ندوة حول كتاب د. عبدالله الملاّح

الهجرة من متصرِّفية جبل لبنان

(1861-1918) 

الثلاثاء 29 أيار 2007 الساعة السادسة والنصف مساءً

ندوة حول كتاب د. عبدالله الملاّح

 

 

مداخلة  د. جان شرف

مداخلة  د . نبيه كنعان عطاالله

مداخلة الأب كرم رزق

إدارة  الدكتور جان نخول

أيها الأصدقاء،

تأتي هذه الندوة حول كتاب الصديق الدكتور عبدالله الملاح ضمن سلسلة المحاضرات والندوات التي تعنى بشكل خاص بتعريف المثقفين بالنتاج المميز الصادر في لبنان حول مواضيع أساسية في بنية المجتمع والاقتصاد في لبنان.

وهذا النشاط الثقافي المميز، هو إحدى سمات الحركة الثقافية في انطلياس، التي غدت حركة ثقافية لكل لبنان ولكل مثقفيه. وإذا تعرضت حركات ثقافية في الشمال او الجنوب إلى انحسار أو تراجع، نرى الحركة الثقافية في انطلياس ترخِّم من نشاطاتها لنُغطي التراجع هنا وهناك ويبقى التيار الثقافي اللبناني في أفضل أحواله.

ان ندوتنا الليلة حول الهجرة من متصرفية جبل لبنان، وهي دراسة لافتة في أصوليتها البحثية وشمول أصولها ومراجعها وبنيتها الأكاديمية الراقية وغزارة وثائقها واتساع تطلعاتها في مرحلة محصورة من تاريخ جبل لبنان، على امتداد نحو اربعين سنة فعلية.

صاحب هذا الكتاب النفيس الصديق الدكتور عبدالله هو من بين المتخصصين في عهد المتصرفية والمهيأ اكثر من سواه لهذا الموضوع.

الدكتور عبدالله الملاح أستاذ في الجامعة اللبنانية ومشرف على الاطاريح في "كلية الآداب والعلوم الإنسانية".

-       حائز على دكتوراه حلقة ثالثة في تاريخ لبنان الحديث من جامعة القديس يوسف - بيروت 1982 بعنوان عهد مظفر باشا 1902 - 1907 اطروحة مطبوعة.

-       دكتوراه دولة في تاريخ لبنان الحديث من الجامعة اللبنانية 1991. بعنوان عهد يوسف باشا واوهانس باشا 1902 - 1915 أطروحة غير مطبوعة.

-       رئيس قسم التاريخ في كلية الآداب - الفرع الثاني - 3 مرات.

له العديد من الكتب المطبوعة منها:



1-   الانتخابات النيابية في تاريخ لبنان ، مخطوطة للحد خاطر.
2-   البلديات في متصرفية جبل لبنان 1861 - 1918. 3-   كتاب سجل كنيسة ماري يعقوب المقطع في دلبتا مخطوطة للخوري منصور الحتوني بالتعاون مع د. شارل رزق الله.

4-   المجلس الإداري الاول في متصرفية جبل لبنان : 1861. 5-   بلدية عبيه وعين درافيل في سبعين سنة 1894 - 1964. 6-   فخر الدين المعني الأول حقيقة ام اسطورة. 7-   محاضرات في علم المكتبات. 8-   دليل عام بلدية الضبيه عوكر ذوق الخراب حارة البلانة عدة طبعات وغيرها.

له العديد من المقالات في المجلات التالية: الدراسات الامنية، دراسات المؤرخ العربي، اعلام وتوثيق، حنون، المنارة المسرة، عدة مقالات في الموسوعة المارونية. 8 كتب مدرسية بالتعاون مع الدكتور سليم ديب والاستاذ بول عبود، شارك في عشرات المؤتمرات التاريخية.

يقول احد المغالين في حبهم للبنان:

لو كان للقمر طريق لكان اول الواصلين اليه لبنانيان الاول يحمل كتابا والثاني يحمل كشة. اما عن الاول فالكلام كثير ولكن الثاني وكشته وارتباطها بالهجرة والمهاجرة والتجارة فهي احد مواضيعنا الليلة وقد أعجبني في ذلك وصف الباحث الدكتور ملاح للكشة كما وردت في كتابه ص 39.

الكشة الصغيرة هي كناية عن صندوق خشبي طوله، ذراع، وعلوه ثلثا ذراع يحتوي على جوارير في اسفله وعلى واجهة زجاجية علوية يربط طرفا الصندوق بسير من الجلد ويعلق في الكتف عند الحمل. وكان الحمل ثقيلا جداً فانه عادة بين الستين والمئة كيلوغرام يقطع بها الكشيش عددا لا يحصى من الكيلومترات والمساحات متحملا تقلبات الطقس المفاجئة ورداءة الطرق من الساعة السابعة صباحاً حتى السادسة مساءً على اقل تعديل. هذا اذا عاد الى منزله.

