لقاء حول موسوعة "أبعد من الفلسفة"

تأليف روبير غانم

الأربعاء 30 أيار 2007 في الحركة الثقافية- أنطلياس

كلمة الإعلامية جان دارك أبي ياغي

كلمة الدكتورة سلوى الخليل الأمين

كلمة الدكتور جورج لبكي

كلمة ليال نصر

كلمة ايلينا ديمشيڤا صادق

كلمة الدكتور الياس الحاج

"أبعد من الفلسفة" لروبير غانم  بقلم د. انطوان سيف


 

لقاء حول موسوعة أبعد من الفلسفة تأليف روبير غانم

 

كلمة الإعلامية جان دارك أبي ياغي

"أنا رجل معرفة، جئت لأعرف، وإذا لم أعرف، أستشهد على حدود المعرفة."

بهذه الكلمات، يصف شاعرنا وأديبنا روبير غانم، فلسفة المعرفة، في موسوعته الجديدة "أبعد من الفلسفة" الصادرة في ثلاثة كتب.

فإذا كانت المشكلة الرئيسية التي أقلقت بال الفلاسفة القدماء هي "مشكلة الوجود"، فإن مشكلة الفكر الحديث، وفي المقدمة فكر روبير غانم، فهي بلا منازع "مشكلةُ المعرفةِ والوجودِ معاً."

وإذا كان الفلاسفةُ في القديمِ قد انطلقوا من نقطةٍ معيّنة وهي أنّ هنالك " شيئاً ما " موجوداً، وعَبْره توغّلوا زماناً ومكاناً، واضعين أنظمة ً فلسفية ً خاصة بهم، منذُ ما قبلَ سقراط حتى ما بعدَ ميشال فوكو، فإنّ روبير غانم قد انطلقَ مما هو "قبلَ الموجود وقبل العدم" : ما هو؟ هذا هو السؤالْ، ألذي ما زال يبحثُ عنه جواباً حتى هذه اللحظة. همُّهُ الوحيدْ، التوصُّلَ إلى الحقيقة، ألتي هي وحدَها تمثّل بالنسبة اليه كلَّ شيء. فهو قبلَ أن يكونَ الزمانْ، هاجساً يسكنُهُ وهو أن يعرفَ ويغيِّر. فهو يرفضُ هذا العالم بكل دساتيرِهِ وقوانينِهِ وأنظمتِهِ وتركيبتِهِ الاجتماعية ْ. وإذا سألناه: هل تسعى إلى جمهوريةِ أفلاطونَ الفاضلهْ ؟

يجيب: " أنا لا أشبَّه بأحد، مَعَ احترامي لهؤلاءِ العمالقة. أنا أسعى إلى عالمٍ خالٍ إلاّ من الفرح  والحب ِ والسماويات."

ويتابع: " أنا لستُ فقط مَعَ الذي يُرى، أنا أبحثُ عن الذي لا يُرى."

من هنا نجدُ أنّهُ افتتحَ كتابَهُ الأولَ بعدّة ِ فصولٍ تمهيديهْ عمّا يدعوهُ فكراً أو فلسفة ً اجتماعيهْ، ولكنَّ همَّهُ الأكبر انصبَّ كلُّهُ على الماورائيات، يعني على الميتافيزيق، سعياً وراءَ التوصُّل ِ إلى فتح ِ ثُقبٍ، مهما كانَ صغيراً، في فضاءات ِِِِِِِ وأقاليم المطلق ِ والمعرفة.

من هنا كانت مقولتُه أو صرختُه الشهيرة :" أنا عندما أصير موجوداً آنئذٍ أفكّر"، على عكس ما توصّل اليه الفيلسوف ديكارت :" أنا أفكّر اذاً أنا موجود."

وإذا أخذنا كتاب " نظرية ُ المعرفة في فلسفةِ روبير غانم" للشاعر وفيق غريزي (وهو أيضاً باحث وناقد أدبي) فهو يقول في الصفحة 338 :" لقد جمعَ روبير غانم في فلسفتِهِ كلَّ المذاهِب  والمناهج ِ الفلسفيهْ، القديمة والمعاصرة والحديثة، واستخرج من هذه المذاهب مزيجا ً يتّسمُ بطابَعِهِ الغانميّ الخاص، حتى باتَ مركزَ إشعاع ٍ فكريّ تتلاقى عندَه عقولُ الفلاسفهْ، من بيثاغور حتى هايدغر وغيتون وفوكو وغيرِهم. إنّ فكرَه، فكرٌ متطوِّرْ فيه توثبٌ ومرونةٌ وعمقْ، فيه عالمٌ معقولٌ فنيّ، فيه المحسوسُ واللامحسوسْ، المرئيّ ُ واللامرئيّ، الفيزيق والميتافيزيق، يحلِّقُ في سماءٍ مِنَ الرؤى..."

وازاء هذا الواقع،فانّ روبير غانم، الفيلسوف الاوّل في لبنان،غرق في بحر البحث عن الحقيقة، واختراق أسوار المعرفة، بغية الوصول الى المطلق، وبقي يسأل نفسه: " من أين؟ ولماذا؟ والى أين؟

وفي سياق ٍ آخر، يقولُ الأديبُ جوزف أبو رزق، وهو علمٌ من أعلام ِ الفكر ِ الفلسفيّْ والروايةِ والكتابةِ المسرحيهْ، ورائدٌ كبيرٌ في علم ِ الجمالياتْ، وأستاذُ أجيالٍ في الفلسفةِ المعمّقهْ- يقولْ :" أبعدُ مِنَ الفلسفة"، هو أكثرُ من صرخةِ ألمْ. وأكثرُ من رسالةٍ تبشيريهْ. هو بحثٌ منهجيّ ٌ موضوعيّ ينطلقُ من تشخيص ِ الواقع ِ المأساويّْ ألذي تتخبطُ فيه البشرية ُ جمعاءْ، للوقوف ِ على الأسباب ِ المولِّدة ِ لهذا الوضعْ، ومن ثَمَّ إلى الحلول ِ الكفيلة ِ بانتشال ِ العالمْ مِنَ المأساة ِ التي يعاني أهوالَها."

ويختم قائلاً :" إن أبعد من الفلسفة" الذي جسّد فيه المفكر الكبير روبير غانم رؤاه الماورائية يجعلها سهلة المنال من التائقين إلى الوقوف على حقيقتهم، هو سفرٌ جديدٌ في تاريخ الفكر البشريّ، الباحث عن علّة وجود الإنسان ومصيره."

وحبّ ُ روبير غانم للمعرفة، لا يتناقض مع إيمانه الذي وحده يجعله يكمل مسيرته على هذا الكون، علماً أنه ليس إيماناً تقليدياً، سلفياً، ممجوجاً، بل هو يشكّل عملية انتشالٍ من الترابيات الأرضية إلى الفوقيات السماوية.

كيف لا ؟ وشاعرُنا ولد في دوحة ِ الشعر ِ الأصيلْ. فوالدُهُ الشاعرُ الكبير عبدالله غانم ابن بلدة "بسكنتا" اللبنانيهْ، جارة ِ "صنين" مَنْبَع ِ الإلهام.

وأشقاؤُهُ ينتمونَ إلى شجرةٍ وارقةٍ بالشعر ِ والأدبْ، إستظلّتْ برفيف ِ "الجمال ِ الغانميّ ". من شعر ٍ عاميّ وفصيحْ... وأدبٍ اجتماعي ٍ إنسانيٍ راق ٍ... فكانت إبداعاتُهم غنىً وافراً للمكتبةِ العربيةِ في حاضرة ِ لبنانَ الأدبْ، ولبنانَ الشاعرْ، ولبنانَ الحبّ.

