ندوة حول كتاب الشاعر موسى زغيب

" وصـايـا"

2007/4/29

 

كلمة الأستاذ حنا أبي حبيب

كلمة أمين عام الحركة الثقافية - انطلياس الدكتور عصام خليفة

كلمة الرئيس الدكتور غالب غانم

كلمة الأستاذ جوزف أبي ضاهر

 

 

كلمة الأستاذ حنا أبي حبيب

واليوم لم بلش ثلج صنين                       يزرع براسي الثلج عالمفضوح

جبت القلم وكتبت يا محبين                     حبو لآخر درجة المسموح

بحيث العريشة وراقها بتشرين                  بتروح ... وعليها الغصن بينوح

أوفى على السبعين وما زالت عرائشه تترنح غوى، عناقيدها مثقلة بالحب وخمرتها سكرة تتشهى الا تصحو منها، كيف لا وصاحبها قلب نابض بفيض العطاء وألق القوافي، وروح هيهات ان يبدل كر الأيام أصالتها. ولرب سائل يسأل: أما آن لهذا النبع المتدفق شعراً ان يهدأ ويرتاح؟ اما اثقلت السبعون التي يحملها على كتفيه شق قلمه ونبرة صوته؟ ان خمسة وخمسين عاماً من التوهج والابداع لم تزد شاعرنا الا تألقاً وتشوفاً الى الما فوق، ما زالت خشة دفه وبحة صوته تستقطب جمهور الزجل وما زالت المنابر تتهيب حضوره، أميرها كان، وسيبقى، وها هو اليوم يشق درب الوصايا بقلمه، تاركاً لموسى الكليم ان يشق البحر بقلمه واستنزال الوصايا عليه، ليشعل العليقة من جديد منزلاً وصاياه من وحي تجاربه والتأملات في رحلة العمر.

وما جيت اكتب عالورق عدة سطور            واتفلسف وسمي وصايا وادّعي

جايي تأحكي للدني عدة امور                   مرقت معي برحلتي... وصارت معي

خمسون عاماً من التألق وما استنام موسى زغيب الى شهرة استحقها، ولا تملكه شعور بعظمة أرسى مداميكها بيتاً فوق بيت، بل ظل يشتغل على نفسه، يغني ثقافته بمطالعات واسعة للكبار من اهل الأدب والفكر والفن، عمقت موهبة الشعر فيه، صارفاً عمره كما يقول في المطالعة والكد والسعي، موصياً رفاقه الشعراء بأن:  

لا تسكروا  من زقفة الانصار                   برج النجاح السكر بيهدو

 مدركاً ان الموهبة هي حجر الأساس في كل إبداع، بدونها لا فن ولا ابتكار، وكانما قرأ الفيلسوف الكبير ارسطو في قولته: ان الاستعارة أي الصورة سمة الشعر يصقلها العلم ولا يولِّدها

وابنك اذا فن الطرب غاويه                     مهما صراخ الحنجرة يقوي

ان ما كان الله الموهبة عاطيه                   ما بتعملوا فنان بالقوة

والزيزفون بحاضر وماضيه                    بيزهر وثمره ما بيسوي

وقديش قنبز مر طعمينا الكنار                  وضل بحلا صوتو امير الترغلي

وبو الحن كل شي صيّف بكرم الشوار          ونقود عنب وزبيب صوتو ما حلي

غير ان شاعرنا ادرك بعمق فكره وثاقب وعيه ان الاستكانة الى هذه الموهبة تبقيها في حال من البداءة والسطحية، وان شعر الفطرة يحتاج الى صقل وتجدد

وشاعر بيبقى نبع وخزازين                     وشاعر بيفضى وما بيتجدد

وكيف الصوامع تا يضل سنين                  فيها صدى الصلوات يتردد

عملت لرهبان الصلا والدين                    معبد لهل بيحب يتعبد

هيكِ لرهبان الأدب والشعر                     لازم تكون المكتبة معبد

لقد فهم موسى زغيب الشعر والشاعرية في حقيقتهما كما عرف ان الشعر الحكمي - شعر الوصايا - شعر جاف في الأصل، لأنه يتوجه الى العقل، تنقصه الحرارة ويعوزه الخيال لذا نراه نادراً ما يغزل حكمة إلا ويلبسها صورة انيقة لا ترسم خطوطها وألوانها إلا ريشة فنان مبدع محققاً بذلك نظريات كبار النقاد امثال كولردج الشاعر الانكليزي الذي يقول ان الشعر الذي يخلو من الخيال يخلو من الحياة، مجارياً حكمة ابي الطيب المتنبي القائمة على مبدأ التعليل بالتخييل، أي ربط الفكرة بالصورة، في تشبيه خفي لطيف لينقذ شعره من الجفاف.

لقد انزل موسى زغيب وصاياه في خمسة ابواب يخيل للقارئ انها مبتوتة الصلة فيما بينها وهي : الوصايا والوجدانيات والشروقيات والآراء والغزل، توجه فيها الى الانسان في كثير من مواقعه أبأ وأماً وشاعراً وقاضياً وسياسياً وتاجراً...  وصحيح انه سمى الكل باسم الجزء، لكنك واجدٌ في ثنايا كل قصيدة من هذه الابواب المتناثرة حكمةً عميقة او عبرة خفية تلمحها خلف الصور المتوهجة والمعاني المحتجبة اللطيفة التي آثر موسى زغيب ان يوصلها تلميحاً لا تصريحاً.

ومن دون حبر الورق ما بينجمع كتاب          ومن دون عشق الدني دخان سيجاره

وحلم الطفولة صبا وحلم السطح مزراب         وحلم المراكب سفر وعياط بحاره

وحلمي لعندي تجي وخلفك تردي الباب         وتشهق حبوب الكرز من اول زيارة

غير ان قصائد العشق والهوى هي الطاغية على الوصايا، ولقد حاول موسى زغيب العاشق الأبدي ان يتوارى خلف وصاياه فما استطاع، ظن انه يستطيع ان يبعد عنه اجمل تهمة فاخفق، وقبضنا عليه بالجرم، ولكن غير المشهود، وعذراً يا شاعري لا تخف على وقارك المستحب ان تخدشه نظرة عجلى، وعلى شيبتك الساحرة انْ يعيبها ما قالته تلك المعجبة لأمها وهي تشي به:

قالت: في شاعر يا أمي قصايدو حلوين  ومع كون شايب انا الشيبات عجبوني

شاهد القوني عاصدري وانحنا المسكين         ما باس صدري يا امي بوّس القوني

وقالت يا بنتي اعقلي موسى طوى الستين       وانت صبية والو مش لازم تكوني

روحي يا بنتي شوفيلك شب بالعشرين           وخلي لأمك ابو الشيبات يا عيوني

ويروى عن عمر بن ابي ربيعة انه سئل هل فعل كل ما قاله في شعره فأجاب: نعم واستغفر الله، فماذا يقول موسى زغيب لو سئل، كلنا مصابون ايها الشاعر بهذا الداء الأبدي، اوليست الحياة كما تقول؛ قصيدة عشق جميل؟

الشاعر امير الحب كل ما رفّ شال             بيحس قلبو انشال منو وانسرق

لقد سحرك الجمال يا شاعر الجمال، واقلقتك الأزرار والعراوي وما اكثر ما ذكرتها في قصائدك، انستك ارتشاف القهوة مع صاحبتها فحاولت ايهامنا اننا كنت مشغولاً بالحديث اليها ولن تمر علينا القصة.