مجموعة من المتخصصين الجامعيين في الموضوع، يشاركون اليوم في الكشف عن هذا السفر الذي يتناول جانبا مهما من الديموغرافيا اللبنانية المتحولة والتي طبعت لبنان بطابع مميز.

مداخلة  د. جان شرف

عهد المتصرفية مرحلة تاريخية متناقضة الابعاد: الامن والاستقرار استتبعا القلق على المستقبل، الرخاء الجبوبة المحليين انعكسا ضائقة اقتصادية في بعض ارجاء الريف،

النمو السكاني انعكس ازمات اجتماعية. ازدهار التجارة ادى الى بروز فئة ميسورة ارخت بظلالها على الريف. والريفي زاد حيرة وقلقا على وضعه. ومظاهر الغنى المستجد دفعت الى التطلع خارج الجبل حيث مرقد العنزة بات سجنا كبيرا يتعدى حدود المنزل والقرية وحتى الجبل.

انتشار المدارس عمم بعض ثقافة الغرب لكنه في آن مزق نفسية الجبلي بين التقليد والحداثة.

وباختصار ان الابعاد المتناقضة هذه في عهد المتصرفية وضعت الجبلي اما كل احتمالاات التغيير بقدر ما اوحت لبعض المثقفين بطروحات التعديل والتجديد في كيان المتصرفية حدودا ومجتمعا وسياسة واقتصادا.

العديد من هذه التناقضات تجد اثباتاتها في مؤلف الدكتور الصديق عبد الله الملاح

الهجرة من متصرفية جبل لبنان 1861 - 1918.

والجديد في بحث الدكتور الملاح انه يتناول ظاهرة الهجرة استنادا الى مصادر لبنانية:

-                            ادبية اختلط فيها الشعور الوطني بالسياسة والتاريخ والاقتصاد فجاءت المعطيات ردة فعل على وضع المتصرفية في مطلع القرن العشرين وبعده.

-                            ومصادر احصائية متنوعة (ص 19) اخرج الدكتور الملاح معطياتها بلوحات بيانية وخطوط وجداول معبرة عن ظاهرة الهجرة: على سبيل المثال الفعل الثاني: البترون - بلاد جبيل - الجبة - المتن، دون نواحي بلاد الشوف ربما لعدم توفر الاصول.

-                            وكذلك لم يغفل الابحاث الحديثة او بعضها الذي اهتم بالموضوع ناهيك عن تحليل ظاهرة الهجرة من جبل لبنان ومراحلها وانواعها وسمة كل مرحلة ونوع.

تبرز الهجرة من المتصرفية في مؤلف الدكتور الملاح كظاهرة اجتماعية تراكمية بشكل دائري انطلق من الفرد الى افراد العائلة فالاقارب او اهالي القرية فالمنطقة.

الجبل اللبناني هو منطقة الدفع نحو الهجرة، وبالتالي فالاسباب محلية استعرضها الباحث في الصفحات الاولى استنادا الى كتابات العديد من اللبنانيين الذين عاصروا او اهتموا باوضاع المتصرفية وبمستقبل الجبل السياسي كتوطئة لقيام دولة لبنان الكبير.

العامل المشترك بين هذه الاسباب هو العامل الاقتصادي الى جوانب عوامل اخرى تنوعت بين الحرية والنظام السياسي والنمو السياسي وضيق رقعة المتصرفية الخ. ليخلص الباحث الى القول ص 19 : "ان الاسباب كانت موجبة احيانا ودافعة احيانا مساندة احياناً اخرى بيد ان المهاجرة في سبيل طلب الرزق هي الراجحة على ما عداها من حوافز ودوافع..." والهجرة تبقى بشكل عام يضيف الدكتور الملاح؛ فعل ارادة ابناء جبل لبنان ونتيجة اختيارهم الطوعي ساعة يواجه المرء ظروفا قاسية..."

هذه الخلاصة غنية بالافكار وجديرة بالتحليل الدقيق اذ انها تأخذ في الاعتبار العامل النفسي في ردات الفعل على التحديات التي واجهها ابن الجبل، خاصة الاقتصادية منها.

اتوقف فقط عند السبب الاقتصادي وهو تعبير شامل وغامض بشكل عام: كالقول بظروف الجبل القاسية مثلا او ضيق الاراضي الزراعية الخ...