لن أطيلَ الكلامَ أكثرْ، كي أفسح فيَ المجالَ لأصحاب ِ الاختصاصْ، في تحليلِ ونقد ِ فلسفةِ روبير غانم ورؤاه، هذا الشاعر والفيلسوف الذي جاء ليعرف ويغيّر، كما ذكرتُ سابقاً. فإلى أين تقودنا رحلة روبير غانم المعرفية، القلقة بامتياز، الميتافيزيقية بامتياز... الجواب في الموسوعة التي سيوسّعُ الزمان لها المكان الأرحب.

  

كلمة الدكتورة سلوى الخليل الأمين

    لأن الحياة صيغة كونية وجودية إلهية، محورها يتآلف بين طبيعتين أساسيتين، ترتسم عبرهما دوائر القلق والشك وصولا إلى اليقين، عبر فرضيات ونظريات تحدد حركية الوجود الإنساني،  القائم على جدلية التماهي بين مستلزمات المعرفة  التي أداتها  العقل ، وبين مندرجات التساؤلات نحو الكشوفات القائمة على الخيال والتنبوء التي ترشف من مخزون العقل رؤاها، والقابلة  للبحث والنقاش عبر مسارات التفكير الإنساني المنجذب بطبيعته إلى الخوض في غمار المعرفة التي أقلقت الفلاسفة عبر العصور وما زالت.

 وشاعرنا الفيلسوف روبير غانم، مشى هو الآخر على درب الفلسفة  المعرفية غائصا في تراكيبها المعقدة المتنافرة، متكئا على عقله الباحث دوما عن الحقيقة من خلال الوجود وكينونة الإنسان، المتخبط  بهواجس ارتسمت أمام بصيرته النافذة إلى أعماق الحياة بخطوط أفقية وعامودية، عبر من خلالها إلى أبعد من الفلسفة ، مفسرا ذلك البعد صديقه ومؤلف كتاب: " نظرية المعرفة في فلسفة روبير غانم" الأستاذ وفيق غريزي بقوله: " ... إن المشكلة التي تقلق روبير غانم هي مشكلة المعرفة والوجود معا. أما المشكلة التي أقلقت بال الفلاسفة القدماء والمحدثين هي مشكلة الوجود." .

   وبالعودة إلى موسوعة روبير غانم " أبعد من الفلسفة"، نجد أن هذا المفكر الشاعر قد تمدد بفكره وعقله على مرتكزات الفلسفة العالمية وأعلامها الكبار من سقراط إلى أفلاطون فأرسطو وصولا إلى نيتشه  وكارل ماركس  وسارتر،موغلا في عمق الفلسفة العربية والاسلامية، محاولا اختراق جدار فلسفتهم الممتدة عبر الأدهار، برؤى استشرافية،  غائصا في عمق الفلسفة،  تواقا إلى البحث والتحليل، من منطلق الإيغال في عمق الذات البشرية المتعلقة بوجود الإنسان، وحركة أزلية الزمان حيث اشتبه عليه الأمر بهلع كثيف  من ديمومة الزمان الموغل في القدم، لكأنه مع سيد المخلوقات قدما، وشغلته حقيقة وجود الكون من العدم! ألم يكن الخالق كنزا مخفيا؟ ولم يكن معه شيءولا قبله طبعا شيء، وأحب أن يعرف بقدرته على الخلق، فخلق الكون دفعة واحدة بالانفجار الكوني الأعظم ( بيغ بين) من العدم، فيقول للشيء كن فيكون!! فالزمان يجري علينا طفولة وشبابا وشيخوخة ولكل مخلوق نهاية ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

     فروبير غانم ، في قلقه وموجات الشك التي يعتليها كمد موج البحر، تعلو وتنبسط أمام شاطىء المعرفة بإلحاح وتسآل، دون الوصول إلى رمال الحقيقة، في يده قبض ريح  مشبعة بإنسانية الإنسان، لذا هو ناقم على الأنظمة السياسية التي تصارع بعضها بعضها الآخر توخيا للسيطرة المطلقة، وهذا يشكل لديه البعد المطلق للبحث عن الحقيقة، التي تتخبط حسب قوله  في متاهات الفلسفة التي تجتر ذاتها.  ربما أراد أن يقول للقارئ: ... أن الحقيقة تخضع للواقع المعاش، هذا الواقع برأيه خاضع للمسايرة بل هو المسايرة التي تعني التهرب من قول الحقيقة لألف سبب وسبب، يعني الكذب الذي يستعمر العالم منذ بداية الخليقة حتى اليوم ( ص.37 ـ ج.1).

    روبير غانم في موسوعته غاضب على هذا العالم البشري المتحول إلى غابة حيوانية، مسرحها كل الأمكنة الممتدة على مساحة الكرة الأرضية، فالفقر عنده لا هوية له، كما الكذب كما الصدق كما الألم كما القلق كما التجدد كما الخوف كما الرفض كما المعرفة وكما الحق. لأن الأرض ومن عليها ملك لخالقها ، وما هؤلاء البشر المتواجدون بعلة من العلل على هذا الكوكب إلا حالة مأساوية تستحق الدراسات، عبر منهجية الرصد والتحليل ، وصولا إلى رصد أعماق المعرفة، التي تقوم على عناصر الجدل والبحث والتفسير والافتراضات،  توصلا إلى  سبر أغوار المطلق في سبيل طمس العتمات المظلمة والمضللة على مدى حقب التاريخ.

  يقول روبير غانم ( ص. 47 ـ ج. 1) : لقد تحول العالم الحضاري إلى غابات يسكنها أكلة لحوم البشر، باسم الدين والعقيدة والقومية والنظام والقانون!! ثم يقول: هو عالم سحق المقدسات والأشياء النبيلة باسم .. الديموقراطية طبعا!!.

   هنا نلمس ما نحى إليه روبير غانم في موسوعته الفلسفية" أبعد من الفلسفة" ، وهو المفكر الرافض للواقع المر، المتألم  من اضطهاد الإنسان لأخيه الأنسان، المؤمن بالعدالة الإلهية التي ترقى إليها عدالة الأرض ولو تشبها بجزئيات، تحترم وجودية الخلق من خلال منظوره الإنساني البشري.

   من هنا انحيازه إلى الحقيقة والمعرفة، بعيدا عن الخوف والوجل، فهو ينبذ التقاتل والتناحر والعنف والتسلط، بل يتصدى بأفكاره لنرجسية أهل السلطة والمال ، بمنهجية فلسفية جديدة، مضمونها التواصل مع حقيقة الأشياء، المتمكنة من أحقية العقل في معرفة الذات مرورا بواقعية الحياة وديمومتها. وهنا يؤكد المفكر وفيق غريزي في كتابه" نظرية المعرفة في فلسفة روبير غانم ( ص. 28): .. على أن روبير غانم تأثر بالأفكار المتشائمة التي بنى الفلاسفة الوجوديون أفكارهم القاتمة على التصور الفاجعي للحياة البشرية المفعمة بالهموم، والتي أهمها عجز العقل عن الاستيقان بالوجود. هذه الأفكار كما يقول وفيق غريزي، تأثر بها روبير غانم إلى حد كبير وانتهت إلى القلق الوجودي كنتيجة حتمية إلى تواجد الأسئلة: من أين؟ لماذا؟ وإلى أين؟.