وصبّت الي فنجان قهوة مرّ                             مغلي بنار الشوق والشهوة

وقعدت قبالي بمشهد البيغر                     وفكت الزر وبعدت العروة

وطال الحديث .... وبردت القهوة

موسى زغيب ايها الشاعر المنذور للوطن والحب والجمال، عسى الا يرتاح دفّك وقلمك، سنبقى ننتظر "وصايا" جديدة، ولمثل شعرك يكتب الخلود.

                                                 

 

كلمة أمين عام الحركة الثقافية - انطلياس

الدكتور عصام خليفة

موسى زغيب: عبقرية الشعر الشعبي

يحدد الباحثون الزجل بأنه شعر منظوم بالعاميات العربية. ويتّبع عادة الأوزان الخليلية، لاسيما في المشرق مع تعديل كبير في الأوتاد والأسباب التي تتألف منها التفعيلات. ويعيد الباحثون انطلاقة الزجل، خاصة في لبنان، الى القرن الرابع الهجري او العاشر ميلادي. لقد كان هذا الفن تعبيراً عن أفراح وأحزان عامة الشعب وكان تجسيداً، في آن، لحرارة صلاة الزهاد في الصوامع، وأهازيج الفرسان في ساحات القتال. كان الزجل ولا يزال تعبيراً لعبقريات الشعراء، وأغنية مضيئة للملحنين والمغنين. الزجل هو فن الشعب اللبناني. الم يذهب المفكر الالماني هيردر الى ان الشعب قادر على الإبداع، وانه هو الذي وضع الأسس التي جعلت الشعراء والأدباء والفنانين يبدعون الآداب والفنون الرفيعة التي تتسم بالطابع الذاتي لمبدعيها. وقد أشار العالم السويسري ريشارد فايس الى انه "توجد الحياة الشعبية والثقافة الشعبية دائماً حيث يخضع الإنسان - كحامل للثقافة - في تفكيره، او شعوره او تصرفاته لسلطة المجتمع والتراث " وانه "يوجد في داخل كل إنسان شد وجذب دائمان بين السلوك الشعبي وغير الشعبي". هكذا فان جميع أفراد المجتمع، سواء أكانوا من العمال او الفلاحين او الرعاة، رجال أعمال او جنوداً، محامين او أساتذة جامعيين او أصحاب مهن حرة، يشتركون جميعاً في خاصية كونهم "شعباً"، على اعتبارهم حملة الأشكال الثقافية التقليدية. وما من  جدال في ان كثافة هذا العنصر الشعبي او شدته تختلف حتماً من فئة الى أخرى، ولكن لا يوجد إنسان بدونها على الإطلاق. وليس من قبيل المصادفة ان تهتم منظمة الاونسكو بالثقافات الشعبية - ومن بينها الزجل - لأنها ترى ان تقدير مميزات كل ثقافة قومية، ووضع خصائصها في الاعتبار يساعدان على دعم العلاقة الدولية "وان جهل او تجاهل القيم العقلية والخلقية والروحية الخاصة بكل ثقافة لن يفسد مرامي التعاون الدولي فحسب، بل سيعرض أنبل المشروعات لأفدح الخسائر والكوارث التي لا يمكن تجنبها" وما يحملنا، كباحثين في تاريخ لبنان، الاهتمام بالزجل، هو ارتباط هذا الفن بقوى المجتمع الحية، وتعبيره عن أعمق ما يختلج في وجدانها من مشاعر وأفكار. وإذا كنا حقاً نؤرخ للمجتمع. وليس فقط للحكام، فمن الواجب الاهتمام ليس فقط بمعرفة الزجل، ولكن ايضاً بتجميعه والحفاظ عليه في أرشيفاتنا الوطنية. في هذا السياق نتذكر قول الأستاذ ريتشارد دوسون: "ان عين الدوافع التي أدت الى ان تدرس الأمم تاريخها الوطني الخاص وتاريخ آدابها الخاصة هي التي دعتها الى دراسة الفولكلور، ذلك ان الدولة الحديثة الناضجة سياسياً لا ينبغي لها ان تملك فحسب وثائقها التاريخية الصحيحة التي لا يرقى اليها الشك بل يجب ان تملك بالمثل أعمالها الأدبية التي استقرت قيمتها ومكانتها وتملك أرشيفات مأثوراتها الشعبية المفهرسة. من هنا أهمية الاهتمام بالزجل وجمع أشعاره الشفهية في مراكز أبحاث جامعية او وطنية متخصصة، ومن هنا أهمية الاهتمام باسياد الزجل من الشعراء الذين تعاقبوا على حمل مشعل هذا الفن.

والحركة الثقافية - انطلياس التي كانت قد نظمت مهرجاناً حول الراحل الكبير خليل روكز، وأصدرت كتيباً في المناسبة (10 أيار 1992)، يشرّفها ان تنظم ندوة حول كتاب جديد صادر للشاعر العبقري موسى زغيب وهو واحد من كبار أمراء الزجل اللبناني.

وإذا كان معجم اوكسفورد، في إحدى تعريفاته، قد وصف العبقرية، في جوهرها، على أنها "القدرة الغريزية الرائعة على الخلق الخيالي والفكر الأصيل والابتكار او الاكتشاف"،  وإذا كان الفيلسوف كانت قد لاحظ ان فكرة العبقرية قد تكون مشتقة من "ذلك الروح الخاص، الهادي والحارس، الذي يوهب للإنسان عند مولده، وتنبثق هذه الأفكار بإيحاء منه".  لا بل انها "موهبة إنتاج ما لا يمكن وصفه تحت قاعدة محددة"^.