ظروف العيش في الجبل كانت دائماً قاسية. الا ان طبيعة هذه الظروف تغيرت او اضيف اليها عوامل جديدة في عهد المتصرفية بفعل عاملين اساسيين:

الأول، ان الجبل بعد "تعليمات" شكيب افندي في العام 1845 وصدور نظام المتصرفية الاساسي في العام 1861، يدخل الجبل في مرحلة قيام الدولة الحديثة وما رافقها من قوانين وانظمة ومؤسسات استلزمت مصاريف مالية كان لا بد من تأمينها عبر المداخيل من الضرائب والرسوم التي يجب ان تسدد نقدا مما اوقع الجبلي بضائقة نظرا لقلة المال النقدي المتداول.

والعامل الثاني، تحول اقتصاد الجبل تدريجياً من الاكتفاء الذاتي الى اقتصاد السوق، وقد استنبع حركة استيراد وتصدير لمختلف انواع السلع الاستهلاكية غير المنتجة محليا أي زيادة الحاجة الى المال النقدي وكان المعول عليه في هذا المجال انتاج الحرير المعد للتصدير في اطار الانتاج الاحادي في الجبل.

فانتاج الحرير استغل 40% من الاراضي الزراعية ووظف العديد من اليد العاملة. وشكل نسبة 82% من الصادرات. الا ان هذه السلعة المعول عليها في اقتصاد المتصرفية سرعان ما اصيبت بنكسة اذ تراجع سعر إقة الحرير منذ العام 1873 من 45 قرشاً الى 19 قرشا في العام 1890.

هذا التراجع في سعر الحرير ضاعف الحاجة الى المال النقدي، ودفع  بالتالي الى تحويل الملكيات الصغيرة الى مال عن طريق الرهن او البيع او التخلي عن الارض وبالتالي اطلاق مرحلة النزوح من الجبل الى المدن.

وبعد العام 1890، تحول النزوح الى الهجرة بوتيرة تصاعدية حتى قبيل الحرب العالمية الاولى وكان بولس نجيم اول من ربط ظاهرة الهجرة بالنمو السكاني وملكية الارض الزراعية واعادة تكوين الملكيات الواسعة من قبل اثرياء التجارة وحتى من قبل بعض العائدين الى الجبل، ولكن دون استثمار فكانت "الارض الموات".

وظاهرة الهجرة بوتيرة تصاعدية توقف عندها الباحث برفق من الجداول واللوحات البيانية التي تستوقفنا ضمن فهم ظاهرة الهجرة عند بعض التساؤلات الاستفسارية:

الاول يتعلق بموضوع الاحصائيات:

ففي الصفحة 137 ورد تعداد القرى والبلدات اللبنانية كالآتي:

احصاء عام     1863         1865          1901          1906          1913

عدد القرى      1057          695            931            980            657

لقد اشار الباحث الى التباين الحاصل في تعداد القرى والبلدات بين سنة واخرى لكنه لم يوضح اسباب هذا التباين ومدى انعكاسه على شمولية الاحصاء سكانياً وهجرة.

والثاني ورد في ص 176 بعنوان:

النسب المئوية للطوائف في المتصرفية حسب الاحصاء الاول والثاني:

الطائفة

الاحصاء الاول

الاحصاء الثاني

السنة

3.39

3.56 +

الشيعة

4.21

5.74+

الروم الاورثوذكس

8.63

7.80-

الدروز

12.84

11.62-

الروم الكاثوليك

13.57

12.84-

الموارنة

57.51

57.69+

الملاحظ ان النسب المئوية لم تتغير الا بشكل طفيف جدا وبالتالي تطرح هذه النسب تساؤلات حول الوضع الديمغرافي في المتصرفية : الولادات والوفيات، وحول الهجرة: هل كانت باتجاه واحد؟ ام كانت هناك عودة لعدد من المهاجرين. واستطرادا، الا يجب اعادة النظر في دوافع الهجرة على اساس اختلاف المناطق جغرافيا ومجتمعياً وتأثير قسريات الطبيعة على الهجرة؟ وبروز العامل النفسي في ردات الفعل على التحديات الاقتصادية وخصوصاً المالية؟

والى أي حد يمكن الحديث عن هجرة مؤقتة وهجرة ثابتة؟ مما يوجب اعادة النظر في اعداد المهاجرين.

        وما يدفعنا الى طرح هذه التساؤلات معطيات الرسم البياني في ص 82 كنموذج لفئات اعمار المهاجرين الى الولايات المتحدة الاميركية بين العامين 1895 و 1913:

فئات الاعمار

العدد

% من المجموع

دون 14 سنة

12924

18.57

14 - 45 سنة

53115

76.32

فوق 45 سنة

3556

5.11

المجموع

69595

100

        اتوقف عند الفئة العمرية الثانية أي من 14 - 45 سنة كون هذه الفئة هي المنتجة ديمغرافيا والناشطة اقتصاديا وقد افتقدها الجبل. ومردود هذه الفئة كان مفيداً كما يقول الباحث ص 52: "اذ ساهمت الاموال الوافدة الى جبل لبنان في خلق استثمارات مفيدة وفي تقديم خدمات معيشية للأهل والانسباء".