    هذه الأسئلة هي المفاتيح المحيرة ، فلا العقل استطاع جر قدراته إلى الإجابة الصحيحة عنها، ولا الغريزة البشرية أيضا استطاعت تصور إجابات تؤدي إلى بعض حقيقة. لأن صيرورة الإنسان الحامل للعقل ومصيره خاضعان لألف تأويل وتأويل، فالحياة رحلة معرفية يعتمد فيها الإنسان على مجموعة من التراكيب والمقاييس منها ما هو ملموس ومنها ما هو مجرد، ومنها ما هو مرئي ومنها ما هو لا مرئي، يدخل في باب التخيلات والتصورات والأوهام. لذا يؤكد روبير غانم على أن رحلة المعرفة بحاجة الى تشغيل طاقات وقدرات الإنسان كلها للعبور إلى الكشوفات التي يحققها العقل بمساعدة الخيال ومتفرعاته.

   هكذا .. اخترق روبير غانم عالم الوجود وسر الخلق العظيم بعقل متحرك متحرر، يطمح إلى اكتشاف المجهول من عوامل المعرفة والوجود، وذلك بالبحث الدقيق المبني على المعرفة التي هي أداة توصله إلى فتح المغالق بحشرية علمية متحركة عبر كل المحطات الفلسفية، التي أرادها مسيرة فكرية فلسفية معرفية تصحح إشارات المسيرة البشرية" .. ليصبح العالم أبهى وليظل الكوكب على نقاوته الأولى المحيية" كما قال.

   فالإنسان هو المنطلق في " أبعد من الفلسفة"، حيث أنه يشكل في حياة المؤلف روبير غانم الحيز الأكبر، لهذا افترش بعقله فلسفات العالم ليخلص إلى يقين المعرفة.

   من هنا كانت المعرفة التي يريدها روبير غانم ثابتة محتاجة إلى قدرات وطاقات الإنسان كلها، التي يحققها بالعقل إضافة إلى مساعدة الخيال الذي هو جزء من عملية التأسيس للقيام بكل المهمات المعرفية. فالإنسان تواق إلى اختراق الحجب والماورائيات، بالرغم من الشرائع السماوية المنزلة من عند الخالق جل جلاله، الذي لم يفترض عبر دعاته الرسل ماهية الأشياء المنزلة، بل منحها صيرورة الاستمرار عبر كل التفاسير، وحتى عبر كل التأويلات، من هنا يؤكد روبير غانم في رحلته المعرفية على أن المبهمات ، بالرغم من أنها نقيض العقل ولكنهما يشكلان معا المنطق الإدراكي للتواصل مع حقيقة الحياة.

  

كلمة الدكتور جورج لبكي

 عندما شرفني الشاعر والمفكر الصديق روبير غانم بطلب المشاركة في هذه الندوة الكريمة وافقت بدون تردد. ولكن عندما تناولت كتبه تساءلت ماذا اقول وانا لست متخصصاً بالفلسفة. بدأت قراءة ثلاثيته وجدتها اخّاذة قريبة من القلب وممتعة القراءة إلى ابعد الحدود قلباً وقالباً. انها احدى خصائص هذا الاديب الكبير Le genie de l'écrivain الذي يستطيع ان ينقل إلى القارئ عصارة فكره الاصيل بطريقة السهل الممتنع. فالسهولة في الكتابة لا تعني ابداً البساطة.

ولقد عرض الكاتب فكره في موضوعات قصيرة ومعمقة قد تبدو للوهلة الاولى بأنها متباعدة في الواقع متماسكة بحيث انها تعرض على النسيج الفلسفي الذي عمل المؤلف على وضعه بجهد كبير.

انطلق روبير غانم في ابحاثه الفلسفية من الاسئلة التقليدية: من اين؟ لماذا؟ وإلى اين؟ ولكن مقاربته للموضوع جاءت مميزة: وفذه فبعد ان اطلع على كل التيارت الفلسفية المعروفة منذ مطلع التاريخ حتى يومنا هذا شق طريقه من خلال تجربته الوجدانية في البحث عن الحقيقة محاولاً اختراق حجب المكان والزمان مستعيناً بالعقل ولكن ايضاً بوجدانه وعاطفته وحياته وايمانه. وقد اختار ان يعيد الفلسفة إلى مسالك نور الحقيقة عن طريق المعرفة ونور المطلق.

ولقد جمع روبير غانم كل المذاهب الفلسفية واستنبط منها ما يناسبه بعد ان طبعها بطابعه الخاص. ولقد دارت فلسفته حول المعرفة، الزمان، الوجود، العدم، وما كان قبل العدم، العقل والايمان، البحث عن المطلق والاخلاق والسياسة والانسانية بمعناها الواسع. ومن هذا الفيض الذي اتحفنا به الكاتب اخترت التركيز على النقاط التالية التي برأيي تميز فلسفة روبير غانم وتطبعها بطابع خاص.

الجرأة:

اختار المؤلف ان يضع تحت مجهر النقد الثاقب كل ما توصلت اليه الفلسفة على مر التاريخ. وكان حكمه قاسياً لم يتوقف عند الهالات التي احاطت ببعض الفلاسفة منذ ايام اليونان حتى اليوم. فانتقد هيراقليطس الذي اعتبر ان اول قوانين العالم الحرب، واعتبر ان الفلسفة لم تقدم منذ بدايتها حتى جان غيتون سوى جزئيات يصح تصنيفها في باب الفرضيات. حتى انه اعلن جهراً للناس موت الفلسفة. ولقد وضع روبير غانم في مقدمة اهدافه تجاوز كل ما وصلت اليه الفلسفة وتخطى ذلك إلى ابعد ما هو من الفلسفة. وهذا هو الابداع بحد ذاته. فالمفكر الفذ صاحب الرؤيا المميزة هو الذي يتخطى من سبقه فيبني مدماكاً من صنعه (صنع يديه) في تاريخ الحضارة، حضارة الانسان.

هذا الموقف الشجاع قلما نجد نظيره في عالمنا الحاضر في اكثر الجامعات عراقة في اوروبا والولايات المتحدة الاميركية حيت تسود النسبوية الفكرية (le relativisme) والافكار العمومية. فلا مواقف واضحة تحت راية الحرية المزيفة التي ترفض تحكيم العقل والمنطق من خلال رفضها كل القيم.

 عشق المعرفة:

اذا اردنا اطلاق لقب على المؤلف فينبغي تلقيبه برجل المعرفة. هذه الكلمة تعود في كل صفحة من صفحات الثلاثية. لقد اقام لها المؤلف هيكلاً وجعل منها خشبة خلاص للانسانية ولكل انسان. اكثر من ذلك، فهو يدفع كل كائن بشري للسير في طريق المعرفة.

فبرأي غانم ان الانسان الذي لا يحاول التوغل في المعرفة هو جبان وعلى هامش الحياة. ممنوع على الانسان ان يكتفي بالعيش كسائر الكائنات الحية أي بالتركيز على حاجاته البيولوجية فقط، لانه عندها يكون مأساة لنفسه ولعائلته ولمحيطه ولوطنه وللانسانية جمعاء.

فالانسان برأي روبير غانم يجب ان يكرس منجزات عقله من اجل المعرفة بهدف التوصل إلى لغز واسرار تركيب الكون. فالانسان مشروع معرفة فالانسان ليس مجرد عابر سبيل على هذه الارض. اكثر من ذلك ان خلاص الانسان مرتبط بالمعرفة فهي تحقق الفرح الحقيقي للانسان، وهل هنالك اعظم من لحظة التوصل إلى شيء ما (ص 26 جزء 1). فلكي يصبح الانسان حقيقياً يجب ان يسخر كل قدراته للمعرفة والا تحولت حياته مجموعة من التفاهات.