اذا كانت العبقرية كذلك، فان الشاعر موسى زغيب هو شاعر الخيال الخلاّق، وشاعر الفكر العميق بكثافته الإنسانية، وهو صاحب الابتكارات والاكتشافات المجددة، ومن هذا المنظار انه شاعر عبقري بامتياز. ما سمعته يوماً إلا وشدّني بصوته الذي يحمل بحّة خاصة، وغزارة صوره الرائعة، في تراكم جمالاتها، ومتانة سبكه حيث الكلمات جواهر متماسكة كعقد اللؤلؤ، وبلاغته حيث يعبر عن معاني كبرى في لُمح مختصرة كثيفة في مدلولاتها الانسانية الخالدة. ابدع في باب الغزل حيث تطل المرأة دائماً في العتابا والميجانا والشروقي وكما احبها جسداً يلتهب متعة، فانه احسن "شمّ ريحة الصلا من مسبحة امه". غنّى لسواعد الفرحين والفلاحين والأرض الفقيرة. كيف لا وهو ابن حراجل، في ريفنا الجبلي حيث الماء والضياء "ودموع العنب التي كتبت قصايد عالسلال"، "وحبات ترابها بدمع الخمر معجونة". غنى للطواحين والورد والفل والقرميد والعصافير، وغنى للبيادر والغلال والشراويل والعبي وحبال الجرس والزنود السمر.

موسى زغيب شاعر الوطنية اللبنانية بامتياز  وقف منادياً تجار الهيكل :

"يا من دبحتو الوطن عاسطيحة الاديان

وكرمال مركز مسحتو كل امجادو"

وهو داعية وحدة وطنية على قاعدة الكرامة والاستقلال:

"ان عشتو بأرض الكرامه حبايب واخوان

                                                بيطوف خير الزرع عاكفوف حصادو"

ويستشرف المصير الأسود في حال استمرار الانقسام والفرقة واندلاع الفتنة:

" بس ان حرقتو الوطن بالنار والدخان

                                                بدو يجيكُن وقت تبكو على رمادو"

وهو في حلبة الصراع ليس محايداً بل هو منحاز لمصالح الشعب، وهو ينادي المتاجرين بمصالح الشعب:

"لا مرتاحين ولا الشعب مرتاح

                                                يا ريّحو هالشعب.... يا ارتاحو"

وموسى زغيب يلاحظ برهافة احساسه الوطني والانساني خطورة الهجرة التي "عمتفضّي من بلدنا بيوت" ومظاهر التناقضات الاجتماعية بين قصور اثرياء الحرب، والاطفال الذين يشحذون لامهاتهم اللقمة والدواء من الطرقات:

"وبدك تشوف رخام وتريات

                                                وقصور حمرا دراجها ياقوت

وبدك تشوف "ولاد" عالطرقات

                                                عمبيشحدو حق الدوا للأم

والأم يا بتعيش .... يا بتموت"

ونرى شاعرنا منحازاً الى العتّال والى ابنه الذي ينقصه ثمن الكتاب:

"عتال ضهرك منحني ووّجك حزين

                                                واجريك من زفت الدروب مشققين

بالبيت ابنك ناقصو حق الكتاب

                                                ومالك ضَهر.... صاير بضهرك تستعين"

وشاعرنا يعرف من حمّلنا الديون ومن نهب الخزينة:

"ومن ميل تاني كان خَلف السمسرات

                                                بلبنان عنّا كم وزير وكم مُدير

رَدّوا برادي سود "عالمرسيدسات"

                                                ونهبوا الخزينة... ونيمونا عالحصير"

ومن موقع وطنيته اللبنانية التي لا تساوم في قضايا استقلال وسيادة الدولة اللبنانية يتحسّسّ الشاعر التحديات التي يواجهها مشرقنا العربي من القدس الى بغداد:

"وضمير الكون غافي ما بيقشع

                                                عساكر عمتها جِم بالقذايف

وطفالى عمتدافع بالحجارة "

"بغداد غطا جوها الدخان

والقدس صارو ولادها برّا"

يعتقد عالم النفس يونج ان الفنانين (والشعراء) يتمتعون في رأيه بالقدرة على استشعار المستقبل، لأنهم على اتصال بالعوامل اللاشعورية التي لم تصبح موضع تقدير الشخص العادي وان تكن مبشرة بحدوث تغييرات في المواقف الجماعية. وهو يشير الى ان الفنانين - والشعراء - من هذا الصنف هم طليعة ازمانهم. ويضيف العالم يونج ان العبقري لا يرضى ابداً عما انجزه. وانه يلهث دائماً وراء ما هو افضل، او يحاول دوماً سبر اغوار جديدة، او يبحث عن شكل جديد يصلح لنقل رؤاه بطريقة اقوى تأثيراً.

        الشاعر الشعبي موسى زغيب هو من الطليعيين الذين طوروا في مدرسة الزجل اللبناني، في الشكل والمضمون، وهو عبقري يطمح دائماً وراء الأفضل من اجل ترسيخ عمارة الشعر العامي.

والحركة الثقافية - انطلياس يشرفها عقد ندوة حول شاعرنا الاستثنائي وإصدار كتيب بمناسبة صدور كتابه الجديد"وصايا"، آملة في المستقبل ان تفي شعراء كبار آخرين بعضاً من حقهم على الشعب والوطن والثقافة.

                                 

كلمة الرئيس الدكتور غالب غانم

موسـى زغيـب فـي " وصـايـا "

كـرومٌ كثيـرةٌ وقمـحٌ منثـور

        أكاد لا أصدّق أنّ مشاركتي في تلك النّدوة المجلجلة التي عُقدتْ في كلّية الآداب من الجامعة اللبنانية حول زجل لبنان وفارسه موسى ، تعود إلى نيسانٍ آخر مَرَّ عليه عقدان بالتمام .

        في ذلك الربيع من العام 1987 كان شاعرنا أبو ربيع في زَهوةِ الحياة ، وفَوَران الرّجولـة ، واخضلالِ القول ، واندفاقِ المشاعر ... كان خَيّالاً وشلاّلاً ، وقلباً ما شاهَدَ حُسناً إلاّ نبض ، وصائدَ غِزلانٍ في دنيوات الشعر ، وعنترةً وقيساً وجميلاً ...

        وما إن انطوت شطرةُ عمر إثر شطرةِ عُمر ، وكرّت الأيام في سُبْحَةِ الدّنيا ، وصرنا على هذا المفترق ، وطالعنا " بالوصايا " عنواناً لديوانه الأخير ... حتى خلناهُ عن وهم أخا زهدٍ وحكمة ، منصرفاً عن شجون الحبّ ، ذاويَ القلب كسيرَهُ ... ولكنّ فرسان الشعر وفرسان الحبّ لا يستسلمون ، فها هو يفاجئنا بخفقانٍ وهَيَمانٍ دائمين لا يردّهما كرور أيّام ولا تَباعُد أعمار :

        18 عُمرا وحبّها شوب وصقيعْ

                                ومَرقت ... وحام النّحل واجترّ القطيعْ ...