وادت الى "ارتفاع نمط حياة العائدين واقدام البعض منهم على شراء الاملاك وتشييد الحارات وتتويجها بالقرميد الاحمر مما رفع سعر الارض والابنية على السواء" ص 54.

ويمكن ان نضيف ان مردود الهجرة ادخل تحولات جديدة في اقتصاد الجبل انعكست سلبا على الفئة المتوسطة وما دون، وجعلت من الارض سلعة تجارية ومصدر مال طالما افتقده الجبلي.

ولكن، هل ان مردود الهجرة اقتصر على  عهد مظفر باشا؟ كما جاء في البحث، ام انه امتد على طول عهد المتصرفية.

واذا اخذنا مباحث الكتاب، يتبين لنا ان مردود الهجرة الاهم كان في "جهاد المهاجرين في سبيل لبنان" وقد خصص له الدكتور الملاح الفصل الرابع ص 197 - 234، كولادة العلم اللبناني في اوساط المغتربين كتعبير عن وعي وطني اكتسبه المهاجرون في اوساطهم السياسية وهم  لما يزالوا في حنين الى الوطن يتطلعون الى مستقبله من خلال ما عاشوه وعاينوه، فتشكلت عندهم صورة لبنان المستقبل الذي يجسد طموحهم ويحتضن تطلعاتهم اذا ما عادوا اليه ويفتح امامهم طريق الرقي والتقدم على غرار ما هي عليه بلدان الاغتراب انه وطن المستقبل الذي لم يزل يتعثر بين اصوليتين: اصولية الاندماج في العام المعاصر واصولية الارتداد الى الماضي السحيق.

وختاماً، ان العمل الجيد هو الذي يضيء على مسائل عديدة لكنه في آن يحث على التفكير في مواضيع استطرادية ويطرح المزيد من المسائل التي يشكل حلها الاساس في تقدم البحث التاريخي. من هذا المنظور، ترانا مع الدكتور الصديق امام موسوعة الهجرة اللبنانية تاريخاً ومعطيات ومراجع وتوثيق حتى اسماء بعض المجلين في عالم الاغتراب.

فمؤلف الهجرة اللبنانية من متصرفية جبل لبنان اراه بات المرجع الذي لا يستغنى عنه في كل بحث عن الهجرة.

   

   مداخلة  د .  نبيه كنعان عطاالله

كتاب الدكتور عبدالله الملاح: الهجرة من متصرفية جبل لبنان 1861 - 1918 مهم جداً لعدة أسباب منها:

- لأول مرّة يكون العمل مركزاً على المتصرفية وليس على لبنان الكبير كما فعل العديد من الباحثين ونحن منهم.

- ثانياً كما يقول المؤلف نفسه في المقدّمة أنّ الهجرة من المتصرفية لم تحظَ بالدرس الوافي والدقيق حتى اليوم، في حين أنّ الاغتراب اللبناني بعامّةٍ،قد نال قسطاً من الأبحاث والدراسات والمصنفات". في الحقيقة كتبت عشرات الكتب ونشرت مئات المقالات في هذا الموضوع لكن شخصياً هذا أول عمل متكامل أطالعه عن هجرة سكان المتصرفية فقط.

- ثالثاًَ لأول مرّة تستعمل وثائق على قدر كبير من الأهمية لاسيما محفوظات البطريركية المارونية لما فيها من معلومات هامة جداً، أقلها الاحصائات الدقيقة لسكان القرى المارونية في المتصرفية. المرجو أن يكون نفس العمل قد تمّ في البطريركيات الأخرى والدكتور ملاّح لا يذكر إذا علم بوجود هكذا دراسات.

رابعاً الدكتور ملاّح يُعرَف عنه أنه حصر إهتمامه بمرحلة المتصرفية وجمع السواد الأعظم ممّا نشر أو كتب عن هذه المرحلة، ودقق مرّات في كل معلومة نقلها في كتبه ومقالاته عن المتصرفية، ولم يكتب معلومة لم يتأكد من صحتها مما يعني أنّ أعماله ولا سيما، كتابه الهجرة من متصرفية جبل لبنان، يستطيع كل باحث أو قارىء الأخذ بهذه العلومات بأنها دقيقة وأكيدة، عكس ما يحصل مع عدد كبير من الأبحاث حيث العديد من معلوماتها تفتقر للدقة العلمية.

مما تعلمته من الكتاب:

- إنّ السلطات المتصرفية حاولت منع الهجرة من المتصرفية وقد طلبت من القنصل الفرنسي العام إتخاذ التدابير الآيلة إلى إنزال رعاياها من السفن الفرنسية الراسية في ميناء بيروت.