 رغبته في وضع بصمته على الزمان:

يشدد الكاتب على وضع بصمته على الزمان الذي يمر بسرعة البرق. صحيح يقول المؤلف ان الكائنات ومن بينها الانسان تخضع لفعل الزمان فتنمو، تكبر، ثم تشيخ وتفنى. اما رد الكاتب على ذلك فهو ان الإبداع يدخل جوهر الزمان فلا يطاله الفناء "فالزمان - الخالق" لا يزول لانه يحقق جزءاً من مشروع الوجود" (جزء 3 صفحة 28). اما الغاية المنشودة فهي تحقيق توازن من خلال "اتحاد تفاصيل الجوهر الخارجي للكائنات والموجودات في الجوهر الاساسي" (جزء 3 صفحة 30)... فتصير الكائنات (ومنها الانسان) كما الموجودات جميعها جوهراً بحد ذاتها لوحدة وجودية كيانية مطلوبة تنصهر في (الزمان - الخالق)" (جزء 3 ص 31).

 الايمان:

ان الثقافة المذهلة التي توصل اليها الكاتب - وهو الذي امضى معظم ساعات النهار والليل- لم تقوده إلى التعالي والاستكبار بل على العكس يقول بصراحة - قل نظيرها في الغرب في ايامنا هذه - "فالله هو اللامتناهي والمطلق. يعني ان الله هو لا شيء سوى هو" (جزء 3 ص 24).

وبعكس الكثير من الفلاسفة الغربيين الذين لم يستطيعوا التوفيق بين العقل والايمان ودخلوا في متاهات الحادية عدمية مدمرة، على عكس كاتبنا الذي وهب الحل بقوله: "ان التفسيرين المادي والروحي للكون يلتقيان" (جزء 3 صفحة 76)، فالمادة تحمل في جوهرها جوهراً روحياً) (جزء 3، ص 77). فالعالم يجب ان يكون للتأمل، للصلاة، للمعرفة (جزء 3 ص 92).

 فيلسوف القيَم:

بداية غاية المعرفة يقول فيلسوفنا هي الخير العام. من هنا ثورته - هو المعروف بشاعر الثورة - على الظلم وعلى انحدار هذا العالم إلى الاسفل. لا للحرب، لا للسيطرة فالانسان قابل لان يكون الاشد أذىً وفتكاً بين المخلوقات. يضيف المؤلف قائلاً: لا للجريمة، لا للقتل، ولا لنهم السيطرة المسيطر على مد التارخ بسبب عدم فهم البشر لمضمون الوجود. من هنا ضرورة تصحيح المسيرة البشرية.

 التوفيق بين العقل والايمان:

يقول روبير غانم ان الانسان ابن العقل والمنطق والعقل هو أب الفلسفة. والبحث العقلي هو الاساس المعرفي الفعال يرتكز عليه وحده حلم تجاوز التخيلات والتصورات إلى ارض الواقع. اما المعرفة فتقود الانسان إلى التوغل في الحقيقة الشاملة الثابتة الحاسمة والنهائية.

  

خاتمة:

ان روبير غانم ظاهرة لبنانية فريدة. انه اول فيلسوف لبناني بارع وصاحب مدرسة فلسفية فريدة من ابرز مزاياها التركيز على الانسان ورفعته وصيرورته من خلال رذل القشور والتفاهات والسعي وراء الحقيقة المطلقة من خلال المعرفة التي غرف ويغرف منها المؤلف دون هوادة.

ان ما توصل اليه المفكر الفيلسوف روبير غانم يستدعي عقد المؤتمرات العلمية والحلقات الدراسية لان ما طرحه الكاتب يشكل ثورة في عالم الفلسفة وإلى ما هو ابعد من الفلسفة.

 

كلمة ليال نصر

         عندما نتحدث عن شاعرٍ بقامة روبير غانم، وحين نتحدث عن مفكّر غاص في أعماق الفلسفة، فإننا نقف حيارى كيف نبدأ، وكيف يتناول قلمنا شاعراً ومفكراً كتب في الفلسفة وحلّق في المطلق واللامتناهي؟

        شاعر أنجز إبداعاً وقدّم نظريات في المعرفة والزمن. إنه الشاعر المحتفى به اليوم.

        وحين نكرّم روبير غانم فإننا نكرّم قيمةً إبداعيةً، وفِكراً فلسفياً راسخاً. إنه كشجرة أزهرت شعراً وابتكاراً، وتغلغلت جذورها في التربة لتشق الصخر وتنبت الحياة. روبير غانم كبرياء شامخة كقمّة صنين، وديع بسيط كالأطفال الانقياء.

        أما أن نقارب العالم الفكري لروبير غانم فهذه قضيّة أشدّ عمقاً والتباساً. ويتمنّى المرء أن يتحدث عن الشاعر الإنسان، ذي النبضات المتوترة المرهفة. لكنّ مجموعته "أبعد من الفلسفة" تنصب كلها على اكتشاف الغوامض والأسرار والخفايا. ويسأل المفكر في رحلة بحثه المضنية المدهشة ونسأل معه: ...من أين؟ لماذا؟ إلى أين؟ ونتلمّس الأجوبة مواصلين مع روبير رحلة الكشف والبحث عن الأسرار والحقائق. وما أروعك أيها المفكر حين تعلن نهاية الفلسفة وبدايتها!

        كل الفلسفات التي جاءت قبلك ماذا أعطت الإنسان؟ إنك مع الفلسفة النابضة الشاملة التي تغيّر مسار التاريخ والعالم في كل الأزمنة ومن اجل المعرفة. وحين يتتبّع الدارسون المصادر التي استقى منها غانم يجدون أن اطّلاعه الواسع وتفكيره الشاسع وجهده اللامع، كل هذه الأشياء، جذورها موغلة في الفكر الإنساني، ومناحيها متعددة ومتباينة. ولكن القارئ يأخذه العجب كيف يصبح المفكر مبدعاً بعيداً عن الجذور التي نهل منها ما نهل، بعيداً عن قطرات النبع التي ارتشفها.

        هكذا العظماء أبداً يأتون بالجديد الرائع المذهل من رحم القديم والمتداعي. وهو لم يضع خمرة الحقيقة في آنية قديمة، بل جعل فلسفته مستقلة، فيها تشوّف إلى أقاصي المعرفة التي لا يدركها الإنسان في رحلته الطويلة. ونستطيع القول إن شاعرنا الكبير هو مفكّر بلغ شأواً عالياً ومستوىً عظيماً. لقد طرح روبير غانم الأسئلة الكبرى في الحياة والوجود، وتلك الأسئلة أعْيَت الفلاسفة ودوّخت المفكّرين.

        طوبى لك أيها الشاعر المفكّر إنك تجعلنا نستعيد جوهرنا الإنساني. أحببناك إنساناً كبيراً مبدعاً وشاعراً ومفكّراً يفتّش عن الحقيقة...

  

كلمة ايلينا ديمشيڤا صادق

 الفَلسَفَةُ، وهِيَ كَما تَعلَمُونَ كَلِمَةٌ يونانيّةُ الأَصلِ، مِعناها الحَرفيّ "مَحَبةُ الحِكمَةِ"... أحَدُ مَظاهِرِها مَيلُها للتَساؤلِ والتدقيقِ في كلِّ شيءٍ والبحثُ عن ماهِيَّتِهِ ومَظاهِرِهِ وقوانينِهِ... أذا، "الفلسفة" أو عِلّةُ وتبريرُ الوجودِ، الهدفِ، الحياةِ... هل نستطيع أن نقولَ "ما قبلَها" أو "ما بعدَها"؟؟؟ هل الفلسفة تبريرٌ للوجودِ؟ أم الوجودُ مؤشرٌ لاستمرارِ الفلسفةِ؟؟؟

تَطَرَّّقَ الفلاسِفَةُ منذُ نَشأةِ البَشَرِيَّّةِ حتى يومِنا هذا الى مَعاني الكَينونَةِ، الزمانِ، الكونِ، الماورائياتِ، الشَّكِ، اليَقينِ، المَعرِفَةِ، العَقلِ، الى ما هُنالِكَ...