        قلتلّها روحي بها لمرج الوسيعْ         

                                نقطفْ شَهدْ ونضلّ نسـكر تا نضيـعْ

        قالت إذا تأخرّت بدّي نام وينْ ؟

                                قلتلّهـا بعيـون عمّـك بـو ربيع ْ ! ..

X         X          X

        لا تصدُر الوصايا بمعناها الأدبي الشائع ، إلاّ عَمَّن كانوا " مُجرَّبي حياة ومختبِري دنيا " ، ولا يقولها على العموم إلاّ الأعلى مرتبة ومعرفة إلى مَنْ هو أدنى ... فهي من الله جلّ جلالُه الى الناس ، أو من الأنبياء الى مَنْ بُعثوا إٍليهم ، ومن الحكماء إلى أقوامهم ، ومن الملوك الى ولاة عهدهم ، ومن الآباء إلى أبنائهــم ... ( راجع بهذا الخصوص : جمهرة وصايا العرب ، محمد نايف الدليمي ، دار النضال ، 1991 ، الجزء الأول ، ص 16 ) .

        وتُصاغُ الوصايا على الأغلب بقالب النَّثر الفنّي ، الأخّاذ في أحايينَ كثيرة . ومثالُهُ ما جـاء ، زمن الجاهليّة ، على لسان لقمان الحكيم :

        " يا بُني ، لا تكُنْ النّملة أكيسَ منك ، تجمع في صيفها لشتائها .

        يا بُنيّ ، لا يكن الدّيك أكيسَ منك ، يُنادي بالأسحار وأنت نائم .

        يا بُنيَّ ، لا تقرُب السلطانَ إذا غضِب ، والنّهرَ إذا مَدّ ...

         يا بُنيَّ ، زاحم العلماءَ بركبتيك ، وانصتْ لهم بأذنيك ، فإن القلبَ يحيا بنورِ العلماء كما تحيا الأرض الميتَةُ بمطرِ السَّماء " .

        أمّا إِذا صيغتْ الوصايا نظماً ، فثمةَ رياحٌ تهدّدها هي رياحُ الخمسين : لا طراوةَ فيها ولا نداوة ، لا رعشاتُ نسيم عليل ولا طِيبُ أحبَّة ... رياحُ الخمسين التي قد تحملُها الوصايا إلى الشعر هي إسرافٌ في تكثيف المعنى والمقصَد ، وغلوٌّ في الرصانة ، وإِحاطةُ الحكمة بقشرةٍ صلبةٍ من الأَلفاظ ، واستعلاءٌ في التوجُّه ، وإفراطٌ في استعمال عصارة التجارب ، وهو أمر من شأنه إفساد عجينها لا تَخميرُهُ .

        لا مردّ لهذا الخطر الهابّ من جهاتِ الجفاف ، برأينا ، إِلاّ باثنتين :

        الأولى هي أن يغطّ صاحبُ الوصايا ريشتَهُ بماءة الشعر ، ويُخرجَ اللآلىء من خزائن الكلام ، ويَختلج ، ويسرّحَ النظر في الآفاق ، ويشقّ دروباً جديدة ...

        والثانية هي أن يزنَ نفسَهُ بالموازين الصحيحة ، ويُلازم حدود البساطة العميقة لأنّها من أركان الحكمة ، ويجانب العتوَّ والتفلسفَ والتعالي والغرور لأنّها جميعاً غربَةٌ في النّاس ، وأن يقول ، كما قال موسى زغيب معرّفاً بنهجه في إطلاق الوصايا :

        وشاعر أنا ما شربت من بير الغرورْ

                                        تا قول شلاّل الوعظ من منبعي ...

        ما جيت اكتب عالورق عدّة سـطورْ

                                        وإتفلسف وسمّي وصايـا وادّعي

        جايي تـا إحكـي للدني عـدة أمورْ

                                        مرقت عليي برحلتي ... وصارت معي

X          X           X

        0 في الديوان خمسةُ أبواب ، حمل الأوّل منها اسم " وصايا " ، وقد وجّه صاحبنا بعضها إلى أقرانه الشعراء ، وإلى الآباء والأبناء ، والفتيان والفتيات ، والمسؤولين والتجّار ، غير ناس أن يتوجه أحياناً الى كائنات الغاب والبحار ، والى ظواهر الطبيعة .

        من هذا الغمَر ، اخترتُ وصيّةً واحدة وجّهها شاعرنا الى القاضي . قال :

        شعوب الدني حطّو ثقتهُن فيكْ

                                إعدُلْ ... وعاقـدّ الثقـة خلّيـكْ

        كلّ قاضي في إلـو ماضـي

                                خلّـي المحاكـم تكبـر بماضيكْ

        ولا تسخّر القانون عالفاضي

                                مجبور تحمـي العدل تا يحميـكْ

        وقاضي السّما يا سيّدي القاضي

                                ودّا الحقيقة لهَون ... ولهونيــكْ

        هوني إنت قاضي عم تقاضـي

                                بس انتبه عا كـلّ غلطـة حِكـم

                   هونيك في قاضي رح يقاضيكْ .

        أَجَل يا سيّدي الشاعر : قاضٍ في الجنّة وقاضيان في النار ، ومن استقضي فقد ذُبح بغير سكّين ، على ما جاء في الحديث الشريف . أجل ! أنا أشاطرك نظرتك إلى القضاء لأنّها نظرة عارفٍ به ، وخائفٍ عليه .

        والقضاء ليس أن يُدرجَ اسمكُ في عداد الأسماء ، وأن تحمل بطاقةً وتحتمي بحصانة ، وأن تمدَّ بساطك على ظهر الأيّام بانتظار أن يحملك بعضُها الى بعض رخيَّ البال بل خليَّهُ ... القضاء هو أن تحفر اسمك بالمشقّات والعطاءات على لوح العدالة الكبير ، وأن تكون على قلقٍ وعلى حالٍ لا يقرّ لها قرار حتى تحطّ الرحال في ما هو نهوضٌ ورقيٌ وقرار حرّ شجاع وضربُ إجحافٍ وإشاعة إنصاف ... ( راجع " من أيام القضاء " ، لصاحب هذه الكلمة ، المنشورات الحقوقية صادر ، 2003 ، ص 56 ) . وأقولُ أكثر :

        ما القاضي إذا هابَ سلطاناً وحابى قويّاً ودارى متجبّراً على حساب صاحب حقّ مهدور ، وطالب إنصاف مقهور ! ...