وأكثر من ذلك فقد فرضت على طالب السفر إلى مصر (حيث كانت الهجرة مسموحة إلى ذلك البلد) أن يؤمن كفيلاً يضمن عدم انتقاله إلى أوروبا أو أميركا.

- ما أشبه الأمس باليوم إذ يقول الدكتور ملاّح: "تفشت الهجرة مع بزوغ القرن العشرين... وأصبحت في بداية عهد مظفر باشا باب رزق وغنى بعد انكفاء سبل الإرتزاق في البلاد وانحصار التوظيف في دوائر المتصرفية ومكاتب الحكومة".

أو ما كتبه نقلاً عن جريدة البرق سنة 1910 (صفحة 57): "شقيٌّ هذا الجبل كل ما فيه مضطرب، مضطرب بمتصرفه، مضطرب بحكومته، مضطرب بأحزابه وجمعياته. واللبنانيون بلا علم ولا إتحاد ولا عمل، غارقون في ضياع وجهل وفوضى. والزعماء مشغولون بالسياسة، ينفقون عليها "القناطر من الذهب".

ما كان يكتب سابقاً عن فترة المتصرفية كان يشير بالأمن وانتشار المدارس في الجبل.

- أنا اشتغلت وكتبت عن الهجرة إلى الولايات المتحدة ومعلوماتي كانت أنّ المهاجرين إلى تلك البلاد هم من الراشدين وإذا بالدكتور ملاّح (صفحة 82) يعلمنا نقلاً عن مكتب الهجرة الأميركي أنه بين 1895 و1914 سجل المكتب دخول 69595 مهاجراً ومهاجرة من السوريين واللبنانيين، وإنّ هذا الرقم يتضمن نسبة كبيرة من القاصرين قدرتها Alexa Naff بـ 16.5%.

- صفحة 168 يقول الدكتور ملاّح أنه بالنسبة للدين، السواد الأعظم من المهاجرين حتى سنة 1906 هم من المسيحيين ويشكلون 95% من المجموع لكنه لم يذكر الأسباب ويترك لنا الاستنتاج من ما كتبه عن التوزع الديني في المتصرفية إذ كان المسيحيون يشكلون السواد الأعظم من السكان. لكن هناك سبب آخر لم يذكر هنا هو ما كتبه (كمال كربات) وهو أن الدولة العثمانية كانت تمنع منعاً باتاً هجرة المسلمين من السلطنة، والذين هاجروا من المسلمين فعلوا ذلك خلسة وحتى في بعض الأحيان مدّعين أنهم من المسيحيين.

- بعد كلام كثير من سؤء الأحوال الاقتصادية في جبل لبنان في تلك الفترة نرى صفحة 180 في كلام منسوب إلى تقرير رفع إلى الحكومة الفرنسية سنة 1891، يقول ما حرفيته: "استمر تهريب اللبنانيين من بيروت بنسبة عالية على الرغم من أنّ أي يوم عمل في الحقول أو في أي حرفة يدوية يقابل المكاسب في فرنسا، وأنّ أجور عمل المرء أعلى 50% في الوطن منها في أمريكا".

هذا كلام يدعو إلى الإستغراب لأنه يتناقض مع ما قيل سابقاً من جهة وما يعرف عن الاقتصاد الفرنسي والأميركي في تلك الفترة من جهة أخرى.

- صفحة 184 و185 يورد الكتاب أمثال عديدة نقلاً عمّا كتبته الصحف اللبنانية في تلك الفترة عن وضع المهاجرين في ديار الاغتراب وعن كونهم محتقرين ويعاملون بإزدراء (تركو). هذا الكلام قد ينطبق إلى حد ما على الهجرة إلى أميركا اللاتينية وحتماً لا ينطبق على المهاجرين إلى الولايات المتحدة وفيليب حتى في كتابه السوريون في أميركا يعطي أمثال عديدة على الاحترام الكبير للجالية اللبنانية وعلى سبيل المثال يورد ما كتبته السيّدة Houghton في جريدة Survey سنة 1911 (صفحة 28 - 30) إذ تقول ما حرفيته: "استشرت القضاة وحكام المدن التي تتواجد فيها جاليات لبنانية كبيرة، جوابهم كان بدون تردد أن الشعب اللبناني يفوق جميع شعوب العالم بحبه للسلام واحترامه القوانين".

والقوانين الصارمة التي طبقت في الولايات المتحدة طبقت على جميع الشعوب وحتى الأوروبية منها كالإيطاليين وسكان أوروبا الشرقية ولم يستثنى منها سوى الانكلوسكسونيون والجيرمانيون البروتستنت.