أَمّا عندَ "روبير غانم"، فأِن التفسيرَ الحرفيَّ لِمِعنى "الفلسفة" قدّ تَجاوَزَ مِعناها التقليديّ، فَسَبَرَ أَغوارَها حتى لامَسَ وُصُولَهُ لِتَرجَمَتِها "بالتفكيرِ في التفكيرِ"... أيّ التفكيرِ في طبيعَةِ التفكيرِ والتأمُّلِ والتَدَبُّرِ، فَجاوَرَ فلسَفةَ العِلمِ والتَجرِبَةِ في كِتابَتِهِ كما الفلسفةَ الوُجُودِيَّّةِ والأنسانيّةِ، ومَذاهِبِ الحَداثَةِ وما بَعدَ الحداثةِ، والعَدَمِيّةِ... الخ.

وَتَطَوَّرَتِ الفِكرَةُ لدَيهِ نَحوَ أَصلِ الكونِ وجَوهَرِهِ...الخالقِ والمَخلوقِ... العقلِ وأُسُسِ التَفكيرِ... والكثيرِ منَ الأسئلةِ الوُجُودِيَّّةِ... وَتشابَكَتِ الأسئِلَةِ والتسَاؤلاتِ، التحاليلِ والأستِنتاجاتِ... وتَعَمَّقَ "روبير غانم" في المَواضيعِ الأَكثَرِ عُمقاً وَتَعقيداً كالكَينُونَةِ والمَبَادِئِ الأخلاقِيَّّةِ، المَعرِفَةِ، الحقيقةِ، الجَمالِ....الى ما هُنالِكَ مِن أعماقٍ حتى مَتنِ "الأَصلِ".

أطَّرَ "روبير غانم" المشاكِلَ نَمُوذَجِياً بِطَريقَةٍ مَنطِقِيَّةٍ، حَيثُ يَستَعمِلُ القِياسَ المَنطِقِيَّ والمَنطِقَ التَقليديّ.... وكَأني ب"روبير غانم" يُبَسِّطُ "المُشكِلُةَ" بِصورَةٍ عامَةٍ، فأِن كانَت تتعَلَّق بالجُزئياتِ، كانت مُشكِلَةً عِلمِيَّّةً أو دِينِيَّةً أو فَنِّّيةً أو حَيَاتِيَّةً...ألخ.... أمّا أذا كانتِ المُشكِلَةَ أو الصُعوباتِ تَتَعلّق بِالمَبادِئِ أو الأصُولِ أو الأُسُسِ، على سَبيلِ المِثالِ، فأنَّ ذَلِكَ يَعني أنَّها فلسَفيّةٌ على وجهِ التَحديدِ.

عِندَ "روبير غانم" تتمَيّزُ السِّمَةُ الفَلسَفِيَّةِ عَن غَيرِها بِأنَّها تَتَعلّقُ بِالمَبَادِئِ وبِالأصُولِ الكُلّيَةِ... فالسؤالُ عِندَهُ عنِ الكلِّ، المَبدَأِ، الأصلِ والأساسِ... هوَ الذي يَضَعُ الحَدَّ الفاصِلَ بَينَ كَونِ هذا السؤالِ يُعَبِِّرُ عَن أِشكالِيَّةٍ فَلسَفِيَّةٍ أو مُشكِلَةٍ عِلمِيَّةٍ، حَيثُ يَتَمَيَّزُ الفَرقُ  لَدَيهِ بِأَنَّهُ على دَرَجَةٍ عالِيَةٍ مِنَ التَجريدِ والبَحثِ النَظَرِي، ولِذَلِكَ يَرتَبِطُ لَدَيهِ بِمَن يُثِيرُهُ وَيَتَجَسَّدُ نِسبِيًّا عِندَ الأيضاحِ.

يُواجِهُ "روبير غانم"  مَنطِقَ "الأِسنادِ الذاتِيِّ" فَيَتَنَاوَلُ مَفهومَ "الوُجُودِ" وَيَغُوصُ في حَيثِيَّاتِ "الكُليَِّّةِ" ومُشتَقَّاتِها، ويَتَمَاهى في جَوابِهِ بينَ السُؤالِ المُجَابِ والجَوابِ المَسؤُولِ.

روبير غانم" في بُعدِهِ أو قُربِهِ مِنَ الفَلسَفَةِ بمَفهومِها المُتَدَاوَلِ، يُنَاغِشُ الفِكرَ، يَستَفِزُّ القارِئَ... يَتَحدَّاهُ... يَطرَحُ نَظَرِيَّاتِهِ في المَعرِفَةِ والفلسَفَةِ بِثِقَةِ العَارِفِ وبِحَيرَةِ المُشَكِكِ... يُقارِعُ فَلاسِفًةِ الغَربِ والشَّرقٍ بِكَلِمَةٍ عَمِيقَةٍ وَلَكِن مُبَسَّطَةٍ، بِكَلِمَةٍ ذاتِ أبعادٍ وَلَكِن قَريبَةٍ مِنَ الأنسانِ المُفَكِّرِ ومَفهُومَةٍ مِنَ الأنسانِ العَادِيِّ.

يَتَمَاهَى فِكرُ وفَلسَفَةُ "روبير غانم" مَع أبعادِ الأنسانِ وكَينُونَتِهِ، يُشَلِّعُ أبوابَ الأِنفِتاحِ والمَعرِفَةِ، ويَقَدِّمُها عَلى طَبَقٍ مِنَ الأِدراكِ الى القارِئِ، بِما يُسَهِّل وُلُوجَ مَداخِلَ الوَعيِ بِطَرِيقَةٍ وأُسلوبٍ سَلِسَينِ.

يُحَلِّقُ "روبير غانم" بِكِتابِهِ (أبعَد مِنَ الفلسفة)، يُحَلِّقُ  بِجَنَاحَي الكَلِمَةِ والفِكرَةِ حِينَما يَقول: "العَقلُ وَحدَهُ، مَرَّةٌ أُخرَى، يَستَطيعُ سَبرَ الأغوارِ والمُبهَمَاتِ... أِنَّهُ الزادُ في رِحلَةِ الوُجودِ المُرَّةِ الجَمِيلَةِ المُبدِعَةِ".

وَيُجِيدُ الكاتِبُ "وفيق غريزي" تَوصِيفَهُ في كِتاب "نَظَرِيَّةُ المَعرِفَةِ في فَلسَفَةِ روبير غانم" عِندَما يَقول: "أُعِدَّ العَقلُ البَشَرِيُّ، لكَي يَفهَمَ ظَوَاهِرَ الأشياءِ وَبَواطِنِها"

تَمَيَّزَ الأَدَاءُ الفَلسَفِيُّ لِ "روبير غانم" بامتِلاكِهِ نَظرَةً دَقِيقَةً تَقومُ على تَحلِيلِ لُغَةِ الأسئِلَةِ الفَلسَفِيَّةِ، بِهَذا يَكونُ الغَرَضُ مِن هَذِهِ الفلسَفَةِ أَن يُعَرِّيَ أيَّ تَشويشٍ صُوَرِيٍّ تَحتِيِّ كامِنٍ.