        وطالما أنّك جعلتَ العدلَ والقضاء غير منفصمَي العُرى - وهذا صحيح - فخُذّ منّي ، حولهما ، صرخةً مدويّة أُطلقها كلّما خشيتُ أن يتغلّب حق القوة على قوّة الحقّ :

        إذا اعترى القاضي شعورٌ بالضعف تجاه القوي ماتَ في نفسه نصف العدالة . ويموتُ نصفها الآخر إذا غطّى ضعفه هذا بالاستقواء على الضّعيف ...

        0 وحمل الباب الثاني اسم " وجدانيات " ، ومن طوالعِ الجمال فيها هذه الأبيات .

        يا ربّ عينـك عالدنـي خلّـي

                                ووصّي الكـرم ما يجـوّع السـلّهْ .

        أو :

        منهيـك جايـي بيـوم عيـد الأمّ

                                ردّد كـلام الشـوق عاتمّـي

        وافتَـحْ خزانة بيـت أَهلـي وشمّْ

                                ريحـة صلا من مسبحةْ إمّـي .

        0 وحمل الباب الثالث اسم " شروقيّات " : إنّني أدعوكم جميعاً إلى مراجعة هذا الباب بكلّيته ، وأدعو أصحاب الحناجر الذهبيّة الى قراءته ترنيماً كلّما تسنّى لهم ذلك : فاللّحن جاهز ، والشعر ينابيع ، والحزن والفرح متجاوران ،  وعَبَق الحصّادين والزرّاعين وعشّاق الأرض منتشرٌ بين أوراقه ، وفيه كرومٌ كثيرة وقمحٌ منثور ، وصباياه كزهر الجبال ، وكإطلالة القمر في بلاد الشّرقِ وصنّين .

        ما أحلاها ، ما أحلاها هذه الأبيات :

        يا إمّ شعر الدهب ياذنب مش مغفورْ

                                يا رغيف خبزي الطري وياخمرة جراري

        الورده بقصر الملك قدّك ما فيها عطورْ

                                إنتـي تيابـك لكـي وتيابهـا عيـاري .

أو :

        كنتي عروس الغزل ... كنتِ دهب معجون

                                        وعصفور أبيض عا شجرة غيرتي رابي

        وكلّ مـا نزلت عا صيـدا يزهّرْ الليمون

                                        وكـلّ ما طلعتِ عا زحله تغـار عنّابِه .

        ويتخطّى شاعرنا مرة أخرى مقتضى الوصايا ، ويعود الى الخفقان والهيمان ، ويقول :

        قالت في شاعر يا امّي قصايدو حلوينْ

                                        ومع كون شايبْ أنا الشيبات عجبوني

        شاهد القونه عاصدري وانحنا المسكينْ

                                        ما باس صدري يا إمي بوّس القونـه .

        0 وسمّى الشاعر الباب الرابع " آراء " ، والباب الخامس " غزل " ، مضمّناً إيّاهما ما فرضه المقام مِن مودّات ، وتأمّلات ، ووطنيّات ، وأشواق ، وانتصارات عشّاق وانكساراتهم .

X          X          X

        لقد تجاوز موسى زغيب ، كما سبق البيان ، منزَلَقَ التوجيه وعلّة الغرور الذي هو دربٌ إلى السقوط على ما جاء في العهد القديم ، فخطا خطوةً أولى باتجاه تقريب " وصاياه " من مَواطن الشعر ، وتصدّى للخطر الأوّل . فهل تمكّن من التصدّي للخطر الثاني ، وجانَبَ النظم والجفاف وكلّ ما قد تحمله الرياحُ الخمسون الى ديار القصيدة ؟

        لا بُدّ من الإشارة ، في هذا السياق ، الى أنّ الوصايا بحصر المعنى اجتمعت في باب واحد من أبواب الكتاب ، بينما انساحت الأبواب الأخرى في رحاب الحرّية الشعرية .

        ولكنّ الأهمّ هو أنّ لدى شاعرنا من مخزون الموهبة الربانيّة ، ومن دفقاتِ الوجدان ، واختمار التجربة ، ومضَارب الخيال ، ولطائف الأسلوب ، ودلالات الكلمة الشعريّة الزجليّة المنسوجة في أنوال الرّيف والشاربة ماءً مباركاً من أجران الطبيعة ... إنّ لديه من كلّ ذلك ما جعل ديوانه حديقةً من حدائق شعرنا الجميل .

X          X          X

        ويكفي الزجل اعتزازاً - وهو " المهرُ الجموح ، والنّبعُ الفوّار ، والصنّاجةُ ذاتُ الصّدى الحرّ ، وشلاّلُ القول ، والغناءُ الراقصُ في عرسٍ غجري ، وابن الصخر والغاب ومسارح الحلم الفالت وأرياف الروح " - يكفيه اعتزازاً أنّه صُنع في لبنان . ألم يقل موسى زغيب في ذلك :

        وهيك الزّجـل منعتّقـو تا يطيـب

                                        متـل البيعـتّق خمـر بالجـرّهْ

        وتا تشـوف من برّا شـو فينا نجيب

                                        لو صـار عنّا نقـص شي مرّهْ

        فينــا نجيـبْ اللّحـن للتطريـبْ

                                        و"عود" الغنـا وغيتـار المسرّهْ

        وعدّة فنـونْ معلّبــه تعليـــبْ

                                        من رقص من أجســاد تتعرّى

        بسّ الزّجـل متـل الشـرف للبنت

                                        لو راح ... ما بينجـاب من برّا .

X          X          X

        ويكفي الزجل اعتزازاً أنّ أبا ربيع هو من صنّاع مجده ، ومفجّري فوّهات ينابيعه ... ومن نداماه الداقيّن معه كأساً بكأس على صحّة الشعر ، وقيامةِ لبنان .

 

كلمة الأستاذ جوزف أبي ضاهر

مشوارو نهر وعينو ع التلال

كانت  سما هـ الشرق بعدا صافيه. مرقت كم غيمه رماديه؟ ما بيهم. الشتي حطّن بـ كيس السفر، وأخدن معو. لمحو النّاس نجمه، نورا مغيّر، لفتن إنّو ما تركتن ولا ليله يسهرو وحدن. كانت تنزل تسهر معن ع سطيحات البيوت، بـ مربعات القرميد. ومرّات تنام بـ الكروم، أو بـ خيمة ناطور، وقبل ما يطلع الضو تكون لبست تيابا وسرّبت، ما بدّا حدا يعرف بـ قلب مين كانت نايمه.