- معلومة جديرة بالإهتمام طبقت في المتصرفية والجميع يطالب بها في يومنا هذا ما ذكر في (صفحة 70 -71):

أقدمت حكومة المتصرفية في المرحلة الأخيرة من عهد المتصرفية على الإعتراف بحقوق المهاجرين

السياسية، ومنحتهم "ذات الحقوق المعروفة للبناني المقيم". ما يعني إعطاء المهاجرين حق الاقتراع العام... لهذا جعلت حكومة المتصرفية حق الاشتراك في الانتخابات النيابية "حراً طليقاً " في قيود الاقامة وشروطها". فيكفي أن يكون اللبناني الهاجر مكلفاً لينتخب فور حضوره إل لبنان أو ينتخب وهو في المهجر.

- في الصفحة 150 وما بعدها وردت نسب للمتعلمين في نواحي المتصرفية، وفيها أيضاً حديثاً عن ازدهار المدارس. وفي الصفحات 164 و165 تتكلم عن الأمية نقلاً عن بعض الصحف والكتاب أن "ثلاثة أرباع المهاجرين ان لم يكن أكثريتهم كانوا لا يحسنون القرأة، وتضيف نقلاً عن توفيق ضعون "أكثر العارفين يقرأون التهجئة. هنا لا بدّ من التساؤل ماذا يفهم بكلمة متعلم وبأي لغة فمن الأكيد أنّ العلم في كل قرى الجبل، مع إستثناءات قليلة جداً، كان يتم  باللغة العربية مما يعني أنه في الإغتراب حتى المتعلم من المهاجرين على جهل تام للإنكليزية أو الاسبانية أو البرتغالية.

- بصفحات عديدة يتكلم الكاتب عن قضية العلم اللبناني وعن السعي لاستقلال لبنان وغيرها من الأمور الوطنية التي قامت في المغتربات. كل ما قيل هو صحيح وحصل، لكن الصحيح أيضاً أنّ هذه الأمور قامت بها مجموعات صغيرة هي بالحقيقة الأقلية المثقفة. جمهور المغتربين كان بعيداً جداً عن السياسة ومنغمس في أموره اليومية.

- في الخاتمة ص 235 كلام مفصل عن سلبيات الهجرة في المجتمع اللبناني ولاسيما فقدان البلاد تدريجياً الأيادي العاملة وهذا يعني حسب توفيق ضعون، "إنّ معظم المهاجرين كانوا من الذكور الأصحاء وجمهور المتخلفين في الجبل من الشيوخ والنساء والأولاد بشكل عام.

وإذ في الصفحة 236 يصل الحديث إلى القول أنّ إقدام المغتربين على تحويل أموالهم النقدية وشراء العقارات وتملك الأراضي... وتحويل الكثير من النجوع الفقيرة إلى قرى تضج بالحياة والاخضرار، ما رفع قيمة الأراضي في المتصرفية وجعلها تساوي مرتين أو ثلاث مرات قيمة الأراضي في الولايات المجاورة. هنا الاستغراب من قام بتحويل القرى من فقيرة إلى قرى تضج بالحياة والاخضرار أهم الشيوخ والنساء والأطفال الذين بقوا في القرى. الاستغراب الثاني هو انه من المعروف ان الهجرة طالت بنفس القدر مناطق المتصرفية والولايات المجاورة وتصرف المغتربين تجاه الأهل في الوطن لا يختلف عن تصرف أولاد الجبل فلماذا هذا الفرق في النتائج على الأرض.

- ص. 240 يقول الكتور ملاّح: "وكانوا في حلهم وترحالهم يحملون معهم مطبخهم وكنيستهم ومطبعتهم، ويبنون القرى في بعض الأحيان تيمناً بقراهم اللبنانية". تصديقاً لكلام الكتور ملاّح أحصينا في الولايات المتحدة وجود أكثر من عشر مدن يفوق عدد سكانها الخمسة آلآف ساكن تحمل اسم لبنان .

- ان الملاحق المثبتة في نهاية الكتاب لا تقل اهمية عن الكاتب ، خاصة وان الكثير منها ينشَر للمرة الاولى ، وان الكثير من معلوماتها لم تستثمر في هذا الكتاب مما يعنيِ ان الدكتور ملاح يبشرنا بابحاث قادمة عن هذه المرحلة .

- في النهاية المطبعة كانت ظالمة بحق الدكتور ملاح لا سيما فيما يختص بالجداول و الرسوم البيانية فافقدتها الكثير من اهميتها التعبيرية و لولا وجود الارقام التي سمحت برسم البيانات لكانت الخسارة اعظم و الغريب اني شاهدت الاصول قبل طباعتها و كانت صحيحة وواضحة.


مداخلة الأب كرم رزق

وسط هذا الصخب والضوضاء والبلبلة والمزايدات التي لم يعهدها لبنان في السابق، والتي لا تؤذِن إلاَّ بالفوضى والانحطاط والاندثار، يصدحُ صوت الحركة الثقافية على نغمات الحوار العقلاني، وعلى سكون الإبداع، وعلى تلمسَّات المستقبل الخيِّر النيرِّ لأبناء هذا الوطن بأجمعهم.

