الإتجاهات، عنينا بها اتجاهات بعض المدارس الفنية التي ترقى الى أواسط القرن الماضي بما فيها الفن الشعبي والفن البصري والبنائية والدادائية والمفهومية والتجريدية والفن التصغيري والواقعي المضخم إلخ... هذه المدارس ذهبت إلى اعتبار الأثر الفني غير أهلٍ للتقدير إذا لم يكن فريدا وأصيلا. وفنانو هذه المدارس أرهقوا أنفسهم وبذلوا جهودا مضنية من أجل ابتداع أعمال غريبة، شاذة. لم يكن ذلك سوى ضرب من ضروب البهلوانية والمخادعة. لقد أسرف هؤلاء الفنانون في الإصطناع الذي لم يعد يثير الإعجاب، في حقبة أصبح الفن فيها تعبيريا. إن اصطناعا كهذا ليس سوى ثمرة التخلي والإحالة الى الذات. لقد وجد الفنان نفسه متروكا لذاته، غارقا في دائرته المفرغة.

  بدا جوزف أبو رزق جريئا في نقده الفن الحديث بيد أنه لم يبالغ في هذا التجرؤ كما قد يعتقد من يكتفي بتصفح كتابه "الوعي في قفص الإتهام" أو يقرؤه قراءة أولية من دون أن يتعمق فيه. فالفن الحقيقي ليس الذي يعبر عن الإنفعالات الداخلية التي تختلج في نفس الفنان فحسب، بل الذي يشتمّ في محيطه بحث الإنسان الدائم عن قيمة جديدة ترتقي به الى مستوى الوجود الحقيقي أيضا.

  وفي حين يتحدث برغسون عن الأخلاق المقيدة والأخلاق الحرة معتبرا أن صانع الأخلاق الحرة هو البطل والقديس، يعتبر جوزف أبو رزق أن الأخلاق الحرة هي تلك التي يصنعها الفنان (وهنا تكمن الأهمية الخامسة لنظريته الجمالية. بيد أن هذه الأهمية ليست الأخيرة. فلقد إكتفيت بالإشارة إلى أبرز ما يشكّل فرادة نظريته الجمالية آخذةً بعين الاعتبار الوقت الذي أُعطِيَ لي في هذه الندوة). يعتبر إذاً جوزيف أبو رزق أنّ الأخلاق الحرّة هي تلك التي يصنعها الفنان الذي لا يكون صدى لذاته ولا للمجتمع الذي ينتمي إليه بل صانع قيم، محرّر إنسان ومشيّد وجود.