بـ ليله من هاك الزمن، سِهرت بـ بيت قريب من خيمتا القبتها زرقه وعاليه، وما قدرت تنقي بـ قلب مين بدّا تنام. الجدّ شاعر، البي شاعر، والكل بيقولو: آه!

شربت معن كل الكاسات اللي انسكبت ع اسم الشعر، وبدل ما تسرّب زاغو عينيا من الفرح. وصار شكلا قصيده.

لمّن وعيت الشمس، شافو النجمه صارت دخيره ع شكل قلب معلّقه فوق عتبة بيت.

الكبار بـ العمر والمعرفه قالو: هـ النجمه مندورا لـ صبي بدّو يخلق بـ هالبيت، وخلق. كان ع الروزنامه مكتوب 13 ايلول 1937، ارتفع الصليب. علّقو النجمه الصارت قصيده ودخيره ع شكل قلب حدّ قلبو. القلبين كبرو سوا، لعبو سوا، حبّو سوا، وما حدا كان مستغرب لمّن شافو الشبّ الزغير مشي صوب المرسح، نقر الدفّ بـ روس صابيعو، رقصت كل القلوب، وبلّش الشعر يوعد القراب والبعاد بـ ولادة شاعر، رح يعرف معو المنبر الزجلي مرحلة عزّ، بعد ما ترك شحرور الوادي كرستو ع المنبر، وراح، بـ السنه ذاتها الخلق فيا موسى زغيب.

***

عشر سنين وبلّش المشوار. ركض الشبّ الزغير ع الحياة، شاف الطرقات واسعه. طلع ع التلال تيشوفها من العالي، ونزل صوب النهر تيقلّو أنا متلك، مشواري متل مشوارك آخرو بحر.

لمحو جدّو، صرخ فيه:
ـ رجاع يا صبي.
رجع.

ضحك الجدّ، وبدل ما يسألو لوين، اختصر الحكي بـ قراديّه، بيقول بـ قفلتها:

                في شي حلوه ع هـ النهر

                تنّك هاجم هـ الهجمه

نفض الشبّ الزغير العمر عن الشاعر جوّاتو، وردّ ع جدّو:

                في حلوه كتير مهمّه

                وبدّي منّك ع الدمّه

                بعدو عمري عشر سنين

                أوعا، ما تخبّر امّي

... وصار الشاعر يكبر مع دَفق النّهر جواتو، وعينو بقيت ع التلال. وإذا مع الجدّ تمنى السرّ يبقى بـ الفي، مع بيّو الكان يسهر معو، ويغني قبالو تجرّأ، ويمكن بـ مَونة الابن، تحدّاه بعدما ختم البي قراديتو:

                بمشّط دقني ع الفرسان

                وبعبيهن بـ جيابي

ردّ الابن:

                موسى فزّ العشر سنين

                بدال ما تمشطها حلقها

البي ضحكو عيونو، حسّ قلبو قفز من مطرحو، وما خبّا فرحتو، حلق دقنو، وبطّل يغني.

أخد موسى الدّف من البيت وطلع ع المرسح هوّي وعم يغني:

                شايف غزاله قبال عيني قاطعه

                ولحظاتها متل السيوف القاطعه

                وقدّيش بدّي عيش ما زال العيون

                آخدي بتجريح قلبي مقاطعه

هيي صدقتو، وهوّي نسي تاني يوم شو قلاّ.

ـ معقول؟

معقول، هيدا قدر الشعرا يرسمو بـ الكذبه البيضا بيوت الأحلام، ويسكّنو البيحبّون بـ هالبيوت.

سنة 1953 كان صار عمرو 16، والدّف بـ ايدو عم يرقص، أسّس جوقة «باز الجبل»، وبقيو عينيه معلّقين ع التلال.

***

بـ أكتر من جوقه غنّى، مع أكتر من شاعر خلق حوار. ما ترك نوع من الزجل يعتب ويقول: «معو ما كنت أوّل»... وبعد كل حوار وحفله ومهرجان، كانت الساحات توسع، العمر يكبر، المعرفه تزيد، والاسم ياخد المطرح اللي بيستحقو من الشهره... والعينين بقيو ع التلال.

سنة 1962 نزل خليل روكز عن المرسح. ترأس موسى زغيب جوقتو عشر سنين، قبل ما يأسّس جوقة القلعه، وكان صار مطرح ما كانو عينيه يطلّعو... وبقي.

النهر انسحب، والبحر طلع لحدّ التلال.

***

بـ نص السبعينات من القرن الماضي، قبل ما يفلّ بولس سلامه بـ أربع سنين. وبـ زيارتي الأسبوعيّه إلو، شفت حدّ منّو صفحه مطويّه من جريده زجليّه. سألتو: ليش ما خلّيت كتابك الزجلي الوحيد «زاويه من لبنان» اللي انطبع سنة 1946 بـ ميشيغان يوصل ع لبنان، وتركتو مهجّر بـ الغربه... وأكتر المرّات بـ تتجاهل إنّك بتحب الزجل... وانت عم تفتش عليه بـ قصقوصة ورق بـ جريده عتيقه... ودلّيت ع الجريده.

ابتسم وقال ع صوت واطي، كأنّو كان خايف حدا يسمعو: «لو عرفو النّاس إني زجّال ابن زجّال وبرتجل، مش رح يرجعو يصدّقو إني بنظم الملاحم، وشهرتي بـ اللغه الفصحى تعدّت حدود العالم العربي... بس هيدا ما بيعني إني ما بحب الزجل، وبفتش تفتيش ع البيت الحلو والقصيده الحلوه... والتفت ع الجريده حدّو.

ـ جابها مبارح صديقنا المشترك فوزي سابا، وفيها محاوره بين موسى زغيب وانيس الفغالي. قريتها ودهشتني. هـ الشاعرين تخطّو بـ حوارن الموضوع. وفاتو ع مطارح فلسفيّه ووجدانيّه. هـ الأسلوب جديد ع الزجل. بـ الماضي ع ايام الشحرور وعلي الحاج ورفاقن كان الزجل مرجله، رفع سيوف، وصف وغزل، والصور ما كانت تروح لبعيد، مع زغيب وفغالي شفت تطوّر بيرفع من مستوى الزجل وبيحطّو بـ مصاف الشعر الراقي بـ أي لغه. ولفتني بـ زغيب النغم العم ينده بـ أبياتو، ما في ولا حرف بيوقف حاجز، ولا لهجه.