تطرح الحركة القضايا الرئيسيَّة، وتناقشها بموضوعية، دون محاباة ولا مغالاة. في هذا السياق، تحلَّقنا بالأمس حول كتاب أحد أعلام أساتذة الجامعة اللبنانية الاستاذ جوزف أبو نهرا، عن الملكية والسلطة والاكليروس، ويجمعنا اليوم كتاب علمٍ آخر، هو الاستاذ الصديق عبدالله الملاَّح، وعنوانه الهجرة من متصرِّفية جبل لبنان (1861-1918) 2007، وبمناسبة اصداره تشرَّفت مرتين، مرةً بالتقديم، وأخرى بالتقويم.

انكبَّ الدكتور عبدالله الملاَّح على دراسة عصر المتصرفيَّة كنظام حُكْمٍ في حدِّ ذاته، وكحقبة أساسية في تكوين لبنان المعاصر. تبحَّر في قضاياه الداخلية، ودقَّق في علاقاته مع الأمبراطورية العثمانية، وفي ارتباطاته مع الدول الضامنة لبروتوكوله. قاس مساحة جغرافيته، ورسم حدوده. تقصَّى سير عمليَّات المؤسَّسات فيه، لاسيمَّا انتخاب المجالس، وبحث في تقسيماته الإدارية. فتَّش دون كلل عن كل مستند أو وثيقة يمكن أن تنير نقطةً أو جانباً من مواضيعه، واصطاد منها كماً وافراً، ما لم يستطع أن يدركه من تسنى له أن يجول في دور المحفوظات العالمية.

لقد ظفر بإكليل السبق في ميدان البحث عن زمن المتصرفية، وليس كتابه عن متصرِّفية جبل لبنان في عهد مظفر باشا (1902-1907)، إلاَّ منارة هدي وارشاد للمستزيدين في هذا الحقل من الدراسات العلمية. فانسجاماً مع التكرُّس لهذا الاختصاص وُلد مصنَّفه الجديد. مهَّدَ له بإدارة رسائل وأطروحات عديدة. ومن وعيه المرهف لهذه الظاهرة الوجودية، سعى لأن يكون لها كرسياً جامعياً، يعنى بشؤون المهاجرين.

   إنَّ الهجرةَ ظاهرةٌ تلازم تاريخ البشريَّة منذ بداية الوجود. هجر آدم وحوّاء الفردوس، وتعقَّبتهم الأجيال في الحلِّ والترحال حتى ابراهيم الخليل. وعرف لبنان الهجرة منذ تكوينه في العصور القديمة، وتكثَّفت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وفي الربع الأوَّل من القرن العشرين.

يكتب عبدالله الملاَّح صفحةً، بل فصلاً من ملحمة الإغتراب، هو الفصل الأوَّل. تأخذ الملحمة شكلها من وتيرة أعداد المهاجرين، أفواجٌ تتلوا الأفواج؛ ومن الأبعاد التي قطعتها عبر البحار والمحيطات والقارات. نعرف متى وكيف ابتدأت، ولكن لا نعرف متى وكيف تنتهي. تستمرُّ دورتها، ولا ينسدل لها ستارٌ.

يفنِّد الكاتب الأسباب التي تدفع إليها. وهي تتنوَّع: من سياسية واقتصادية ودينية واجتماعية وديموغرافية. يتلاقى فيها مع غيره من البحَّاثة كفليب حتيِّ ويوسف السودا، وسليمان البستاني وأوغست أديب... وتتقدَّمها الحريَّة. حريَّة الانعتاق من الفقر والعوز والضيق والحرمان.

   وينجرف القلم عن تعليل العِلّل إلى تصوير الواقع بشتى مراحله وألوانه. فنشاهد الوداع الملوِّع، الافتراق عن العائلة، والإنسلاخ عن أرض الوطن، ومعاناة السفر، ومرارة الغربة، وشدَّة التعب والقهر في العمل لتحصيل لقمة العيش في بلدان الاستيطان، ناهيك عن العودة المحفوفة بنفسِ أخطار الذهاب.

يتعرَّض المهاجر لاستبداد الحكَّام، واستئثار شركات السفر، واستغلال السماسرة في الأسكلة، وبربريَّة معاملة البحَّارة...