وَنِهايَةً، وَلأختَصِرَ الكَلامَ، تَستَحضِرُنِي جُملَةٌ جِدُّ مُعَبِّرَة لِ "روبير غانم" يَقُولُ فِيها: "أَسبَقِيَّةُ العَدَمِ "وَمَا قَبلَهُ"... تَأكيدٌ على استِحضَارِ الوُجودِ... مُرعِبَةٌ جِدًا فِكرَةُ "المِن لا شَيء" الى "اللا شَيء"..... هَذا هُو بَعضُ  "الشَيء" مِن فِكرِ "روبير غانم".

كلمة الدكتور الياس الحاج

 أحييكم؛ أكبِر أولاً الدراسات المعرفية المعمقة، التي كتبها البحّاثة الأستاذ وفيق غريزي حول شعر روبير غانم وفكره. أُكبر ثانياً البوابة الى المطلق واللامتناهي التي شرّعها لنا الدكتور جان نعوم طنوس، في بحث مستفيض شيّق وقيّم، حول شعر روبير غانم وفلسفته، مثنياً على مقدمة المفكر الدكتور جوزيف ابو رزق. أُثمن عالياً جهودات المؤلف الشيخ روبير غانم، الذي اعتلى مركبته الثالوثية الأبعاد، وراح يطلق النار في كلّ اتجاه، ثم ارتضى الدعوة الى هذا اللقاء - المشفى، علّه يضمّد فينا بعض الجراح.

سيدي المؤلف،

  لم اكتب من وحي ما كُتب فيك وعنك، على عظمة ما كُتب، وأنت المستحق، لكنني، استناداً إلى ما كتبت أنت، كتبتُ أنا. أشهد، وأشهد بالله، اني قرأتك، أيها الصعب القصيّ المرامي، المتهاطل صعوداً عبر امداء الغياهب.

بشغف تقبّلت الحكم الجائر الذي أنزلته على رأسي، قصاصاً موجعاً، وتقلّبت فوق حمم الجمر في مواقد نارك، والزمن عندنا زمن كل شيء، إلاّ الفلسفة والابعد، لكنها محبتي للفكر الخلاّق، ابت عليّ اللجوء إلى مجلس الشورى، للطعن ووقف التنفيذ. أسارع إلى طمأنتكم بإكرام، أنني رحمةً بالمنبر، وحرصاً منّي على استمراره بروّاده الغيارى، لن أزجّ بكم في سجالاتٍ حول اطروحات روبير غانم وطروحاته، عرضاً ومعالجات.

لا يجدي أن أشرّح أفكاره على محكّ عظماء سبقوا. سواءٌ كان حيناً الوريث المقمّش أم كان أحياناً المنجب المبدع، وغير لائق في مقال المقام الاستغراق في اسماء وسرد ومقاربات ومقارنات...

أيها الشيخ الجليل...

أهي اللعبة الاشراقية ركبت الرأس وانتابت الخيال؟! أم هي نيرفانا الاستشراق استهوت فضوليتك المعرفية فتجندت رامياً ماهراً في معسكر اللاأدريات؟! أهو النفور من واقع وقع فوق أرضنا، شدّك عبر مصعد الفلسفات الى التحليق المضني في تلافيف الماوراء؟! أمِن قبيل الهروب الاستباقي الحكيم وطئت بنعليك ترّهات السياسة والساسة، وتوشحت بمئزر الانخطاف صوب تجاويف الغياهب؟!

قد نتوافق على التنازل عن هرطقات باهتة تنحر أرضية الوطن وتبعثر أبجدية التراث، وتصادر شمس المستقبل الموعود، ولكن صعب أن نترافق باعصاب هادئة رخية رضيّة، على خطوط وهمية، في خواتيم مصبّها، مجَمّع تخميني، يستنفر في عمق حناياه، مواجعنا، بكمّ من لماذات، وبأرتال من ليشيات...

جولاتك الممهنجة المشكّلة، واشكالياتك الفلسفية اكلت منك حتى كادت تأتي عليك. لقد عشتَ ما كتبت ويا لضراوة المحاولات التي حاولت. لن يقوى على فهمك، الا من أعطي أن يعاني معانياتك ويستحرّ متلظياً بوقود فكرك المضطّرم. أما خِفتك يا رجل وأنت تسكبك موسوعة تحديات؟! أما خفت منك عليك، وأنت تخبط متألقاً في عتمات هاتيك المعميات؟!

بعد ملاحم شطحات الميتافيزيقيا في اعياد صعود وابهارات وصول، واغتسال بقطرات من ماء الازل. أصحيح انك بعد بين ظهرانينا على اديم التراب؟! اصحيح انك بعد الحيّ يرزق في عالم الحواس والاوهام والظنون والمادة؟! باي مزاج عدت الى ارض الخيبات، وقد تعاليتَ عنها رحالة جوّالة ذا سطوة ومهابة في امداء الماوراء، في مغالق أبد، أبوابه بلا عدّ، بلا حدود؟! عالم الفلسفة اصلاً عالم صعب، معقَّد، ومكهرِب للعقل؛ فكيف اذا اخذنا اليه شاعر مبدع؟!

يا انيق الكلمة يا سيد المزايا ويا امير المرايا. أمِن قبيل الاستفراد والفرادة رفضت مطلقات الفلاسفة السابقين، وسمّيت طروحاتهم أكاذيب، متهماً مقولاتهم بالتحايل والعجز والقصور؟! ففي كتاباتك نواح على مجهودات فكر سبق ونعيٌ لمحاولات وردود...

...حتى في رحاب الميتافيزيقيا الغائرة، لفحتنا نفحات وجدانياتك الموشحة برؤى الخيال على كثافة متراصّة في المفردات - المشاريع الفلسفية وعِماراتها... طرحتَ أسئلة دهرية شاخت دهاليز الفلسفات في كهف عتمات الرعب، وأعيت كلّ مَن تنطّح لمواكبة ما قبل التكوين وما بعد... حدّثتنا عن نشوة روحية وحدها تجعل الانسان يتوغل في ذرات الموجودات طموحاً الى توغّل نقي في ما هو مطلق.

فيا أيها المشحون بآخات القلق الوجودي،

أيها المتقلّب فوق جمر المغلقات،

أصدّقت أنك أُعطيت في هيكل البدن ما يبوّئك كرسيّ الأسرار المعرفية لتُجاوز حكماء العالم السبعة؟! دعوتنا الى التفكر في خبايا الوجود، وكأن ذا المعجن ينبت بعد خبزاً يشبع؛ كان واحدنا على سبيل الحيادية والمداراة، أو قل اليأس، في وجوم المدجّن المهادن المتعامي... ما بالك تنكأ فينا جراحات وجودية تنخع الصميم وتشظّي الكيان؟! مسيحنا صُلب ليخلّص وأنت تصلبك رؤاك لتدعونا الى جلجلة الصلب في كل يوم، في كل ناح...

ماشيتُ قلمك يحلّق بجرأة المتنطح العنيد التأئق الى قراءات في اسفار الوجود الحفار الاخاديد واثلام في قبة المقلب الآخر؛ فإذا اللاادرية تصفع طموحاتك وتشوّه الاشواق وتردّك الى ارضنا مثقلاً كما نحن بخيبات وظنون وربمات!

ان الكائن الدهري الذي اعطي ترصّد الحبَل الوجودي، ومعايشة الافرازات بألوان صيروراتها، وحده يحمل سرّ اليقين، ويهزأ بكل شكوكنا والتخمينات والمحاولات... فكلما حط قلمك الرّحال واستكان الفكر في استراحة محارب، توسمت وجهاً خلاصياً لنهاية - هدنة، وسرعان ما تَلِد كل نهاية بدايات لا نهايات لها...