صياغه حلوه، السبك ملزوز، ما بينشال حرف ولا بينضاف حرف، وشموليّه بتدل ع خبره واسعه واطلاع، وبـ الطبع عن موهبه بتكرّس الشعرا الشعرا من الزجالين اللبنانيين وبتحطن بـ مصاف الشعرا الكبار بـ كل لغات العالم.

تنهد، وراح نظرو لـ بعيد، وكمّل مع بريق لمحتو بـ عينيه: قال:

حوار موسى زغيب وأنيس الفغالي ردّني لـ أربعين سنه مرقت، يوم اللي رافقت صديقنا عمر أبو ريشه لزيارة أمير الزجل رشيد نخله، يوما ما لقينا بـ البيت غير أمين. قعدنا وطاب الحديث عن الزجل، سأل عمر أمين: أي بيت من شعر رشيد بك بترددو دايمًا؟

قال أمين: بردّد مطلع قصيدة نعش الحزين:

                لا عدتْ تقشعني ولا عدت اقشعك

ولا عاد ينفعني الحكي ولا ينفعك

بكرا متى قبالك مرق نعشي الحزين

منّو لـ حالو بينحني ت يودّعك

انتفض عمر ووقف وقال: «ما كنت مصدّق إنّو بـ الزجل في متل هـ المعاني».

التفت بولس سلامه المُقعد، ومرّق ايدو ع ركبتو وقلّي، لو كنت قادر أوقف، كنت بعد اللي قريتو وقفت لـ موسى زغيب وأنيس الفغالي.

تركت بولس سلامه ورجعت ع مكتبي بـ الجريده، كتبت اللي سمعتو، وما صار مناسبه انشرو، أو اذكرو. اليوم، لأوّل مرّه بشيل الكتبتو من ذاكرتي، ومن ذاكرة الورق، وبفلشو قدامكن.

***

غلّة موسى زغيب بـ 53 سنه، ممكن المخيّله تقرّب منّا، بس نحسبا بـ رقم؟ صعبي.

لا الأرقام بتساع، ولا البحر إذا التفت عليه بتعود تفكّر، شو حامل جوّاتو. بتقول بحر وبتسكت. بتغمّض عينيك، بركه الحلم بيرسم مركب سفر.

***

غنّى موسى زغيب كل أنواع الزجل، وحطّ روح جديده بـ الشروقي، قبلو كان محصور بـ ضيع، وبلّشو النّاس ينسوه. ردّو لـ الضو، عطيو نكهه خاصه فيه، صار رفيقو، ومرّات ياخدو منّو البيغنو قميص معرّق تيلبّسو صوتن، ويحبّوه اللي بيعرفو يسمعو.

متل الشروقي ردّ الاعتبار لـ غناني تراثيه، طلعت معو ع المرسح وزقفولا الناس.

ع نص المرسح انحط كرسي لـ موسى زغيب، مش بس بـ لبنان، بـ أفريقيا، أميركا، أوروبا، استراليا... والناس تسابق بعضا ع حفلات ومهرجانات زاد عددها عن الـ 6 آلاف. الفرح توّجو، والجوائز اللي انعطتلو تباهت بحالا.

الشاعر بيعطي قيمه للجايزه، أكتر ما الجايزه بتعطي قيمه للشاعر.

بس الفرح، ما بيضل دايمًا موجود. بيخلص متل ما بيخلص الوقت والعمر، متل ما بيخلصو العياد، ومرّات بسرعه أكبر، وع غفله بيطلّ الحزن. الوجع بيفلش مشلح الغياب، الشاعر بيعرف، بيوقف حدّ اللي غدر فين الزمن، ولأكتر من 16 ألف مرّه، وقف موسى زغيب ومسح الجرح بـ الشعر. العاطفه منديل بتلم الدمع، وبتحفظو... ذاكرة الدمع ما بتنسى.

***

برّات المرسح ما خلّى موسى زغيب الوقت قمح مدري لـ العصافير، قعد ع مكتبو وكتب. الارتجال ما بيلغي الكتابه، واللي بيعزم الشعر لعندو، أهم من اللي بيروح لعند الشعر، يمكن ما يلاقي كلمه تقيعدو حدّا.

5 كتب حملو اسم موسى زغيب. وآخرهن «الوصايا».

قصيدتو المنشوره بـ كتاب، ما بيقلّ حضورا عن القصيده المنشوف فيا نبرة صوتو.

بـ قصيدتو بتشوف بـ قدر ما بتسمع، ومرّات بتحسّ ايدك عم تشتهي تشارك سمعك، ونظرك. بتنتبه، كأنّو هـ الشاعر عم يرسم بدل ما يكتب. وإذا كتب بتلمح وهج المرسح طالل ونضيف من الغبار. المرسح بتنفرض عليه غبار المناسبات وغبار الزقيف، والحوربي.

بـ قصايدو في خيالات بتمرق خطف، ما بتحسّ إنّو في كلمه بتمانع وبتقلّو لأ، ولا في كلمه بيجيبها لعندو غصب عنّا. كل الكلام بيتمنى ينقّيه تـ يكون «عرايس تتلوى بـ خصرا»، متل ما كان يقول الخوري يوسف عون.

الشعرا الشعبيين بيعطو الحياة نوع من التوازن، والشاعر اللي بيملك صولجان الارتجال ما بيقعد ينطر الالهام.

الالهام ملاكو الحارس، قبل ما يفكر يندهو بيكون سبقو، وفلش قدّامو اللون الأبيض. والبيقولو، ع سبيل النقد أو التحليل، بـ الزجل في أسلوب قديم وأسلوب جديد، بقلّن: التحديد ساقط، أي أسلوب بتعرف تقدّم من خلالو الفكره بينجح، وبتوصل الفكره، أو بتضلّ الكلمه مشرحطه متل شحاد داير عم يدق ع البواب، وما في باب بيفتحلا... وما في حدا.

***

موسى زغيب، يا هـ الشاعر المتوّج ع القوافي، يا الجايي من أرض البيادر والخير، الحروف ناطرينك. زيد القصايد، عمّر منن بيوت، وجع الايام تركنا ع مفارق الصُدف، نحنا بـ حاجه نفوت ع البيوت الكتبتها، بدل ما نضلّ واقفين برّا. بـ حاجه نصير نحنا القصايد. بيوت القصايد أقوى من بيوت الحجر، لا حدا بيقدر يهدّن، أو يقوّص علين، أو يخطف العايشين فين مع العقل والفكر، والمعرفه. وهويتن وج الشمس اللي بتشرق كل يوم.