ولم تبادر الحكومة إلى أخذ الإجراءات الكفيلة بتخفيف ويلات الهجرة عن حاملي التبعية العثمانية، بل طالما كان عمَّالها متواطئون مع السماسرة وشركات الملاحة. وتفاقمت أوضاع المهاجرين من جرَّاء تضارب صلاحيات المتصرِّف والوالي، ولم تقف مأساة المهاجرين لا في صيف سنة 1910، يوم تعيَّين الأمير مجيد ارسلان قنصلاً في الارجنتين ليرعى شؤونهم، ولا في سنة 1924 يوم أصدرت السلطات المنتدبة القرار رقم 2975، الذي أجبر شركات الملاحة ووكالات التسفير أن تقدِّم ضمانات تقي المسافر من غوائل الإهمال، كما أجبر المهاجر أن يقدِّم كفالة تفيد أنَّ بوسعه القيام بأود عائلته.

لم يكتف المؤرِّخ بالتعبير عن الأحاسيس والمشاعر التي كانت تختلج في عمق نفوس المهاجرين. بل تتبعهم إلى قراهم ومناطقهم. بحث عن شخصيتهم واحوالهم، فأكتسبوا لديه طبائع وشخصيات وهويَّات، ولم يعودوا مجرَّد أرقام تندرج في بيانات أحصائية تستنتج منها نسبٌ وقرائن، وحسب.

اذا كانت الهجرةُ فعلَ اختيار تنشد حريَّة أوسع، وتصبو إلى بحبوحة أوفر، فهي أيضاً إختيار مبرِّح للعزائم والهمم. إنها التجربة التي تكشف سرَّ معجزة النجاح، وتسلُّق مراقي التقدُّم والمجد في بلاد الغربة. ولادراك هذه الأهداف السامية، ولتحقيق الأماني، تحلَّى المهاجر بارادة صلبة تغلَّبت على الصعوبات والعراقيل التي انتصبت أمام طموحه. تمتّّع بذكاء متوقِّد مكَّنه من أن يتأقلم ويتجانس ويختلط وينسجم مع الأمم. اكتسب عوائِدهم وتقاليدهم، انخرط في صلب حضارتهم وثقافتهم كواحد منهم، دون أن يتنكَّر لتراثه. فهذا الأميّ الذي كان يحتاجُ لمن يكتبُ له اسمَه تعلَّم لغات البلاد المستضيفة، وخاطب أهلَها بلهجاتهم وبألسنتهم. أنشأ، في وقت قصير، الجرائد والصحف ليجهر بالحقيقة، ويعبِّرَ عن رأيه، ويتبادل الأخبار مع الوطن الأم، ويروِّج لأعماله. ابتدأ يبيع بالكشَّة، ثم ما لبث أن بدَّل الصندوق بالمخزن والمتجر. أقام المصانع، وأسَّس الشركات. وتجرَّأ أن يتوغَّل في أدغالٍ وأصقاع لم يدخلها المقيمون من قبل، فأسدى لسكانها الخدمات الانسانية والطبيّة، وجذبهم إلى المدنيَّة.

ولعلَّ الدورَ الأخطر والأهم الذي اضطلع به مغتربو المرحلة الماهدة يتمثَّلُ في السعي لايفاء الدين المستحق للوطن الأم. حوَّل هذا الدور الشوق والحنين إلى فعل نضال من أجل الحفاظ على كيان المتصرفية. قامت النوادي والرابطات والجمعيات تزود عن الاستقلال، وتدعو إلى تكريس عيد وطني واختيار علم لبناني. ولمَّا اشتدَّت وطأة الجوع والمرض على اخوانهم إبَّان الحرب العالمية الأولى جمعوا التبرعات، ودانوا الإستبداد، وطالبوا بالاستقلال. وكان جبران بين المناصرين للحق.

أعطت هذه المبادرات نتائج ايجابية، بالرغم من تعدد التيارات بالنسبة لمستقبل بلدان المنطقة.



وننهي مع الشاعر ايليا ابو ماضي

وطنـي ستبقى الأرضُ عندي كلُّه        حـتى أعـودَ اليـه أرضَ التـيه
سألوا الجمـال فقال: "هذا هيكلي"       والشعرُ قال: "بنـيت عرشي فيه".

ويبقى كتاب الدكتور الملاَّح نبراساً يضيء على هذا العرش. 1- لقد ثبتَّت هوية المهاجرين اللبنانيين، التي تميَّزت عن "التوركو" وعمَّا كان يلحق بهذه التبعية من مهانة واحتقار، 2- وأرست أسُس التعامل بين المقيمين والمهاجرين، وأطلقت فكرة الاستفادة من الطاقات والقدرات والثروات البشرية والأدبية والمادية التي يمتلكها المهاجرون. وبالاختصار، إنََّّ كتاب الاستاذ عبدالله الملاَّح هو قصَّةُ بداية الانتشار اللبناني. وهو سفرٌ من أسفار النهوض وتوثب الحياة، خطَّه بيدٍ خيِّرة، وعقل نيِّر، أيَّام العمل والعطل.