...أتهيّب أنا جرأتك على هتك غياهب الماوراء؛ أحترم مخزونك الفلسفي، وجولاتك الغيبية التي رفعتك عن فتات الارض والحطام، لتطال بعض ثمار المعرفة في مشاتل اللامنظور. رفضت الركوع عند عتبات المسلمات، حتى كنت بحقّ، المتمرد الحانق بين ارهاط المدجّنين...

فيا أيها المحوّم في مدارات الذات والتكوين؛ ألا اهدأ لأن تعبك أتعبنا، ودوارك أدارنا، حتى افقدنا لذائذنا الموهومة على الارض، من غير ان يربحنا اطباق الاطايب الموعودة في عالمك الآخر! ويا صاحب المغامرات الفكرية الجريئة، في مخططات مبوّبة مقوعدة، اتوكّأت على قمّات ابداعك الشعري لتمخر عباب الماوراء؟ من قال ان الرؤى الفلسفية التي تطال باختراق امداء المطلق، قصائد تُقطف كما ضمّة جماليا، كي تتم الدعوة العامة الى وليمة خاصة بحاشية البلاط الفلسفي؟!

...فيا عازفاً على ناي اللامتناهي بشعر ارهقته الفلسفات ويا ضارباً على كمان اللامحدود، بمضراب فلسفة جملتها رؤى الشعر يا طالباً عبر خيالك المجنّح خبز الماوراء، أما اضناك صدى الايقاعات في منعرجات المتاهات؟! اما خيّبك ضياع المفاتيح لتفقّد مشهديات الازل؟! اما هدّك تعثّر الظفر بعد طول السياحات الدامية؟!

رجوتك لملم بقايا العقل المكلوم، وعُد الى مائدة الارض، فأرغفة الحواش في دنيا الوعي، تحت قصور العقل البشري، خيرٌ من قوت يُرتجى في مساحب اللاوعي والرحاب الواسعات... وقفت وقفة الانبياء عند مذياع التاريخ، وحذّرت العالم من انهيارات آتية حكماً، إلّم يسارع الى انشاء الجبهة الكونية للإنقاذ، بقصد مكافحة الكذب وتنصيب الاتقياء، مصطفى جبران، نطق في ناس اورفليس، وظهرت انت المصطفى الكلي التزمكن، تحمل مذياع الازمنة لتعلن عن رفضيات وعن تحديات وعن اتحاديات...

فما ابهاك وانت في لمع تجلّيك ورؤاك والتصوف! كلنا يا كبير، تحت مواجع الاجترار الفكري كأنت رفضيون. وما احد ممن سبق، موّه الحقيقة عمداً ولكن، ما احد اقرّ بعجزه ازاء المعميات! انا لا اتّهم احداً بالكذب من كل الذين تفلسفوا مترسلين في محاولات فك الالغاز الوجودية؛ لكني ارى ان الانقشاع في سماوات المعرفة كان سيئاً، وان امكانيات الاسلحة الميدانية المستخدمة كانت قصيرة المدى! وضعت اليد على معظم الجراحات التي تجسد ازمة العقل، لكننا في الغالب لم نر البرء متجلياً في غرفة عملياتك وشدة توقك الى المثل، جعلتك احياناً ذا قلم سليط... فمن على شرفة مقصورتك، ايها الحاكم سعيداً، أعجبت بصرختك المدوّية: "ما بال الرعاع... ماذا يفعلون؟! وحده الفكر العملاق، يتوغل في المطلق والاقزام يبقون اقزاماً مهما فعلوا" (الكتاب الثاني صفحة 124).

سيدي المؤلف،

عجمت انا من قبل كتاباتك الفلسفات حوالي الاربعين عاماً، بيني وبينها درساً وتدريساً، كان يستبد بي جوع معرفي لانني على مثالك من هواة الكشف المعمق، ناداني بحرك الزاخم الزاخر الهدار الغدار، بتؤدة نزلتُ الغمر حتى عمق الاعاميق، استفزني، استنفرني، استنهض فيّ خيالي الراقد الراكد الى اكثر من عالم، وتحت لوائك خضت ما بيني وما بيني اكثر من معركة...

واراني اليوم في استراحة المحارب، البَعدُ جائع! اريتني من بُعد ارغفتك الشهية. اريتني التنور والنار والعجين المكوّر. شممت رائحة الخبز المرقق الطازج. امتلأت كل حواسي، اما العقل فاستمر على بعض جوعه الدهري العتيق فوق اجران معمودية من فكر ناري، غابت عنها مياه المعرفة المترقرقة من ينبوع الازل...

قرأت اتهاماتك التي منها: "أليسَ الكائن البشري الذي لا يحاول الغوص، بل الذوبان داخل تساؤلات المغالق هو الجبان؟ قلت انا بل هو، وحتّى إشعارٍ آخر، الحكيم الحكيم!

ايها السادة،

الفلسفة هي للفكر الوثاب متعة. لكنها في خواتيم المطافات باتت بؤرة مغلقات اذ الهتنا لكثرة ما دوّختنا عبثياً حول الوجود بضفتيه والمقلبين وحول الانسان بثنائية جبلته المتساكنة تحت نفور وخصومات والحاح على انعتاق وطلاق...

ايها الكرام،

"ابعد من الفلسفة"، رحلة مركبة فلسفية تمخر عباب الخفايا ظاهراً، وجلجلة آلام تصلب الفكر مدمّى على خشبات الاستعلام، باطناً. ما ابهى الفلسفات تحت براعة يراع يطوعها يجيد توليد الاشتقاقات المستحدثة وتحميل كلمات قديمة مدلولات معنوية جديدة، متقناً مهارة ادخال "الـ" التعريف على الفعل...

روبير غانم، ايها الطارق بإزميله الفولاذي ابواب الازمنة، وجغرافية الماأمام والماوراء. حسبك انك كتبت صفحة مشرقة في موسوعة الفلسفة الوجودية والانسانية. تركت الدمغة النوعية المجلّية بديل العبور العددي الذي ارتضاه سواك، فأنت المحطة التي لن يتجاوزها تاريخ الفكر.

...ولكثرة ما انهكتك محاولات اختراق الما بعد، اوجعني وجعك، ادمتني معانياتك، واستفزت احلامي اختباطاتك. وتحت الشفقة عليك وعلي قلت: "حتّام هذه اللعبة النارية الكاوية، ما بين الانسان القاصر، وما بين ضبابيات الوجود عبر فلسفات هي مكمن الفاجعة الدهرية الرابضة؟!!

هيا سيد،

وبعد "أبعدك"، أنت بالفلسفة الى اين؟! وكأنك قد اجبت في قولتك: "ان الفكر البشري في معظمه فكر افتراضي". ...لقد كتبت انت: "المعرفة وليصمت كل شيء". ...وتنهدت انا تحت شحنات مواجعي الوجودية وقلت: "تبقى المأساة ان ابواب المجد الغيبي، وعلى رغم كل المحاولات، بعد موصدة!... 

                                                                                  

"أبعد من الفلسفة"

لروبير غانم

بقلم د. انطوان سيف

        أشكر الإعلامية جان-دارك أبي ياغي على التقديم، وعلى ما تفضلت به من كلام أرجو أن اكون مستحقاً له.

        ويهمّني ان أوضح ان كلمتي القصيرة هذه، هي حاشية طارئة على البرنامج المطبوع لهذا اللقاء. وهي تلبية، بعد ممانعةٍ مني لم تصمد، لدعوةٍ ملحّة من صاحب المناسبة، نتحمل وزرهما، كلتا الدعوة وتلبيتها، سويةً، كما يتحمل سيّدنا آدمُ والتفاحةُ كلاهما وسويةً، وزرَ المعصيّة الأولى المستمرة!