ويا كل الصحاب الجايين تحتفلو مع الحركه الثقافيه بـ هـ الجَمعه المكتوبه ع اسم شاعر بتحبّوه، اعذروني. اللي طلبو منّي احكي، أخدو الوقت منّي، ما تركولي وقت احكي... بعد ما قلت شي. شو صعبي ينطلب منّك تحكي عن شاعر، وأوّل ما بدّك تبلّش تحكي، يخلص الوقت.

اعذروني.

 

قصيدة الشاعر موسى زغيب

غيم وشتي والريح تصفُر عالبواب وطفل عُمرو أربع سنين وسنه يا عيون إمَّك يا مَلاك الولدنه ان كان الطفوله عند الله مأمّنه وما زال خلقانه الطيور ملوَّنه جيب الغراب ونيّمو بالمطحنه والحورة الكانت متل بنت الغني لما مَرَق دلاّل ريح التَشرنه راحِت عجوز على بوابو تنحني سحبت الخرايط من بطون الأزمنه كنت قنديل الدني يا موطني وكيف بدّنا نخلّيك قنديل الدني وبِعنا وَسط بيروت لشيوخ الخليج		والشمس عمتتعمّد بجرن الغياب ضايع بقلِب الغاب والدنيي ضباب ما تخاف مهما تجمّعو عليك الدياب بيوصل عليك الديب تمّو بلا نياب وريش الحجل ما بيعرف يطيّر عقاب ومَرمغو بطحينها بيبقى غراب تخضِّر تياب وتلبس لفوق الركاب البيبيع للوادي من العتقي تياب تا تشتري من الشَيب ايام الشباب وجايه تا قول لهالوَطن بعد الحساب وجدّ الحضاره الأوله وبي الكتاب ما زال فوَّتنا العقول عْلى الجياب وبعنا ضمير صواتنا للانتخاب
مرّه مرقْت بالجرد عالتلِّه يا شاعر المهووس بالتجديد ما تجوّع الدوري على القرميد وما تعطّش على البير جيل جديد بحيث العريشه بشهر المْواعيد اسقيها فرح بتشقّر عناقيد منهيك جيت لأرض انطلياس وانشر بياض قصايدي للناس وقلّي بانطلياس مار الياس وصلّي لأنّو الشاعر الحسّاس		طل القمر عا حراجل وقلّي ما زال بعدك قادر تعلّي وبيادرك بتضج بالغلّه وقادر تدلّي الحبل وتملّي لما بيقرب موسم الغلّه اطعمها زعل بتجوّع السلّه نفّذ كلامو متل ما قلّي ونقطة حبر عالتوب ما خلّي إكتُب تا قيمة شعرك تغلّي لمّا بيصفُن تا يألِّف شعر
بتكـون ذاكرتـو عمتصلّـي
هونيك عا آخر حدود الانتظار جوع النمل بالحقل عميرعى الحصيد وصارو عليها شيل إيد وحطّ إيد رجعِت بيفضل الجهد والعزم العنيد وقالت.. عا وَعد العزّ والصيت الحميد العنقود بس يموت عميخلق نبيد وبمحارِق الفخّار عا هِب الوقيد وحتى ما يبقى بهالوطن جرح الشهيد ما عاد رح نقبل بلبنان الجديد بدنا نضل عْلى كراسي الاعتبار تا يخلِّف التاريخ من رَحم الوطن		ضَيعه فقيره ومن غفا الرعيان.. صار وسوس الفقر بالبيت عميرعى الحجار تا دمّروها.. بس من بعد الدمار خلقت عروس متوّجه بإكليل غار مش بس عميخلَق سَبل موت البدار والليل بس يموت عميخلق نهار لو ما يموت الطين ما خلقو الجرار ينزف وَجع أحمر عا طاولِةْ الحوار فرض القرار يوصَل معلَّب عالمطار نولّي كبار النفس ونودّي الزغار حكّام تفرض رأيها وتاخد قرار

تلاقَيت بالنسيان عا دروب السفر قلّي قدرت نسّي البَشر ذِكر البَشر قلب احبسو حاجي عا موقدة النظر قلّي حبستو غيم فاجأني مطر كتّفت شعرو بقلب عود بْلا وَتر نفيتو بجزيره كلها طيور وشجر باركت هالشاعر الأقوى من القدر وطرت على أنطلياس عا جناح الحنين تا قلكُن كانت الدوله من سنين واشكر بحركة هالثقافه الطيبين

سألتو شو عندك عن الشاعر معطيات ووحدو بقي جمرة رماد الذكريات يكوي العشق ويحمّر خدود البنات دفنتو وَعد بالمرج زهّر بالنبات فرّخ حناجر مطربين ومطربات صارو يجو سباحه لعندو المعجبات الضل بقصيدو حي وتحدّى الممات بداعي المحبّة مش بداعي الواجبات تكرّم الشاعر من بعد ما يكون مات هالكرمونا وبعدنا بقيد الحياة

إلى الدكتور غالب غانم - رئيس مجلس شورى الدولة

دكتور غالب إبن عبدالله كنا بعِدنا شوَي عن الله شاعر بهيكل والدو صلاّ غْلَبنا رجال الموهبه كلاّ

المِن خمر جرِّة والدو شربنا عاد من الله يقربّنا منهيك حتى يا حبايبنا ودكتور غالب ضلّ غالبنا

إلى الدكتور عصام خليفة

دكتور عصام الكلمتو ميزان تعمَّق تا صار يعرف حدود لبنان بس المدى البطموح هالإنسان		تنصف الحق وتفرُض وجودو من رمل شط البحر لجرودو جبنا مقاييس الأدب والعلم
ومـا كاـن فينـا نعـرف حـدودو

إلى الشاعر جوزف أبي ضاهر

جوزف عندو جرّة الأفراح هوّي وعمينسّق كلام ملاح شاعر خلق يتعب وما يرتاح بتضل عصفوره ما إلها جناح		ممنوع تطلَع فاضيه من البير بتظن عمبيكمّش عصافير ومهما القصيده تعمل مشاوير ولما بيكتبها أبو ضاهر
بتلبـس ريـاش مدهّبـه وبتطيـر

إلى الأستاذ حنا أبو حبيب

حنا الادارة ندوتي تبنّا ومن كتر حبّو للقصايد كان اخوان عشنا من زمن وزمان وعا قد ما يتفرّقو الاخوان

من زهر تفكيرو النحل جَنّا حدّ الزغيبي وين ما عنّا والشوف خبَّر قصّتو عنّا منضلّنا اخوه أنا وحنا

 

• < السابق
• التالي >