إلا أني أزعم أن الـ"لا" الممتنَعة من قِبَلي يمكن ان تُدرَج في سياق نأيٍ بيننا لم تهبْه الظروف، لآماد شاسعة، شروطاً فضلى للّقاء والتعارف والتقارب. ها أنذا أعترف أني لا أزال منذ أسابيع في أسْر عالم روبير غانم، في قراءة موسوعته "أبعد من الفلسفة"، وكل ما قيل فيها وعنه، شاعراً وفيلسوفاً ومن غير واو العطف، مع كل ما تحمله الصفتان من كسرٍ للمألوف وهتكٍ لعاديات الأيام، في معركة مجهولة لم يكلّ ولم يملّ من خوضها، برت عمره، تنهال فيها الأسئلة على الراكد الراسخ فينا من المعتقدات والايمانات ورواسب الثقافات، كأن لا تاريخ للحضارة، الحضارة  التي لا يمكن تحديدها إلاّ بتراكم الانجازات التي يتنكر للكثير من الأساسي منها! لا إجابات انتشلته من مساءلاته التي لم يسترهب مهاويها، ولم يخَفْ من تبعاتها، ولم يسترح من عنائها ومعاناتها بافتعالِ تواطؤٍ مع أجوبتها الممكنة. لم تغرِه الايديولوجيا السهلة الجمعيّة، هو الفرد المتفرد المتنسّك المنعزل المتوحد المغترب، والطيّب السريرة العنيد الجريء الصادق الفريد النادر، وبالتالي المقهور والمرذول والمغدور به. لم يخنق روبير غانم الطفل البريء الذي فيه، الفائق البراءة بعصبيّته وتمرّده. هزئ من الأجوبة الجاهزة. ظلّ طفلَ الأسئلة الكبيرة، علامةَ استفهام تبحث عن أسبابها. تلك اللاأدريةُ "العبدالله غانمية" الصادقة درأتْ عنه السفسطة والشكية، ولم تزعزع إيمانه بإمكان المعرفة، وأداتُها العقل والتخيل والتصوُّر، على رغم خيباته الكبرى منها. ومع تمسكه بالنسبية، لم ينزلق بها إلى العشوائية والاستنسابية والذاتية النافرة المتعامية عن ذاتيتها.  وعيُه البائس لم يخسر قيمته المعرفانية.

        ولئن ظل الشاعر المبدع فيه يصوغ لغة جديدة لأسئلة أكثر قلقاً عصيّة على الإجابات، إلاّ أنه، مع ذلك، أبقى على الكثير من مصطلحات الفلسفة القديمة ومفاهيمها التي تعامل بها من غير تدقيق، ولا ثبات، وأحياناً على خلاف احتمالات دلالاتها. ولم يعنِه أن يميّز ، في ما يقول، المتافيزيقا عن الانطولوجيا (الأيسيّات)، وتعامل مع الافكار بعشوائية وكأنها بلا تاريخ، ومن غير معرفة مصادرها وأزمنتها وأصحابها. ووقع في مساءلاته في "دوائر جهنمية" جعلته أسيرَ السؤال لا يتخلص منه إلا بسؤال آخر، او بإجابة هي، على الحقيقة، صيغة أخرى للسؤال نفسه! فالمعرفة التى آمن بها لم تكن لديه على درجة من الغنى العلمي الذي يجعله يكشف قصور من استخدمها قبله لبلوغ "حقائق" لم تقنعه. فهو نفسه "استنتج" من قليلها، لا من دقيقها، "حقائق كبرى" (وأسئلة كبرى!) شطحت فيها النتائج بعيداً عن مقدماتها الضرورية، كما تقتضي قواعد المنطق الذي لم ينِ يقرّظه! لم يقل ما هي "المعرفة" التي يقصدها، عندما يقول: "أنا رجل معرفة، جئت لأعرف. وإذا لم أعرف، أستشهدُ على حدود المعرفة". ولم يقل كيف نعرف؟ وماذا نعرف؟ ولماذا لا نعرف؟... لكن الجدَّة في فلسفته تكمن، برأيي، في غفلته عن المعارف الفلسفية الأكاديمية التي رذلها ، وعن تاريخها الديالكتيكي، وعن كنهه حدود مفاهيمها ومعانيها في كل مرحلة ثقافية من مراحلها. وهذا ما أوهمه أنه يخوض في أصقاع فكرية لم يطأها أحد قبله، أسماها تجاوزاً: "أبعد من الفلسفة"! لقد كَتَبَ الفلسفة كقصيدة ملحمية عن الوجود، حيث الوعي الإنساني المنطقي عنده، يخوض معركتين متوازيتين: فهو يصارع أساطير الأفكار، ويقاتل أرباب السياسة والمجتمع والاقتصاد. فالبُعد الأخلاقي لفلسفته يتلازم والبُعد الوجودي. العدالة والإبداع متلازمان. والجمال والتمرد متلازمان. وراجحاً، هما عنده مترادفان.

ملاحظات ثلاث، اخيراً:

الأولى: "أبعد من الفلسفة"، سِفر نادر في الثقافة العربية بصدقه وجرأته وعمق أفكاره وخطورتها. ولئن لم يأتِ بعدُ "عسسُ شفيق" لطَرْق باب صاحبه قبل صياح الديك، فلأنهم جهَلة يحتقرون الأفكار الناصعة التي لا تشبههم ولا يكترثون "لثرثرتها"، أو لأنهم يعرفون أنهم لن يجدوا خلف هذا الباب ما نهبوه بالوساطة منه على مدى عقود؟

الثانية: إن لبنان هو موطن المؤلَّف والمؤلِّف. لبنان الحرية التي صنعها اللبنانيون بغير منّة من سلطان، علامة فارقة للوطن الصغير الذي يحمل بقيمه مستقبل الثقافة العربية. هنا في هذا المكان، على مذبح دير مار الياس - انطلياس، اجتمع جدود لنا، في لقاء وطني عابر لكل الطوائف، حول ما عُرف "بعاميّة 1840"، ليؤسسوا اللبنة الأولى لميثاقنا الوطني ولسيادتنا ولحريّتنا. ولا يزال هذا الرمز القاعدةَ الأساس لخلاصنا الوطني في أزمتنا الراهنة.

الثالثة: تحية إلى روبير غانم المثقف الذي لم يتنازل ولم ينحنِ لسلطة، ظاهرة أو مستتِّرة، ولم ينصع لأصحاب الدولة ولأرباب الحروب، على رغم الأذى الذي أصابه في موقفه المشرّف هذا، الذي هو نموذج إنساني راقٍ عالمي السمات يجسّده شاعر فيلسوف من لبنان. وأذكّره بهذه المناسبة، كما سبق لي وذكّرتُ سواه في حالة مماثلة، بما قاله الشاعر اللبناني الأخطل الصغير بالمتنبي - الذي ما انفكَّ يطلب لقاء شعره المدحي، فضلاً عن الجوائز المالية، إمارةً صغيرة من ممدوحيه أصحاب الإمارات الكبيرة - في احتفال ألفيّة أبي الطيب في مدينة حلب في ثلاثينات القرن الماضي، إذ قال له مادحاً ومعاتباً:

"طلبتَ بالشعر دون الشعر مرتبةً
"ما كل ما يتمنّى المرء يدركه"
قد يُنصفُ الدهرُ إنساناً فيحرمُهُ

 

 

فشاء ربُّـكَ ألاّ تدرك الطَلَبا
ويدرك الغايةَ القصوى، وما طَلَبا
من يمنعِ الشيءَ أحياناً فقد وَهَبا"

 

د. أنطوان سيف

 انطلياس في 30 أيار 2007